- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد:
أيها الإخوة المؤمنون؛ كما هي العادة: أبْحَثُ عن موضوع, يُغطِّي مشكلةً متفشِّيَةً بالمؤمنين، فكثير ما أسمع أنّ إنسانًا تألّق تألُّقًا رائعًا، وأقبل إقبالاً شديدًا، تاب توبة نصوحة، وعمل عملاً صالحًا، ثمّ إذا به يتراجعُ شيئًا فشيْئًا, لِيَعود كما كان عليه، هذا الصّعود والهبوط ، الإقبال ثمّ الإدبار، التألّق ثمّ الانطفاء، ربّما كان هذا حَسْرةً على الإنسان.
البُطولة: الاستمرار، البُطولة: الدَّيْمومة،
أيها الإخوة؛ كما قلتُ لكم في دروس سابقة: الشيطان يوصَفُ بأنَّه ذكيّ، بمعنى أنَّه يدخل على الإنسان من أبواب متعدِّدَة، فإذا اسْتطاع أن يحملهُ على الكفر أفْلَحَ، وإن لم يستطِع حَمَلَهُ على الشِّرك، فإن لم يستطِع حمَلَهُ على الابتِداع، فإن لم يستطع حَمَلهُ على ارتكاب الكبائر، فإن لم يقْو حملهُ على فِعْل الصَّغائر، فإن رآهُ ورِعًا حملهُ على الاسْتِغراق في المباحات، فإن لم يُفلِح حمله على التحريك بين المؤمنين, وهذه هي أبواب الشيطان، وحينما قال الله تعالى واصفًا للشيطان في قوله:
﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ:
بِدَعْوَى الحداثة, والعصْرَنَة، والتفوُّق, والتقدّم, والعلم, والحضارة, والكمبيوتر, والفضائيّات، ألا تعيش أنت مع العصر؟. فهذا باب.
وَمِنْ خَلْفِهِمْ:
التقاليد, والعادات, والتراث, والآباء, والأجداد، ويعود أهل الدنيا لِسَبب لا أعرفهُ إلى ما قبل الإسلام، إلى وثَنِيَّات ، إلى تعدُّد الآلهة، فهذا تراث وتاريخ، وهذا من فِعْل الشيطان.
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ:
هي المعاصي.
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ:
ضِمْن الحقل الديني.
وللشيطان ألف مأخذٍ ومأخذٍ وأنت في الحقل الديني:
إثارة الخصومات بين الجماعات الإسلاميّة، هذا من فعل الشيطان.
النَّزعَةُ العُدْوانِيَّة، هذا من فعل الشيطان.
الطَّعْن بِقادة الفكر الإسلامي، هذا من فعل الشيطان.
تجريحُ كلّ إنسانٍ تألَّق عند الله عز وجل، هذا من فعل الشيطان.
التعلّق بِصَغائر الدنيا, الأمور الشكليّة وتكبيرها إلى درجة, تجعل هو الدّين كلّه, هذا من فعل الشيطان.
ضِمن الحقل الدِّيني, هناك مئات وألوف المآخذ التي يؤخَذُ منها الإنسان وهو لا يشعر، فإذا هو ينطق باسم الشيطان.
لو فرضنا، ولو كان هذا مثَلاً بسيط جدًّا: طفل جاء للمسجد في وقتٍ مُبكِّر، وجلس في الصفّ الأوّل، هناك من يُمْسِكُهُ بِقَسْوَةٍ بالغة، ويدْفعُهُ إلى آخر الصفوف، فهذا الطِّفْل نشأَتْ عندهُ عُقْدةٌ في المسجد، وهذا الذي يفعلهُ, هو من فِعْل الشيطان، الطّفل ينبغي أن يُكرّم في المسجد، وأن يُحبَّب إليه المسجد، أشياء كثيرة جدًّا.
أيها الإخوة؛ الذي أريده في هذا الدرس: أنّ الإنسان كلّما وصل إلى مَكْسب ينبغي أن يُحافظ عليه، أما أن نثور ثمّ ننْطفئ، أن نتألّق وأن نتراجع، أن نُقبل ثمّ نُدْبِر، أن نجتهد ثمّ نقصِّر، هذا ليس من العمل الكامل.
المحافظة على الأعمال: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل...
انطلاقًا من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها.
(( قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتْ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ ))
أيها الإخوة؛ الإمام النووي رحمه الله تعالى, عقدَ في كتابه رياض الصالحين, من كلام سيّد المرسلين, عليه أتمّ الصلاة والتسليم، عقَدَ بابًا سمَّاه:
المحافظة على الأعمال.
وبدأهُ بقوله تعالى:
﴿
الإنسان إذا طالَ عليه الأمدَ، ولو كان ملْتَزِمًا في مسجدٍ, ربَّما خبا نجمهُ، وفتَرَتْ هِمَّتهُ، فهو يأتي ويرجع, كما جاء وكما رجع، إذا هو يصلّي صلاته شَكْليّة، وإذا حضر يجلس, ولا ينتبه للدرس، انقلَبَتْ عباداته إلى عادات، ما لم يُخلِص تنقلبُ عباداته إلى عادات, المخلِصُ عاداته عبادات، والمقصّر تنقلب عباداته إلى عادات، فإلى متى تصلّي سريعًا؟ وإلى متى تصلّي ولا تعبأ بما تقول؟.
وإلى متى أنت باللّذات مَشغول وأنت عن كلّ ما قدَّمت مسؤول؟
قال تعالى:
كلمة للحسن البصري, والله يرتعد لها القلب، يقول الحسن البصري: من قرأ القرآن ولم يشعر بشيءٍ، وذكر الله ولم يشعر بشيء، وصلى ولم يشعر بشيء, فهناك خلل خطير في إيمانه.
القلب مغلّف، والنفس متسحّرة، العبادات لا تؤتي ثمرتها، قال تعالى:
قال تعالى:
أيها الإخوة؛ النقطة المهمّة بالإيمان:
الإنسان أحيانًا يتألّق، لكن أحيانًا يغْفَل، المشكلة أدّت هذه الغفلة، كلّما كانتْ مرتبتك أعلى من صلاة إلى أخرى تُغَيِّر، ومن يوم إلى يوم تغيّر، ومن أسبوع إلى أسبوع، أما أن يمضي الأسبوع والأسبوعان, والشهر والشهران, وأنت على هذه الغفلة, فهذه مشكلة، اقرأ هذه الآية, قال تعالى:
بعض الإخوة الكرام؛ يبحث عن عملٍ صالح، وقد يبحث عن عملٍ متعلّق بالدعوة إلى الله, وقد يبحث عن إنسان شارد, يدْعوه إلى المسجد, أو إلى طاعة الله، كلامٌ طيّب.
أنا أُؤَكِّدُ لكم: أنَّ الموجودين في المسجد, والذين طال عليهم الأمد, إذا حرَّكتهم, وأنْعَشْتهم, ومكَّنْتَ علاقتهم بِرَبِّهم، ودللْتَهُم على عملٍ صالحٍ، هذا عند الله أعظم، لأنّ هذا عنده عند الله سابقة.
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من حاطب بن أبي بلتعة.
أنا لا أنسى موقفًا مِنَ النبي عليه الصلاة والسلام, مِنْ صحابيّ اسمه: حاطب بن أبي بلتعة.
هذا الصحابي الجليل زلَّتْ قدمهُ, واجتهد اجتهادًا خطير جدًّا، هو لصيق بِقُريش ليس من أرومتها، أراد أن يحفظ مالهُ وأهله من كَيْد كفّار مكّة, عن طريق تَقديم يدٍ بيضاء لهم، فأخبرهم أنّ محمَّدًا سيَغْزوهم، وقال لهم: خُذوا حِذْركم.
أما هذه الأخبار في ميزان الحياة السياسيّة: خِيانة عظمى، أنت تخبّر العدوّ أنّ بلدك سوف يغْزو هذا البلد، وهذه خيانة عظمى في كلّ المُدن قديمها وحديثها.
النبي عليه الصلاة والسلام, جاءهُ الوحي وأخبرهُ: أنّ حاطب بن أبي بلتعة أرسلَ كتابًا إلى قريش مع امرأة, ينبئهم في الكتاب: أنّ محمَّدًا سيَغْزوهم فلْيتَّخِذوا حِذْرهم، والنبي أرسَلَ رجلين من صحابته إلى الطريق، وقبضا على المرأة، وأخرجا الكتاب من عقاصة شعرها، وعادا به إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وفي المدينة قرأ النبي الكتاب، فإذا به:
مِن حاطب ابن أبي بلتعة إلى قريش، إنَّ محمَّدًا سيغْزوكم فخُذوا حِذْركم.
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: يا حاطب ما حملك على أن تفعل ما فعلت؟.
فقال حاطب: يا رسول الله، والله ما كفرتُ وما ارْتددْتُ، ولكِنَّني لصيق في قريش، ولسْتُ من أرومتها، وإنما أردتُ بهذا أن تكون لي يدٌ بيضاء عندهم, أحمي بها أهلي وأولادي، اغْفِرْ لي ذلك.
يبْدو أنّه كان صادقًا, واجتهادهُ كان خطيرًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قلبهُ كبير ويسَعُ كلّ أصحابه، أيّ إنسان لو وقع بيَدِهِ هذا الكتاب لأمرَ بِقَتْل كاتبه، وإذا قُتِلَ يُقْتَلُ بالعدل، ويُقْتلُ بالحق، ولكنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: إنِّي صدَّقْتهُ فصدِّقوه, ولا تقولوا فيه إلا خيراً.
الكلمة التي تُثير مشاعر الإنسان, أنّ عمر بن الخطاب عِملاق الإسلام قال: يا رسول الله دعني أضربُ عُنقَهُ، أو قال: دَعْني أضرب عُنُقَ هذا المنافق.
ماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال له: لا يا عمر, إنَّه شهِد بدْرًا.
أرأيْت إلى كمال النبي صلى الله عليه وسلّم؟ لم يُرِدْ النبي أن يهْدر عمل حاطب، أما نحن بِكُلّ بساطة, إذا أخْلفْت مع أخيك تهْدر عملهُ، تتَّهِمُهُ بالكُفر فوْرًا،
صلة الرحم ضرورة شرعية.
أيها الإخوة؛ أكثر شيء يُؤلِمُ الأخ أن يمْرَضَ، ولا أحدَ يزورهُ، كلّ واحد غارقٌ بِعَمله ، النمط الحديث الغربي والعياذ بالله، يعيشُ كلٌّ منهم وحده، ويعمل عملاً مُجْهِدًا، ويأتي إلى البيت, يأكل, وينام، أو يُتابع الأفلام حتى منتصف الليل، فيسْتيقظ بعد الشمس, ليَذْهب إلى عمله، ولا يعْنيهِ أحدٌ، أما هذه الصّلة صِلَةُ الرَّحِم، هذه من الدّين.
أيها الإخوة؛ قد نستغرب هذه الآية, حينما قال الله عز وجل:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
جزءٌ من منهج الله: أن تبدأ بِأَقْربائِكَ.
دقِّقُوا: النبي عليه الصلاة والسلام أمره الله عز وجل أن يبدأ بأقربائِهِ، هو للناس كافّة، ولأُمم الأرض كافّة، ودَعْوتهُ عالميّة، أمَمِيَّة.
يقول تعالى:
أنّ أيّ إنسان غريب؛ إن دَعَوْتهُ إلى المسجد، وإن دَعَوْتهُ إلى شيء، قد يخاف منك، وقد يشكّ في نواياك.
أما هذا مع الأقرباء منْفيّ، والطّرق كلّها سالكة؛ أخوه النَّسَبِي، وأخته، أبوه، أمُّه، ابنه، ابن عمّه، ابن خالته، ابن عمّته، ابن خاله، القرابَة تُزيل أيّ سبب من أسباب الخشيَة والخوف، فأنت معك مجموعة أشخاص, الطُّرق إليهم سالكة، والعقبات مُذَلَّلة، ليس لك إلا أن تشرح لهم, وأن تُقْنِعَهم، وأن توضِّح لهم، أما العقبات الأخرى التي تكون بين الناس الغرباء غير موجودة، قال تعالى:
توهم خاطئ.
أيها الإخوة؛ لا زلنا في باب المحافظة على الأعمال, من كتاب رياض الصالحين, من كلام سيّد المرسلين, عليه أتمّ الصلاة والتسليم، والإمام النووي كما تعلمون, يبدأ أبواب كتابه بِبَعض الآيات الكريمة.
الآية الثانية، قال تعالى:
﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا
الإنسان يتوهَّم أحيانًا: أن الأوروبيين والأمريكان من أهل الكتاب، وهذه فِكْرة مُضْحِكة، لأنّ الله تعالى وصَفَهم بأنّ في قلوب أهل الكتاب رأْفَةً ورحمة، بينما لا تجد رأفة ولا رحمة في قلوب من يُعاصِرُهم، يستبيحون كلّ شيء، إذًا: كما قال تعالى:
حقائق مسلم بها:
أيها الإخوة؛ حقيقة مُسَلَّم بها تُعَدُّ من أُصول الدِّين:
ففي العبادات الأصل هو الحضْر، أما في المعاملات فالأصل فيها الإباحة.
من أجل إحداث عبادة, يحتاجُ هذا إلى نصّ، ومن أجل تحريم شيء, فأنت بِحاجَة إلى نصّ.
إخواننا الكرام؛ أحيانًا: الواحد يسأل, ويقول لك: نحن نُقيمُ جَمْعِيَّة، كلّ إنسان يضع في هذه الجمعيّة خمسة آلاف بالشّهر، ونحن عشر أُسَر، عشرة بِخَمسة, تساوي خمسين ألفًا، نعمل قرْعة كلّ شهر، ونُعْطي لواحِد، لا يوجد لا ربا, ولا أيّ شيء مُحَرَّم، وهل معك دليل أنّ هذه صحيحة؟.
الأصل في المعاملات الإباحة, ما لم يرِد نصّ يخالف ذلك.
أما إذا أحْدثْتَ عبادة، فليس الأصل فيها الإباحة، وإنَّما هو الحضْر، لا تستطيعُ إحداث هذه العبادة إلا بِنَصّ، قال تعالى:
المشقة في الإسلام ليست مقصودة في ذاتها.
أيها الإخوة؛ هناك مَن يتوهَّم: أنّ حرمان النّفس يقرِّبُها من الله، العكس.
النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً واقفًا في الشمس, فلفَتَ هذا نظره، فقالوا:
إخواننا الكرام؛ حقيقة أُلقيها على مسامعكم: المشقّة في الإسلام ليْسَت مَقْصودة في ذاتها.
الآن: لو الإنسان حجَّ مَشْيًا, ليس له أجر أبدًا، لو حجّ بالسيارة, ومعه تذْكرةُ الطائرة, لا أجر له، لأنّ المشقّة ليْسَت مَطْلوبة لِذاتها، أما حينما تُفْرضُ عليك المشقّة من خلال العبادات ، أنْعِمْ بها وأكْرِم، أما أن يعامل الإنسان نفسه بالقَسْوَة, يبني دينهُ على الحرمان، والحرمان، هذا غير صحيح.
(( عَن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا, فَقَالُوا: فأَيْنَ نَحْنُ مِنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فأصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: وأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا, أَمَا وَاللَّهِ, إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ, وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ, وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ, وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))
قصص فيها مبالغات:
سجَّلْتُ ندْوةً في برامج رمضان، وكانت ثلاث ندوات.
مرّ معي أن أبا حنيفة, أنَّه مشى في الطريق، فسَمِعَ أُناسًا يقولون: هذا الرجل لا ينام الليل، فقال: أربعون عامًا بعد هذه الكلمة, ما نام الليل أبدًا، هذا غير مقبول، وغير معقول, لأنّ هذا الجِسْم له حاجة للنوم، حتى إنَّه إذا ما نام ليلَتَين, يختلّ توازنَهُ، وهذه مبالغة.
والشيء الثاني: قرأ القرآن كله في ركعة واحدة, ستّمئة صفحة، مهما كنتَ سريعًا كم تحتاجُ من ساعةٍ؟ عشرين ساعة، أين الصلوات الخمس؟.
أنا قديمًا, قرأْتُ قِصَّة عن سيّدنا عمر، والله أحْجمْتُ عن روايتها من على المنبر سنوات كثيرة، بكلمة واحدة، لمّا جاء رسول عامل عمر بن الخطاب على أذربيجان، وصلَ ليلاً المدينة، كره أن يطرق بابَ الأمير ليلاً، فدخل المسجد, فإذا بِرَجل يُناجي ربّه في الليل.
يقول: يا ربّ، هل قبلْتَ توبتي فأُهنِّئ نفسي أم رددْتها فأُعذِّبها؟.
قال له: من أنت يرحمك الله؟.
فقال له: أنا عمر.
قال: يا سبحان الله! يا أمير المؤمنين, ألا تنام الليل؟.
فقال: إنِّي إن نمْتُ ليلي أضَعْتُ نفسي أمام ربّي، وإن نِمْتُ نهاري أضَعْتُ رعِيَّتي.
أحْجمْتُ عن قراءة هذه القصّة سنوات عِدَّة, إلى أن عثرتُ على روايةٍ أخرى لها: إنِّ نمتُ ليلي أضَعْتُ نفسي أمام ربّي، الليل كلّه، فهو كان يقوم بعض الليل.
هناك قصص: أنّ إنسان وهو في صلاته مسْتغرق, قُطِعَت رجلهُ, وهو بِحاجة إلى عمليّة جراحِيَّة، ولا يوجد مخدِّر، فلا توجد إلا حالة واحدة, أن نجعلهُ يصلّي، ونقطع رجْلهُ.
طيّب: النبي عليه الصلاة والسلام, وهو سيّد الخلق, وحبيب الحقّ.
(( فعَنْ أَنَسٍ, أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ, قَالَ: إِنِّي لَأَدْخُلُ الصَّلَاةَ, وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا, فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ, فَأَتَجَاوَزُ فِي صَلَاتِي, مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ ))
أكْملُ صلاةٍ في الكون صلاته، ومع ذلك سمِع بكاء طفل فخفّف صلاته، أما أن تقْطعَ رِجْلهُ وهو لا يشعر, هذه مبالغة.
يا أيها الإخوة؛ خطر المبالغات كبير جدًّا، ويجعلك تشعر أنّ الدِّين غير واقعي، وهذه القصّة تُيَئِّس, إذا كان قُطعَت رجله بالصلاة ولم يشعر.
قال: دخل لصّ بَيتَ وليّ, ورآه يصلّي، من شدّة استغراقه بِصَلاته, خلع اللصّ ثوبه مِن عليه، ولم يشعر المصلّي، وخرج به، فلمّا أُبلغ أنّ هذا الذي سرقْت منه ثيابه وليّ كبير، قال: كيف أرْجِعُهُ إليه؟ فقالوا له: في أثناء الصلاة مرّةً ثانيَة.
فأنت إن قرأتَ قِصَصًا كهذه, تشعر أنّ صلاتك صفر، وتقع بِحالة اليأس, وهذه خطيرة جدًّا.
النبي عليه الصلاة والسلام, الذي هو سيّد الخلق, وحبيب الحق, حينما كان يصلّي, يسمعُ صوت بكاء الصبيّ فيخفَّف، وكان يفتحُ الباب أحيانًا, ويُتابعُ صلاته، إذًا: المبالغات خطيرة.
اليوم قرأت في ندْوَة, أنَّه قرأ القرآن كلّه في ركعة, مبالغة، وأربعون عامًا ما نام الليل, هذه مبالغة، أربعون عامًا صلى الليل بوُضوء العشاء, مبالغة، الإسلام دعْهُ واقِعِيًّا حتى ترضى عن نفسك، أما إذا اعْتبرْتَ أنّ هذه النماذج مِثالِيَّة، أين تكون أنت من هؤلاء؟ تنتهي نهائيًّا، أنا من أنصار الاعتدال والوسط، المبالغات لها مفعول معاكس، قال تعالى:
دقِّق أيها الأخ:
اِتَّق المحارم تكن أعْبدَ الناس، وارْضَ بما قسمَهُ الله لك, تكُن أغنى الناس، وأحْسِن إلى جارِكَ تكُن مؤمنًا
قال تعالى:
لا تضيع عملك الصالح بساعة غضب.
أيها الإخوة؛ أما المحافظة على الأعمال, فيقول الله تعالى:
﴿
قال أحدهم: والدَتهُ عندهُ في البيت، وله عدّة أخوة، تحبُّه حبًّا جمًّا، وتقيم عندهُ، أُصيبَتْ بِشَلل، وبقيَ يخدمها اثنتي عشرة سنة، يبْدو أنَّه ضاقَ ذرعًا بها، وفي ساعة غضبٍ تكلّم كلامًا قاسيًا بِحَقّها، وكأنّه طلب منها أن تغادر البيت، فبكَتْ بكاءً مُرًّا، واسْتدْعَتْ أحد أبنائها، وانتقلَتْ إلى بيته، وماتتْ عنده بعد يومين, فأنت نقضْتَ عملَ اثنتي عشرة سنة، فالإنسان عليه أن يصبر، والبُطولة بالصبر، قال تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ
أعرف رجلاً, لا يزال حيًّا يُرْزق، ولكنّه مريض عافاه الله، لزِمَ خِدمة امرأةٍ ضعيفة, فقيرة, مريضة، تسكن في غرفة في مسجد، لزِمَ خِدمتها, وتأمين الطعام لها، وتنظيف غرفتها أكثر من أربعين سنة، ثمّ انتقل إلى حيّ بعيد، وعمرُه يزيد عن السبعين، حينما انتقل إلى هذا الحيّ, صار يأتي كلّ يومٍ من حيّ بعيد إلى هذه المرأة الضعيفة, المشلولة, الفقيرة, المريضة, لِيُتابِعَ خِدمتها، وله أبناء شباب، وله بنات، وله زوجة، فأنت بهذا السنّ بحاجة خدمة، خدمْتها أربعين سنة، دعْها إلى غيرك، فأبَى إلا أن يُتِمّ عمله، فلمّا رأوْهُ بهذه السنّ المتقدِّمة، وينتقل من حيّ إلى حيّ لِخِدمة هذه المرأة, شفقوا عليه، وقالوا له: ائتِ بها إلى بيتنا, رحْمةً بأبيها، إلى أن جاؤوا بها إلى بيته، وبعد أيام توفَّاها الله تعالى، خُتِمَ عملهُ بأعلى درجة، البطولة: أن تُتَابع وتسْتمرّ.
قال تعالى:
﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾
قال تعالى:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وقال تعالى:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾
أنت تعامل خالق الكون، العهد عهد، والمبدأ مبدأ، والاستقامة استقامة، والأمل أمل، أما هذا الموقف السُّوَيعاتي، إقبال وإدبار، تألّق وانطفاء، تقدّم وتأخّر، هذا ليس من صفات المؤمن.
الآية الأخيرة في هذا الباب، قوله تعالى:
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
اليقين هو الموت، قال تعالى:
﴿ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾
إذًا: ينبغي أن تعبد الله إلى أن يدرِكَكَ الموت.
محورُ الدرس اليوم:
أنّ كلّ واحدٍ منَّا واصلٌ إلى مستوى، البطولة: الاستمرار, أما الرجوع والانتكاس -والعياذ بالله- خطير جدًّا.
عن عائشة رضي الله عنها قالت, في الحديث عن شمائل النبي:
(( كان أحبَّ الدِّينِ إليْهِ ما داومَ عليْهِ صاحبُهُ ))
حديث لرفع همة المؤمن.
(( عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ, أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ, فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ, كُتِبَ لَهُ, كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ ))
قضيّة ثقة بالنفس، أنت بدأت بِعِبادة، أنت موظّف، ومعاهدٌ لله عز وجل كلّ صباح, هذه الجلسة؛ تقرأ فيها القرآن, وتذكر فيها الله عز وجل، وقد تستيقظ مرَّة السابعة ونصف لأمرٍ قاهر، والدوام الساعة الثامنة, راح الوِرْد، وراح الذِّكر، فَمِن أجل أن تبقى نفسك عالِيَة الهمَّة, رمِّم هذا في النهار، في عصر ذلك اليوم، اقْرأ حزبك الذي تقرؤه، أو اُذْكُرْ ربَّك كما تذكرُ من قبل, رمِّم ما فات.
إذًا: الأعمال الصالحة تُقبل، تؤدَّى وإن قصَّرنا بها, تُقْبلُ.
إنسان يدفعُ صدقةً ثابتة, كنّا في حفل, لِجَمع التبرعات لصندوق العافية، فقام أحد الخطباء, تكلّم كلمة أعْجبتني، قال: إنّ والدهُ قال له: يا ولدي، إذا أردْت أن تدفع صدقةً، وعارضتْك نفسكَ فأدِّبْها، فقال له: وكيف أُؤدِّبُها؟ فقال: اِدْفع الضِّعْف, إذا دعتْك نفسك ألاّ تدفع, ادْفع الضِّعف.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ, لَا تَكُنْ بِمِثْلِ فُلَانٍ, كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ, فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ ))
أنا أشعر في بعض الإخوة, جزاهم الله تعالى خيرًا، أعطَوا عهدًا لله عز وجل في خدمة المسجد، هناك من تجدهُ تألّق ثمّ اختفى، أين فلان؟ شغَلَتنا أموالنا وأهلونا, هناك من مُقاومتُهُ هشَّة، أقلّ ضَغط يؤثِّرُ فيه تأثيرًا سلبيًّا، فالسّفن العملاقة الضّخمة التي تحمل ملايين الأطنان تجدها مثل الجبل، أما القارب الصغير أقلّ موجة تُغْرقهُ، فأنت كُنْ كالباخرة الراسخة كالجبل، وليس أقلّ شيء يهزّ الإنسان يهزّك.
عاهدْنا الله تعالى على الطاعة في المغرم والمغنم والمكره
فأنت نشيط مُطيع، وأنت مريض مُطيع، وأنت متألّق في الدنيا مُطيع، وأنت بِوَضع سيء مطيع، بإقبال الدنيا مُطيع، وبإدبارها مُطيع، وقبل الزواج مُطيع, وبعد الزواج مُطيع.
أحيانًا: تجد شابّ متألّق جدًّا، فإذا تزوَّجَ اختفى، فتاة أدارتْهُ وانتهى عندها، وهناك من يتزوّج ولا يغيّر، دوامهُ حضورهُ, إقبالهُ عمله، بذْلُه وعطاؤهُ، هنا الزواج نعمة، أما إذا حرمَكَ الزواج كلّ هذه الأعمال الصالحة, صار الزواج نقمة بحقّك.
مِحْور الدرس:
(( عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مِنْ اللَّيْلِ, مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ, صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ))
إذا فاتهُ من قيام الليل, صلى من النهار, اثنتي عشرة ركعة.
هذه الأحاديث كلّها على محْوَر واحد: إذا الشيء فاتَكَ فاقْضِهِ, من أجل أن تبقى ثقتك بنفسك عاليَة، ومن أجل أن تكون واثقًا بأنّ الله راضٍ عنك، ومن أجل أن تنطبق عليك الآية الكريمة:
عاهدْنا رسول الله على السمع والطاعة, في المنشط والمكره، وفي إقبال الدنيا, وفي إدبارها
ومن أجل أن يكون قدْوتنا في هذا, سيّدنا سعد في موقعة بدْر:
لعلّك تعْنينا يا رسول الله, لقد آمنّا بك وصدَّقناك، وشهِدنا أنّ ما جئتَ به هو الحق، فامْضِ يا رسول الله لما أردْتَ فنحن معك، إنّا لصُدُقٌ في الحرب، صُبُرٌ عند اللِّقاء، فأوْصِل حِبَال من شئتَ، وأقْطِع حِبالَ من شئتَ، وخُذْ من أموالنا ما شئتَ، وسالِمْ من شئتَ، وحارِبْ من شئتَ، هو الذي بعثك بالحق، لو خُضْتَ بنا هذا البحر لخُضْناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد
هذه عكس قوله تعالى, لمن قال:
﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)﴾
هناك إنسان يحمل الدَّعْوَة، هذا بِمَاله، وهذا بِجَاهه، وهذا بِعَضلاته، وهذا بِذَكائه، وهذا بِعِلْمه، وهذا بِوَقتهِ، وهناك إنسان محميّ، يطلب دائمًا، إنسان يعطي، وإنسان يأخذ.
هناك بعض الحقائق مهمّة جدًّا في العلاقة مع الله تعالى:
على موضوع الترميم، لماذا كان في الحجّ هَدي جزاء؟ الإنسان قصَّر أو ارتكَبَ بعض محظورات الإحرام، لماذا شُرِعَ أن يذبَحَ الهَدْيَ هَدْيَ الجزاء؟ لأنّ هذا التقصير أو المخالفة, أحْدث ثلّة في النفس، فهذا الدَّفْع أو هذا الهدْي قد يُرَمِّم.
يقولون: الإنسان حكيم نفسه، أنا أستعير هذه العبارة العاميّة لِمَوضوع آخر، يراقب علاقته بالله تعالى، الآن: علاقة متألّقة، أصابها فتور.
أخٌ من إخواننا؛ ذهب إلى طبيب نفسي، سمع الطبيب القصّة بكاملها، قال له: - والطبيب غير مسلم- يبْدو أنّك غاضب من الله, والله غاضبٌ منك, لا بدّ أن تناجيه، وتُصالحهُ، وتُطيعهُ، حينها تنتهي مشكلتك معك، لمّا سمع هذا الكلام من طبيب غير مسلم, تأثَّر تأثُّرًا بالغًا، نحن لا يوجد عندنا مرض نفسي ضمن الإيمان أبدًا، عندنا صحّة نفْسِيَّة، إنسان له صلة بالله، وإنسان مخلص لله تعالى، ويكون معه مرض نفسي, هذا مستحيل، لا بدّ من أنْ ينعكس الإيمان صحّة وتألُّقًا، وثقةً وتفاؤُلاً، وتوازنًا واعتِدالاً، وطاعةً.
عدم المبالغة في الأعمال للمحافظة عليها:
أيها الإخوة؛ إذا ثار الإنسان ثورة كبيرة جدًا، وتورّط في أعمال لا يطيق متابعتها، هذه مشكلة، ولو أنفق ماله كلّه.
سيّدنا رسول الله لمْ يأخذ مال أحدٍ كلّه أبدًا، أخذ بعض الأموال، أخذ كلّ الأموال من واحدٍ فقط, هو سيّدنا الصدّيق، أما سيّدنا عمر فأخذ بعض ماله، يؤكِّدُ هذا قوله تعالى:
﴿
فإن الله لا يملّ حتى تملّوا، فافعلوا ما تطيقون، افْعَل ما تطيق، واعْمَل برنامجًا معتدلاً، الناجحون في الحياة ينظِّمون أوقاتهم، وهناك نموذج غير مقبول أبدًا، تطلب منه, يقول لك: حاضر، ثمّ ينسى, لا يُسجِّل، وينفّذ واحدًا بالمئة، وقتهُ مُبَعْثر، ولا يوجد نِظام في حَياته، لا يوجد وقت خاصّ للبيت ، وآخر للعمل، ووقت للعبادة، فأكثر المتألِّقين بالحياة, عندهم نظام بالحياة، وهذا الوقت لله تعالى, لا يمكن أن تعتدي عليه.
يحكي لي بعض الإخوة كلامًا أنا أُكْبرُه، يقول لي: لأمْرٍ قاهر ضاع منِّي الدرس، ولكن بقي مع الوقت عشر دقائق، أقول: أصلّي العشاء -لما كان درسنا من المغرب إلى العشاء- وأشعر بِنَفْحَة، ما دام ألِف حضور هذا الدرس، ولو فاتهُ نصف الدرس, وحصّل قسمًا منه، شعر بِنَفْحة.
فالإنسان إذا حصَّل شيئًا أفضل من أن يكون محرومًا منه، فأنت ألِفْت درس علمٍ فحافِظْ عليه، ألِفْت الصلاة في المسجد حافِظ عليها، لك ورد صباحًا حافظ عليه، لك تلاوة حافظ عليها، لك قيام ليل حافظ عليه، لك صدقة حافظ عليها.
مِحْوَر درسنا الحِفاظ على الأعمال الصالحة:
أحبّ الأعمال إلى الله أدْومُها وإن قلَّت
فلّما يجد الإنسان ثقته بالله تعالى عالِيَة, وإقباله شديد، أما إذا يئسَ من المتابعة، أو حمَّلَ نفسهُ ما لا تطيق, ثمّ ترك, هذا لا يصح.
أنا عندي قاعدة:
كلّ ثروة شديدة, يعقبها انتكاس شديد، فدائمًا: كن متوازنًا.
يأتي أخ ينسى مستقبله, ودراسته الجامعيّة، يعيش أجواء رائعة خلال فترة، بعدها يجد كلّ رفاقهُ معهم شهادة, وهو لا شهادة، ولا مصْلحة، ولا محصّل شيء، ولا بيت عنده، وغير متزوّج، كلّ رفاقُه تزوَّجوا، هذا يحدث معه انتكاس، فلا بدّ أن تعمل لِدُنياك، الدنيا قوام الحياة ، والدليل الدعاء: اللهمّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردّنا.
فأنت بحاجة إلى دينٍ قويم، وآخرة تنْجو بها من عذاب الله، ودنيا تُقيم بها عِوَجك، فالعمل المتوازن.
وأنا قناعتي: أنّ الشيخ لا بدّ أن يبني إخوانه بناءً متوازنًا، أنت ادْرس، وتاجر، واعمل، لأنّ المسلمين الآن في معركة بقاء، حياة أو موت، فإذا نحن ما تعاونّا, هذه مشكلة كبيرة، فأعداؤُنا الآن ينفردون في الساحة، وهذا عصر الصف الواحد، أرأيت إلى قوله تعالى:
﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ
كان هناك توان، وكتلتان كبيرتان وقطبان، كلّ واحدٍ يهاب الآخر, لحصَّل الضعفاء الخير الكثير بهذه الموازنة، أما أن يكون قطب واحد ولا يرْحم, فالآن: المشكلة كبيرة جدًّا، وقضيّة نكون أو لا نكون، فلا بدّ أن نتعاوَن, وأن نتقوَّى، وأن نصلح دنْيانا وآخرتنا، وأن نقوِّي إيماننا، فيجب أن نتعاوَن، ويعذر بعضنا بعضًا، وأن ينصح بعضنا بعضًا، وأن نتعاون مع بعض حتى نبقى.
أيها الإخوة؛ أكاد أقول: المؤمن الصادق حكيم نفسه، يراقب نفسهُ.
لو أنّ واحدًا فرضًا, تاب إلى الله من شيء، ثمّ وقع فيه، ربما لا يقْوى على التوبة مرّة أخرى، لا بدّ من صدقة تُرَمِّم التقصير، الترميم دقيق، هناك تقصير إذا أمكن إعادة العبادة أعِدْها، بإمكانك أن تقرأ القرآن الذي فاتَكَ بالليل فاقرأْهُ، بإمكانك أن تصلّي بالضحى ما فاتك في الليل فصَلِّ، بالإمكان أن تدفع صدقة فادْفَعْها، إذا غبْت عن الدرس، سل عن موضوعه، حاوِلْ أن تُرَمِّم، من أجل أن تحافظ على مستوى معيّن، ومن أجل أن تبقى في مرتبة وصلْت إليها لا أن تتراجع، والتراجع يعْقِبُهُ تراجع كبير جدًّا.
هناك مبدأ اسمهُ: العطالة.
هذا المبدأ فيزيائي: أنّ الأجسام المتحرّكة ترفض السكون، فإذا كنت راكباً سيارة, والسائق اسْتَعمل المكبح، فجأةً تهجم إلى الأمام، لأنّك رفضْت السكون، فالمركبة توقَّفت، وأنت ما توقّفْت، لذلك: لا بدّ من الأحزمة، أما حينما تقلع المركبة تشعر أنّ المقعد الخلفي دفعك إلى الأمام، أنت رفضْت الحركة، المركبة تحرّكت ودفعتك إلى الأمام، فالأجسام الساكنة ترفض الحركة، والأجسام المتحركة ترفض السكون.
والآن هناك حقيقة: إذا حضر الإنسان دروسًا, فهذه الحركة المستمرّة تستمرّ، أما حينما يقف, فالوُقوف يدعو إلى وُقوف، فإذا غاب درسين، لن يأتي بعدها.
تسأل عن شخص ستّة أشهر لم يأتِ، فإذا داوَم الإنسان, فالدوام يدعو إلى الدوام، وإذا انقطع, فالانقطاع يدعو إلى الانقطاع, وهذا مبدأ العطالة الثابت.
مرّةً قال لي واحد: إذا تعكّرت, لن آتي إلى الدروس، فقلتُ له: أنت حالتك مثل الطبيب، إذا مرض فلن يكون مريضًا، أنت بحاجة ماسّة إذا مرضْت إلى طبيب، وكثير من الأشخاص يكون بِوَضْع قلق، وتكون له مشكلة، فإذا ذهب إلى الدرس تُحلّ هذه المشكلة، تُحلّ نفسيًّا، يرى الآخرة، ويرى فضل الله عز وجل، يستصغر مشكلته أمام ما يُقال في الدرس.
الخاتمة:
أيها الإخوة؛ أنا أُحاوِل في هذا الدرس -درس الأحد- جاهِدًا, أن أُجَمِّع المشكلات التي تصلني خلال الأسبوع، وأن أختار من هذا الكتاب المبارك, كتاب رياض الصالحين, بابًا يحلّ مشكلة الإخوة المؤمنين مجتمعين، فنحن نريد المتابعة والاستمرار، من أجل الثقة بالنفس، وأيّ مبالغة بالعبادات يجب أن نرفضها، لأنّ هذه المبالغة لها أثر نفسي في حالة النفس مع الله عز وجل، وضربتُ لهذا مثَل:
أبو حنيفة قرأ القرآن كلّه في ركعة واحدة, تحتقرُ صلاتك أمام صلاته، وهي غير واقعيّة، وأنّه ما نام أربعين سنة، وصلى الفجر بِوُضوء العشاء.
لو فرضنا أنّ واحدًا ما نام, ألا تأتيه الحاجة أن يذهب إلى الخلاء, من العشاء إلى الفجر؟ إذًا: هناك مبالغة، أو أنّه قام الليل كلّه بآيةٍ واحدة, هناك أشياء تيئِّس, وهناك من درجات الحديث وضع الزنادقة.
كلّ الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.
كُنْ منتبهًا, هناك أحاديث هدفها التيْئيس، وكلّ قصّة غير صحيحة، أنت يمكن أن تعيش وتتزوّج، وتشتغل بأيّ عمل، وتكون الأوّل عند الله, فالزواج لا يتناقض مع الدّين، ويكون لك عمل تجاري، هذا لا يتناقض مع الدّين، أو يكون لك عمل في التدريس, أو الطبّ, أو الهندسة, أو الصناعة, أو الزراعة, أو في التجارة، أو حتى في منصب رفيع جدًّا، فيمكن أن تكون مطيعًا لله في أعلى مستوى، فالدِّين بالحياة، فإذا تركته, تحسّ أنّ هذا الدِّين ليس من الحياة، فهذا الدِّين يصلح للحياة في أيّ طَوْر من أطوارها، وحتى الطور المتقدّم جدًّا، وهذا دين الله عز وجل.
والذي أتمنَّاه على إخوتنا الكرام؛ أن تنقلب هذه الأحاديث والآيات إلى واقع، والمحافظة على المكتسبات التي حصَّلتها، ونحن على مشارف رمضان، والإنسان في رمضان يصلّي الفجر بالمسجد، ويضبط عينه، وسمعه، ولسانه، ورجلهُ، وفي رمضان يقرأ القرآن، وفي رمضان يصلّي صلاة التراويح, قيام الليل، وفي رمضان، ما الذي يحصل للمسلمين بعد رمضان؟ يعودون لما كانوا عليه، قال أحد الشعراء سامحه الله:
رمضان ولَّى هاتها يا ساقي مُشتاقةً تسعى إلى مُشتاق
نقض كلّ صيامه، فنحن نريد رمضان، كلّ رمضان قفْزة، وأن تحافظ طوال العام على ما حقَّقته في رمضان، يأتي رمضان آخر, تكون قفْزة أخرى إلى أن نلقى الواحد الديان.
والحمد لله رب العالمين