- أحاديث رمضان
- /
- ٠16رمضان 1430هـ - الفوائد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
طالب الهدى وطالب الدار الآخرة لا يستقيم له سير إلا بحبسين:
أيها الأخوة الكرام، مع فائدة جديدة من فوائد كتاب الفوائد القيّم لابن القيم رحمه الله تعالى.
يقول ابن القيم في هذه الفائدة: حبسان منجيان فطالب الهدى وطالب الدار الآخرة لا يستقيم له سير إلا بحبسين، دقق أي يحبس قلبه في طلبه ومطلوبه، مطلوبه هو الله، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، وأن يحبس نفسه عن الالتفات إلى غيره، عندنا حبس في وحبس عن، الذي يرجو الله والدار الآخرة يجب أن يحبس نفسه في طلبه ومطلوبه وأن يحبس نفسه عما سواهما، الآن وأن يحبس لسانه عما لا يفيده، وأن يحبسه على ذكر الله عز وجل، وأن يحبس جواره عن المعاصي والشهوات، وأن يحبسهما على الواجبات والمندوبات.
إذاً حبس في وحبس عن، هذه فائدة من فوائد ابن القيم، لذلك:
(( مَنْ كانت الدنيا هَمَّه جعل الله فَقْرَه بين عينيه ))
أنت من خوف الفقر في فقر، و من خوف المرض في مرض، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها، فلذلك:
(( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ ))
من اصطلح مع الله يُعامل معاملة يذوب فيها محبة لله:
أيها الأخوة، سألت مرة أخاً كريماً ما الذي يشدك إلى الله ؟ طبعاً سيقول أفكار الدين رائعة جداً، هذا كلام صحيح، أفكار الدين رائعة، عميقة، دقيقة، متناسقة، شاملة، كاملة، الدين قدّم لك تفسيراً عميقاً جداً، وتفسيراً صحيحاً، وتفسيراً مهما حدث في الأرض لم يتأثر به، قدم لك تفسيراً للكون والحياة والإنسان، ومن أين، وإلى أين، ولماذا، فالدين قدّم هذا التفسير العميق، الدقيق، المتناسق، ولكن هذا لا يكفي، الذي أتصوره أن الذي يشدك إلى الله أنك حينما تصطلح معه تُعامل معاملة تذوب فيها محبة لله، تجد أنك في عناية الله، في رعاية الله، في توفيق الله، في تأييد الله، في التيسير لا في التعسير، في الإكرام لا في الإهانة، في الإعزاز لا في الإذلال، فمعاملة الله لك حينما تصطلح معه تشدك إلى هذا الدين، إذاً:
(( وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ ))
لا أنسى حديثاً شريفاً سمعته من أعوام طويلة ترك أثراً كبيراً في نفسي،
(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ))
من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عن مالنا كنا له ومالنا، في بعض الآثار القدسية:
(( عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة، ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي، وكنت عندي مذموماً، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد ))
من فوائد الحديث التالي:
1 ـ منزلة الشاب التائب عند الله تعالى:
أيها الأخوة، النقطة الثانية ورد في الأثر القدسي:
(( أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد ))
شاب في مقتبل الحياة، يتألق، يستعر قلبه للشهوات، ومع ذلك ضبط سمعه فلا يسمع الغناء، ضبط بصره فلا يملأ عينيه من محاسن امرأة لا تحل له، ضبط لسانه، ضبط سلوكه، ضبط جوارحه، ضبط دخله، ضبط إنفاقه:
(( أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد ))
لذلك، إن الله يباهي الملائكة بالشاب التائب، يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي، ما من شيء أحب إلى الله تعالى من شاب تائب:
(( أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد، أحب المتواضعين، وحبي للغني المتواضع أشد))
غني لكنه متواضع، مرة كنت في أمريكا فعلمت أنهم يتقنون صناعة السيارات في أعلى مستوى، ثم فوجؤوا أن كل عشر سيارات في شوارعهم ثماني سيارات منها من صنع اليابان، إذاً هناك تخلف في صناعتهم، أرسلوا وفداً إلى اليابان ليروا أين الخطأ عندهم وأين الخلل، فوجدوا أنهم في أعلى درجة من التقنية لكن الخلل اجتماعي، العامل في اليابان يعد صهر صاحب العمل، مستقبله مضمون، مكانته كبيرة، تعويضاته جزيلة، لذلك يتقن عمله، فلذلك عندما ينتبه الإنسان إلى هذه الناحية ينال أضعافاً مضاعفة.
2 ـ منزلة الشيخ الكبير المقيم على معصية عند الله تعالى:
(( أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد، أحب المتواضعين، بعض مدراء الشركات يأكلون مع عمالهم، وأحب الأغنياء وحبي للغني المتواضع أشد، أحب الكرماء، وحبي للفقير الكريم أشد، وأبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد، إنسان بالأربعين، بالخمسين، بالستين، مراهق يقول لك: نفسه خضراء، هذا كلام مضحك، كل سن له ترتيبه ))
النذير هو:
1 ـ الشيب:
قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ (37) ﴾
ما النذير ؟ قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: النذير هو الشيب.
(( عبدي كبرت سنك، وانحنى ظهرك، وضعف بصرك، وشاب شعرك فاستحِ مني فأنا أستحي منك ))
النذير هو الشيب.
2 ـ سن الأربعين:
والنذير سن الأربعين، من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار، ومن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، أنت لاحظ سافرت إلى بلد لتمضي فيه إجازة عشرة أيام، لاحظ بعد اليوم السابع تفكر بقطع بطاقة العودة، بعد اليوم السابع تفكر بالهدايا، تفكر في الرجوع، فمن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، لأن معترك المنايا كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "معترك المنايا بين الستين والسبعين ".
3 ـ سن الستين:
إذا دخل الإنسان في سن الأربعين تجاوز الثلثين، دخل في أسواق الآخرة، والنذير سن الستين.
4 ـ المصائب:
والنذير هو المصائب:
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) ﴾
المصيبة رسالة من الله، إنسان شارد، غافل، غارق في تجارته، في همومه، في طموحاته، ينسى أن يؤدي الصلوات ؟ ينسى أن يؤدي ما عليه من حقوق ؟ هذا الإنسان الشارد يحتاج إلى صعق، إلى تنبيه، إلى لفت نظر، فتأتي المصيبة كرسالة من الله عز وجل، إذاً:
(( أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد، أحب المتواضعين، وحبي للغني المتواضع أشد، أحب الكرماء، وحبي للفقير الكريم أشد، وأبغض ثلاثاً وبغضي لثلاث أشد، أبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد، وأبغض المتكبرين، وبغضي للفقير المتكبر أشد، أبغض البخلاء وبغضي للغني البخيل أشد ))
لذلك قيل: التوبة حسن لكن في الشباب أحسن، والعدل حسن لكن في الأمراء أحسن، و الورع حسن لكن في العلماء أحسن، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن، والحياء حسن لكن في النساء أحسن.
التولي و التخلي:
أيها الأخوة، أثر قدسي آخر:
(( ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ))
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
(( ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات بين يديه))
لذلك الصحابة الكرام في بدر قالوا الله:
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
أي مفتقرون إلى الله، إذا قلت الله قبل أن تجري عملية جراحية، يا الله وفقني، يا رب أنت الموفق، أنت الملهم، يا رب أنا جاهل علمني، قبل أن تلقي درساً، قبل أن تقابل مسؤولاً يا رب ثبتني، يا رب أنطقني بالحق، أنت حينما تفتقر إلى الله يتولاك الله، وحينما تعتد بنفسك، وبخبرتك، وبشهادتك، وبعلمك، وبمالك، عندئذ الله عز وجل يتخلى عنك، فالصحابة الكرام وهم قمم البشر، ومعهم سيد البشر، حينما اعتدوا بعددهم في حنين وقالوا: لن نغلب من قلة، قال تعالى:
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25) ﴾
إذاً أيها الأخوة، درس التولي والتخلي نحتاجه جميعاً، نحتاجه كل يوم بل والله كل ساعة تقول: الله يتولاك، يوفقك، يلهمك الصواب، يعطيك الحكمة، يعطيك القوة، يعطيك الثبات، يعطيك الثقة بالنفس، يعطيك التأييد، يدافع عنك، إذا قلت: الله، فإذا قلت: أنا تخلى الله عنك، وأبلغ درس يعيشه كل مؤمن هذا الدرس، حينما لا ينجح اعتدّ بنفسه، فإذا اعتدّ بما عند الله وافتقر إلى الله كان في أعلى عليين.
المتقي إنسان محبوب فعليك بتقوى الله:
أيها الأخوة الكرام، عليك بتقوى الله فإن المتقي ليس عليه وحشة، قالوا: " الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس "، ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري، إن حبسوني فحبسي خلوة، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، إني قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي ؟
المتقي ليس عنده وحشة، وقال بعضهم: " من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا "، المتقي محبوب، صفات المؤمن تدعو أن تحبه، متواضع، صادق، وفي، أمين، يحب الخير، لا يتدخل فيما لا يعنيه:
(( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))
هذه الصفات تدعو إلى المحبة، قال: " إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس فلن يغنوا عنك من الله شيئاً ".
أحياناً إنسان يعبد شهواته من دون الله، يرضي الناس بذكاء بارع، الله عز وجل يبتليه بمرض عضال، ما قيمة ولاء الناس له ؟ علاقتك مع الله عز وجل.
مرة قلت لأخ كريم: لو أنك استطعت وكنت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستطعت أن تنتزع من فمه الشريف فتوى لصالحك، ولم تكن محقاً، لن تنجو من عذاب الله، الدليل:
(( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))
علاقتك مع الله عز وجل، قال سليمان بن داود: " أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا، وعلمنا مما علم الناس ومما لم يعلموا، فلم نجد شيئاً أفضل من تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى".
الافتقار إلى الله في الغنى و الفقر:
الإنسان وهو فقير يدعو الله فإذا اغتنى نسي الله، هذا خطأ كبير، بطولة المؤمن أنه مفتقر إلى الله في الفقر والغنى، وينطق بكلمة العدل في الغضب والرضا، أحياناً إنسان يخطب من بيت تسمع عنه ثناء غير معقول، صار ولياً، فهيماً، ذكياً، الخطبة لا تستمر، صار لئيماً، معه أمراض، و أشياء غير معقولة:
(( أحْبِبْ حبِيبَك هَوْنا مَّا، عسى أن يكونَ بَغِيضَكَ يوماً مَّا، وأبْغِضْ بغيضَك هَوْنا مَا عسى أن يكونَ حبيبَك يوماً ما ))
لا يوجد اعتدال يكال له المدح بغير حساب، فإذا نشأت مشكلة يكال له الذم بغير حساب، لذلك العدل في الغضب والرضا، النبي صلى الله عليه وسلم رأى صهره أسيراً مع الأسرى، زوج ابنته وجاء ليحارب النبي، وهو صهره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والله ما ذممناه صهراً "، كان صهراً ممتازاً. هذا موضوعية، والموضوعية قيمة أخلاقية وعلمية معاً.
الإنسان يتعامل مع الله عز وجل مباشرة لأنه ليس بين الله وبين عبده حجاب:
أيها الأخوة، الإنسان حينما يتعامل مع الله مباشرة ولا تنسوا أن الآيات الكثيرة:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ( 219) ﴾
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾
أكثر من عشر آيات يسألونك، وبين السؤال والجواب كلمة قل، إلا في آية واحدة:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾
ليس بين الله وبين عبده حجاب، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يقبل طاعتنا، وأن يلهمنا الصواب