- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
منزلة اليقظة .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع والأربعين من دروس مدارج السالكين, في مراتب إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين، والمرتبة اليوم: اليقظة.
اليقظة: انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغفلة
أخطر مرض يصيب الإنسان في الدنيا: أن يكون غافلاً عن الله، غافلاً عن نهاية الحياة، غافلاً عن الآخرة, قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ
الله عزَّ وجل لا يخلق الغفلة في قلب العبد، ولكن أغفل: معناها وجدناه غافلاً, قال تعالى: ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً )
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ
عوام الناس واقعون في غفلة، في المستقبل في موت، في غفلةٍ عن الموت، بعد الموت في برزخ، في غفلةٍ عن البرزخ، بعد البرزخ في يوم قيامة، في غفلة عن هذا اليوم، في صراط، في غفلة عن محاسبة الله له، فجأةً يكتشف الحقيقة المُرَّة بعد فوات الأوان، أما المؤمن يعرف الحقيقة المُرَّة قبل فوات الأوان.
فاليقظة حال, ومرتبة من مراتب مدارج السالكين, في إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين، انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغفلة، ولله ما أنفع هذه الروعة، انزعاج القلب أحياناً سبب الصحوة، وسبب اليقظة، وسبب الهداية، وسبب السلامة.
قصص واقعية .
رجل بعيد عن الدين كُلياً، من عامَّة الناس، له صديقٌ ثريٌ جداً, يمضي معه أكثر الأوقات، رجل ثري يبحث عن شهوته، سهرات طرب، وولائم، ونُزهات، وبساتين، وخدم وحشم، ونساء، هكذا حياته، توفِّي هذا الإنسان الثري فجأةً، ودُفِنْ.
هناك شكوى أنه مات مسموماً من بعض زوجاته، فلا بدَّ من أن يؤخَذ عيِّنة من معدته بعد الدفن، وهناك رجل يعمل في سلك الشرطة، كان هو المسؤول عن فتح القبر وأخذ عينة، إنه يصف هذا الإنسان بعد أيَّام عديدة وصف لا يصَدَّق؛ منفوخ، أزرق، كل عضو في جهة، فلمَّا نُقِرَ بطنه, صدر صوت كبير جداً، ثمَّ أُخِذَتْ عيِّنة، هذا قبل أيَّام كان في نعيم، في بيت فخم، يأكل أطيـب الطعام، يركب أجمل العربات, كان يوجد عربات, لأن القصَّة قديمة جداً, خدم وحشم وجوارٍ ونساء، نُزهات وبساتين، بعد يومين أو ثلاثة من دفنه أصبح بهذه الحال, ثم بعد ذلك حصلت مشكلة حول إنزال إنسان في قبر على إنسان، ما الذي مدفون سابقاً مضى على دفنه أربعون عاماً, هذا الذي سمعته، قصَّة أرويها كما سمعتها, يقسِم بالله هذا الإنسان الذي يعمل في الشرطة, أن هذا الإنسان كفنه كأحسن قميص، جلده طري، هذا كان حافظ كتاب الله, وكان إمام أحد المساجد، فهذا الإنسان من الموازنة بين الشخصين، إنسان مدفون من أربعين سنة وكأنه نائم، أقسم بالله أنه وضع يده على خده, فشمَّ رائحة مسك, وبقيت فترة جمعة معه, هكذا أروي القصَّة كما سمعتها, والثاني مضى على دفنه يومان, وصار بشكل مخيف، فصار لهذا الشرطي يقظة، أين أنا أمشي؟ هذا مصير الانحراف, وهذا مصير التقوى والصلاح.
فاليقظة أن تُصْدَم صدمة قاسية، إلى أين أنت ماشٍ؟ وأغلب الظن: أن أكثر المؤمنين بعد أن يصطلحوا مع الله جاؤوا على أثر صدمة.
في رجل مُلحد حدَّثتكم عنه في أسابيع عدَّة قبل أشهر، في مكتبه أستاذ رياضيات في جامعة في سان فرانسسكو, مُلحد، دخلت عليه فتاة مسلمة محجَّبة حجاباً كاملاً، والفتيات في الصَيف شِبْهُ عَرايا، لفت نظره هذا الحجاب، وهذه الفتاة تحمل دكتوراه بالرياضيات مهذَّبة جداً ، يقول: شعرت أن فيها قوَّةً خفيَّة، وشعرت بدافعٍ شديد إلى خدمتها، وشعرت أن لها قداسةً بحيث لم أجرؤ على أن أُحَدِّقَ في وجهها، ومنذ ذلك اليوم عكف على قراءة كتب الإسلام، وانتهى مسلماً، والآن هو من أكبر دعاة أمريكا إلى الإسلام، منظر هذه الفتاة أحدث صدمة، يقظة، حالات كثيرة جداً.
اليقظة: انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغفلة، وما أنفع هذه الروعة، وما أعظم قدرها وخطرها، وما أشدَّ إعانتها على السلوك!.
قال لي أحد الإخوان: إنسان ملك، فُتِحَ النعش، حُمِل، وُضِعَ في القبر، اعلم يا عبد الله أن الجنَّة حق والنار حق, أين المُلك؟ أين القصور؟ أين السفر؟ أين الزوجات؟ مثل هذا المنظر يحدث يقظة، صدمة.
لي صديق يعمل مدير معمل, ليس صاحب معمل بل مدير معمل, صاحب المعمل رجل في رفاه منقطع النظير، حدَّثني عن بيته، بيت ثمنه قريب من مئة مليون، أجنحة، جناح شرقي وجناح غربي، ديكورات، تزيينات، فرش وثير كله مستورد، يعيش في أناقة مذهلة، قال لي: توفي في أيام الشتاء، وفي سبعة أيَّام مطيرة مطر غزير، قال لي: فُتِحَ القبر فإذا فيه مياه سوداء تجري، بعض المجاري اتصلت بالقبر، ابنه مهندس سُئل: ماذا نفعل؟ قال: ادفنوه، يقول لي مدير المعمل: بقيت أسبوعين لم أقدر أن آكل، معلمي هنا وضعوه!! الذي كان يستورد الغطاء من فرنسا، خاص، ذو وزن خفيف جداً، هناك نوع من الصوف اسمه مُهير غالي الثمن، أناقته، أكله، غرفه، وهنا وضعوه!! سبب توبته رؤية صاحب هذا المعمل مدفون في هذا القبر, قال تعالى: ( وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ )
مرَّة شَيَّعت جنازة، فُتِح القبر، ووُضِعْ الميِّت في القَبر، البلاطة لا تكفي لسدِّ فتحة القبر، بقي هناك فرجة هكذا .....، فجاء الحفَّار وأهال التراب على هذه البلاطة، ونزل فوق الميِّت حوالي خمسة كيلو تراب، وأنا أعرف هذا الميِّت أنه أنيق جداً، نظيف كثيراً، قال تعالى: ( وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ )
طبعاً هذه اليقظة: انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغفلة، هذه لها أثر طيب جداً، وإلا فصاحبها في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمّرّ بهمَّته إلى السفر إلى منازله الأولى.
لي قريب خرج من المدرسة من الصف السادس، فوضعه أبوه في محل تجاري في سوق الحمديَّة، طبعاً عمله خدمة ينظِّف المحل، يأتي بطعام لمعلِّمه، يُكَنِّس، يملأ الإبريق، له بنت عم، هو خرج من السادس وهي أكملت سابع، عندما يلتقي معها, تقول له: أنا صرت في السابع، مرَّة ثانية بالثامن، بالتاسع، وصل إلى درجة بلغ به الألم درجة لا تُحْتَمَل، فجاء لي وقال: أريد أن آخذ كفاءة، قلت له: أنت إلى أين وصلت؟ قال لي: أنا خالص من السادس، قلت له: رأساً كفاءة؟ قال لي: نعم رأساً كفاءة، قال لي: أي شيء تريده أنا أفعله, ولكن أريد أن آخذ كفاءة هذه السنة، أنا في عملي بالتعليم, لم أجد إنساناً طالب صادق في طلب العلم كهذا الطالب ، ومتألِّم من ابنة عمه ومن استعلائها عليه، حطَّمته، هو للكنس، وملء الإبريق، ويحضر الطعام، وكنس المحل، وهي سابع، ثامن، تاسع، درس السابع والثامن والتاسع في سنة واحدة, وأخذ الكفاءة، أخذ البكالوريا, ودخل جامعة، هذا الاستفزاز.
أحياناً الإنسان يرى مشهداً فينسحق، هذا الانسحاق سبب اليقظة، سحق، أين كنت ماشياً؟.
إلى متى أنت باللذَّات مشغولُ وأنت عن كل ما قدَّمت مسؤولُ
أول مراتب هذه الحال الطيِّبة: اليقظة, الانتباه من النوم، والانتباه فيه انزعاج، النوم مريح والاستيقاظ صعب، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
فالقَوْمَةُ لله.
أحياناً الإنسان يكون مستلقٍ في فراشه، فيتذَّكر أنه باق للدوام ثلث ساعة، فينهض سريعاً من الفراش مثل المجانين، يلبس وينطلق لعمله، أرأيت إلى هذه النطَّة؟ النبي قال:
(( شمِّروا فإن الأمر جِدْ، وتأهَّبوا فإن السفر قريب، وتزوُّدوا فإن السفر بعيد، وخفِّفوا أثقالكم فإن في الطريق عقبةً كؤود، يا أبا ذر جدِّد السفينة فإن البحر عميق، وأخلص النيَّة فإن الناقد بصير، وأكثر الزاد فإن السفر بعيد ))
نحن نريد مؤمناً يقلع، أولاً يستطلع، يسمع درس علم، يمشي ويقف، يقف ويمشي، يغيب درس، يحضر الدرس، يغيب ثلاثة ويحضر واحد، يأتي آخر الدرس، ماشي هو كالطائرة قبل أن تقلع، وبعد هذا لا بدَّ من أن يستلم المَدْرَج, وأن يعطي الطائرة أقصى سرعة كي يُحَلِّق، هذه الحالة اسمها اليقظة.
النذير.
فأنا لا أذكر الآن القصص، فهناك قصص كثيرة جداً لأخوة كرام حدَّثوني عنها, وهي سبب هدايتهم، أحياناً منظر مخيف، أحياناً مصير إنسان فجأةً، مصير إنسان عاصٍ، مرض مخيف يعمل صحوة، لذلك قال تعالى:
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
النذير قال العلماء: القرآن، أو النبي عليه الصلاة والسلام، أو الشَيْب، أو سنُّ الأربعين، أو سِنُّ الستين، أو المصائب نذير، أو موت الأقارب.
أول شيءٍ ينبغي على المريد أن يفعله: أن يستنير قلبه برؤية نور التنبيه، تجد في المطارات ألواناً صفراء فاقعة، اللون الأصفر موجته طويلة جداً، صارخ، إذا كان هناك لوحات تحذيريَّة تجد أن كلها فسفوريَّة، في الطرقات العامة السريعة اللوحات التحذيريَّة كلها فسفوريَّة لها وهج، القلب عندما يصحو فقد قطع أهم مرحلة, وهي اليقظة، استيقظ، من أخطر مرض وهو الغفلة.
الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا.
قال: الكافر عندما يأتيه مَلَك الموت, ويرى مكانه في النار, يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا.
كان في رجل غير ملتزم إطلاقاً، لكن بائع من الطراز الأول، صار معه مرض وهو عمره ثمان وثلاثون سنة، تجد أن السوق كله لا يوجد مشترٍ, وعنده خمسة وعشرون مشترياً في محله التجاري، بائع من الطِراز الأول، وله قريب أعرفه، مرض فزاره، أراد أن يقبِّله من باب الود، فقال له: لا تنزع لي طعمة فمي، كانت عنده مغنيَّة قبل أن يأتيه، أي أنه منحرف انحرافاً شديداً, ثم اكتشف أن معه مرض خبيث في الدم، تأتيه نوبات هيستيرية، يبحت ويضطرب, ويقول: لا أريد أن أموت، أحد شركائه روى لي قصَّته, قال لي: والله حينما فارق الحياة, صرخ صرخةً لا يوجد إنسان في البناء ذو الأربع طوابق لم يسمعها من شدَّة الذعر، فإذا الإنسان تيقَّظ قبل فوات الأوان, يكون من نعم الله الكبرى أنه تيقَّظ قبل فوات الأوان.
المشكلة: أن الإنسان في غفلة، كل ما حوله يدعوه إلى الدنيا، البيت، الطريق، المحلات التجاريَّة، العلاقات، السهرات، الولائم، النُزُهات، إذا دخل إلى المسجد يسمع عن الآخرة ويعرف مصيره، فإذا أنت حرمت نفسك العلم فأنت في غفلة كبيرة، معقول إنسان عمره ثمانون سنة يفكِّر بإنشاء كازينو؟ ثمانون سنة عمره, ومشروعه الأول إنشاء كازينو، ففي أي غفلة هذا!؟ الله قال: ( وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ) .
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ
لاحظ بعض الناس: في شأن الدنيا يصغي لك عشر ساعات؛ تجارة، مشروع، معمل، تأسيس، سفر، في شأن الآخرة تجد أنه تثاءب رأساً, ويقول لك: لا تؤاخذني عندي موعد، ملاحظ بشؤون الآخرة في ملل، معنى هذا أنت غافل، تجد أنه يحفظ معلومات كثيرة جداً، أما أنه يتذَّكر آية، ولا آية ولا حديث، أحياناً يتربَّى على سيرة عنترة, ولا يعرف شيئاً عن سيرة الصحابة.
حكى لي أخ، له درس ديني, فقال لي: والله أنا كنت أتكلَّم عن فساد المجتمع، قال: يا أخوان عمَّ الفساد، والفساد دخل إلى البيوت، قال: تأتي البنت الساعة العاشرة، أين كانت؟ إنه يتساءل، كانت مع الحبيب، الكل صلوا على النبي، هم ليسوا مع الدرس ولا مع المعلومات، اللهمَّ صلِ على الحبيب، أي حبيب هذا؟ قال تعالى: ( وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ )
منَّ الدعاء النبوي:
(( اللَّهمَّ إِني عَبدُك ، وابن عبدكَ ، وابنُ أمَتك ، وفي قبضَتِك ، ناصِيتي بيدِك ، ماضٍ فيَّ حكمُك ، عدلٌ فيَّ قضاؤُك ))
(( أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة, من أن تُحِلَّ عليَّ سخطك، أو تنزل بي غضبك ))
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ, وَتَحْوِيلِ عَافِيَتِكَ, وَفُجَاءَةِ نَقْمَتِكَ, وَجَمِيعِ سُخْطِكَ ))
أحياناً تأتي المصيبة فجأةً، فإذا كان الإنسان يقظاً أفضل ما تأتيه وهو غافل .
(( اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ, خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ, وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ, أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ, أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ -أي أعترف- وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ, َمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ))
أيها الإخوة؛ لذلك النبي -اللهمَّ صلِ عليه-: أمرنا بالتفكُّر بالموت كثيراً حتى تنشأ حالة اليقظة، الآن في صور، في نساء بالطرقات، في محلات تجاريَّة، في سيَّارات فخمة جداً، في بيوت رائعة، في بساتين، في حدائق, وفي عمل للآخرة، في مساجد، وفي تلاوة قرآن، وفي حفظ قرآن، في طلب عِلم، وفي تعليم العلم، فإذا الإنسان غافل, عاش في الدنيا؛ بمتع الدنيا، بشهواتها، بأموالها، بتجاراتها, أما إذا صحا يعيش في أجواء الدين، أجواء القرآن، أجواء السُنَّة، أجواء البطولات، أجواء العمل الصالح.
فالإنسان في النهاية وعاء له فتحة علويَّة وله صنبور سفلي، الذي تضعه في الفتحة العلويَّة تأخذه من الصنبور، أبداً، فقل لي: من أين تتغذَّى تغذية ثقافيَّة أم تغذية روحيَّة؟ فإذا الإنسان كان يتغذَّى بالمغذِّيات العامَّة, سيكون كل عالمه كرة قدم، فنَّانون وفنَّانات، هذه هي التغذية العامَّة، أما إذا كانت تغذيته إسلامية, ستكون ثقافته كلها ثقافة؛ قرآن، سُنَّة، نبوَّة، كمال، بطولات، أخلاق، بحسب التغذية يفرز الإنسان، يفرز مما تغذّى، أهم شيء أن يكون هناك تغذية صحيحة.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
الإنسان عندما يستيقظ عنده ثلاث حالات؛ عنده التوبة، والاستغفار، وعمل الحسنات الماحية، والمصائب المُكفِّرة، أربعة أشياء يستغفر, ويتوب، وقد يعمل عملاً صالحاً مكفِّراً، وقد تأتيه مصيبة مكفِّرة، العمل الصالح يمحو والمصيبة مكفِّرة.
حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ, فَقَالَ:
(( مَا لَكِ تُزَفْزِفِينَ؟ قَالَتِ: الْحُمَّى لا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا, فَقَالَ: لا تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ))
في شيء دقيق، الإنسان أخطأ يستغفر ويتوب، الآن: ربنا عزَّ وجل قد يسوق له مصيبة مكفِّرة أو هو يفعل عملاً صالحاً ماحياً، بالعمل الصالح إن الحسنات يذهبن السيئات، العمل الصالح ماحٍ، والمصيبة مكفِّرة، والتوبة مقبولة، والاستغفار مقبول، أنت بين توبةٍ، واستغفارٍ، وعملٍ صالحٍ، ومصيبةٍ مكفِّرةٍ للذنب الذي سبق.
الاستغفار لا يكون صحيحاً إلا إذا رافقه مفارقة الذنب، وإلا استغفار كاذب، تستغفر وأنت مقيم على الذنب هذا مستحيل، من علامة صحَّة الاستغفار: أن تُقْلِع عن الذنب.
حدَّثني أخ خطيب من خطباء دمشق الكبار, هو من بلد في أوروبا الشرقية, قال لي: ذهبت لبلدي واخترت أكبر جامع في ألبانيا، قال لي: خمسة آلاف عندهم شوق، وعندهم رغبة لسماع الخطبة، والله سمعتها منه, قال لي: كل واحد يحمل معه مسكر, أي زجاجة من المسكر ضمن المسجد، انظر إلى الجهل, ضمن المسجد يسمع الخطيب ويبكي ويشرب، والله من فمه قال لي، ما هذا؟ هل هناك جهل بعد هذا الجهل؟ إنسان في خطبة جمعة، يشرب خمر، ومتأثِّر بكلام الخطيب كثير، فإذا الاستغفار لم يرافقه ترك الذنب, هذا شيء مضحك جداً.
الإنسان يستغفر ويتوب، وتأتيه مصيبة أحياناً مكفِّرة، ويعمل عملاً صالحاً ماحياً، إذا الأشياء لم تكن صالحةً لقبول توبته في عذاب بالقبر، فقد كنت أقول كلمة، الحديث القدسي:
وعزَّتي وجلالي, لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحبُّ أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئةٍ كان عملها سُقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبةًَ في ماله أو ولده, حتَّى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شدَّت عليه سكرات الموت حتَّى يلقاني كيوم ولدته أمُّه
أحدنا إذا وصل إلى شفير القبر مغفوراً له, يكون حقَّق أكبر إنجاز في حياته، إذا وصل إلى شفير القبر مغفوراً له، لأن عذاب القبر والعياذ بالله:
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46) ﴾
آل فرعون من ستة آلاف سنة، ستة آلاف سنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ضرب اثنين غدواً وعشياً، هذا عذاب القبر، فإذا اجتهد أحدنا في الحياة الدنيا, ووصل إلى شفير القبر مغفوراً له، مقبولاً عند الله، مقبولةٌ توبته، مغفورٌ ذنبه, فهو من أسعد الناس، لذلك الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾
وإذا لم يكفه عذاب القبر يتابع تطهيره في جهنَّم، وقد يمكث فيها ملايين السنين، في معالجة في الدنيا، وفي البرزخ، وفي النار، نحن بطولتنا العُظمى: أن نصل إلى القبر مقبولين عند الله، العوام لهم كلمة رائعة وهي: الله يجعلها على الإيمان.
مرَّة كنا في حفل افتتاح مسجد في منطقة الصبورة، الذي أنشأ المسجد أنشأه على نفقته الخاصَّة، مسجد فخم جداً، دعا علماء دمشق لافتتاحه، وأُلقيت كلمات جميلة جداً، وصار هناك نوع من السرور، خرجت من المسجد فوجدت في الطرف الثاني من الطريق ملهى فيه كل القذارات، بعد أن انتهى بأسبوع فَطِسَ الذي أنشأه، قلت: كيف يلقى الله عزَّ وجل؟ يلقى الله بأسوأ حال، بين أن تلقى الله بأحسن حال وبين أن تلقى الله بأسوأ حال، فالغفلة خطيرة جداً، الغفلة توصل إلى النار، مرض الغفلة أخطر مرض, يقابها اليقظة والصحوة.
فإذا أرسل الله عزَّ وجل للإنسان مصائب مكفِّرة نعمة، معنى هذا: أنه ضمن العناية المشدَّدة، إذا عمل هو أعمال صالحة ماحية أيضاً نعمة، إذا كان استغفاره صحيحاً، أقلع عن الذنب، صار في استغفار، وتوبة، ومصائب، وأعمال طيِّبة، إذا كل هذا كان عند الله مقبولاً, وصل إلى شفير القبر مغفوراً له, وإلا يُتَابَع تمحيصُه من الذنوب في البرزخ، فإن لم يفِ البرزخ كلُّه تتابَع معالجته في النار، وقد يمكث ملايين السنين، فالله عزَّ وجل يجعلها في الدنيا ، لأن الدنيا أهون من الآخرة. الآيات الكريمة:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ
لليَقِظ, أما الغافل لا يخاف.
مرَّة طالب قال لي: أنا لا أخاف من الله، كلمة غريبة جداً، فقلت له: أنت بالذات معك حق، قال: لمَ أنا بالذات معي حق!؟ قلت له: أحياناً الفلاح يأخذ ابنه الصغير الذي عمره سنتان إلى الحصيدة، يضعه في مكان، لو سار إلى جانبه ثعبان, طوله عشرة أمتار لا يخاف، لا إدراك, إذاً: لا خوف، الخوف مربوط بالإدراك، فكل إنسان لا يخاف من الله إدراكه مُعَطَّل، فالآية الكريمة: ( وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ )
﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا(45) ﴾
﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ
وإن شاء الله في درسٍ آخر نتابع مدارج السالكين, في منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين، واليوم موضوع الصحوة أو اليقظة: انزعاج القلب لروعة الانتباه من شدَّة الغفلة، فيها صَعْقَة، فيها شدَّة، وهذه سبب كل خير، لذلك: الله عزَّ وجل يسوق المصائب لإحداث هذه الصحوة.
و الحمد لله رب العالمين