- أحاديث رمضان
- /
- ٠16رمضان 1430هـ - الفوائد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
ليس هناك من طريق إلى إكرام النفس من أن تحجمها في الدنيا وتحملها على طاعة الله:
أيها الأخوة الكرام، مع فائدة جديدة من فوائد كتاب الفوائد القيم لابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ.
فحوى هذه الفائدة أنه: ألا يا رُبّ مكرم لنفسه في الدنيا وهو لها مهين، ألا يا رُبّ مهين لنفسه وهو لها مكرم، هناك مفارقة واضحة بين الدنيا والآخرة، فالذي يحاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً يكون حسابه يوم القيامة يسيراً، والذي يحاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً يكون حسابه يوم القيامة حساباً عسيراً.
أيها الأخوة، أنت حينما تخطئ وتستغفر ترقى عند الله، وعندما تخطئ، وتكون قوياً، وتتجاهل أنك أخطأت، وتأبى أن تعتذر متوهماً أنك بهذا تكرم نفسك أنت عند الله مهان، هناك مفارقة دقيقة جداً بين الدنيا والآخرة، ليس هناك من طريق إلى إكرام النفس في حياة أبدية فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أن تحجمها في الدنيا، من أن تضبطها، من أن تحملها على طاعة الله، من أن تحملها على أن تعتذر، أن تستغفر، أن تقدم عملاً صالحاً ترمم به ذنبك، ما دمت في الدنيا مستكبراً فأنت تهين نفسك في الآخرة، وما دمت مهيناً لنفسك في الدنيا فأنت مكرم لها في الآخرة.
ألا يا رُبّ مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رُبّ مهين لنفسه وهو لها مكرم.
بقدر ما تمرغ جبهتك في أعتاب الله يرفع الله لك ذكرك ومكانتك ويعلي شأنك:
لذلك قال ابن القيم: " لا يكرم العبد نفسه بمثل إهانتها ". أنت حينما تتذلل على الله، حينما تقف على أعتاب الله، حينما تمرغ وجهك في أعتاب الله، أنت بهذا تكرمها وتحفظها، وما دمت فيما بينك وبين الله متذللاً فالله يرفع من قدرك:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) ﴾
دقق:
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) ﴾
بقدر ما تمرغ جبهتك في أعتاب الله يرفع الله لك ذكرك ومكانتك، ويعلي شأنك، وبقدر ما تعتز بنفسك، بعلمك، باختصاصك، بأسرتك، بانتمائك، بمن حولك، الله عز وجل يمكن أن يحجمك، أو أن يضعك في موقف صعب جداً.
فلذلك يقول ابن القيم: لا يكرم العبد نفسه بمثل إهانتها، بمعنى أن يحجمها، بمعنى أن يتذلل لله، أن يتواضع، أن يمرغ جبهته بأعتاب الله، ولا يعزها بمثل ذلها، التذلل فيما بينك وبين الله عزّ لك، والذي تأخذه العزة بالإثم فلا يستغفر، ولا يعتذر، وهو قوي غني، كأنه في طريق إذلال نفسه، ولا يريحها بمثل ما يتعبها، إن أتعبت نفسك في الدنيا أديت العبادات بشكل متقن، ضبطت لسانك، ضبطت بصرك، ضبطت دخلك، ضبطت إنفاقك، استغفرت من ذنبك، ذكرت الله كثيراً، ناجيته كثيراً، خضعت له كثيراً، أنت في طريق العز، وفي طريق الإكرام، وفي طريق الحرية.
من السذاجة وضعف التفكير والمحدودية أن يتوهم الإنسان أن الجنة تكون بركعتين فقط:
قال بعض العارفين: سأتعب نفسي أو أصادف راحة، أتعب نفسي من أجل أن أصادف راحة ـ أي في الدنيا ـ من واقع الدنيا، طالب طمح أن يكون من المثقفين ثقافة عالية، فاجتهد في سنوات الدراسة في التعليم الإعدادي، والثانوي، والجامعي، والماجستير، والدكتوراه، ترك النزهات، ترك اللقاءات مع أصدقائه، ترك الرحلات، ترك كل مباهج الحياة، من أجل أن ينال درجة عليا، فلما نالها وكان له منصب رفيع، أو دخل كبير، هذا في منطق أهل الدنيا، الآن يستمتع في الدنيا له مكانة، له شأن، يأكل ما يشتهي، يقتني بيتاً جميلاً، يختار امرأة جميلة صالحة، كل هذا العز، وهذا الرفاه، وهذه البحبوحة، جاءته من الضبط من سنوات طويلة عجاف درس وسهر الليل، والإنسان الذي يرتاح في شبابه لا يدرس ـ أتكلم بمنطق الدنيا فقط ـ لا يتابع تحصيله، لا يهتم بمستقبله، ينام إلى الظهر، يأكل ما يشتهي، يكبر لا يوجد شيء، لا علم، ولا تجارة، ولا مكانة، ولا وظيفة، ساعتئذ يتألم على تفريطه فيما مضى.
مرة ضربت مثلاً أن طبيباً درس الطب في جامعة، وتعب تعباً كثيراً، لم يكن ينام الليل، فلما تخرج وكان له شأن كبير، ودخل كبير، مرّ أمام الجامعة و قال: لولا هذه الجامعة، لولا الدراسة في هذه الجامعة، لولا السهر إلى أنصاف الليالي، لولا التعب المضني، لولا المتابعة، ما كنت بهذا المنصب.
من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة:
لذلك المؤمن يوم القيامة:
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾
لولا أننا جئنا إلى الأرض، وعبدنا الله في الأرض، وأدينا الصلوات في الأرض، وأنفقنا من أموالنا في الأرض، وأمرنا بالمعروف في الأرض، ونهينا عن المنكر في الأرض، واستقمنا على أمر الله في الأرض، وعملنا الأعمال الصالحة في الأرض، ما كنا في الجنة.
بمنطق الدنيا الذي يتعب كثيراً يجني كثيراً، والذي يرتاح في بداية حياته يتعب في آخر حياته.
فلذلك من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة، الأمور دقيقة جداً، ومن طلب الآخرة من دون عمل فهو أحد ذنوبه، ألا إن سلعة الله غالية، ألا أن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله غالية، من السذاجة، وضعف التفكير، والمحدودية، أن تتوهم أن الجنة تكون بركعتين وبليرتين وانتهى الأمر، تعيش كما تشتهي، ما لم تنضبط انضباطاً شديداً، ما لم تستيقظ وأكبر همك الآخرة، خسرت كل شيء.
العاقل و الناجح هو الذي يعيش المستقبل ويتكيف معه:
أيها الأخوة، حينما تضغط على نفسك في الدنيا تعزها في الآخرة، حينما تشدد على نفسك في الدنيا تريحها في الآخرة، حينما تحاسب نفسك في الدنيا حساباً شديداً يكون حسابك يوم القيامة يسيراً، حينما تأمن من عقاب الله في الدنيا يكون العقاب في الآخرة، وحينما تخاف من عقاب الله في الدنيا يكون العفو في الآخرة، هناك حالات فيها مفارقات فيما بين الدنيا والآخرة.
قال: لا يشبعها بمثل أن يجيعها، تجوع لتشبع، لا تأمن إلا إذا خفت من الله، لا يؤنسها بمثل وحشتها، هذا المنطق منطق الدنيا والآخرة.
مرة حدثني أخ قال: بيتي في أحد أحياء دمشق، المركبة العامة التي تقلني إلى البيت تقف في مركز المدينة في ساحة المرجة، هذه المركبة تقف باتجاه الشرق، وفي أيام الصيف الحارة تكون الشمس المحرقة على الجانب الأيمن من المركبة، لكن هذه المركبة وهي في طريقها إلى هدفها لا بد من أن تدور دورة حول مركز الساحة، بهذه الدورة تنعكس الآية، يصعد إلى المركبة إنسان فيجد على اليمين شمساً محرقة، وعلى اليسار ظل ظليل، فبدافع رغبته في الراحة يجلس في الظل، بعد دقيقتين حينما تتم دورة المركبة حول النصب التذكاري في المرجة تنعكس الآية، يصاب بأشعة الشمس المحرقة طوال الطريق، يصعد إنسان آخر يفكر، يجلس في الشمس ويدع الظل، عاش المستقبل، بعد هذه الدورة الصغيرة المركبة باتجاه الشرق والطريق باتجاه الغرب فلا بد لهذه المركبة من أن تدور دورة في هذه الساحة، في هذه الدورة تنعكس الآية، من هو العاقل ؟ من هو الذكي ؟ من هو الموفق ؟ من هو الفالح ؟ من هو الناجح ؟ هو الذي يعيش المستقبل ويتكيف مع المستقبل، وما من تعريف جامع مانع دقيق للذكاء ككلمة التكيف، الذكاء هو التكيف، فالمؤمن يتكيف مع حدث مستقبلي لا بدّ منه هو الموت، معظم الناس يفاجؤون بالموت لكن المؤمن مستعد للموت، من بدأ معرفته بالله بدأ يستعد للموت، يستعد للموت بالعمل الصالح، يستعد للموت بالانضباط، بالاستقامة، بتربية أولاده، بطلب العلم، فالموت يستعد له بهذه الطريقة، فلذلك الإنسان إذا ضحك في أول حياته كثيراً يبكي في آخر حياته كثيراً، والذي يبكي في أول حياته كثيراً يضحك في آخر حياته كثيراً.
بطولة الإنسان أن يعيش المستقبل ويبحث عن عمل للمستقبل يرفع من قيمة الحاضر:
البطولة أن تعيش المستقبل، والتغني بالماضي والواقع لا يشابهه غباء في غباء، الآن الأمة الإسلامية لها ماض مجيد لا شك فيه أبداً، لكن واقعها ليس مجيداً، واقعها فيه مآس، فيه تخلف، فيه تناحر، فيه خصومات، فيه دماء تسيل، فيه تخلف عام، فيه بطالة عالية، فيه عنوسة عالية، فيه أمية عالية، فالتغني بالماضي والحاضر لا يشبه الماضي سلوك غير ذكي، وغير عاقل، وغير مقبول، بينما البحث عن عمل للمستقبل يرفع من قيمة الحاضر، هذا هو العمل المطلوب، فأنت دعك من الماضي، دعك من التغني بالأجداد، أنت أين منهم ؟ أين أنت منهم ؟ أين أنت من بطولاتهم.
أكاد أؤمن من شك ومن عجب
هذه الجماهير ليست أمة العرب
***
العرب لهم أمجاد، لهم شيم، تمتعوا بالشجاعة، بالفروسية، تمتعوا بالكرم، والإباء، عنترة العبسي في الجاهلية قال:
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
***
أسلمت يا فلان على ما أسلفت من خير، خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، الآن هناك مناظير إذا كان هناك نافذة مفتوحة بالمنظار يرى ما بداخلها، أين وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي ؟
فيا أيها الأخوة، دعك من الماضي دون أن يكون هذا الترك تحجيماً له، الماضي عظيم، الماضي مشرف، العرب والمسلمون وصلوا إلى أطراف العالم، إلى أطراف الصين، وإلى أطراف باريس، بفتوحاتهم، لكن وصلوا بانضباطهم، وصلوا بأخلاقهم، وصلوا بطاعتهم لله.
المؤمن هدفه واضح و أسعد لحظات حياته تكون عند الموت:
أيها الأخوة، نحن في أمس الحاجة إلى أن نعرف الله معرفة تحملنا على طاعته في الدنيا، فلذلك الدنيا فيها انضباط، فيها استقامة، فيها عمل صالح، فيها غض بصر، فيها ضبط لسان، فيها ضبط دخل، فيها ضبط إنفاق، فيها معونة، فيها دعوة إلى الله، أما الذي يفهم الدنيا طعاماً، وشراباً، ونزهات، واستعلاء، وكبر، وتمتع بالدنيا، هذا فهم أحمق، فهم غبي، فهم يدفع ثمنه بعد فوات الأوان.
من كلمات ابن القيم في هذه الفائدة: " سبحان الله , تزينت الجنة للخطّاب فجدوا في تحصيل المهر كل سعادتهم ".
كيف أن إنساناً يخطب فتاة جميلة جداً، بعد أن يوافق أهلها على الزواج يسعى جاهداً لتأمين الأموال، تأمين البيت والأثاث، هو في أعلى درجات السعادة، وهو يتعب، وهو لا ينام الليل، وهو يضنى من أجل أن يصل إلى هذه الفتاة بعد الدخول.
لذلك المؤمن هدفه واضح، مرة ذكرت مثلاً، لو أن إنساناً يتمتع بقدرات فكرية عالية جداً، وجاءه عرض إن أتيت بالدكتوراه تكون في أعلى منصب، وتسكن أجمل بيت، وتقتني أجمل مركبة، وتتزوج امرأة تروق لك، الشرط أن تنال هذه الشهادة، ولن نعطيك درهماً واحداً حتى تنال هذه الشهادة، تعمل، وتدرس، وتسافر إلى بلد غربي، وتلتحق بالجامعة، وتشتغل في مطعم، وتشتغل حارساً، عمل مضني وشاق ومهين أحياناً، والدراسة في الليل، تمضي سبع سنوات في أصعب مراحل حياتك، ودخل قليل، وبرامج صعبة، ومناهج طويلة، وأساتذة يتفننون بإتعاب الطلاب، درس، بعد سبع سنوات نال الدكتوراه، أخذ المصدقة، صدقها بالخارجية بالسفارة، قطع تذكرة العودة، أقول لكم: حينما يضع رجله في أول درج الطائرة هو أسعد إنسان في الأرض، هذا اليوم يوم فصل بين التعب وبين الراحة، بين الذل ـ أحياناً عامل بمطعم له صاحب قاس جداً يبالغ في إهانته ـ وبين أن يصبح في منصب رفيع، هذه اللحظة لحظة الموت إذا كنت بطلاً تجعل من الموت عرساً ، تجعل من الموت يوم الجائزة، تجعل من الموت يوم التحفة، كل هذا التعب لهذه اللحظة، لذلك الصحابة الكرام كانوا في أسعد لحظات حياتهم عند موتهم.
الغنى والفقر بعد العرض على الله:
سيدنا سعد بن الربيع تفقده النبي عليه الصلاة والسلام فلم يجده مع أصحابه، كلف أحد أصحابه أن يتفقده في ساحة المعركة، ذهب إلى ساحة المعركة رآه بين الجرحى يئن، قال له: يا سعد، أنت مع الموتى أم مع الأحياء ؟ قال له: مع الموتى، يبدو أن جراحه بالغة لكن أبلغ رسول الله مني السلام أن جزاه الله خير ما جزى نبي عن أمته، يبدو أنه كان في أسعد لحظات حياته، وبلغ أصحابه أنه لا عذر لكم إذا خُلص إلى نبيكم، وفيكم عين تطرف.
فلذلك الإنسان حينما يخطط، حينما يفكر في النهاية، مرة في البرمجة العصبية اللغوية فيها قاعدة رائعة جداً يقول لك: ابدأ من النهاية، كيف أطبق هذه القاعدة في الدين ؟ ابدأ من الموت، مهما حصّلت من أموال الدنيا المصير إلى القبر، مهما ارتقيت من مناصب الدنيا، مهما جمعت من أموال الدنيا، مهما نلت من درجات الدنيا، هناك قبر، ماذا في القبر؟ فيه عمل صالح، لذلك الغنى والفقر بعد العرض على الله.
من جهد في معرفة الله في الدنيا سعد بجنته في الآخرة:
أيها الأخوة الكرام، ألخص هذا الذي قلته قبل قليل، ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم، تنضبط في الدنيا تسعد في الآخرة، تقيد حركتك في الدنيا تكون طليقاً في الآخرة، تجهد في معرفة الله في الدنيا تسعد بجنته في الآخرة، و لا يوجد حدث واقعي يساوي أن تعرف الله.
(( ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء ))
الدنيا قصيرة، ومحدودة، وزائلة، وفي الموت تعرف ما قيمة العمل الصالح، ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يمشي مع أصحابه أمام قبر، فقال:
(( صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم ))
أي أن تأتي من البيت لتصلي الفجر في وقته، وفي بيت من بيوت الله، وتستمع إلى درس علم، هذا في الدنيا لا أحد يعرف قيمته، معظم الناس نائمون وأنت مستيقظ في بيت من بيوت الله، لكن يوم القيامة هؤلاء الذين عرفوا الله في الدنيا لهم أعلى مكانة، وهناك آية تقول:
﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾
هذا الذي غرق في شهواته، وفي مباهج الدنيا، واستعلى على الخلق واستكبر:
﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾