- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ ننتقل إلى باب جديد من أبواب رياض الصالحين، ألا وهو باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول ربنا سبحانه وتعالى:
﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾
أي أن الله سبحانه وتعالى, يأمرنا من خلال هذا الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر، والذي يساوي فعل الأمر تماماً.
التفسير:
وليكن من هذه الأمة الإسلامية التي آمنت بهذه الرسالة، ومن: للتبعيض، أي أنه ليس جميع المسلمين قادرين على الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر، لأن هذا الأمر, أي الدعوة إلى الله عز وجل, تحتاج إلى تبحر في العلم، فلا بد من أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، ولكن:
ما هو الخير؟.
قال: أي شيء يرغب فيه الإنسان من الأفعال الحسنة؛ فالصدق خير، والأمانة خير، الرحمة والعفو خير، الانضباط ومحبة الخلق خير، الإحسان إلى الناس خير، فالخير ما تعارف الناس على أنه شيء طيب وحسن.
وقال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: الخير هو الإسلام كله، وهو يسعدك في الدنيا والآخرة.
وإذا قلنا: منكم للبيان, فالأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, فرض على كل مسلم.
وإذا قلنا: من للتبعيض, فالدعوة إلى الخير فرض كفاية، إذا قام به البعض, سقط عن الكل، في هذا الموضوع وقفة يسيرة.
هذا الذي لم يتبحر في العلم, لو أنه دعا إلى اللهو، تكلم في موضوعات دقيقة؛ كأسماء الله الحسنى، في القضاء والقدر، في التخيير والتسيير، من دون علم، من دون فقه, ومعرفة، وتبصر، وقلب مستنير، ربما أوقع الناس في إشكالات كثيرة، أو تكلم بشيء لا يعلمه، أو شيء يشبه الكفر، وهو لا يدري، وتكون نيته حسنة، لذلك الإمام أبو حامد الغزالي يقول:
هذا الإنسان المسلم العادي, ما هو الطريق إلى الله إليه؟ بالعمل الصالح، فكل في اختصاصه, ومجاله، وكل في إمكاناته، فهذا إمكاناته بالمال، هذا بالعمل، هذا بالقوة، هذا بالجاه ، فعوام المسلمين يستطيعون أن يرتقوا إلى الله عز وجل، وأن يبلغوا أعلى الدرجات من خلال العمل الصالح، أما أن يدعوا العمل الصالح، ويغوصوا في موضوعات لا يعلمون بها، ويتكلمون بموضوعات ليسوا مطّلعين إليها، فمثل هذا العمل, يؤدي لمضاعفات خطيرة.
فلذلك:
فهذه ( مِن ): إن كانت للتبعيض, فالدعوة لله، أو الإسلام، أو الخير مطلقاً, يجب أن يسبقها تبحر، وفهم، ودقة، وتأمل، وتبصر، وإشراق.
أما إذا فهمنا ( مِن ): للبيان, فالدعوة للخير فرض عين على كل مسلم، فالتوفيق بين كلتا الحالتين:
هو أن الدعوة للخير في الحدود التي أنت متأكد منها، هذه فرض عين، كأن ترى إنسانًا يشرب الخمر, ادعه إلى التوبة، هذه قضية ليست خلافية، لكن سمعت إنسانًا يقول شيئاً عن أسماء الله، أنت لا تعرف وجه الصواب في هذا، بل دله على من يعرف في أسماء الله الحسنى، فأنت فيما استبان لك من أمر, ادعُ إلى الخير، فيما لم يستبن لك, دله على من يدعوه إلى الخير.
فالله سبحانه وتعالى حينما يقول:
(( عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : والله ، لأنْ يُهْدَى بِهُدَاكَ رَجُل واحد خير لكَ من حُمْرِ النَّعَم ))
خير لك مما طلعت عليه الشمس، خير لك من حمر النعم، فأنت لتقريب الفكرة: عندك ولد شارد، بعيد عن اتجاهك, شذّ وانحرف، وجاء إنسان، وقوّم اعوجاجه، ولمّ شعثه، وعرفه بك، وأرجعه إليك منيباً تائباً محباً مطيعاً، لا شك أنك تتمنى أن تقدم له روحك، إذا كان العبد الذي أودع الله في قلبه بعض الرحمة, يفرح أشد الفرح, لو أن ابنه الشارد رد إليه، فكيف بخالق الكون؟ إذا رددت إليه عباده, ودللتهم عليه، أكرمتهم، وعرفتهم، وأعنتهم، وقومت اعوجاجهم، وجمعت شتاتهم، كيف يحبك الله عز وجل؟ قال تعالى:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
يشكرك، لذلك: ليس في الأرض عمل يرقى لمستوى, أن ترد الناس لله عز وجل وتعرفهم به، لذلك قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)﴾
﴿
﴿
فهذه الآية التي افتتح بها باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, في رياض الصالحين, قال تعالى:
﴿
لا بد من أناس في كل أمة, يدعون إلى الخير، ولماذا؟ لأن الله يطمئننا, ويبلغنا, ويعرفنا, إذا يقول:
﴿
فحينما تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر أيها العرب, تكونون خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى:
﴿
ليس معنى وسطًا بين بينَ, لا، بل إنكم وسطاء بيني وبين خلقي، فالشيء الوسط هو الشيء الأمثل، والشيء الوسط هو الشيء الوسيط، قال تعالى:
﴿
أي يتعاونون في الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر، قال تعالى:
﴿
لذلك ربنا سبحانه وتعالى قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
وقال: المؤمنون بعضهم لبعض نصحة, متوادون، ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعض غششة, متحاسدون, ولو اقتربت منازلهم.
(( وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا))
شيء آخر: ربنا سبحانه وتعالى أوجب العقوبة والهلاك على اليهود، لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبق، مجامل، لا يجرح إنسانًا، ولو ارتكب الموبقات أمامه، فاستحقوا هذا الهلاك، وربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿
قل الحق، ولا تخش فيه لومة لائم، كن من هؤلاء الذين وصفهم الله عز وجل, فقــال:
﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)﴾
هذه بعض الآيات التي وردت في مستهل هذا الباب، ولكم قوله تعالى:
﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)﴾
فبعضهم يقول -انطلاقاً من هذه الآية- : الرحمة خاصة والبلاء عام، والتصحيح لهذه المقولة: أن الرحمة خاصة، والبلاء خاص، ماذا نفعل بهذه الآية؟ أي أن هذا المجتمع إذا لم يتناهَ أفراده عن المنكر, عمّ، وانتشر، وتوسع المنكر, فوقعوا في شر أعمالهم.
فإذا شبّ حريق في بيت, في الطابق العاشر بالنسبة لبيتك، ولم تنهض لتسهم في إخماد الحريق, ربما وصل الحريق إلى بيتك، هذا معنى الآية.
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فسعد وأبوه صحابيان، وأبوه شهيد في وقعة أحد، وقد روى هذا الصحابي عن رسول الله ألف ومئة وسبعين حديثاً, اتفق البخاري ومسلم من هذه الأحاديث على ستة وأربعين حديثاً ، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين حديثاً.
يقول أحد أصحاب رسول الله, عن أبي سعيد الخدري: لم يكن أحد من أحداث رسول الله أفقه من أبي سعيد، ومناقبه كثيرة, توفي بالمدينة يوم الجمعة، ودفن بالبقيع، من زار منكم المدينة المنورة، وزار البقيع, ففي هذه التربة الطاهرة أصحاب النبي عليهم رضوان الله.
حديث اليوم الأول: عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ, قَالَ:
(( أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ رَجُلٌ, فَقَالَ: يَا مَرْوَانُ خَالَفْتَ السُّنَّةَ, قَالَ: تُرِكَ مَا هُنَاكَ يَا أَبَا فُلانٍ, فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا, فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا, فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ))
فكلمة
قد تقول: رأيت الشمس ساطعة، فهذه بصرية.
إذا قلت: رأيت العلم نافعاً، هذه قلبية.
لذلك الاسم المنصوب الثاني في رأى البصرية, يعرب حالاً، قد رأيت الشمس ساطعة، والاسم المنصوب الثاني في رأى القلبية, يعرب مفعولا به ثانيًا، فالنبي الكريم يقول:
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا .
أي يا معشر المكلفين القادرين المسلمين, هذا خطاب لكم جميعاً، استفيد من كلمة من: اسم شرط جازم، فأي واحد منكم رأى منكراً، ورأى: تفيد رؤية البصر، أو رؤية العلم، علمت أن أخاك, يفعل كذا وكذا, لم تره بعينك، هذا يدخل في الرؤية في العلم, فاذهب إليه، ومره بالمعروف، وانهه عن المنكر، وكلمة فليغيره: لام أمر تفيد الوجوب، فلدينا أفعال وجوب، وأفعال للنداء، وأفعال للإباحة، وهكذا ...
فليغيره: تفيد الوجوب، أي ليغيره وجوباً في الشرع على الكفاية، لو أن أربعة رأوا منكرا، لو أن خمسة رأوا منكرا، أو جمعا من الناس, فعليك أن تأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر، على واحد منهم, هذا هو فرض الكفاية.
شيء تعرفونه جميعاً: الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، فرض الكفاية يجب على بعض المسلمين، فإذا قاموا به سقط عن الجميع، لكن فرض العين يجب على كل مسلم.
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ.
على الكفاية, إذا كان الذي رآه جمعا، أما إذا رأيت المنكر وحدك, ينقلب الفرض فرض عين، دخلت بيت أخيك، فرأيت ابن أخيك في حالة لا ترضي، ولم يره أحد سواك، وجب عليك أن تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وهذا فرض عين, أنك رأيته وحدك، لو أن جمعا من الناس, رأوا منكرا, يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أحدهم فقط، فرض كفاية.
أحياناً: تجد مجموعة من الأشخاص المؤمنين, يمشون في طريق, يرون جميعاً طفلاً يعذب حيواناً، لو انفرد أحدهم، ونصح هذا الطفل, أن لا يعذب هذا الحيوان لكفى، فمن غير المعقول: أن تذهب جمعة من الناس, ليؤنبوا الطفل, لأنه سيخاف.
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ.
فتغير المنكر باليد: فرض عين إذا رأيته وحدك، وفرض كفاية إذا رأيته مع مجموع، كيف يُغير هذا المنكر باليد؟ بدخولك بيت أخيك، ومشاهدة ابنه, يشرب الخمر، تأخذها، وتكسر الكأس، فهذا من باب التغيير باليد، وأن تغير المنكر باليد, له شروط.
فقال العلماء في هذا الأمر: كتكسير أوان الخمر, وآلات اللهو, بالشرط الآتي: فإن لم يستطع، معنى لم يستطع: أي أنه لو أزال هذا المنكر بيده بالعنف, لحقه ضرر, يفضي إلى قتله، أو فقد أحد أعضائه، أو إيقاع النكال به إيقاعاً مهلكاً، أو فقد كلّ ماله، عندئذ لا يجوز إزالة هذا المنكر بيدك، فإذا أدت إزالة المنكر إلى تعذيبك عذاب لا يحتمل، هنا لا يجوز إزالة المنكر بيدك، لكن إذا خفت جهة ما خيفة فقط، وهذه الجهة لن تصل إليك, لكنك تهابها، فلو أن هذا الأخ إذا دخل بيت أخيه, قد يكون أخوه الذي هدد ابنه، ويعاقر الخمر أكبر منه، وقد يكون لهذا الأخ هيبة كبيرة عنده، وربما كان هذا الأب, ليس منضبطاً كثيراً, فهيبتك من أخيك, لا تعفيك من أن تزيل المنكر بيدك، فالهيبة وحدها لا تكفي.
لذلك الإمام أحمد, روى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ, أَنْ يَقُولَ فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ، أَوْ شَهِدَهُ، أَوْ سَمِعَهُ, قَالَ: وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ
أي لا تمنع هيبة الناس رجلاً, أن يقول بحق إذا علم، لأن كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرب أجلاً، فإن لم يستطع, كان هناك تبعات خطيرة, على أن تزيل المنكر بيدك, قال: فبلسانك، أي بقوله المرتجى نفعه، من صياحه: كأن ترى لصاً في بيت وصحت به، وألقى الناس القبض عليه، وأخذوه للجهات التي تحاسبه, تكون قد أوقفت السرقة، بصياح, واستغاثة, وأمر, ونهي, وتوبيخ, وتذكير, هذا كله من باب:
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ.
لكن لا يقبل منك أن تغير هذا المنكر بلسانك, إذا كنت قادراً على تغيره بيديك، قد تربي طفلة, هذه ابنتك, ونفقتها عليك، وأمرك نافذ فيها وعليها، فلو أنك رأيتها, تفعل منكراً، وسكت بعد نصيحتك لها بتهذيب لطيف، أخي أنا أحب تربية أولادي تربية ديمقراطية, رأيتها تخرج فاضحة، أو بثياب مبتذلة، وقلت: هذه أصلحها الله، أحب أن تكون حرة في تصرفاتها، هنا أنت قادر على إزالة هذا المنكر بيديك, فأن تنصحها نصيحة لا تقدم ولا تؤخر, هذا لا يقبل منك، ولو فعلت هذا, لا بد من أن تقول لربها يوم القيامة: يا ربي لا أدخل النار حتى تدخل أبي قبلي, فلذلك لا يقبل منك, أن تزيل المنكر بلسانك, إذا كنت قادراً على إزالته بيدك، أحياناً يكون الإنسان ولياً على إنسان, يشرف عليه، وينفق عليه, ويتولى أمره, وهذا الإنسان محتاج إليه، فإذا فعل منكراً, أتعينه على ذلك؟ ليس هذا من الدين في شيء.
لو أنك تفعل هذا المنكر, يجب أن تنكر هذا المنكر بلسانك, فيما يبدو أول وهلة تناقض, كيف تفعل هذا المنكر، وتأمر الناس بتركه؟ والله سبحانه وتعالى يقرع بني إسرائيل حيث يقول:
يا أيها الرجل المعلم غـيره هـلاّ لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
العلماء قالوا: أنك إذا أنهيت هذا المنكر وأنت تفعله, ربما استحيت من نفسك، ربما استجاب هذا الذي تنصحه, فأوقعك في موقف حرج، ربما صغرت نفسك، أما هذا الذي تأمره, أن يترك هذا المنكر, لو علم أنك تفعله, لا يأتمر بأمرك, هذه حقيقة ثابتة، لا يمكن أن يأتمر الناس بأمرك, إذا علموا أنك تقول مالا تفعل، ولكن لو أن هذا الذي تنهاه لفرضاً, لا يعرف أنك تفعل هذا المنكر, ربما استجاب أو استفاد، فإذا استفاد أحرجك، وحجمك، وضيق عليك، ربما تستحي أنت, فتنتهي أيضاً.
أن أحد قطاع الطرق, أوقف قافلة معها فتى, هذا الفتى أحد العلماء الكبار, يمكن مالك بن دينار, هذا عاهد أمه على ألاّ يكذب، أعطته نفقته لطلب العلم في بغداد، في الطريق, استوقفه بعض اللصوص, فسألوه: يا غلام معك شيء؟ قال: نعم, معي ثلاثمئة دينار, فعدوا هذا الكلام, من باب الاستهزاء, فتركوه، قطاع طرق آخرون استوقفوه فقالوا: يا غلام معك شيء؟ قال: نعم ثلاثمائة دينار، فقال كبيرهم: أتهزأ بنا يا غلام؟ قال: لا والله هذه، قال: كيف تقول هذا، وتعلم أننا سنستولي عليها؟ قال: والله عاهدت أمي على ألاّ أكذب، فهذا اللص استحيا من الله عز وجل، قال: أنت تعاهد أمك, ولا تخون عهدك, وأنا لا أعاهد الله على أن أتوب؟! وكانت توبته على يديه.
سواء كنت ممتثلاً أمر الله أم غير ممتثل, يجب أن تأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر، لكن بيني وبينكم: إن لم تكن ممتثلاً لأمر الله، وعلم هذا الذي تنهاه, لن ينتهي أبداً، لن ينتهي إلا إذا رآك في المستوى المطلوب.
يجب أن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر, سواء أأيقنت أن كلامك يؤثر فيه أم لم يؤثر، العوام يقولون: اضرب هذه الطينة في الحائط, إن لم تلصق, فستعلم، أنت افعل هذا؛ مر بالمعروف، وانه عن المنكر، لعله لم ينتهِ الآن, ربما بعد عام ينتهِ، علَّ كلمتك, تظل ترن في أذنيه لسنوات طويلة، لعله إذا ضاقت به الدنيا, يتذكر كلامك، لعله في ساعة من ساعات, عودته إلى الله عز وجل يرعوي، لذلك العلماء قالوا:
يجب أن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، أكنت في هذا المستوى, أو لست في هذا المستوى.
يجب أن تأمر بالمعروف, وأن تنهى عن المنكر, أأيقنت بجدوى دعوتك أم لم توقن, هذا هو الإجماع.
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ.
شيء آخر: لِمن لم يستطع، لأن الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر باللسان, لو أدى إلى فتنةٍ, تفوق هذا المنكر، كأن يؤدي هذا الإنكار إلى فتنة بين الناس, تفوق هذا المنكر، عندئذٍ يسقط عنك هذا الوجوب.
ما هو المقياس؟ يجب أن توازي, لو أنكرت هذا المنكر, هل يزول؟ إذا كان يزول بلسانك فافعل، إن كان لا يزول باللسان, بل يؤدي إلى فتنة أكبر, عندئذٍ يسقط وجوب أن تنكره بلسانك
(( الذَنْبُ شُؤْمٌ عَلَى غَيْرِ صَاحِبِهِ، إِنْ رَضْيَ بِهِ فَقَد شَارَكَهُ بِالإِثْمِ، وَإِنْ شَمِتَ بِهِ ابْتُلِيَ، وَإِنْ ذَكَرَهُ فَقَد اغْتَابَهُ))
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ:
يوجد روايتان:
أن الناس يكتفون بإنكار المنكر بقلوبهم، المعاصي ترتكب, والناس ساكتون، ينكرونها بقلوبهم، فإنكار هذا المنكر بالقلب, يؤدي إلى إضعاف الإيمان،
الإمام الشعراني في أحد كتبه يقول:
يقول بعض العلماء: إن السلطان ينكر المنكر بيده، والعلماء ينكرونه باللسان، وضعاف المؤمنين ينكرونه بالقلب.
فالإنكار باليد يحتاج إلى قوة، هذا من اختصاص أولي الأمر ومن معهم، والإنكار باللسان هذا من اختصاص العلماء، لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليهم, أن يبينوا للناس الحق فلا يكتمونه، والإنكار في القلب, هذا من أضعف الإيمان, أو هذا الذي أضعف الإيمان.
هذا الحديث له معان كثيرة جداً، ولكن نكتفي بهذا القدر، وربما أخذ شرح هذا الحديث الموضوع الفقهي, الذي كنت أعالجه، وسوف أعود إلى درس البيوع, في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
لقطات من سيرة سيدنا عمر بن عبد العزيز.
والآن إلى الخليفة الراشد الخامس, سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يقول عن نفسه:
نقطة هامّة دقيقة يا أيها الأخ الكريم:
لو تاقت نفسك إلى الدنيا, فالدنيا محدودة، متى تبدأ متاعبك؟ متى تشعر بالفراغ؟ متى تشعر بالسأم والضجر؟ متى تحس أنك استهلكت؟ إذا وصلت إلى أهدافك المادية فقط، لو أن أهدافك تنتهي عند المال, وحزت المال, تحس بالفراغ ، لو أن أهدافك تنتهي عند الشأن والوجاهة، ووصلت إليها, تشعر بالفراغ، لكنك إذا أردت الله سبحانه وتعالى, أردت ما عنده, تصبح حياتك كلها شباباً، المؤمن لا يشيخ, يكبر سنه فقط، ربما تضعف ذاكرته قليلاً أو لا تضعف، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ تَعَلَمَ القُرْآنَ, مَتَّعَهُ اللَّهُ بِعَقْلِهِ, حَتَّى يَمُوتُ ))
بفضل الله عز وجل, الله سبحانه وتعالى يحمي عباده المؤمنين من أرذل العمر، يمتع الله المؤمن بعقله, وصحته, وسمعه, وبصره إلى يوم يلقاه.
يا سيدي ما هذه الصحة؟ سبعة وتسعون عاماً, بصره حاد، سمعه مرهف، أسنانه في فمه، نشيط, وذاكرته قوية، قال له يا سيدي:
ما هذه الصحة التي أكرمك الله بها؟ قال: يا بني, حفظناها في الصغر, فحفظها الله تعالى علينا في الكبر, من عاش تقياً, عاش قوياً.
ألا تدعون مع من يدعو؟.
ومتعنا اللهم بأسماعنا, وأبصارنا, وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، هذا ثمن الإيمان، من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، شيء ثابت.
فسيدنا عمر بن عبد العزيز, كان تواق, كان طموح، قال:
يروى أن أحد الخلفاء, سأل أحد وزرائه:
الحقيقة: أشد الناس زهداً, من زهد في الآخرة، لكن المؤمن أشدُ الناسِ طموحاً، فسيدنا عمر بن عبد العزيز:
من نفسه التواقة, قال الكاتب: يتميز هذا الخليفة, بأن له أناقة للنفس، نفسه أنيقة, هذه سمة عميقة، أناقة نفسه, ظهرت بمظاهر شتى, منها: الترفع عن اللعب مع الأنداد، والإقبال على مجالس الحكمة مع العلماء والفقهاء، النبي عليه الصلاة والسلام كان حينما يدعى إلى اللهو فيقول:
(( لَمْ أُخْلَقَ لِهَذَا ))
أحياناً: تجد طفلا في سن مبكرة, يحب ارتياد مجالس العلم، يحب أن يجلس مع العلماء، مع الكبراء، مع الفقهاء، مع المتفوقين، هذا الطفل له سن عقلي, يفوق سنه الزمني، فسيدنا عمر بن عبد العزيز عبَّر عن أناقة نفسه, بترفعه عن اللعب مع الأنداد والأقران، وبتردده على مجالس العلم مع العلماء والفقهاء، وعبَّر عن أناقة نفسه, بالترفع عن الدنايا كالكذب، فكان يقول:
وكان يعبِّر عن أناقة نفسه, بتجنب لغو القول ولغو العمل، استعاض عن لغو القول, بالصمت المتأمل المفكر، أي الكلام الذي لا معنى له.
ومما سمعت: إن لم يكن لديك ما تقول, فلا غَنَاء في القول، أي تكلم كلامًا مُجديًا، كلامًا مفيدًا، النبي الكريم يقول:
(( أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً))
أنت بين أن تنظر إلى شيء, عليك أن تعتبر، أو أن تبقى صامتاً, عليك أن تفكر، وبين أن تنطق, عليك أن تذكر الله عز وجل، وهذا هو التفوق، هذا الفلاح، فاستعاض عن لغو القول, بالصمت المتأمل، واستعاض عن لغو العمل, بالجد المثابر المتزن.
سيدنا عمر, كان أنيقاً جداً, كان يرتدي أبهى الثياب وأغلاها, ويضمخ نفسه بأبهج العطور وأغلاها, حتى أنه إذا عبر طريقاً, يعلم الناس أنه قد عبره من فوحان الرائحة العطرية, والنبي الكريم كان يحب التعطر، قال:
حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب ...
يضيف كتاب التاريخ, أن حديثه لفتيته, ومشيته فيهم أناقة، فكان يحب الجمال في كل شيء، طبعاً فيما أباح الله، ما ارتكب إثماً، ولا خطيئة، بل ضمن المباح، هذا قبل أن يصبح خليفة المسلمين.
اسمعوا هذه القصة, قال:
ذات مرة هذا الشاب, لحن يوماً في حديثه -لَحَن: أي أخطأ في النحو- فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أفصح العرب، مرة لَحَن أمامه رجل, فقال بترفق : أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل، كان منطق النبي, كأنه خرزات نظم يتحدرن، كلماته عقدٌ من اللؤلؤ.
فسيدنا عمر قد لَحَن، فكل بني آدم خطّاء، لَحَن في حديثه مع رجل, يشكو إليه ختنه, الذي هو صهره, فسأله عمر بن عبد العزيز:
ومن ختنك؟ فقال الرجل: ختنني الخاتن الذي يختن الناس -فاعتقد أن يسأله من طهّرك؟ لكنه لم يقل له هذا- فأجابه باستهزاء: ختنني الخاتن الذي يختن الناس, فقال: إنما أسألك عن اسم ختنك, -من هو صهرك؟- فأجابه الرجل معقباً: إذاً: كان ينبغي أن تقول: من خَتَنُك, وليس من خَتَنَكَ؟ قال: فسها عمر بن عبد العزيز لنفسه في نفسه, وفي اليوم التالي, أغلق عليه داره، وراح يتدارس نحو اللغة وقواعدها مع نفر من علماء النحات, حتى أجادها وأتقنها، وصار مضرب المثل في الفصاحة.
أما اليوم: تجد في حديث الرجل كلمة واحدة صح, وليس كلمة خطأ, فسيدنا عمر قال:
فوق هذا: أنه أذاع في الناس, حينما كان والياً, أن الذين يتعلمون اللغة العربية، ويجيدونها, سيكون عطاءهم من بيت المال أوفى من الآخرين, فلهم عطاء زائد, لأنها لغة القرآن، ولغة النبي العدنان، هذه لغتنا تعلمها واجب، تذكروا هذا القول دائماً
من أقواله الشهيرة رضي الله عنه قال:
عجبت لمؤمن, يؤمن أن الله يرزقه، ويخلف عليه, كيف يحبس ماله عن عظيم الأجر, وحسن الثواب؟
وكان هذا الأمير الشاب, من أعطى الناس للجزيل, وطاقت نفسه للتقوى, فكان يقول:
وددت لو أني لم أكن شيئاً مذكوراً، وددت أني دفقة في هذا الماء الجاري، وددت أني نبتة في أرض الحجاز
شعر بخوف الله عز وجل، كان يقول:
شيبني ارتقاء المنابر, وخوف اللحن
أحياناً: سماع الكلام سهلا، لكن إلقاء الكلام, يحتاج إلى إعداد، إلى منطق، وتنظيم، وتحضير، ودقة في العرض, والفهم، والتفسير.
فرجل صعد المنبر, فأُرتِجَ عليه، فقالوا:
ما بك ارتجى عليك؟ قال: ومالي لا يرتجى عليّ، وأنا أعرض عقلي على الناس؟
فالذي يخطب, يعرض عقله على الناس، فالخطيب عندما يلقي خطبة, تبقى الناس طيلة الجمعة تنتقده، كأن أخطأ بهذه الفكرة، أو هذه الكلمة، فالانتقاد سهل، لكن العطاء يحتاج إلى جهد، فقال:
شيبني ارتقاء المنابر, وخوف اللحن
الخاتمة.
كان أنيقاً إلى درجة تفوق التصور، قال:
مرة قُدِم له ثوب من أغلى وأثمن وأنعم حرير في البلاد, فأمسكه بأنامله, وتحسسه, ثم قال متأففاً: ما أخشنه من ثوب، وحينما صار خليفة, قدم له ثوب خشن, لدرجة أنه لا يرتديه أفقر الناس, أمسكه بيديه، وقال: ما ألينه، وما أنعمه، آتوني بثوب أخشن منه
تبدلَ تبدلا كبيرا جداً، ومرة هجا المتنبي كافورًا الإخشيدي بمصر، فقال:
يستخشن الخز حين يلبسه وكان يبرى بظفره القلم
لا زلنا مع هذا الخليفة العظيم, يوم كان أميراً:
تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما بلغتها طاقت نفسي إلى الخلافة، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة
وفي درس قادم إن شاء الله, نتابع الحديث عن هذا الخليفة, سيدنا عمر بن عبد العزيز.
و الحمد لله رب العالمين