وضع داكن
21-11-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 094 - الاقتصاد في النفقات والتعفف في الطلب - ما ينبغي على المسلمين أن يفعلوا إذا نزل فيهم البلاء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

تمهيد.


أيها الإخوة الكرام؛ المؤمن يجب أن يرعى الظروف التي حوله، فقد يُغدق الله عز وجل أحيانًا على عباده عطاءً كبيرًا، فيَمْتحِنُهم بهذا العطاء، وقد يكون امتحان الله جلّ جلاله نوعاً آخر؛ يضيّق عليهم أرزاقهم، تشحّ السماء, ويقلّ النبات، تكثر المطامع، يقلّ الدَّخل، ترتفع الأسعار، فالمؤمن بِتَوجيه من النبي عليه الصلاة والسلام, الذي وردَ في بعض الأحاديث, يقول:

اخْشَوْشِنوا وتمعددوا فإنّ النِّعَم لا تدوم

فكلّ إنسان, كان في بحبوحة, ثمّ صار في ضائقة, ينبغي أن يقيس على الضائقة لا على البحبوحة، والأمور وإن كان هناك معاملة خاصّة، وإن كان هناك استثناءات، وإن كان هناك ظروف خاصّة, إلا أنَّ الجوّ العام جوّ فيه تراجع، لِحِكمة أرادها الله عز وجل, المنسوب الجوفي للمياه في انخفاض شديد، وهذا ينعكس على الزراعة، مطالب الإنسان تزداد, ودخلهُ يقلّ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((اخْشَوْشِنوا وتمعددوا فإنّ النِّعَم لا تدوم)) من أجل أن تبقى حرًّا، من أجل أن تبقى مستقيمًا، لو عوَّدْتَ أهلك على إنفاق كبير، ثمّ جاءَتْ الضائقة، فقد يُدفع الإنسان إلى أكل مال الحرام، أو إلى ممالاة السلطة، فمِن أجل أن تبقى حرًّا، ومن أجل أن تكون لله عز وجل، يجب أن تعوّد نفسكَ على الإنفاق المعتدل، ودون المعتدل، وما دام إيمانك سليمًا فأنت في خير، وكفاك على عدوّك نصرًا أنَّه في معصيَة الله تعالى، ما دام الإيمان سليمًا، والاستقامة محقّقةً، والطريق إلى الله تعالى سالك، وما دام العبد مُقبلاً على الله عز وجل, فهو في خير عميم.

 

الرزاق هو الله عز وجل.


أيها الإخوة؛ ولكن لكي لا يقع الإنسان في يأس وقلق وخوف.  

الآية الأولى:

قال الله عز وجل:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)﴾

[ سورة هود ]

وقد وقف علماء التفسير في هذه الآية وقفات متأنِّيَة. 

(دَابَّةٍ) : أيُّ شيءٍ يدِبّ على وجه الأرض.

فكلمة دابَّة شاملة جدًّا، تقول: 

جبــــل: أيّ جبل. 

مدينة: أيّ مدينة.

نـــهــر: أيّ نهر. 

تــلّـــــة: أيّ تلّة.

فكلمة دابّة من أشمل الكلمات المتعلقة بالمخلوقات، كلّ شيءٍ يدِبّ على وجه الأرض بدءًا من النملة، وانتهاءً بالديناصور، فهو دابّة، وما من دابة إلا على الله رزقها.

الآن: جاء التنكير، الكلمة تفيد الشمول، وجاء بصيغة التنكير، والتنكير أيضًا: يفيد الشمول.

إذا قلنا: المدينة فهي التي نحن فيها، ونقصد مدينة واحدة، أما إذا قلنا مدينةٌ، نهر، جملٌ، الكلمة تفيد الشمول، وجاءتْ مُنَكَّرةً لتُفيد الشمول. 

ثم قال الله عز وجل: (وَمَا مِنْ) من: تفيد استغراق أفراد النوع. 

يعني: أيّة دابّة ولو لم تُرَ بالعَين، أحيانًا: تلحظ نقطةً على الكتاب، تُفاجأ أنّها تتحرك، فهذه أقلّ دابّة تمشي، وتراها عينُك، هذه داخلة في هذه الآية.

فمن: تفيد استغراق أفراد النوع. 

دابّة: لفظها يفيد الشمول، تنكيرها يفيد الشمول. 

ومِنْ: هي لاستغراق جميع أنواع الدواب بلا استثناء، ما من دابة إلا على الله رزقها.

وحينما تأتي كلمة على مع لفظ الجلالة تفيد الإلزام الذاتي، وهي أنّ الله جلّ جلاله ألْزَمَ ذاته العليّة أن يرزق خلقهُ، قال تعالى: (إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) .

لو أنّ الله عز وجل قال: الدواب على الله رزقها، لم تكن هذه الكلمة بالشمول الذي جاء في هذه الآية.

لو أنّ الله عز وجل قال: ما من دابة إلا والله يرزقها على وجه الإلزام، أما على الله، صار هناك إلزام، قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) .

هناك شيء آخر: ما من إلا، هذا اسمه استثناء، إذا سبقت الجملة بِنَفي, ثمّ أُلحقَتْ باستثناء, أفادَت معنى الحصر. 

يعني: لا تنجو دابة وعلى الله رزقها فقط، ليس على غيره، فـ إلا تفيد استثناء مع النفي، وهي تفيد القصر والحصر، لو أنّ الدواب الله يرزقها, لا يمنع أن يرزقها غير الله، أما قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) .

دخلنا في الموضوع؛ كلمة تفيد الشمول، وجاءَتْ منكَّرةً لتُفيد الشمول، وجاءت من لاستغراق أفراد النوع، وجاءت على لتفيد الإلزام، وجاء النفي مع الاستثناء ليُفيد القصر والحصر، هذا هو القرآن الكريم، لو حذفْتَ مِن، لو حذَفْت على, لو حذفْت الاستثناء، لو حذفْت النفي لاخْتلّ المعنى، ولمَا كان قرآنًا.

هذه الآية: ألا تكفي أن تملأ القلب طمأنينة؟ لأنّ الله يرزق العباد، قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)

الآية الثانية:

قال تعالى:

﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)﴾

[ سورة البقرة ]

أرأيْتَ إلى هذا الثناء من الله عز وجل؟ الفقير أحيانًا يتوهّم أنَّ الله لا يحبّه، قال تعالى:

﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)﴾

[ سورة الفجر ]

هذا وهمٌ من الشيطان، ولكنّ الله تعالى يحبّ عبادهُ جميعًا، ولعلّ الفقراء مخصوصون بالمحبّة.

إنَّ الله يحمي عبده من الدنيا, كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام

بربّك لو كنتَ طبيبًا وأبًا رحيمًا في وقتٍ واحد، ولك ابن مُصاب بالتهاب حادّ في أمعائه، وفي البيت أكلةٌ طيّبة جدًّا, تمْنعُهُ بِمُنتهى القسوة أن يأكل منها، مع أنَّه ابنك، وأنت أبوه، ورحمتك غالبة، ومعك مال كثير، هل يُعَدُّ هذا المنْع إهانةً لهذا الابن؟.

إنَّ الله يحمي عبده من الدنيا, كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام

إنَّ الله يحمي عبده من الدنيا, كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة

أيها الإخوة؛ حينما يعطي الله عز جل, فإنَّه يُعطي لِيَمْتحِنَ, فالمال لا يُعَدُّ نعمةً ولا نقمة، إنما هو امتحان، فإذا أُنفقَ في طاعة الله انقلب إلى نعمة، وإن لم يُنفق في سبيل الله انقلب إلى نقمة، فأنت مُبتلى فيما أعطاك، ومُبتلى فيما منعكَ، أنت مع مادَّتين امتِحانيّتين، الذي أُعطيتهُ ممتحنُ فيه، والذي حُرمْت منه ممْتحنٌ فيه. 

الآية الثالثة:

أيها الإخوة؛ قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67)﴾

[ سورة الفرقان ]

المؤمن عنده رحمة، إن وجد حاجة للمال، إن أصابته ضائقة عامة يأكل ويشرب، ولكن باعتدال، من دون إسراف، ومن دون مَخْيَلَةٍ، والله عز وجل وصف عباد الرحمن الذين أضافهم إلى ذاته تكريماً وتشريفًا، قال تعالى:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63)﴾

[ سورة الفرقان ]

 

الاقتصاد فضيلة.


أيها الإخوة؛ فالإنسان يعجب من أهل الدنيا الشاردين عن الله عز وجل، عندهم إنفاق دقيق جدًّا، فالإنسان بالدوائر أحيانًا, يمسك ورقة كبيرة, يكتب عليها ورقة هاتف, ورقة كبيرة ومطبوعة ومكلّفة من أجل رقم هاتف, ألا توجد أوراق صغيرة؟ أنت استخدمتَ وجهًا فلمَ لا تستخدم الوجه الآخر، ولو كنت غنيًّا، الاقتصاد فضيلة، والدليل:

أنّ الله عز وجل عنده شيء هو التقنين، كُن فيَكُون، زلْ فيَزُول، الله عز وجل في كلّ ثانية, يتولّد في نقي العظام اثنان ونصف مليون كريّة حمراء، وفي كلّ ثانية تموت الكميّة نفسها، اثنان ونصف مليون كريّة حمراء ماتَتْ، لو أنّها طُرحَت مع الفضلات، ما الذي يحصل ؟ هذه الكريات الميّتة تذهب إلى الطُّحال, فتُحَلّل إلى حديد وهيموغلوبين, الحديد يُرْسَل إلى نقي العظام ليُصَنَّعَ ثانيًا، والهيموغلوبين يرسل إلى الكبد ليكون صفراء، أليس هذا عملاً اقتصاديًّا؟! هذا من خلق الله عز وجل, فما الذي يمنع أن تطرح هذه الكريات إلى خارج الجسم ؟ إما مع البول, أو الغائط، مع البول، ما الحكمة المُسْتفادة إلى أن تذهب هذه الكريات إلى الطّحال؟ وهو مقبرة، وقبل الدفن, يتمّ التحليل، وترسل هذه النتائج إلى أماكن أخرى, حيث يُعادُ تصنيعها.

مرّة شاهدْتُ سيارة كبيرة جدًّا, حاملةً قطع مكعَّبة من الحديد، سألتُ عن هذا, فإذا هي سيارات، لها مواقف عالية جدًّا، طبعًا: مكبس ثمانمئة طنًّا, يكبس هذه السيارة, فتغدو قطعة مكعّبة أربعين بأربعين كلّها بما فيها، وتؤخذ إلى معامل الحديد, ليُعاد صهرها, وتصنيعها من جديد.

وأنتم تلاحظون من أيام، يقول لك: لوح نشارة، نشارة الخشب يُستفاد منها بلاد الغرب، والأغرب من ذلك، أصحاب المزارع يشترون مادة اسمها توب، قد تعجبون ولا تصدّقوني, أنّ قمامتهم أوراق الأشجار، مخلّفات، أوراق الأشجار اليابسة في الغابات، المجموع الخضري للزراعة.

كلّ شيء نباتي, من أيّ مصدر يُجْمع, ويُفْرم، ويُعَقَّم، ويُعالج، ويُباع لنا أغلى من القمح, ثمن كيلو التوب أغلى من القمح, قمامتهم يبيعونها، فهذا اقتصاد، الاقتصاد ألاّ تبدِّدَ شيئًا، ألاّ تُتْلفَ شيئًا، ألاّ تُهْملَ شيئًا.

أيها الإخوة؛ دقّق في خلق الله عز وجل، الأنعام: رَوْثها أعلى نوع من السماد، أعلى نوع على الإطلاق، وعاد الآن العالم إلى التسميد العضوي، بعد أن ثبت: أنَّ التسميد الكيماوي يزيد ملوحة التربة، وقد يُسبّب تلوّث في البيئة، وقد يسبّب أمراض خطيرة في الإنسان, لأنّ بعض هذه المركّبات, تدخل في بنية الخلية النباتية، وفي بلاد كثيرة تُفْحص الفواكه على الحدود، فإذا كانت مُسمَّدَةً بأسْمِدَة كيماويّة تُردُّ ولا تُسْتقبل، فرَوْث الدواب يصبحُ سمادًا، أمعاء الدواب هي خيوط للجراحة، وهي غالية جدًّا، قد نسْتورد خيوط للعمليات الجراحيّة بأسعار فلكيّة، أساسها أمعاء هذه الدواب، صوفها يُستفاد منه، وكذا جلدها، هذا الخروف مُصَمَّم كي تنتفع بكلّ شيءٍ فيه، كلّ شيء تنتفع به حتى رَوْثُهُ.

أنت لاحظ الأوراق التي تسقط, تصبح بعد حين سماد للتربة وتحلّل، أحيانًا: يصنع الإنسان مواد لا تُحلّل، فالبلاستيك ُسبّب تلوّثًا وتشويهًا لِمَنظر البيئة، فكلّ البساتين تمتلك أوراقًا بالخريف، ولكن في الشتاء تتحلّل، وتصبح سمادًا، وفي الربيع كأنّها جنّة، فهناك دورة نباتية رائعة، وطريقة تحليل ذاتية، وكل هذا من صنع ربنا عز وجل.

فأنا ذكرتُ كلّ هذه الأمثلة, من أجل أنّ الاقتصاد فضيلة، استهلك كلّ شيء، وقنِّن تقنينًا معقولاً.

فقد كان عليه الصلاة والسلام يتوضّأ من قعْب, فضلَت فيه فضلة، فقال:

(( ردّوها في النهر, ينفع الله بها قومًا آخرين ))

أكثر الصنابير تدوير، فالإنسان يعيّن الماء البارد, والساخن، ويغتسل، ويمكن له في أثناء غسل جسمه غلق الصنابير، لأنّ تركها فيه إسراف، فلو صنعنا صنابير عن طريقة كبس تكون شرعيّة أكثر، معيّرة، وتستطيع توقيفها، وإن شئت أن تتابع صبّ الماء، فالماء ثمين جدًّا.

الله عز وجل أحياناً: يعرّفنا بنِعَمه بِوَفرتها، وأحيانًا: بقِلَّها.

قرأت في الجريدة البارحة, بمنطقة حماة وما حولها, توجد أمطار غزيرة, حتى مئتا ميلي، ومناطق أخرى ثلاثون أو أربعون، على كلّ؛ كميّات أمطار لم يُرَ مثلها من عَقْدَين من الزمن، فالإنسان بحاجة إلى الماء، فإذا نظّم استهلاك الماء اقتصد.

وفي كلّ الدراسات الآن: أنّه إذا كانت هناك حنفيّة إغلاقها غير محكم، وتقطر, فإن هذه تستهلك مترًا مكعبًا بالنهار, من دون أن تشعر، طبعًا: نحن انطلقنا من أنّ الاقتصاد فضيلة. 

 

تعريف الغنى:


يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ, وَلَكِنَّ الْغِنَي غِنَي النَّفْسِ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي في سننه ]

حديث مألوف، ففي نظر الناس أنّ الغني من عنده أموال مجمَّدة في البنوك، أموال جامدة أو متحرّكة، ومن عنده عقارات، ومن عنده أراض، لكنّ تعريف النبي عليه الصلاة والسلام: هو من كانت نفسه غنيّة بالله تعالى، هذا غنى، وهو شيءٌ مُلاحظ.

أحيانًا: تجد إنسان مترف بالمال, يطمع بمال موظّف عنده لا يقدّم ولا يؤخّر، وقد تجد إنسان فقير نفسهُ غنيّة.

 قصة فيها عبرة. 

 

والله ما صغرت في حياتي أمام إنسان كما صغرت أمام هذا الفقير.


أنا ذكرتُ لكم قبل حينٍ, رجلاً من أطراف دمشق, ورث أرضًا، وإنسان من أغنياء دمشق, أراد أن يبني مسجدًا في أرضٍ مناسبة، وأرسل من ينوب عنه في مُساومة صاحبها، واتَّفَقَ الطرفان على ثلاثة ملايين ونصف مليون، وجاء هذا الغني, وهو صالح فيما أعلم, ليرى الأرض، وليَدفع الثمن، كتب شيكًا بمليونين، فقال له البائع: والباقي متى؟ فقال له عند التنازل, فقال: وما التنازل؟ قال: عند التنازل في الأوقاف, لتكون هذه الأرض مسجدًا، فأمسك الشكّ ومزَّقهُ، وقال له: أنا أولى منك أن أُقدّمها لله عز وجل، وهو يملك راتبًا قدره أربعة آلاف، وعنده ثمانية أطفال.

فهذا الإنسان غني عند الله عز وجل، مع أنّه لا يملكُ شيئًا، العفيف غني، والذي يرضى بالقليل غني، وإذا الإنسان استيقظ وحواسّه سليمة، زوجته جنبه، أولاده أمامه، أولاده أبرار، زوجته صالحة، يسكن ببَيت غير مجبور, أن ينقل بيته كلّ ستّة أشهر، ومعه مفتاح بيت، وليس عنده مشكلة كبيرة، هذا غنيّ.

والآن أيّها الإخوة؛ الذي عنده مصروفه، وعنده مأوى، وعنده أولاد مرتاح معهم، وزوجة مرتاح معها, فهذا غني غنًى كبيرًا، ((لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ, وَلَكِنَّ الْغِنَي غِنَي النَّفْسِ)) .

سيّدنا أُويس القرني, عرضوا عليه أُعطية، فقال لسيّدنا عمر:

ماذا أفعل بها؟ عليّ هذا الثوب, متى تُراني خرقْتُه؟ ومعي أربعة دراهم, متى تُراني أنفقتها؟

شعورنا بالفقر, لأنّنا نحبّ الرفاه والترف، وكلّ شيء من أعلى مستوى، وهذه الدنيا عرضٌ حاضر.

هناك كلمة لسيّدنا علي, والله لو عقلناها لزهدنا في الدنيا، قال:

فلينْظر ناظرٌ بعقله, أنّ الله أكرم محمَّدًا أم أهانه, حين زوى عنه الدنيا؟ فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه فقد أهان غيره, حيث أعطاه الدنيا، ويا بني ما خير بعده النار بخير، وما شرّ بعده الجنة بِشَرّ، وكلّ نعيم دون الجنة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية، العفيف غنيّ، والقنوع غنيّ، والذي ينفق ماله بِدِقّة غنيّ، الذي يؤثر طاعة الله على مال وفير فيه شبهات غنيّ

مرَّةً قرأت بالأحاديث حديث، لم أراجعه صحَّته، ولكن ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم:

أنّ الاقتصاد في المعيشة خير من بعض التجارة

لم يقل: من كلّ التجارة، ولكن من بعضها.

إذا كانت التجارة بالمحرّمات، تأجير أفلام فيديو ساقطة وأرباحها طائلة، وأحياناً: مقهى لِلَعِب النَّرْد، وغناء، ورقص، وشرب خمر، وأرباحٌ طائلة، تجارة فيها شبهة، أحيانًا: ضمن مواد البضاعة, هناك مواد ممنوع بيعها، ومحرّم بيعها، فالإنسان إذا ضغط مصروفه، ونام مرتاحًا، أفضل ألف مرّة من هذه التجارة.

من يومين سألني إنسان، قال: ورثْتُ عن والدي فندقًا، وقال لي: تباع فيه الآن خمور ، وفيه زنا، ماذا أفعل؟ سؤال عويص.

الواحد دخلهُ من بيع الخمر، ومن الزنا، هذا أمر كبير، فإذا ضغط الإنسان مصروفه، أو كان له دخْل قليل مع طاعة الله عز وجل, أفضل من ألف مرّة, من دخل كبير, مع شبهة, وليس معصية.

 

قصة حكيم بن حزام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.


(( أخرج أحمد, والبخاري, ومسلم, والترمذي, والنسائي, عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ, أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي, ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي, ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي, ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ, إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ, فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ, بُورِكَ لَهُ فِيهِ, وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ, لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ, كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ, الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى, قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ, لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا, فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ, فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ, ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ, فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا, فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ, أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ, فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ, فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, حَتَّى تُوُفِّيَ ))

احفظوا هذا الحديث.

فقد أخرج الطبراني, عن ابن عباس يرفعه, قال: ما نقصت صدقة من مال قط، وما مد عبد يده بصدقة, إلا ألقيت في يد الله, قبل أن تقع في يد السائل، ولا فتح عبد باب مسألة له عنها غنى, إلا فتح الله عليه باب فقر

ملك الملوك إذا وهب       قم فاسْألنّ عن السبب

الله يعطي من يشــاء       فقِفْ عند حـــدّ الأدب

 قال: يَا حَكِيمُ, إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ, فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ, بُورِكَ لَهُ فِيهِ, وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ, لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ -.هناك إنسان ينظر ما عند الناس، أنت انظر ما عندك من إيجابيّات، واشكر الله عز وجل، وهناك إنسان بالمقابل: دائمًا يبخّس ما عند الناس، إذا وجد البيت صغيرًا, يقول لك: كيف يكفيك هذا البيت؟ وإذا وجد الدخل قليلاً، يقول: كيف يكفيك هذا المعاش؟ هذا شيطان يتكلّم, هو إنسان راضٍ عن الله، وعن هذا البيت، ويعيش حياةً فيها راحة، أنت بسؤالك هذا سخَّطه عن الله عز وجل-.

قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ, لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا, حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا

يبدو والله أعلم؛ سأل النبي فأعطاه من باب الوُدّ، وجد هذا الاحتكاك مع النبي, شيء مسخٍ جدًّا، وسأله فأعطاه، سأله فأعطاه.

 قال: يا حكيم, إنّ هذا المال خضِرة حُلْوة, فمن أخذهُ بِسَخاوةٍ نفسٍ, بورِكَ له فيه، ومن أخذهُ بإشراف نفسٍ, لم يُبارك فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى، قال حكيم: قلتُ: يا رسول الله, -انظروا إلى مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند أصحابه-, والذي بعثك بالحق, لا أرزأ أحدًا بعدك شيئاً, حتى أُفارق الدنيا, –أي: لن أسأل أحدًا بعدك حتى أُفارق الدنيا-, فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ, فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ, ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ, فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا, فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ, أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ, فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ, فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, حَتَّى تُوُفِّيَ

 

هكذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.


مرةًّ رأى النبي عليه الصلاة والسلام خاتمًا من ذهب, في أيدي بعض الصحابة, فنهاهُ عن ذلك، فأخذهُ وألقاه في الأرض، جاء إنسان وقال له:

خُذْه وبِعْهُ وانتفع منه ، فقال: والله لا أُمسكُ شيئًا, نهاني عنه النبي عليه الصلاة والسلام, وبقي في الأرض مُلقى

كان تأثير النبي شديدًا جدًّا، وأمرهُ عظيمًا، وتوجيهه حكيمًا، فهذا الصحابي حكيم لم يأخذ شيئًا من أحدٍ, حتى توفاه الله، النبي وجَّهَهُ توجيهًا معيّنًا.

ولقد كنتُ مرّةً في العمرة، وكان هناك إنسان اعتنى بي، ويعمل لأنَّه بحاجة، وأنا أردتُ أن أكرمهُ بمبلغ، ما تركتُ طريقًا كي أعطيَهُ إلا أبى، وقال لي: أنا عندي, عُدْتُ إلى البلد، وأنا في ذهني هذه العفّة التي تفوق حدّ الخيال، فهناك إنسان تحسّ أنَّه عفيف، إلى درجة تلفت النّظر. 


سبب تسميتها بغزوة الرقاع.

 

(( عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزاة, وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ, بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ, فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا, وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ, وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي, فكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ, فَسُمِّيَتْ: غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ, لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنْ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا, قال: وَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا الحديث, ثُمَّ كَرِهَ ذَلكَ, وقَالَ: مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ, كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

الصحابة الكرام امْتُحِنوا بالفقر، إنسان يمشي من دون حذاء، والأرض تلتهب، والأظافر سقطت، والأرجل جرحت، ولُفَّ عليها الخرق، وسُمِّيَت هذه الغزوة ذات الرقاع, من الجهد الذي أصابه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة.

أيها الإخوة؛ تعقيب: فنحن نأتي للمسجد, فنجد التكييف، والماء البارد بالصيف، والساخن بالشتاء، والسجاد من تحتك، الضوء، كل شيء مرتّب، يركب مركبات، وطائرات، نحن ما ذقنا المتاعب التي ذاقها الصحابة الكرام، اركب من مكّة إلى المدينة، تمشي على المئة والثمانين في أربع ساعات، ولكنّ النبي عليه الصلاة والسلام قطعها على الجمَل، هل هناك جمل مكيّف؟ أما الآن: فتركب الحافلة الجماعية فترتاح، مقعد، وماء بارد، ومواقف استراحة، فنحن حملَنَا الإسلام، أما الصحابة الكرام فهم حَمَلوا الإسلام بيننا وبينهم.

إذا أردنا أن نُكرم الطلاب, نضع لهم محلّا يسبحون فيه، ونطعمهم، ونضع لهم رياضة، فالإنسان يعرف بالإكرام، لكنّ الصحابة دفعوا الثّمن باهظاً.

بعض الصحابة الكرام دخل في غزوة، فلمَّا أعْطِيَ بعض الغنائم قال:

ما هذا؟ قالوا: غنائم، فقال: أنا أسلمتُ على الذَّبْح, وفي ثاني معركة اسْتُشْهِدَ، فلمَّا ذكروا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام بكى، قال: هوَ هو؟ فقالوا: هوَ هو

نحن إذا انقطع التلفون لا نتحمّل، نشعر وكأنّنا ضائعون، تعوَّدنا على الهاتف، تعوَّدنا على الرفاهية، وتعوَّدنا على التكييف، طبعًا: لا يكفي هذا الدَّخل، أما إذا اعتاد الإنسان على الاخْشِوْشان، أحيانًا: تجد الشخص حياته بسيطة، ولكنه أسْعَدُ الناس، وقد تكون الغرفة فيها فراش أو فراشان فقط، ولكن نظيفة، وموصول بالله تعالى.

كلمة أقولها لكم, والله لا أريد منها, أنّك تغلق على نفسك، ولكن لو فرضنا أحدًا دخله محدود جدًّا، وكان موصولاً بالله عز وجل، والله هو أسعد الناس، يسكن أصغر بيت، ويأكل أخشن طعام، ويلبس هندامًا، وهو أسعد الناس، وقد يُعطى الإنسان مال قارون, وهو أشقى الناس.

إذا أكرمك الله عز وجل بالسكينة تسعد بها ولو فقدْت كلّ شيء، وتشقى بفقْدها ولو ملكْت كلّ شيء، الله عز وجل يضع سرَّهُ أحيانًا في أضعف خلقه.

 

العطاء والمنع.


(( وعن عمرو بن تغلب -بفتح التاء المثناة فوق، وإسكان الغين المعجمة, وكسر اللام-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ, فَأَعْطَى رِجَالًا, وَتَرَكَ رِجَالًا, فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا, فَحَمِدَ اللَّهَ, ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ, ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ, فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ, وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي, وَلَكِني أُعْطِي أَقْوَامًا, لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ, وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ, منهم: عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ, فَوَ اللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ ))

[ أخرجه البخاري ]

الحديث دقيق جدًّا، الإنسان إذا أكرمه الله، وعمل صالحاً، يأتيه عشرة أضعاف، فلو أنّ أحدًا عملاً صالحاً، وما أدرك شيئًا, قد يكون أرقى عند الله عز وجل، فالذي إيمانه قويّ قد لا يُستجلب، أما الذي بإيمانه ضعف، وخوف شديد، وعنده قلق، فربّنا عز وجل يُسارع له التكريم. 

فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ, وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي, وَلَكِني أُعْطِي أَقْوَامًا, لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ, وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ ))

فإذا استقام الإنسان, وما قطف ثمار استقامته, فلا مانع في هذا، فأنت عليك أن تكون مُطيعًا لله تعالى، وهناك من استقام والله تعالى أغناه بوقت قصير، ليس معنى أنّ الذي أغناه أقرب إلى الله من الذي لم يُغْنهِ.

والله وإن شتَّتوا في حبّهم كبدي       باقٍ على حبّهم راضٍ بما فعلوا

 

الماء نعمة كبيرة.


أيها الإخوة؛ نحن في الصلاة نقول: ربنا لك الحمد والشكر، وهناك من يقول: النعمة والرضا، وهناك إضافة: حمْدًا كثيرًا طيّبًا مباركاً.

كان عليه الصلاة والسلام تعظم عنده النّعمة مهما دقّتْ، شربنا كأس ماء.

مرَّةً ببلد مجاور, اشْتروا ماء من عند الأعداء, فإذا هو ماء المجاري، بعد ما امتلأت المستشفيات بالمرضى, وإسعاف، أما أنت فعندك ماء بالبيت.

مرّة كنت بالحج، فالماء يُشترى شراءً, والجوّ حرّ، والقارورة ستة ريالات، أما أنت ففي البيت عندك صنبور، ماء عذب فرات، ألا تشعر به؟ هذه نعمة كبيرة.

فالواحد إذا غسل سيارته، وفتح الأنبوب لمدّة ساعة, هذا لا يجوز.

أنا أقول: أنّ هناك أمورًا منظرها مؤذ جدًّا، الناس تموت من العطش، وأنت تغسل سيارتك لمدّة ساعة، والماء يسيل، وهناك أحياء لا توجد فيها مياه، وهناك من يشتري الماء بالصهاريج، فهذا الماء شيءٌ ثمين جدًّا, يجب أن نعرف قيمته.

 

المؤمن عزيز النفس.


(( وعن ابن عمر, يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تلحوا في المسألة, فإنه من يستخرج منا بها شيئا, لم يبارك له فيه ))

[ أخرجه أبو يعلى ]

المؤمن يسأل إذا كان مضطرًّا، أما الإلحاح لا يليق بالمؤمن, فلا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه.

اُطلبوا الحوائج بعِزَّة الأنفس, فإن الأمور تجري بالمقادير

الإلحاح يصغّر قيمة الإنسان.

أحدهم سأل عمر بن الخطّاب بإلحاح، فقال له:

يا هذا, لقد ضاع من نفسك أكثر ممّا ضاع منك

أي: أنت بذلْتَ ماء وجهك أكثر ممَّا ضاع منك.

أحدهم ضيّفوه موزة فأكلها، ثمّ أعطوْه الثانية، فوضعها أمامه، ولما خرج من البيت نسيها، فرجع إليهم، ودقّ عليهم الباب، وقال: إنّي نسيت الموزة, فهناك من يسقط من نظر الناس بطلب واحد، فالإلحاح, والمعاودة, والسؤال، والتذلّل, والمسكنة, والتّضعضع أمام غنيّ.

من جلس إلى غنيّ فتَضَعْضَعَ له, ذهب ثلثا دينه

لا يوجد أجمل من غنيّ يعطي فقيرًا، والأجمل من ذلك: أن تجد الفقير متعفّفًا، أحيانًا تجد طفلاً متعفّفًا, حبّة مسكة لا يأخذها، لا يأخذها إلا بجُهْد جهيد.

قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تلحوا في المسألة, فإنه من يستخرج منا بها شيئاً, لم يبارك له فيه)) هناك من يلحّ إلى درجة, تريد أن تخرج من جلدك، وهناك طريقة للإلحاح, وهي الضغط, والضغط، والضغط، فهذا المضغوط يريد أن يخلص، ولكن ما دام أعطى, وهو كاره, فلا يبارك له بهذا العطاء.

 

السؤال عند الضرورة لا حرج فيه.


أيها الإخوة؛ هناك تعليق خطير.

مرّة حدّثني أخ, أنّه أخذ زوجه عند الطبيب، وهو رجل صالح، وله عمل في مسجد، قال له الطبيب: تحتاج إلى تنظير، التنظير ثمنه خمسة آلاف، وليس معه خمسة آلاف، فما سأل وتعفّف، وبعد حين بدأت آلام لا تُحْتمل، فحصها, فإذا معها سرطان منتشر في كلّ الأمعاء.

فأنا حتى لا تظنّوا إذا سأل الواحد فهو آثم، ولكن إذا كان هناك مرض، وما سألت, هنا تكون آثمًا، إذا كان هناك مرض، وكانت هناك حاجة ملحّة، وفي إنقاذ نفس فأنت آثم، له دخل محدود, يغطّي طعامه وشرابه، والتنظير خمسة آلاف، هناك مئات الأغنياء يدفع مئة ألف، ولا يشعر فيها، فلو سألت في هذه الحال لا مانع، فأنا لا أغلق الباب، إذ كان هناك حالات لا بدّ أن تسأل، ولك أجر إن سألت.

فهذا الإنسان -الله أعلم- لو فحص زوجته في وقت مبكّر, أن يستأصل قسم من الأمعاء.

فأنا أعرف امرأة مستأصل متر من أمعائها من عشرين سنة، فالمرض إذا كان محدودًا في البداية, يُستأصل جزء من العضو، وتبقى الحالة سليمة، فليس من أجل التعفّف تخاطر بحياة امرأة، هذا كلام مرفوض، وإذا كان هناك قضيّة ملحّة، وعملية جراحية، ومشكلة كبيرة تنحلّ بالمال، وسألت أخ صادق ومحسنًا، فلا مانع من ذلك، أما قصدي أنا ألاّ تسأل في الأشياء الثانويّة، وللتوسعة، فأنت اِقبل بِدَخل محدود, ودبِّر أمرك فيه, أحسـن من أن تبذل ماء وجهك، أما إذا كان هناك أمر ضروري, فيجب أن تسأل.

(( عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً, فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ, فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا, وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ, وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا, وَتصلوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ, وَتسمعوا وتُطِيعُوا, وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً, قال: وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا, فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ, يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ, فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ ))

[ أخرجه مسلم في الصحيح, وأبو داود والنسائي في سننهما ]

عوِّدْ نفسك أن تخدم نفسكَ.

بالمناسبة: قال لي أخ طبيب كلمة أعجبتني، قال لي: الحدّ الأدنَى, الأدنى, الأدْنى من الرياضة أن تخدم نفسك، إذا خدم الواحد نفسه بالبيت، أغلق شيئًا، فتح شيئًا، خدم نفسه، وركّز البيت, هذه نوع من الرياضة.

فأنت من جهة تطبّق السنة، ومن جهة تسعى لإصحاح جسمك، لا تسألوا الناس شيئًا، عوِّد نفسك أنّه لا حاجة لك لأحد، وأنّ مثلك مثل جميع الناس، أما إن سافرت, فلا مانع أن تقول لأخيك، أما وأنت مقيم فاخْدُم نفسك، وكلّما خدم الإنسان نفسه يرقى.

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ, حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ, وَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ, حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ, فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ, اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ, ثُمَّ بِمُوسَى, ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ, حَدَّثَنِي اللَّيْثُ, حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ, فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ, فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ, فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا, يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ ))

 

التسول حرفة.


أيها الإخوة؛ كلّما بذل ماء وجهه, ذهب الحياء عنه, تجد هناك من يطلب بِوَقاحة، ثمّ معه وثيقة.

مرّة خرجت من البيت، شتاء وأمطار غزيرة, وجدت طفلاً حافيًا، ويلبس قميصًا على جسمه، وهو يبكي أو يتباكى، فقال لي: أمّي مطلّقة، ومات أبي، وأنا أسكن عند خالتي، وأخرجتني وأنا جائع، فأعطيته مئتا ليرة، وكسوْتُه، ثمّ رجعت إلى البيت، وغيّرتُ ثيابي، وخرجتُ بعباءة, نزع الحذاء، وأعاد طلبه عليّ مرّة ثانية، لأنّه لم يعرفن, وعرض عليّ طلبهُ ، فهؤلاء المتسوّلون لهم أفكار؛ فإذا كان الواحد ساذجًا, يتقطّع قلبه منها، فعلى الإنسان أن يكون عفيفًا.

أحد إخواننا ساهم بمُكافحة التّسوّل، فقال لي: حقّقت مع ألف وخمسمئة متسوّل، المفاجأة التي لا تُصدّق: أنّ أحدهم معه أربعون مليونًا، وآخر سبعمئة ألف ليرة، موضوعة بالبنوك، ولم يجد منهم إلا خمسة فقراء، والباقون جعلوا التّسوّل حرفةً.

آخر حديث. 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تكثراً, فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ ))

[ أخرجه مسلم ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور