- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
منزلة الصدق :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس عشر من مدارج السالكين ، منزلة اليوم : منزلة الصِدق .
وإذا تحدثنا عن الصِدق كمنزلةٍ من مدارج السالكين , فيجب أن يخطرَ في بالكم عن هذه الكلمة كلُّ شيء , إلا ما يفهمهُ عامّةُ الناس , من أنَّ فُلاناً صادق إذا تكلّمَ وفقَ الواقع .
كلمة الصدق في القرآن الكريم أكبر بكثير , من أن يأتي كلامكَ مُطابِقاً للواقع , وبعدَ حين إن شاء الله سوف يتضح هذا المعنى جليّاً من خلال بعض الآيات والأحاديث .
الآيات التي تتحدث عن الصدق :
على كُلٍ ؛ لنستعرض الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة الصِدق .
كلمة الصدق لا أُبالغ إذا قُلت : إنَّ كلَّ الدرجات العُلى التي ينالُها المؤمن إنما بسببِ صِدقه .
لا أقول : أن يكونَ صادقاً في حديثه , بل لهذه الكلمة معنىً أكبر بكثير .
الآية الأولى : كونوا مع الصادقين .
أول آية من آيات هذا الدرس , وهي قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
أطيعوا الله , اتقوا الله ، وربما أراد الله عزّ وجل أن يُبيّن لنا من أجل أن تطيعوه, كونوا مع الصادقين، كأنَّ أثرَ المجتمع الذي حولك، أثرُ البيئةِ التي حولك والأصدقاء، أثرَ الأقرباء والمعارف والجيران لها تأثير، اتقوا الله, ومن أجل أن تستطيعوا أن تتقوه, كونوا مع الصادقين, لا بدَّ من أن تكونَ مع صادقٍ, هذا المعنى الأول .
يبدو أنَّ الصادق يُعطيكَ من خِبرته وعِلمه، يعطيكَ من حالِه وقاله، يعطيكَ من أخلاقه، فلا بدَّ أن ترى الدينَ مُجسّداً في شخص .
الدين كأفكار، كأخبار، كمعلومات, لا يفعلُ في الإنسان فِعلَ المثل الأعلى، المعلومات والأخبار والآثار لا تحمل على السلوك القويم, كما لو رأيتَ بأُمِ عينيكَ إنساناً تعيشُ معه, تمثّلَ هذا الدين, موقفٌ واحدٌ أخلاقي يقفه مؤمن, له تأثيرٌ كبيرٌ جداً في نفسِ المُتعلّم, لذلك: لو أنَّ بالإمكان أن يجريَ التعليم على مستوى الدول العالمية دون معلّم, عن طريق الكتاب, لوفرّنا ألوف ألوف الملايين, ولكن لا بدَّ من المُعلّم.
الإنسان يقول لكَ: أنا مؤمن, وله بيئةٌ سيئة، له أصدقاءُ سوء، له قُرناءُ سوء، له جيرانُ سوء، يقيمُ معهم, وينسجمُ معهم, ويندمج معهم, ويسهرُ معهم, ويُمضي ساعاتٍ طويلة معهم, وهو مُستمتع معهم, وهو مؤمن, هذا مستحيل, لا بدَّ من حِميّة، لا بدَّ من أن تُجري تبديلاً جذريّاً في علاقاتكَ الاجتماعية .
((لا تُصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامكَ إلا تقي))
لكَ أن تُقيمَ علاقة عمل مع أيّ إنسان في حدود العمل، تُقدم له ما عندك, يعطيك الثمن بكلامٍ طيب، بسلامٍ، بوداعٍ، بترحيبٍ، بطلاقةِ وجهٍ، أمّا أن تُقيمَ علاقةً حميمةً مع إنسانٍ بعيدٍ عن الله عزّ وجل, ليسَ هذا من الإيمان في شيء, قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
الآية الأولى :
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾
كُن معهم لتأخذ عنهم, لتأخذَ من عِلمهم, من آدابهم, لتأخذَ من أحوالهم, من ورعهم, لتأخذَ من أخلاقهم, من مُثلهم, كُن معهم، راقِبهم، اسألهم، استفتهم، حاوِرهم:
﴿وكونوا مع الصادقين﴾
لذلك:
((يدُ الله مع الجماعة, ومن شذَّ شذَّ في النار))
((عليكم بالجماعة, وإيّاكم والفُرقة, فإنَّ الشيطانَ مع الواحد, وهوَ من الاثنين أبعد, وإنما يأكلُ الذئبُ من الغنم القاصية))
مرتبة الصديقين هي المرتبة الأولى من مرتبة النبوة .
وقال تعالى :
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾
الصديقين : المرتبة الأولى التي تلي مرتبة النبوة ، قال تعالى :
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
أبو بكر الصديق, المرتبة الأولى التي تلي مرتبة النبوة مرتبة الصديّقيّة، نرجو الله عزّ وجل أن يجعلنا من الصادقين .
﴿وحسنَ أولئكَ رفيقاً﴾
أن تكونَ مع الصادقين, خالق الكون يقول لك:
﴿وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً﴾
هذا هوَ الرفيق الذي يجب أن تَعضَّ عليه بالنواجذ، هذا الرفيق الذي ينبغي أن تُلازمه:
﴿وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً﴾
إنَّ الأثرَ الذي يحدث من خلال تعامل الأخوة المؤمنين أثرٌ بليغٌ جداً، يعني أخ يتعلّم من أخ الصدق، من أخ آخر الورع، من أخ ثالث الزُهد، من أخ رابع الاستقامة, فإذا مجتمعك مجتمع مؤمن، علاقاتك، نُزهاتك، مجالسك، سهراتك، ندواتك، في أفراحك، دائماً كُن مع المؤمنين .
الآية الثانية : فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم .
آيةٌ ثانية من آيات الصِدق، الله سبحانه وتعالى خالق الكون يُخبرنا: أننا إذا كُنا صادقين فهوَ خيرٌ لنا، يقول الله عزّ وجل:
﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾
الخيرُ كله في الصِدق, والسوءُ كله في الكذب، فلو صَدقوا الله لكانَ خيراً لهم .
هل تصدّقون :
أنَّ أركانَ الإيمان ، وأركانَ الإسلامِ ، بمجموعها أساسها الصِدقُ ؟
إليكم الدليل قال تعالى :
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
﴿آمنَ بالله واليوم الآخر والملائكةِ والكتاب والنبيينَ﴾
هذه أركانُ الإيمان .
﴿وآتى المالَ على حبه ذوي القربى و اليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلينَ وفي الرِقاب وأقامَ الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساءِ والضرّاءِ وحينَ البأسِ﴾
أركان الإسلام مع الأخلاق هي :
أركان الإسلام , وأركان الإيمان , والأخلاقيات ، والتعامليات .
﴿أولئكَ الذينَ صَدقوا﴾
لأنهم صَدقوا آمنوا, لأنهم صدقوا أسلموا, لأنهم صدقوا تَخلّقوا بأخلاق الإسلام.
معنى الصدق .
كلمة صِدق تأخذُ معنىً آخر غيرَ المعنى الذي يتبادر إلى أذهان الناس .
فُلان صادق ؛ يعني يتكلّم الصدق , صادِقٌ في طلبه :
إمّا أن يُطابِقَ الواقِعُ الخبر، وإمّا أن يكونَ كلامُكَ مطابقاً للواقع , فأنتَ صادقٌ في لسانك .
وإمّا أن يأتيَ عملكَ مُصدّقاً لقولك , هذا صِدقُ السعيِ .
الشيء الخطير أنه : إذا لم يكن الإنسان صادقاً , فلا بدَّ من أن يكونَ كاذباً , كيف ؟ قال تعالى :
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾
من هو َالمُنافق ؟ الإنسان الكذّاب : يقول ما لا يؤمن ، يُعبّرُ عما ليسَ في نفسه ، يتزيّنُ بما ليسَ في قلبه ، يُظهر ما لا يُبطن , يُعلن ما لا يُخفي ، دائماً بحياته في ازدواجية ، له مواقف مُعلنة ومواقف مُبطّنة ، له علانية مقبولة وله سريرة ممقوتة ، له كلامٌ لينٌ لطيف , وله قلبٌ قاسٍ حقود حسود ، والكذبُ والنِفاقُ متطابقان تماماً .
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإيمانُ أساسه الصِدق , والنِفاقُ أساسه الكذب ، مُنافق يعني كذّاب ، مؤمن يعني صادق , صادق مع نفسه , وصادق مع ربه , وصادق مع الناس .
أحياناً الإنسان في انسجام داخلي فيما بينه وبينَ نفسه, هذا الانسجام الداخلي معناه : أنه صادقُ مع نفسه ، وأحياناً فيما بينه وبينَ اللهِ العلاقة عامِرة .
نقول : صادقٌ مع ربه ، فإذا عامل الناسَ باستقامةٍ فهو صادقٌ مع الناس , العبدُ لا ينفعه يوم القيامة , ولا يُنجيه من عذاب النار إلا أن يكونَ صادقاً , قال تعالى :
﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
الحقيقة الأولى :
هناك كما يقول بعضُ العُلماء : صِدقٌ في اللسان , وصِدقٌ في العمل , وصِدقٌ في الحال .
صادِقُ اللسان يأتي كلامه مُطابِقاً للواقع ، صادق العمل يأتي فِعلهُ مطابقاً للسانه ، صادِقُ الحال يأتي لسانه مطابقاٌ لِما في قلبه , وما في قلبه لِما في لسانه .
يعني: لا بد من أن تكون صادق اللسان والحال والقلب والعمل ، صادقَ اللسانِ , وصادقَ الجوارح , وصادقَ القلب .
الحقيقة الثانية :
الصِدق ينتهي بكَ إلى مرتبة الصدّيقيّة , والدليل : عَنْ عبد الله رَضِي اللَّهُ عَنْهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ, وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا, وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ, وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا))
إذا إنسان صادق في فِعل الخيرات, الله عزَّ وجل يتولى هِدايته إلى الخير، إذا الإنسان صادق في هداية الخلق, الله عزَّ وجل يتولى إلهامه بالطريقَ المُناسب, والأسلوب المناسب, والعبارة المناسبة, والفِكرة المناسبة, والموقف المناسب.
صادِقٌ في تزويج ابنتك من مؤمن, يهديكَ الله إلى الشاب المؤمن، صادقٌ في إصلاحِ زوجتك, يهديكَ الله إلى الأسلوب المناسب لإصلاحِها, اللهُ الهادي, أنتَ عبدُ الهادي ولستَ هادياً, فإذا صدقتَ مع الله هداكَ الله, صادقٌ في تأسيس عملٍ حلالٍ, يُغنيكَ عن سؤال الناس, الله يهديك، صادقٌ في أن تلتقي برجلٍ من أهل الحق, الله يهديكَ إليه, إذا كنتَ صادقاً في معرفة الحقيقة, لا بدَّ من أن تَصِلَ إليها، إذا كنتَ صادقاً في أن تلتقي بأهل الحق, لا بدَّ من أن تلتقي بهم, لأنَ الله يهديك عندئذٍ، هذا معنى قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
أنا حينما أشعر أنَّ الإنسان صادقٌ في طلبِ الحقيقة, واللهِ أشعر أنَّ كلَّ خليةٍ في جسمي تنطق له: أبشر, لا بدَّ من أن تعرف الحقيقة المُطلقة، صادقٌ في أن ترى أهلَ الحق, أبشر, لا بدَّ من أن تلتقي بهم، صادقٌ في أن تهدي الناسَ إلى الله, لا بدَّ من أن يضعكَ الله في هذا المقام، لكنَّ الله عزّ وجل لا يتعاملُ أبداً مع التمنيات, ولا يتعامل أبداً مع الرغبات غير الصادقة, لذلك في عقبات، العقبات لإثبات الصِدق .
فإذا إنسان صادق في حفر بئر مثلاً, يحفر متر, مترين, خمسة، خمسة عشر، لم يجد مياه، 20، 30، يقول لك: حفرت 80 متراً, ودفعت 300 ألف, معناها صادق في البحث عن الماء.
في شخص ليس مهتم بالأرض, ولا يُعلّقُ عليها كبيرُ أهميّة, نصحوهُ أن يحفرَ بئراً خمسة أمتار, بعيدة المياه:
أخلق بذي الصبرِ أن يحظى بحاجته ومُدمن القرعِ للأبواب أن يَلِجَا
النملة تُعلمنا الصِدق, تصعد وتقع مرات عديدة, يعني على الأخ أن يعرف الحقيقة ، أنتَ في تعاملكَ مع الله, لا بدَّ من أن يظهرَ صِدقك، قد تشعر بوحشة, بانقباض, بضيق, قد يَقِلُ دخلك, ويتكاثر الناسُ ضِدك, قد تواجه عقبات ومعارضات وتآمرات, قد تواجه خصوماً وحُسّاداً, قد تواجه ضغوطاً من داخل البيت, ومن حولك, من جيرانك, من زملائك, ماذا تفعل؟ لا زِلتَ مُصِرّاً على طلب الحق .
لماذا الابتلاء ؟
ربنا عزّ وجل لا بدَّ من أن يمتحنَ المؤمنين , ولو أنَّ فيهم رسول الله ، في غزوة الخندق :
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾
أين وعود رسول الله؛ تُفتحُ عليكم بلاد قيصر وكسرى؟ .
أنتَ يا سراقة تضع تاج كسرى على رأسك؟ .
قال له :
((يا عديّ بن حاتم, لعله إنما يمنعكَ من دخولٍ في هذا الدين, ما ترى من حاجتهم, وايمُ الله! ليوشكنَّ المال أن يفيضَ فيهم حتى لا يوجد من يأخذهُ، ولعلكَ يا عديَّ بن حاتم, إنما يمنعكَ من دخول هذا الدين ما ترى من كثرةِ عدوّهم, وايمُ الله! ليوشكّنَّ أن تسمعَ بالمرأة البابلية تَحُجُ هذا البيتَ على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعكَ من دخول في هذا الدين, أنكَ ترى أنَّ المُلكَ والسُلطانَ في غيرهم, وايمُ الله! ليوشكّنَّ أن ترى القصورَ البابليّةَ مُفتحةً للمسلمين))
قبائل متناحرة متباغضة في الجزيرة, شظف العيش, وخشونة العيش والحروب, وهؤلاء الضِعاف المتخلّفون في مقياس العصر, هؤلاء سيفتحون بلاد قيصر وكِسرى, دولة من الدول المتخلّفة جداً, الآن نقول لها: أنتِ ستنتصرين على دول الشرق والغرب, مستحيل .
﴿هُنالكَ ابتليَّ المؤمنون﴾
جاء الأحزاب, ما اجتمعَ في الجزيرة جيشٌ, يعدُ عشرة آلاف مُقاتل, اجتمعوا جميعاً, لا على محاربة المسلمين, لا, يا ليت ذلك, لا على غزوهم في عُقرِ دارهم، على استئصالهم من جذورهم, على إبادتهم, ليست حرب الخندق حرباً تقليدية، حرب إبادة، حرب استئصال، واليهود الذين عاهدوا رسول الله, نقضوا عهدهم كعادتهم, كُشِفَ ظهره:
﴿هنالكَ ابتليَ المؤمنون وزُلزِلوا زلزالاً شديداً﴾
الإسلام بقي ساعات, ساعات انتهى كله, إلى أن قالَ أحدهم: أيعُدنا صاحبكم أن تُفتحَ علينا بلادُ قيصر وكِسرى , وأحدُنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟!!
﴿هنالكَ ابتليَ المؤمنون وزُلزِلوا زلزالاً شديداً﴾
هذا يسمونه حديثاً: الفرز، الفرز العلمي, عندك صف مثلاً: كلهم وجوه مُقبلة ونشيطة, لكن أجريت امتحان, انفرزوا, 30 واحد راسب، 12 ناجحين، 2 متفوقين، واحد أولي, فربنا عزّ وجل دائماً يُجري امتحانات, امتحانات مُفاجئة .
أنت مُطمئن, أنت مؤمن مرتاح، مؤمن ولكَ مكان بالجنة, حجزته من الآن, والناس كلهم لا يفهمون فقط, أنتَ تفهم, فيضعك ربنا بظرف صعب, فإذا أنت لست مؤمناً، بل مشرك خائف, تقع بالحرام وأنتَ لا تدري:
﴿هنالكَ ابتليَ المؤمنون وزُلزِلوا زلزالاً شديداً﴾
﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾
يقول المنافقون : وعدنا بملك قيصر وكِسرى , وما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً , أما :
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
هذا المؤمن، عاهدت خالق الكون في السرّاء والضرّاء، في الصحة والمرض، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، قبلَ الزواج وبعدَ الزواج, في البحبوحة وفي الضيق، في انقباض النفس وفي طلاقة النفس، القلب له أحوال, تمر ساعات كأنكَ طائر من الفرح مسرور, الله عزّ وجل تجلّى عليك، يمر حين آخر يحجُبُ عنكَ هذا الحال الطيب, تُحس بوحشة؛ انقباض، بسأم، بضجر، بملل، وأنتَ أنت .
هم الأحبة إن جاروا وإن عَدلوا فليسَ لي عنهم معدِلٌ وإن هم عدلوا
واللهِ وإن فتتوا في حُبـهم كبدي باقٍ على حُبــهم راضٍ بما فعلوا
هل هذا حالُكَ مع الله ؟ يا ربي أنا راضٍ , لكن دائماً كُن محتاطاً ، قُل له كما قالَ النبي الكريم : لكنَّ عافيتكَ أوسعُ لي .
لا تكن مُعتداً بنفسك, يا ربي امتحن، يا ربي أنا راضٍ بما تفعله، أنا راضٍ بحكمك، أنا راضٍ بقضائك، راضٍ بنصيبي من أيِّ شيء، راضٍ بهذه الزوجة, وبهذا العمل, وراضٍ بهذا البيت, وبهؤلاء الأولاد, أنا راضٍ, لكنَّ عافيتكَ أوسعُ لي يا رب:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
إنسان على الفقر مستقيم، على الغِنى لا نعرف, هو بِمنصب متواضع جداً مَلك، وضعوه مديراً عاماً بعد عنك، قبل الزواج رائع, بعد الزواج امتنع عن حضور مجالس العلم، قالت له زوجته: أليسَ يكفيك ما استمعت؟ نحن لا نريد أن نُمتحن امتحاناً ونسقط, يعني هذه الآية, يجب أن تبقى في أذهانكم:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
قال:
((إنَّ الصِدقَ يهدي إلى البِر, وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنة, وإنَّ الرجلَ لَيصدُقُ حتى يُكتبَ عِندَ الله صديّقاً، وإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور, وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار, وإنَّ الرجلَ لَيكذِبُ حتى يُكتبَ عِندَ اللهِ كذّاباً))
الآية الثالثة : وقل رب أدخلني مدخل صدق ........
يوجد عندنا آية دقيقة جداً وخطيرة , يقول الله عزّ وجل :
﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾
ما معنى أدخلني مُدخلَ صِدق ؟
دخلنا على التجارة، دخلنا على الجامعة، سافرنا، دخلنا على الزواج، دخَلَ الشيء أصبحَ في داخلهِ .
قالَ العلماء معنى :
﴿أدخلني مُدخلَ صِدق﴾
أن يكونَ هذا الدخولُ إلى هذا الشيء لله, أبتغي به وجه الله, وبالله, أستعينُ بالله, وبأمر الله, أُنفذُ أمره فيه, وأبتغي مرضاة الله, للهِ, وباللهِ, وبأمرِ الله, وابتغاء مرضاة الله.
يجب أن يكونَ زواجكَ هكذا؛ أن تختارَ المرأة الصالحة، وأن تُعاملها كما أمرَ الله، وأن تبتغي من هذا الزواج مرضاة الله عزّ وجل, أسست معملاً، أسست دكاناً، أسست تجارة، تعينت بوظيفة، سافرت بعثة, يعني أيُّ عملٍ تعملهُ , يجبُ أن يكونَ لله, وبالله, وبأمر الله, وابتغاءَ مرضاة الله, هذا معنى :
﴿أدخلني مُدخلَ صِدق﴾
ما معنى وأخرجني مُخرجَ صِدقٍ ؟
أما المُشكلة الخطيرة : أن ربُنا قال :
﴿وأخرجني مُخرجَ صِدقٍ﴾
تجد هذا الإنسان أقدمَ على هذا العمل, يبتغي وجه الله, وباللهِ, وبأمرِ اللهِ, وابتغاء مرضاة الله، حينما أصبحَ في داخله, وعلا شأنهُ, أو كَثُرَ ماله, أو اتسعت تجارتهُ, فخرجَ كاذباً، دخلَ صادقاً فخرجَ كاذباً, هُنا المُشكلة, فالبطولة: لا في الدخول, في الخروج, البطولة كلُ البطولة: في أن تخرج لا في أن تدخل, الدخول سهل، مثل الحرب دخولها سهل جداً, أبسطُ شيء أن تدخلَ الحرب, لكنَّ أصعبَ شيء أن تخرُجَ منها، قد تخرجَ منها مُدمّراً .
القصة تعرفونها, وأقولها لكم دائماً: سيدنا معاوية رضي الله عنه, كانَ يتحادثُ مع عمرو بن العاص, وكان من دُهاة العرب, قال: يا عمرو, ما بلغ من دهائك؟ قالَ: واللهِ ما دخلتُ مُدخلاً إلا أحسنتُ الخروجَ منه, قال: يا عمرو, لستَ بداهية, أمّا أنا واللهِ ما دخلتُ مُدخلاً أحتاجُ أن أخرُجَ منهُ .
أقول لكم: الدخول سهل أما الخروج ليسَ بسهل، تجد إنساناً, كان فاسقاً تاب, والتحق بجماعة دينية, أول شهر شهرين يغلي غلياناً، يتّقدُ اتقاداً، يمشي فوقَ الأرض من شِدة الفرح، بعد فترة تجد انطفأ هذا اللهب, وخبا هذا البريق، واتبعَ هواه وانتكث, نحنُ نريد الثبات، نريد الاستمرار .
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( سَدِّدُوا, وَقَارِبُوا, وَاعْلَمُوا, أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ, وَأَنَّ أَحَبَّ الأعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ))
احرص على أن تثبت في كلِّ شيء, في الدفع: اجمع واطرح وقسّم واضرب, قل: أنا أتخلى من دخلي عن مائة ليرة في الشهر، هذه المائة ليرة كل شهر على مدى سنتين, ثلاثة, أربعة, خمسة, أفضل مليون مرة من خمسة آلاف مرة واحدة فقط, وبعدها تندم على عدم دفعك, لَزِمتَ مجلسَ عِلم اثبت، تأتي أنتَ ابتغاء مرضاة الله، أنتَ تأتي لتزورَ بيتَ الله, لا بدَ من أن يُكرمكَ الله بعلمٍ, بحكمةٍ, بتوفيقٍ في عملك, بطلاقةٍ في لسانك, باتزانٍ في تصرفاتك, ببركةٍ في مالك, في أهلك, في أولادك, أنتَ في ذِمة الله, الإنسان لا يؤثر الدنيا على الآخرة .
من آثرَ دُنياه على أخرته خَسِرَهُما معاً, ومن آثرَ أخرته على دُنياه رَبِحَهُما معاً .
فهذه الآية خطيرة جداً:
﴿ربي أدخلني مُدخلَ صِدقٍ وأخرجني مُخرجَ صِدقٍ واجعل لي من لَدُنكَ سُلطاناً نصيراً﴾
الآية الرابعة : واجعل لي لسان صدق ........
يوجد عندنا شيء آخر سيدنا إبراهيم قال :
﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾
يوجد عندنا مُدخل صدق, وعندنّا مُخرج صدق، دخلنا على تجارة استقامة, شركاء حلفوا على كتاب الله؛ لا رِبا، لا فائدة، لا بِضاعة مُحرّمة، لا كذب، لا غش, شيء جميل, اتسعت هذه التجارة, ونمت, وصار لها فروع, سافروا ودخلوا على فنادق فخمة، دخلوا على متنزهات, على ملاهٍ، دخلوا بصدق لكن ما خرجوا بصدق، تعاملوا مع الفوائد واختلف وضعهم كليّاً .
فنحن في مُدخل صدق وفي مُخرج صدق؛ في التجارة, وفي السفر, والزواج, وفي العلم، طالب العلم متواضع معك؛ ليسانس، دكتوراه، لا مانع، لكن بعد ما أصبحت بهذا اللقب, أصبحتَ إنساناً آخر, أصبحتَ تزدري أُمتكَ الإسلامية، أصبحتَ ترى أنَّ الدين لا يصلحُ لهذا العصر, هذا دخل .
أخي أنا أريد أن أُسافر, وأن أدرس, حتى أُصبح دعماً للإسلام, باركَ الله فيكَ, مُدخل صدق, لكن عُدتَ إنساناً آخر، عُدتَ إنساناً ترى أن الدين لا جدوى منه, وأنَّ هذه الأمة متخلّفة جداً، هؤلاء هم الأشخاص الراقون، يُمضي سنوات, وهو يُثني عليهم, ونسي الإيدز, ونسي تبادل الزوجات, ونسي زِنا المحارم, ونسي هذا السقوط المُريع الأخلاقي والاجتماعي, لكن انبهر بجسر, ببناء شامخ, بحديقة, بمواصلات منتظمة, باتصالات, بسيارات فخمة, فعاد إنساناً آخر, هذا دخل مُدخل صدق, ذهب لأخذ الدكتوراه, حتى يكون دعماً للمسلمين, فعاد ضِدَ المسلمين، هذا دخلَ مُدخلَ صِدقٍ, ولم يخرج مُخرجَ صِدقٍ .
يا أخوان, البطولة لا في الدخول, في الخروج, البطولة في الثبات، هذه الفورات لا تفرح بها .
يعني: مرة طالب عِلم التقى بعالم, الطالب مندفع, أحوال وبكاء, قال له: يا بني, الله يُثبتّك، فقد رأى مثيلاً له من قبل, فورات كثيرة ثم همود وهدوء, قال له: الله يُثبّتكَ يا بني, وفعلاً البطولة في الثبات, في أن تبدأ بسرعةٍ مستمرة, أو بتسارع، ثمَّ تباطؤ, هذا شيء ليسَ في مصلحة المؤمن .
عندنا مُدخل صدق واضح, لله, وبالله, وبأمر الله, وابتغاء مرضاة الله، تجارته, وزواجه, وشهاداته, ومعمله, ونظرته, وحركاته, وسكناته .
ولِسان صدق: يا ترى هذا اللسان؛ يتكلّم عن الحقيقة أم عن الكذب؟ عن الحق أم عن الباطل؟ عن الآخرةِ أم عن الدنيا؟ عن القيم أم عن الشهوات؟ عما يُرضي الله أم عما يُرضي الشيطان؟ .
أيام تجد الإنسان مُسخّراً لخدمة الشيطان، إذا تحدث عن الدنيا زيّنها للناس, زهّدهم في الآخرة, حببهم في الدنيا, روّجَ لهم المعاصي, يسّرَ عليهم الذنوب, شجعهم على ارتكاب الموبقات, دفعهم إلى الانغماس في الشهوات, هذا لسان كذب، يا ترى: هل لكَ لسان صدقٍ أم لسان كذب؟ .
أُرسل ابني إلى بريطانيا ليدرس اللغة؟ نعم أرسله, ضروري جداً, أنت تعرف ماذا هناك؟ سيقيم مع أسرة, وأغلب الظن سيصبح زنا, وسيصبح انحراف, وسيعود إنساناً آخر, أتقن اللغة الإنكليزية, لكن فقدَ دينه كليّاً, أرسله مباشرةً، مثلاً: ابنتي جاءها فُلان لكن لا يُصلي , غير مهم, لسان كذب؛ ينصحكَ بالانحراف, وبالسقوط, وبالانغماس بالدنيا، ربنا عزّ وجل على لسان سيدنا إبراهيم قال:
﴿واجعل لي لسانَ صِدقٍ في الآخرين﴾
.
الآية الخامسة : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ........
الآن :
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾
يوجد عندنا : مُدخل صدق ، مُخرج صدق ، لسان صدق ، وقدم صدق :
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
أصبح عندنا خمسة أشياء :
مُدخل صدق ، مُخرج صدق ، لسان صدق ، قدم صدق ، مقعد صدق , مقعد الصدق هو الجنة .
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
أحياناً من باب التقريب: يكون المهندس متفوقاً جداً, قدّم لأمته خدمة كبيرة جداً, اكتشف مثلاً ثروة معدنية، رئيس الجمهورية أحب أن يُكرمهُ, وضعه بجانبه، كلُّ الوزراء شاهدوه أمامهم؛ معززاً ومكرّماً ومبجّلاً, يلتف نحوه, ويبتسم بوجهه, ويحييه باحترام بالغ, فهذا مقعد صدق عِندَ هذا الإنسان الحاكم -ولله المثلُ الأعلى- أنت مؤمن, لكَ في الجنةِ مقعدُ صدق، لكَ مكانتكَ عندَ الله، لكَ منزلتك، لكَ شأنك، الله عزّ وجل وفي، الله عزّ وجل كريم، شكور، هو الشكور .
فأنت في الدنيا خائف, منطلق إلى بيت الله، منطلق إلى تعلّم العلم، تغضُ بصركَ عن محارم الله، تٌعاكس أهواءك وميولك، تُنفق من مالك, من وقتك, وبالآخرة:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
هذا هو التنافس الشريف، التنافس في طلب الجنة، التنافس في رِضوان الله عزّ وجل ، التنافس في طاعة الله، هذا هو التنافس الذي يُحبه الله عز وجل, أما قدمُ الصِدق: فَفُسرَ بالجنة, وفُسّرَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم, وفُسّرَ بالأعمال الصالحة .
علاقة الحق مع الصدق .
الحقيقة : كلمة الحق تلتقي مع الصدق ، ما الحق ؟ نقول :
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾
الحق: الشيء الثابت الهادف, خُلِقَ ليبقى, وعرفنا هذا المعنى من أضداد الحق, قال عزّ وجل:
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾
خلقناهما بالحق وما خلقناهما باطلاً؛ الباطل: الشيء الزائل, الحق: الشيء الثابت, خلقنا السموات والأرض بالحق:
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾
معناها: الحق خِلاف الباطل، والحق خِلاف اللعب، اللعب هو: أن تعملَ عملاً لا هدفَ منه، صار معنى الحق الثابت غير الزائل, والهادف غير العابث، الحقُ يلتقي مع الصدق, فالحقُ صدقٌ غير كذب, ودائمٌ غيرُ زائلُ, ونافعٌ غيرُ ضار, نافع ودائم وواقع .
الحقيقة : الإنسان إذا كان صادقاً , أول ثمار الصدق :
طمأنينة في القلب , قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الترمذي :
عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قَالَ:
((قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ, فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ, وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ))
الكذّاب أو المنافق أو الكافر, دائماً في قلق، دائماً في ريب، دائماً في شك .
بعضُ الكلمات في الصدق، قال بعضُ العلماء: الصدقُ الوفاءُ للهِ بالعمل، أخطر شيء في حياة المؤمن: أن يكون حجم كلامه أكبر من حجم عمله، إذا كان حجم عملك أكبر أحسن، تعمل بصمت، أكبر دولة إسلامية الآن تعد 150مليون, أسلمت بلا كلام, بالعمل, إندونيسيا، إذا كان حجم عملك أكبر من حجم كلامك أفضل، أما الحد الأدنى أن يكونَ حجمُ عملك كحجم كلامك.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ, وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي))
هذا الحديث ممكن أن تقرأه وتحفظه، وتحفظ ضبطه, ومن رواه، في أي كتاب، تجلس على مجلس تتصدر المجلس, تقول: قال عليه الصلاة والسلام, والناس منصرفون إليك, وتدخل للبيت على شِجار, وعلى كلمات قاسية, كل كلامك ليسَ له قيمة، القيمة فقط فيما تفعله في البيت, لا فيما تقوله عندَ الناس .
تعريف الصدق: الوفاء لله بالعمل, الكلامُ كلهُ لا قيمةَ له، الوفاءُ للهِ بالعمل، كانَ في مَهنةِ أهله, هل تفعلُ أنتَ هذا؟ .
كان إذا دخلَ إلى بيته بسّاماً ضحّاكاً.
قالَ:
((أكرموا النساء, فو الله ما أكرمهنَ إلا كريم, ولا أهانهنَ إلا لئيم, يغلبنَّ كلَّ كريم, ويغلبهنَّ لئيم, وأنا أُحبُ أن أكونَ كريماً مغلوباً, من أن أكونَ لئيماً غالباً))
هل أنتَ كذلك؟ لذلك أتمنى على أخ أن يُدقق فيقول: ما حجم محفوظاتي؟ ما حجم أعمالي؟ إذا في فرق كبير, مشكلة كبيرة جداً، يجب أن يكونَ حجمُ عملك مبدئياً بحجم أقوالك , أنفِقوا: هل تُنفق أنت؟ غضوا أبصاركم: هل تَغُض بصرك؟ كونوا حُلماء: هل أنتَ حليم؟ تسامحوا: تسامح أنت؟ هذه البطولة .
أحد تعريفات الصدق: أن يأتي فِعلكَ مُطابقاً لقولك، أول كلمة تحدثتها: أن يأتي فعلكَ مُطابقاً لقولك .
وقيلَ: الصِدق: موافقة السِرِّ للنُطقِ, أن يأتي ما في القلب كما في اللسان، واللهِ يا أخي مشتاقون لك, يا أهلاً وسهلاً, أطلت الغياب, عندما يذهب ترتاح, الآن رحبت به, وعبّرت عن محبتك, وشوقكَ له, وعن اهتمامك, هذا كذب هذا, الصدق موافقة السِرِّ للنُطقِ .
تعريف ثالث: الصِدقُ استواء السِرِّ والعلانية .
في تعاريف أصعب, قال: الصدقُ: القولُ بالحقِّ في مواطن الهالكة, موطن عصيب يمكن أن تُضحي بحريتك أو بحياتك, تقول كلمة الحق ولا تخاف, وعندئذٍ يتولى الله عزّ وجل حِفظكَ وتأييدكَ ونصرك .
يروى عن الحجاج, بلغه عن الحسن البصري كلاماً لا يحتمل, فجاء بالنِطع, فالنطع هو قماش يوضع عليه, من تُقطع رقبته حتى الدم, لا يؤثر بالأثاث, وجاء بالسياف, وقال: أحضروه، أحضِروه ليقتله, فلما دخل تمتم الحسن البصري، لمّا دخل على الحجاج, رحّبَ به, وسلَمَ عليه, وأجلسهُ إلى جانبه، هذا السيّاف صُعق, لماذا دعوته يا سيدي؟ لتضرب عُنُقه, ثم طلب منه الدعاء, وودعه إلى الباب .
أنا لا أذكر القصة بتفصيلاتها, إلا أنه سأله, ماذا قلت؟ استعان بالله عزّ وجل, فقالوا: الصِدق: القول بالحق في مواطن الهالكة .
أيام أنت إذا تكلّمت بالحق, تُنقذ إنساناً من هلاك, في أشخاص يتهيبون, هذا من الصدق، وقيلَ: كلمة الحق عِندَ من تخافهُ وترجوه, إمّا أنه مُعلّق آمالاً كبيرة عليه, فتكلّمَ كلمة غير صحيحة, وبقيت صامت, دعها له, أين الصدق؟ أين النصيحة؟ أينَ الأمر بالمعروف؟ أينَ النهيُ عن المنكر؟ فحينما ترجو إنساناً أو تخافُ منه, صار الكلام دقيقاً جداً معه, لا بدَّ من أن تقول كلاماً يرضى عنه أو ترضيه به, ليسَ هذا هو الصِدق، الصدقُ ألا تخاف في الله لومةَ لائم، ألا تأخذكَ في الله لومة لائم .
الجُنيد قال: الصادقُ يتقلّبُ في اليومِ أربعينَ مرة, والمٌرائي يثبُتُ على حالة واحدة أربعينَ سنة .
أنا توقعت أن يكون هناك خطأ مطبعي بالعكس, الكاذب يتقلّب في اليوم أربعين مرة, والصادق يثبُتُ على حالة واحدة أربعينَ سنة .
المُرائي الشيطان أراحهُ، الشيطان أراح المُرائي, لأنه يُحققُ أهدافَ الشيطان, أما الصادق؛ من صلاة, إلى صدقة, إلى أمر بالمعروف, إلى انقباض, ما السبب؟ إلى زيارة مريض، من حال إلى حال، من منزلة إلى منزلة، من خوف إلى رجاء، من ثقة برضاء الله إلى قلق، من طُمأنينة إلى حُزن، من سعادة إلى شحوب, شِدةُ صِدقه, وشِدةُ حرصه على رِضوان الله عزّ وجل, يجعله في أحوال عديدة جداً, متقلّب تقلّب الصادق .
إذا طالب لا يدرس إطلاقاً, كُلما سألوه: الحمد لله جيد, لا يوجد عِنده مُشكلة, لأنه لا يدرس، أما الذي يدرس, هذه النقطة لم يفهمها, يريد أستاذاً، يريد زميلاً، يريد مُلخّصاً، يُريد قرطاساً, يثور وينفعل, هذا الذي نوى على النجاح، أما الذي لا يقرأ لا يوجد عنده مشكلة, العلم كله واضح, معناها لا يقرأ شيئاً أبداً, لو أنه يقرأ, لم يكن كلُ شيء واضحاً، ما دام يقرأ ويحاول أن يفهم, كان كله واضحاً .
فالكذّاب المرائي يثبُتُ على حاله أربعينَ عاماً, بينما الصادق يتقلّبُ في اليومِ أربعينَ حالاً, يسأل هذه القطعة, انكسرت معي, فمن يدفع ثمنها؛ أنا أم على الزبون؟ يسألكَ في عمله، بصلاته، بذكره، بورده، بقيام ليله، بغض بصره، بعلاقته مع زوجته, يُتعُبكَ الصادق، خائف على مكانته عِندَ الله، خائف على استقامته، خائف على دينه، يتقلّب, هذه الصلاة أقامها، الذِكر أجاد فيها، قرأ القرآن، حفظ أم لم يحفظ، أما الآخر على حالة واحدة.
أحدهم دهس اثنين، مات الأول والثاني لم يمت، الذي مات يصيح, فقال له: مات ولم يتكلّم, لأنه مات, الذي لا مشكل عنده معناها ميت، أمواتٌ غيرُ أحياء، أما الحي له سؤال، له جواب، له قضية، له مشكلة، هكذا قالَ الجُنيد: الصادقُ يتقلّبُ في اليومِ أربعينَ مرة, والمٌرائي يثبُتُ على حالة واحدة أربعينَ سنة .
الصِدقُ منزلةٌ هيَ أمُ المنازل، لا أُبالغ إذا قلت: إنَّ المنازلَ كلها أساسها أن تكونَ صادقاً مع الله عزّ وجل، يعني التفت إلى الله, ودع الخلقَ جانباً، عكس الصدق الكذب أو الرياء، والرياء من الشِرك, والحديث الشهير:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ, فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى, فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ, أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي, فَيُزَيِّنُ صَلاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ))
آخر ما يُقالُ في هذا الدرس : أنَّ الصِدقَ يهدي ..
أنت حينما تكون صادقاً مع الله, يتولى الله نقلكَ, من حالٍ إلى حال، ومن مقامٍ إلى مقام، ومن درجة إلى درجة، ومن طريقة إلى طريقة، ومن فهمٍ إلى فهم، هذا التطوير والرُقيّ أساسه الصِدق .
اللهم اجعلنا من الصادقين؛ الذينَ إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا .