- أحاديث رمضان
- /
- ٠16رمضان 1430هـ - الفوائد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
عبد القهر و عبد الشكر:
أيها الأخوة الكرام، مع فائدة جديدة من فوائد كتاب الفوائد القيم لابن القيم رحمه الله تعالى.
هذه الفائدة صيغت على شكل سؤال كيف يفعل من أصابه هم أو غم ؟
(( ما أصاب عبداً هم ولا حزن , فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك , ابن أمتك, ناصيتي بيدك , ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك , أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك , أن تجعل القرآن ربيع قلبي , ونور صدري , وجلاء حزني , وذهاب همّي وغمّي , إلا أذهب الله همّه وغمّه , وأبدله مكانه فرحا، قالوا يا رسول الله أفلا نتعلّمهن ؟ قال: بلى , ينبغي لمن سمعهن أن يتعلّمهن ))
أيها الأخوة،
(( اللهم إني عبدك، وابن عبدك ))
هناك عبد القهر، وهناك عبد الشكر، وشتان بين العبدين، عبد القهر بحكم أنه في قبضة الله، حياته بيد الله، رزقه بيد الله، مرضه بيد الله، صحته بيد الله، زواجه بيد الله، استمرار حياته بيد الله، كن فيكون، زل فيزول، فكل إنسان مسلم أو غير مسلم، مؤمن أو غير مؤمن، مستقيم أو غير مستقيم، موحد أو غير موحد أو ملحد في قبضة الله، لأن كل إنسان في قبضة الله بأي ثانية ينهي حياته، يقطع رزقه، يصيبه بأمراض وبيلة، إذاً هو في قبضة الله هذه عبودية ولكنها عبودية القهر، قال تعالى:
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
لكن الإنسان إذا عرف الله اختياراً، بمبادرة منه محبة، شوقاً، واستقام على أمره، وأقبل عليه، وتقرب إليه بالأعمال الصالحة، هذا عبد آخر، هذا عبد الشكر:
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾
عبد الشكر يجمع على عباد، بينما عبد القهر يجمع على عبيد:
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
أما:
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾
من علامات أنك عبد لله أن تلتزم طاعته و تخضع له و تنيب إليه و تمتثل أمره:
أيها الأخوة، النقطة الثانية:
(( اللهم إني عبدك، وابن عبدك , ابن أمتك , ناصيتي بيدك ))
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
أنت في قبضة الله،
(( ناصيتي بيدك ))
ضربات القلب بيدك، الشرايين بيدك، انسداد الشرايين بيدك، سيولة الدم بيدك، الخثرة بالدماغ بيدك،
(( ناصيتي بيدك ))
رزقي بيدك، صحتي بيدك، زوجتي بيدك، أولادي بيدك، من حولي بيدك، من فوقي بيدك، من تحتي بيدك، الأقوياء بيدك، الطغاة بيدك، المؤمنون بيدك،
(( ناصيتي بيدك ))
هذا هو التوحيد، أن ترى أن كل أمرك عائد إلى الله، التوحيد علاقتك مع جهة واحدة، أروع ما في هذا الدين أن علاقة المؤمن مع جهة واحدة هي الله، يرضي الله فإذا أرضى الله أرضى الله عنه كل الخلائق، وإذا أحب الله ألقى محبته في قلوب الخلائق، وإذا هاب من الله ألقى هيبته في قلوب الخلائق، وإذا اتصل بالله جعل الله علاقته بمن حوله من أعلى ما يكون، هذا التوحيد، الدين توحيد.
فلذلك من علامات أنك عبد لله أنك تلتزم طاعته، وتلتزم الخضوع له، والإنابة إليه، وامتثال أمره، ودوام الافتقار إليه، واللجوء إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، والعياذ به وألا يتعلق قلبك بغيره، بل تحبه، وتخاف منه، وترجوه، وتعظمه، هذا معنى العبودية لله عز وجل هذا معنى عبد الشكر.
من معاني العبودية لله:
1 ـ أن الأمر كله لله و ليس لك منه شيء:
أيضاً أنا يا رب عبدك من جميع الوجوه، والإنسان المؤمن عبد لله صغيراً كان أم كبيراً، حياً أو ميتاً، مطيعاً أو عاصياً، معافى أو مبتلىً، عبد لله بقلبه، بجوارحه، بلسانه، من معاني العبودية لله ليس لك من شيء، الأمر كله لله:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
لو تعمقنا كثيراً في مفهوم العبودية النبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجة وصل إليها بشر عند سدرة المنتهى، قال تعالى:
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾
العلاقة عجيبة كلما خضعت لله رفعك الله، كلما تذللت أمامه في مناجاتك أعلى قدرك، ورفع ذكرك، وثبط عدوك، ووفقك ونصرك.
2 ـ أن كل ما تملك لله:
من معاني العبودية أن كل ما تملك لله، مرة إنسان سأل عالماً قال له: كم الزكاة سيدي ؟ قال له: عندكم أم عندنا ؟ قال له: عجيب ! ما عندنا وما عندكم ؟ قال له: عندكم ربع العشر، أما عندنا العبد وماله لسيده. وهذا معنى:
﴿ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
المؤمنون الصادقون السابقون أوقاتهم لله، قدراتهم لله، خصائصهم لله، طلاقة ألسنتهم لله، حكمتهم لله، رحمتهم من أجل إكرام عباد الله.
3 ـ أن كل ما أنت فيه من إنعام الله عليه:
من معاني العبودية لله أنت الذي مننت عليّ بكل ما أنا فيه، كلك حسنة من حسنات الله، جعلك من أب أو أم من نعمة الله الكبرى، أعطاك سمعاً أو بصراً من نعمة الله الكبرى، أعطاك عقلاً، أكرمك بزوجة تسرك إذ نظرت إليها، تحفظك إذا غبت عنها، تطيعك إذ أمرتها، أعطاك أولاداً يملؤون البيت فرحة، أي أنت مننت علي بكل ما أنا فيه، هذا معنى العبودية، هذا ما يقول عنه علماء القلوب الفناء، أي فني في محبة الله، كل ما أنا فيه يا رب من إنعامك.
4 ـ عدم التصرف بشي إلا بأمر الله تعالى:
شيء آخر من معاني العبودية أنني لا أتصرف يا رب فيما خولتني من مال ونفس إلا بأمرك، والعبد الصادق، الأمين، المخلص، لا يتصرف إلا بإذن سيده، وإني لا أملك يا رب لنفسي نفعاً يا رب ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، هذا من معاني العبودية لله عز وجل.
(( اللهم إني عبدك، وابن عبدك , ابن أمتك , ناصيتي بيدك ))
من منا يملك حواسه ؟ بأي لحظة يفقد أحد أعضاءه، بأي لحظة قد يفقد عقله، الأب المحترم يسعى من حوله أن يضعوه في مستشفى الأمراض العقلية، عقلك بيده،
(( ناصيتي بيدك ))
أنت المتصرف كيفما تشاء، أما أنا لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً.
التوكل على الله أساس الدين:
أيها الأخوة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ))
أي هذا الذي أمامك قوي هو بيد الله فإذا كنت مع الله ألقى هيبة عليك، هذا الذي يريد أن ينال منك بيد الله لا يستطيع أن يتحرك إلا بإذن الله عز وجل، فلذلك حتى الأقوياء الطغاة موتهم وحياتهم بيد الله عز وجل، هذا الذي قاله سيدنا هود:
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) ﴾
الدين أن ترى أن يد الله تعمل وحدها وأنه لن يقع شيء في الكون إلا إذا سمح الله له:
أيها الأخوة الكرام، الدين توحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، الدين ألا ترى مع الله أحداً، الدين أن ترى أن يد الله تعمل وحدها، الدين أن ترى أنه لن يقع شيء في الكون إلا إذا سمح الله له أن يقع، كل شيء وقع أراده الله، بمعنى سمح به، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، متى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد بيد الله وحده يصرفها كيف يشاء عندئذ لن يخاف أحداً إلا الله، الموحد قوي الشخصية، لا يتضعضع، لا يتذلل، لا ينبطح، لا ينافق، لا تضعف شخصيته، لأنه مع الله عز وجل.
اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
***
متى شهد العبد أن ناصيته بيد الله وأن نواصي العباد بيد الله أيضاً يصرفها كيف يشاء لم يخفهم، ولم يعلق أمله عليهم، ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين، المتصرف فيهم هو الله، والله مدبر شؤونهم، فمن شهد هذا المشهد صار فقره إلى ربه لازماً له، كل من في الكون بيد الله، أنت إذاً افتقر إلى الله، لذلك الصحابة الكرام في بدر فوضوا أمرهم إلى الله، وافتقروا إليه، فانتصروا، قالوا الله، فالله تولاهم، هم هم ومعهم سيد الخلق في حنين قالوا: نحن كثرة لن نغلب من قلة فتخلى الله عنهم:
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (26) ﴾
ارغب فيما عند الله يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس:
أيها الأخوة، من شهد هذه المعاني لم يفتقر إلى الناس، ولم يعلق أمله عليهم، ولم يرجو ما عندهم، لذلك ارغب فيما عند الله يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضب
* * *
وازهد فيما عند الناس يحبك الناس، ارجُ ما عند الله يحبك الله، لذلك سيدنا هود قال:
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) ﴾
عظمة الله عز وجل أنه قوي وعلى صراط مستقيم و له الملك و الحمد:
بالمناسبة كلمة على إذا جاءت مع لفظ الجلالة تعني أن الله ألزم ذاته العلية بما جاء في الآية: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾. أي أن الله جل جلاله ألزم ذاته العلية بأن يكون على صراط مستقيم بالاستقامة:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾
ألزم الله ذاته بهداية الخلق:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ﴾
(( ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك ))
أي إذا حكم الله على عبد:
﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ ﴾
(( يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ ذلك لأن عطائي كلام، كن فيكون، وأخذي كلام، يا عبادي، فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ ))
أيها الأخوة، ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾. مع أنه قوي أحياناً القوي ليس مستقيماً، القوي لا يخشى أحداً، لا يعلق أهمية على أحد لأنه قوي، لكن عظمة الله عز وجل أنه قوي وعلى صراط مستقيم، له الملك وله الحمد.
أيها الأخوة، هو على صراط مستقيم في أقواله، في أفعاله، في قضائه، في قدره، في أمره، في نهيه، في ثوابه، في عقابه، خبره صادق، قضاؤه عدل، أمره كله حكيم.
أيها الأخوة، كما قالوا: الشريعة عدل كلها، مصلحة كلها، رحمة كلها، حكمة كلها، أية قضية خرجت من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى خلافها، من الرحمة إلى القسوة فليست من الشريعة، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل.
الحياة الدنيا فيها متاعب وأحزان وهموم والمؤمن إذا أصابه همّ أو حزن عليه بهذا الدعاء:
أيها الأخوة،
(( ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك ))
هذا الحديث الرائع لمن أصابه غم أو هم، أعيد عليكم نص الحديث:
(( ما أصاب عبداً هم ولا حزن , فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك , ابن أمتك, ناصيتي بيدك , ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك , أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك , أن تجعل القرآن ربيع قلبي , ونور صدري , وجلاء حزني , وذهاب همّي وغمّي , إلا أذهب الله همّه وغمّه , وأبدله مكانه فرحاً ))
فلذلك طبيعة الحياة الدنيا فيها متاعب، فيها أحزان، فيها هموم، فالمؤمن إذا أصابه هم أو حزن عليه بهذا الدعاء الذي علمنا النبي عليه الصلاة والسلام إياه.