- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
منزلة اليوم : الورع .
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الواحد والستين من دروس مدارج السالكين، في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ومنزلة اليوم الورع .
تمهيد :
الله جلَّ جلاله يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)﴾
هذه الآية أصلٌ في الورع.
ورد في الأثر: أن ركعتين من ورع خيرٌ من ألف ركعةٌ من مخلِّط.
المخلِّط الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً، لأن العمل الصالح قيمته الكُبرى أنه يعينك على الاتصال بالله، فإذا رافق هذا العمل الصالح عملٌ سيء, كان دور العمل السيء مثبطاً وقاطعاً وحجاباً، فالأعمال الصالحة مع الأعمال السيئة المؤدى في قطيعة، إلا أن هذه الأعمال لها عند الله جزاء، لكن لا يستطيع المرء أن يستغلَّها أو أن يعتمد عليها في الاتصال بالله، لأن العمل السيء خالطها فعطَّل قيمتها الإقباليَّة -إن صحَّ التعبير-.
وهناك آيةٌ أخرى هي أصلٌ في الورع، قال تعالى:
﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) ﴾
قال مجاهد: طهِّر نفسك من الذنب, فكنَّى عن النفس بالثوب.
وقال ابن عبَّاس: لا تلبسها على معصيةٍ ولا على غدر.
لا تلبس ثيابك على معصيةٍ ولا على غدر.
وقال الضحَّاك: عملك فأصلح لأن عملك ثوبٌ لك.
الإنسان يرتدي ثوباً من عمله؛ فهذا مخلص، وذاك غدَّار، وذلك صالح، وآخر ورع، وفلان تقي، وغيره كاذب، فلان صادق، سلوكه العام يجعله يرتدي ثوباً من عمله.
فقال الضحَّاك: عملك فأصلح.
والعرب تقول للرجل إذا كان صالحاً: إنه طاهر الثياب, وإذا كان فاجراً: إنه خبيث الثياب.
وقال سعيد بن جُبير: وقلبك وبيتك فطهِّر.
وقال الإمام الحسن: وخُلُقك فطهِّر؛ فآية ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ )
وقال بعض العلماء: وثيابك فطهر؛ أي وثيابك فقصِّر, لأن تقصير الثياب طهرةٌ لها.
الورع .
أيها الإخوة ؛ المقصود من الورع : أن يُطهَّر القلب من الدنس كما يُطهر الماء دنس الثوب .
والشيء الغريب: أن بين الثياب والقلوب مناسبةً ظاهرة؛ فالثياب تدل على قلب الإنسان وحاله، لأن الإنسان يرتدي ثوباً من عمله, فإخلاصه هو ثوبه، وغشُّه ثوب، تواضعه ثوب، كبره ثوب، فهناك مناسبةٌ بين القلب وبين الثياب .
فالمقصود بالورع تطهير القلب من الدنس.
النبي عليه الصلاة والسلام جمع الورع كلَّه في كلمةٍ واحدة:
(( مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ ))
المؤمن مشغول، له هدفٌ كبير، ليس في وقته متسعٌ للسفاسف، هدفه أكبر من وقته، وهذه حقيقة, وهي أنك حينما تختار هدفاً كبيراً أنت أسعد الناس، لأن هذا الهدف الكبير يأخذ كل وقتك، فلا تجد وقتاً لسفاسف الأمور، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها ودنيَّها ))
(( مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ ))
(( عن أبو هريرة رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة - مِنْ رضوان الله - لا يُلْقِي لها بالا ، يرفعه الله بها في الجنة . وإن العبد ليتكلم بالكلمة - من سَخَط الله - لا يُلْقِي لها بالا ، يهوي بها في جهنم ))
وكم من كلمةٍ فرَّقت بين زوجين؟ وكم من كلمةٍ فرَّقت بين شريكين؟ وكم من كلمةٍ فرَّقت بين أمٍ وابنها؟ وبين أخٍ وأخيه؟ فالكلمة السيئة وبال على صاحبها وعلى الناس، والطيبة صدقة:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
أي التعريف بالله عزَّ وجل ( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ )
﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ
فمِلاك الورع كلِّه: ترك المرء ما لا يعنيه من الكلام، والنظر، والاستماع، والبَطش ، والمشي، والفكر, وغير الورع إنسان ليس له هدف ضائع، كل شيء يشغله، يبحث عن كل شيء، يتقصَّى كل شيء، يهتم بكل شيء، يقف أمام المناظر يتأمَّلها، أمام الرجال يتفحَّصهم، أمام الحاجات يقلِّبها لأنه فارغ، أما حينما يكون لك هدفٌ كبير، فالهدف الكبير هو الذي يسمو بك، ويجعلك إنساناً عند الله كبيراً، ومرَّة ثانية: (( إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها ودنيَّها ))
دقِّق بطالب يؤدي امتحاناً في الجامعة، لا يأتيه ولا خاطر في ثلاث ساعات, لا علاقة له بالسؤال أبداً، موضوع طعامه، وشرابه، وبيته، وأصدقائه، وعلاقاته، ومشكلاته، وطموحاته ، ورغباته كلها مجمَّدة, لأنه أمام ثلاث ساعات مصيريَّة، كل جهده متعلِّق بمادة السؤال، والمعلومات التي يمكن أن تكون إجابةً لهذا السؤال.
الحقيقة: الإنسان حينما يُشغل بالله عزَّ وجل, صار في عنده اصطفاء، إنسان عنده فحص بعد أيام، دخل إلى مكتبة فيها آلاف الكُتب، يأخذ الكتاب المقرَّر, وهذا الشيء ملاحظ عند بعض المؤمنين، يقتني مجلَّة فيها مقالة تهمه؛ مقالة علميَّة، مقالة دينيَّة، أما القصَّة والموضوع التاريخي لا يعنيه إطلاقاً، في قضيَّة معلَّقة ببلد بعيد، لفنَّان مثلاً، لشاعر، فنفسه تعزف عن موضوعات لا تعنيه، أنت مع مجلَّة تصطفي منها ما يهمُّك وما يعينك على أداء رسالتك في الحياة. (( مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ ))
وقال بعض العلماء: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضَّة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضَّة، لأنهما يُبذلان في طلب الرياسة, الورع ثمين جداً والزهد أثمن، وحينما تكون ورعاً وزاهداً فأنت على أول الطريق الصحيح.
أيها الإخوة ؛ كما قال بعض العلماء: الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضى, الورع أول الزهد، حينما تتورَّع فأنت زاهد، زاهد في الدنيا الفانية، لكنَّك طموح ومتعلِّق بالآخرة الباقية.
وللورع تعاريف كثيرة:
الورع: الوقوف على حد العلم من غير تأويل.
الملاحظ عند معظم المثقَّفين الذين لم يرتقِ إيمانهم إلى المستوى المقبول يتساءلون: لماذا حُرِّم كذا؟ يناقش التحريم، ويحاول أن يبحث عن علة التحريم, ثم يقول: هذه العلَّة غير موجودة الآن.
مثلاً: لماذا حرَّم الله الربا؟ لأنه لم يكن في الجاهليَّة إلا قرض استهلاكي، فيأتي المرابي فيستغل حاجة الفقير إلى المال، فيأخذ منه أضعافاً مضاعفة.
يقول لك بعض المثقَّفين: الآن هناك قرض استثماري، أي أن شركة تحتاج إلى أن تضيف لمعملها خطاً، تريد أن تتوسَّع، فتأخذ قرضاً ربوياً بنية التوسُّع لا بنية سد الحاجة، فهذا القرض لا علاقة له بالربا, وإن كان فيه فائدة ربويَّة، هنا يقول أحد العلماء: الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل.
علماء الأصول حلوا هذه المشكلة: حينما يأتي التحريم مع علَّته, فالتحريم يدور مع العلَّة وجوداً وعدماً، أما حينما يأتي التحريم مطلقاً, فلذلك لا يمكن أن تعلِّل هذا التحريم، ولا أن تبحث في العلل التي اخترعتها أنت وهي موجودة أو غير موجودة.
مثلاً يقول لك: ألا لا تسافرن امرأةٌ إلا مع ذي محرم, كان ذلك أيام السفر الطويل على الجِمال، أما الآن في طائرات، هذا التحليل من أجل إلغاء الحكم، وحينما يأتي التحريم من قِبل النبي عليه الصلاة والسلام, الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحيٌ يوحى، حينما يأتي التحريم خالياً من العلَّة، فلذلك لا ينبغي أن نضع عللاً وهمية, وأن نبحث في وجودها وعدمها، أما حينما يأتي التحريم مع العلَّة فالأمر يختلف، لذلك قال بعض العلماء: الورع الوقوف على حد العلم من غير تاويل.
وقال بعضهم: الورع على وجهين: ورعٌ في الظاهر وورعٌ في الباطن، فورع الظاهر أن لا يتحرَّك إلا لله.
والمؤمن الصادق حركته، ذهابه إيابه، دخوله خروجه، صلته قطيعته، عطاؤه منعه، كل شيءٍ يفعله لله:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) ﴾
فورع الظاهر أن لا يتحرَّك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تدخل قلبك سوى الله, القلب له ورع والجوارح لها ورع، الجوارح أن لا تتحرَّك إلا لله، والإنسان أعلم بنيَّته:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) ﴾
وقال بعض العلماء: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء.
أبو حنيفة النعمان -رحمه الله تعالى- لم يقف في ظلٍ بيتٍ مرهونٍ عنده، لئلا ينتفع بظلِّه، هذا من باب الورع، أما ليس من الفتوى في شيء .
أما الورع: أن تدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
فالحلال بيِّن، -لا أحد يسأل عن الحلال لأنه واضح-، والحرام بيِّن.
لا أحد يسأل عنه، لكن كل الأسئلة تنصبُ على الشُبهات، ومعنى الشبهات: شبهها بالحلال من جهة والحرام من جهة، الورع ترك الشبهات استبراءً للدين والعِرْض، لذلك قيل:
من لم ينظر في الدقيق من الورع, لم يصل إلى الجليل من العطاء, والإنسان ممتحن:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
سورة الملك
سيدنا عمر بن عبد العزيز -كما يُروى- إذا أراد أن يتكلَّم مع أهله, هناك سراجٌ خاصٌ لأهله، فإذا أراد أن يقضي شؤون الخلافة, هناك سراجٌ خاصٌ لشؤون الخلافة.
والإنسان يظهر ورعه من تعامله .
قال له : هل تعرفه؟ .
قال: نعم .
قال هل سافرت معه؟ .
قال: لا .
قال: هل جاورته؟ .
قال: لا .
قال: هل عاملته بالدرهم والدينار؟ .
قال: لا .
قال: فأنت لا تعرفه, ائتن بمن يعرفه.
وقيل الورع: الخروج من الشهوات وترك السيئات.
بالمناسبة: الله عزَّ وجل رحيم، الله عزَّ وجل كريم, ما حرمك أية شهوةٍ أودعها فيك, جعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، فلذلك الشهوات لها قنوات نظيفة.
لي زميل بالعمل صارحني فقال لي: كانت لي جاهليَّةٌ كبيرة، ثم تبت إلى الله عزَّ وجل، واصطلحت معه، وتزوَّجت، فيا سبحان الله! ساعةٌ مع الزوجة تعدل آلاف البغايا, مع الزوجة الطهر، وطمأنينة، والسرور، والحب، والإخلاص، والوفاء، وثمرة لهذا الحب الولد، ساعةٌ مع زوجةٍ مخلصةٍ تعدل آلاف التجارب التي مرَّ بها.
فصدِّق أيها الأخ الكريم: أن المؤمن حينما يأتمر بما أمر الله, وينتهي عما نهى الله عنه ، يسمو إلى أعلى درجة من السعادة، وأية سعادةٍ أكبر من أن تشعر أن الله يحبك، وأنك في رضوان الله، هذا الشعور لا يعرفه إلا من ذاقه، فأنت في حركتك، وسفرك، وزواجك، وعملك ، ورحلتك، وعملك، وإقامتك، وابتسامتك، وزياراتك، ولقاءاتك، ونشاطاتك كلها تبتغي رضوان الله، رضوان الله واسع جداً، عندما تتقن عملك هذا يرضي الله عزَّ وجل، إذا أدخلت على قلب أهلك السرور هذا يرضيه، فأنت دائماً تبحث عن رضوان الله عزَّ وجل.
فقيل الورع: الخروج من كل شهوة -طبعاً شهوة محرَّمة-, وترك كل سيئة .
والورع: الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
ومن كان حساب نفسه حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ومن حاسب نفسه حساباً يسيراً في الدنيا كان حسابه يوم القيامة حساباً عسيراً.
خوفان وأمنان لا يجتمعان؛ من خاف الله في الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن أمنه في الدنيا أخافه يوم القيامة.
الإنسان عندما يتحرَّك حركة حرَّة من غير منهج الله يفقد حريَّته, لو إنسان سرق أو قتل انتهت حريته، وحينما ينضبط يكون حراً، فعلى المستوى المدني: مواطن يتقيد بالقوانين والأنظمة، هو حر لأنه مواطن صالح, يسافر إلى أي مكان، يغادر القطر إلى أي مكان، حريَّته جاءت من تقيُّده، فتتقيَّد تكون حراً، تتفلَّت تكون بقيد، وأجمل آية:
﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
على تفيد العلو، الهدى رفعهم:
﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
الضلال شيء ضمن شيء، في: تفيد الظرفيَّة، فالإنسان الضال إما في كآبة وإما في سجن، والإنسان المؤمن المستقيم كلَّما ازداد إيماناً ازداد عزَّاً وازداد رفعةً.
الورع: الخروج من الشهوات وترك السيئات .
والورع: الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
سفيان الثوري -رحمه الله تعالى- يقول: ما رأيت أسهل من الورع، ما حاكَ في نفسك فاتركه.
شيء شوَّشك اتركه ، وما ترك عبدٌ شيءٌ لله, إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ، في الدين قضايا يوجد معها أدلَّة ضعيفة، وفي أدلَّة تحرِّمها، وأدلَّة تجيزها، فالشيء المريح أن تترك ما ضعفت أدلته، هذا سمَّاه العلماء الفقهاء: الخروج من الخلاف وسلوك الأحوط, الورع يسلك سلوك الأحوط ويخرج من الخلاف.
ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه, وكما قال عليه الصلاة والسلام:
(( يا وابصة, البر ما اطمأنت إليه النفس, والإثم ما حاكَ في صدرك, وكرهت أن يطلع عليه الناس ))
قصة : الحلال بين والحرام بين .
ذكرت لكم مرَّة: أن أخاً من أخواننا, كان يعمل في تجارة الأبنية، كان يبني البيوت ويبيعها، قال لي: وجدت أرضاً في منطقة مهمة جداً، في مركز استراتيجي في المدينة، وتمكَّنت مع عدة أصدقاء أن ندخـل المزاودة بشكل تمثيلي, -أي أربعة خمسة أطراف يرفعون السعر قليلاً-, فاستقرَّت هذه الأرض على ثمنٍ يعدل ثُلُثي ثمنها الحقيقي، طبعاً أصحاب هذه الأرض مئات من الناس وفيهم أيتام، قال لي: بعد أن استقر على سعرٍ مغرٍ جداً، ورسا علي, وشعرت بغبطةٍ شديدة، ثم تذكَّرت القبر، لو أنني وضعت في القبر، ماذا أقول لله عزَّ وجل؟ كيف حرمت هؤلاء الأيتام حقَّهم من السعر الحقيقي؟ قال لي: خفت, وقال لي: فما رأيك؟ قلت له: أنت أجبت نفسك؛ إما أن تعطي أصحاب هذه الأراضي الحق الكامل، وإما أن تنسحب من هذه المزاودة.
(( البر ما اطمأنت إليه النفس, والإثم ما حاك في صدرك ))
وقال بعض العلماء: الحلال هو الذي لا يُعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا يُنسى الله فيه.
الحلال الذي لا يعصى الله في كسبه: كل شيء فيه ورع، وفيه استقامة فهو حلال، والصافي منه الذي لا يُنسى الله فيه: في أشياء مباحة إذا استغرقت فيها نسيت الله عزَّ وجل، هذا معنى ما ورد عنى النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لا تبلغ مرتبة المتقين حتى تدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس ))
في أشياء مباحة لو أخذتها وتعمَّقت فيها, ربَّما أبعدتك عن الله عزَّ وجل، لذلك قلت لكم سابقاً: إن الشيطان ذكي جداً، أولاً يأمر الإنسان بالكُفر، فإن لم يستطع أن يحمل هذا الإنسان على الكفر يأمره بالشرك، فإن رآه موحِّداً يأمره أن يبتدع، فإن رآه على السنة يأمره أن يفعل الكبائر، فإن لم يستطع يأمره بفعل الصغائر، فإن لم يستطع يأمره بفعل الشُبهات، فإن لم يستطع يأمره بالمباحات، يغرق في الدنيا إلى درجة أنه ينسى الله فيها, فإن لم يستطع، ماذا بقي؟ بالتحريش بين المؤمنين، يعيش معهم ليلقي البغضاء والعدوان بينهم.
الكفر، فالشرك، فالابتداع، فالكبائر، فالصغائر، فالشبهات، فالمباحات، فالتحريش بين المؤمنين بشكل تسلسلي، فالحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا يُنسى الله فيه.
سأل الحسن غلاماً فقال له: ما مِلاك الدين؟ قال: الورع, قال: فما آفته؟ قال: الطمع, فعجب الحسن منه.
ذات مرَّة قرأت: أن أبا حنيفة النعمان -رحمه الله تعالى- رأى غلاماً أمامه حفرة, فقال له: إياك يا غلام أن تسقط, -كان هذا الغلام فطناً-, فقال: بل إياك يا إمام أن تسقط, إني إن سقطت سقطت وحدي، وإنك إن سقطت سقط معك العالَم.
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: جلساء الله غداً أهل الورع والزهد.
وقال بعض السلف: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى, حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس. هذا قول لبعض السلف.
أيها الإخوة ؛ الآن في الورع موضوع دقيق، قال صاحب المنازل، مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين .
الورع : توقٍ مستقص على حذر، وتحرُّجٌ على تعظيم - أي أن يتوَّق الحرام والشُبَه - وما يخاف أن يضرَّه أقصى ما يمكنه من التوقي.
الحقيقة: الإنسان حينما يصل إلى الله عزَّ وجل، ويصطلح معه، ويتصل به, يشعر بسعادةٍ كبيرة، وكل واحد من أخواننا الكرام عندما يتألَّق مع الله عزَّ وجل، أكبر دعاء له: يا رب أدم هذا الحال، يا رب أدم هذا الفضل، أدم هذا الاتصال, فأجمل شيء بالحياة الاتصال، وأصعب شيء الانفصال.
أحب رجل فتاة, فاشترط عليه أبوها أن يحضر دروسه، فحضر الدروس فنسي الفتاة ، قالت له مرَّةً: أين الوعد بالزواج؟ فقال: يا وصال كنتِ سبب الاتصال.
الإنسان أحياناً يتصل بالله عزَّ وجل، هذه الصلة هي الدين كله، كل السعادة فيها، فالذي وصل إلى ثمار الاتصال كيف يحافظ على هذا الاتصال؟ بالورع يحافظ عليه، أما حينما يتساهل أي تساهل يحجب عن الله عزَّ وجل.
الحجاب أكبر عقاب من الله للعبد .
والقصَّة التي أرويها لكم كثيراً هي: أن شاباً سمع من شيخه أن لكل سيئةٍ عقاباً، زلَّت قدمه في سيئة, فتوقَّع أن يعاقبه الله عقاباً شديداً، انتظر؛ فإذا صحَّته سليمة، وأولاده جيدون، ومركبته فارهة، وتجارته رائجة، فناجى ربه فقال: يا رب لقد عصيتك فلم تعاقبن, فوقع في نفسه ، أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر، ألم أحرمك لذَّة مناجاتي؟.
المؤمن له صلة بالله، له حال مع الله، حينما يخطئ يُحجب عن الله، هذا الحجاب أكبر عقاب، والحقيقة: أكبر عقاب الحجاب عن الله:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ﴾
فالتوقي والحذر متقاربان :
التوقي فعل الجوارح، والحذر فعل القلب .
أي يوقي جوارحه من المعصية، ويوقي قلبه من الطمأنينة الساذجة، لكن هناك أشخاص - وهذه نقطة مهمة جداً - في الخندق الآخر، ليسوا في الدين، في خندقٍ معادٍ للدين، فيحافظوا على شيء من استقامتهم وكرمهم وعفَّتهم, لكي يثبتوا لأهل الدين أننا نحن الصح ولستم أنتم، فالإنسان حينما يكون كاملاً بنية أن يدحض الحق هذا الكمال لا أجر له به.
فقال: هناك من يظهر نزاهةً، هناك من يظهر عزة، هناك من يتوقَّى أن يفعل فاحشةً، هناك من يتوقَّى أن يفعل دناءةً تصوُّناً عنها، ورغبةً عن مواقعتها، وطلباً للمحمدة عند الناس.
الإنسان يحب أن يكون كبيراً، فإذا ما اتخذ الدين سبباً إلى علوِّه في نظر الناس، قد يتخذ مواقف أخلاقية مصطنعة كي ينتزع إعجاب الناس.
فقال: الورع هو التوقي.
توقي الجوارح عن معصيةٍ أو شبهة، وحذر القلب أن يلتفت لغير الله.
وفي تعريف آخر: تحرُّج عن تعظيم.
أي أن الباعث على الورع عن المحارم والشبه حذر حلول الوعيد، وإما تعظيم الرب جلَّ جلاله.
الإمام الحسن له كلمة: لا تنظر إلى صِغر الذنب, ولكن انظر على من اجترأت.
قال أحدهم لي كلمة, والله تأثَّرت لها، قال لي: كنت في بلاد الغرب, وفي أجهزة لهو، وفي مئات القنوات، وفي مشاهد لا ترضي الله عزَّ وجل، قال لي بالحرف الواحد: والله أستحي من الله عزَّ وجل أن أنظر تعظيماً لله عزَّ وجل.
كل منا إذا زاره إنسان عظيم في بيته، قد يكون شخصاً مهماً، عالِماً جليلاً، لا يستطيع أن يقابله بلباس مبتذل مبتذل، يستحي منه, لأنه يعرف قيمته، إذا الإنسان مع إنسان يرتدي أجمل ثيابه، ينمِّق كلماته، في أول اللقاء الأول تجد أموراً كلها منمَّقة، مرتَّبة، مضبوطة, هذا من باب الاستحياء، فإذا الإنسان يعظِّم الله عزَّ وجل, تكون خلوته كجلوته، وسريرته كعلانيَّته، وسرُّه كجهره، وإقامته كسفره، لذلك العلماء قالوا:
الورع من المعصية إما عن خوف من العقاب، وإما عن تعظيم لله عزَّ وجل. المرتبة الثانية أرقى.
من فوائد الورع :
1-صون النفس عن تجنب القبائح .
الورع أيها الإخوة ؛ يبعث على تجنُّب القبائح لصون النفس، وتوفير الحسنات، وصيانة الإيمان، فهذه ثلاث فوائد من فوائد تجنُّب القبائح، فصون النفس هو حفظها وحمايتها عما يَشينها ويعيبها، ويذري بها عند الله عزَّ وجل وعباده المؤمنين وسائر خلقه، لأنه:
من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده, صانها وحماها، وزكَّاها وعلاها، ووضعها في أعلى محل.
كلام دقيق: إذا الإنسان نفسه كريمة، لا يخالف قوانين السير, لماذا؟ لكي لا يقف موقفاً ضعيفاً، حتى لا يتذلَّل، يطبِّق الأنظمة حتى يبقى عزيزاً، إذا الإنسان نفسه كريمة, يطيع الله عزَّ وجل حتى لا يؤدِّبه, الله عزَّ وجل يؤدِّبه بمصيبة مهينة.
(( لا يخافن العبد إلا ذنبه, ولا يرجون إلا ربه. ))
الله عزَّ وجل عنده أدوية كثيرة: من عذاب مهين، إلى عذاب عظيم، وإلى عذاب شديد، وله أدويــة لا تعد ولا تحصى، والله عزَّ جل رحيم.
ولله المثل الأعلى: كيف أن الأب الطبيب, حينما يعلم أن الزائدة عند ابنه قد التهبت، قد يجري له عملية بيده، قد يفتح بطنه بيده، وقد يقطع الشرايين، وقد يستأصل هذه الزائدة, وهو يعلم أن هذا ابنه, ولا بدَّ من ذلك؟
فعندما يأثم الإنسان يعاقبه الله، وقد يُهان بهذا العقاب، فالإنسان كلَّما كَرُمَت نفسه، كلَّما أراد أن تبقى مصونة من كل سوء، من كل إهانة، من كل إحراج, لذا يستقيم، فالمستقيم دائماً رافع الرأس, لا يستطيع أحدٌ أن يصل إليه:
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ
ما هذه الزيادة؟ النظر إلى وجه الله الكريم معنى دقيق:
من كرمت نفسه عليه صانها بالاستقامة.
تسمعون قصصاً كثيرة: فلان سرق ويعذِّب، هذا العذاب جزاءً وفاقاً، لكن لو كانت نفسه كريمة عليه -مثلاً- ما سرق، حفاظاً على كرامته، وعلى سمعته، وعلى راحته، وعلى سلامة نفسه، وعلى مكانته، وعلى تألُّقه.
فالورع تخوُّف أو تعظيم، أول شيء: صون النفس وهو حفظها وحمايتها عما يشينها, ويعيبها، ويذري بها عند الله عزَّ وجل وعباده المؤمنين وسائر خلقه، فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده صانها وحماها، وزكَّاها وعلَّها، ووضعها في أعلى محل، وزاحم بها أهل العزائم والفضل, ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده, ألقاها في الرذائل، وحلَّ ذمامها وأرخاه ودسَّاها ولم يصنها عن قبيح، فأقل ما في تجنُّب القبائج صون النفس.
تجد الإنسان يعيش سبعين سنة, يقول لك: ما دخلت إلى مخفر، ما دخلت لقصر العدل، ما أحد أقام عليه دعوى, باستقامته عزيز.
2-توفير الحسنات .
الشيء الثاني: توفير الحسنات، لأن السيئات تعطِّل فعل الحسنات, إن أردت أن تستفيد من الحسنات بالإقبال على الله، فالسيئات إن اجتمعت مع الحسنات تُبطل مفعولها, فالسيئات قد تحبط الحسنات، وقد تستغرقها بالكليَّة أو تنقصها، فلا بدَّ من أن تضعفها قطعاً، السيئات قد تستغرق الحسنات وقد تضعفها، فتجنُّبها يوفِّر ديوان الحسنات، وذلك من فوائد الورع.
3-صيانة الإيمان .
أما صيانة الإيمان: فلأن الإيمان عند جميع أهل السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
بالمناسبة: إذا الإيمان اعتقاد لا يزيد ولا ينقص، أما إذا الإيمان اتصال يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, الإيمان تصديق وإقبال، والكفر تكذيب وإعراض، فالتصديق لا يتغيَّر، إيمانك أن الله موجود ثابت لا يزيد ولا ينقص، ولكن الذي يزيد وينقص الإقبال والفتور والقطيعة، فالإيمان يزيد كإقبال بالحسنات ويضعف بالسيئات.
قال الإمام الشافعي: إضعاف المعاصي للإيمان أمرٌ معلومٌ بالذوق والوجود
(( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً, نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ, فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صقِلَ قَلْبُهُ, وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ, وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ ))
( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
قال: صيانة النفس، وتوفير الحسنات، وصيانة الإيمان أرفع باعثٍ على الورع.
من مراتب الورع :
هناك مراتب للورع، قال: يرتقي الورع بصاحبه حتى يؤدي به إلى حفظ الحدود عندما لا بأس به، إبقاءً على الصيانة والتقوى، وتخلصاً من اقتحام الحدود, أي يدع الورع دائماً بينه وبين الحد هامش أمان، الزنا له حد الرجم أو الجلد، هامش الأمان غض البصر، دائماً الورع بينه وبين الحدود هوامش أمان، وهذا يؤكِّده قوله تعالى:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا
قال: العارف يترك كثيراً من المباح إبقاءً على صيانته، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخاً بينه وبين الحرام, في الدين حرام وفيه حلال وفيه مباح برزخٌ بينهما، فإذا انتقل الإنسان من حلال إلى حلال, هو برزخٌ بين الحلال والحرام, يدع هذا البرزخ خوفاً من أن ينتقل إلى الحرام, وأما التخلُّص عن اقتحام الحدود فالحدود هي النهايات، وهي مقاطع الحلال والحرام، فحيث ينقطع وينتهي فذلك حدُّه، فمن اقتحم هذا الحد وقع في معصية.
سيدنا عمر كان وقَّافاً عند كتاب الله ، بالمناسبة في آية تقول:
﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا
( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا )
ورد في بعض الأحاديث القدسيَّة: أن يا عبادي لا تتعدوا ما أبحت لكم ولا تقربوا ما حرَّمت عليكم.
الثمار الطيبة اليانعة للورع ...
الخوف يثمر الورع, هناك معنيان للخوف:
1- الخوف من عقاب الله .
2- والخوف من انقطاع الصلة بالله .
الخوف الثاني خوف راقٍ جداً، فإذا وُصِف النبي بأنه يخاف ربه, لا بمعنى أنه يخاف عقابه، بقدر ما هو المعنى بأنه يخاف أن تنقطع صلته بالله، فالخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل وقوة الإيمان، والمعرفة تثمر المحبَّة والخوف والرجاء، والقناعة تثمر الرضى، والذكر يثمر حياة القلب، والإيمان بالقدر يثمر التوكُّل، ودوام التأمُّل بأسماء الله وصفاته يثمر المَعرفة، والورع يثمر الزهد أيضاً، والتوبة تثمر المحبَّة، والرضى يثمر الشُكر، والعزيمة والصبر يثمران جميع أحوال المقامات.
أيها الإخوة ؛ تقريباً إذا جئنا بمصفاة لها ثقوب، كلَّما كنت أشد ورعاً كان الثُقب أصغر، في إنسان مصفاته قطرها كبير تمر منه برتقالة، في إنسان قطرها أصغر، أصغر، أصغر إلى أن تصبح هذه المصفاة متصلة، هذا هو الورع، هذا الكلام لي ولكم، ليس لكم وحدكم، كلَّما ازددت ورعاً ازددت قرباً من الله عزَّ وجل.
الخاتمة .
وعودٌ على بدء: ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مخلِّط ، و: من لم يكن له ورع يحجزه عن معصية اللّه إذا خلا بها, لم يعبأ اللّه بسائر عمله شيئاً ، و:
(( عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا))
و الحمد لله رب العالمين