- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
منزلة السر :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد .
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث والسبعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة التي نحن فيها منزلة السر، وقد مضى فيها درسان، ونصل إلى الموضوع الثالث في هذه المنزلة.
في الدرس الأول بيَّنت:
أن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية، يعلم سر العبد، فإذا كان سرُّه ينطوي على حبٍّ لله عز وجل, وعلى إخلاص له, وعلى شوق إليه، وضعه في منزلة تليق بسره، فهو من أصحاب السر, وقد يكون من عامة الناس، لا يُشار إليه بالبنان، إذا حضر لم يُعرف وإذا غاب لم يُفتقد، ولعل هذه المنزلة تغطِّي كل هؤلاء الذين أخلصوا لله عز وجل، لكن شاءت حكمة الله أن يكونوا في مرتبة دنيا في السُّلم الاجتماعي.
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أيها الإخوة؛ هنا مكان الإشارة إلى موضوع دقيق، يقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
فالطائع لله عز وجل هو الكريم عند الله وقد يكون فقيراً، وقد جُعل بعض الأنبياء فقراء، فنبيُّنا -عليه الصلاة والسلام- أجير راعٍ, كان يرعى شياها على قراريط، وهل في الحياة الاجتماعية مرتبة أدنى من هذه المرتبة؛ وهو سيد الخلق, وحبيب الحق؟
أحد الأنبياء الكرام سجن، فإذا دخل مؤمن السجن مظلوماً, فله في هذا النبي أسوة حسنة.
أحد الأنبياء الكرام كان عقيماً -سيدنا زكريا-, فإذا لم ينجب الإنسان, فله في هذا النبي أسوة حسنة.
أحد الأنبياء كانت زوجته سيئة -سيدنا نوح وسيدنا لوط-, فمن كانت له زوجة سيئة وصبر عليها, فله بهذين النبيين أسوة حسنة.
أحد الأنبياء كان أبوه كافراً، من كان شاباً وله أبٌ منحرف انحرافاً شديداً, ويقسو عليه ويضطهده, لأنه مسلم أو لأنه متديِّن, فله في هذا النبي الكريم أسوة حسنة.
نبي كريم كان يعمل بيده.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أصحاب الحرف المتعبة الذين يحفرون الطرقات، ويصنعون الحديد, ويشيدون الأبنية، يقول:
(( عَنْ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
فإن كنت فقيراً فعلى العين والرأس, وإن كنت ذميماً فعلى العين والرأس، وإن كنت وسيماً، وإن كنت غنياً، وإن كنت ضعيفاً، وإن كان لك أولاد أبرار، وإن كان لك أولاد ليسوا أبراراً، ولم تقصِّر أنت في تربيتهم, فهذا من شأن الله عز وجل، لك زوجة صالحة جيدة، لك زوجة سيئة, العبرة أن تكون مطيعاً لله، العبرة أن تكون محباً لله، ولا تعبأ بأيِّ شيء آخر، و قد تكون فقيراً فقراً مدقعاً.
وقد مرَّ على النبي أيامٌ يدخل بيته فيسأل: هل عندكم شيءٌ ؟ قالت : لا .
(( عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا عَائِشَةُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ, قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ, قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ, قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ, وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا, قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: حَيْسٌ, قَالَ: هَاتِيهِ, فَجِئْتُ بِهِ, فَأَكَلَ, ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا, قَالَ طَلْحَةُ: فَحَدَّثْتُ مُجَاهِدًا بِهَذَا الْحَدِيثِ, فَقَالَ: ذَاكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ, يُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ, فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا ))
وقد آتاه الله المال, فسأله أحدهم: لمن هذا الوادي؟ فقال: لك, قال: أتهزأ بي يا رسول الله؟ قال: والله هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
وقد انتصر على قريش التي ناصبته العداء عشرين عاماً: ما تظنون أني فاعل بكم، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء .
امتُحن بالنصر، وامتحن بالقهر في الطائف: قال عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس, يا أرحم الراحمين, إلى من تكلني؛ إلى عدو يتجهمني, أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطاً علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم, الذي أضاءت له السموات والأرض, وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ))
امتحن بالفقر وبالغنى, وبالنصر وبالقهر, وبالصحة وبالمرض, وموت الولد، وزوجة متعبة.
جاءت هدية طعام إلى النبي الكريم من زوجته صفية، فلما رأتها عائشة -رضي الله عنها- أصابتها الغيرةُ, فكسرت الطبق، فما كان من النبي -عليه الصلاة والسلام- الحديث.
(( عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ, فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ, فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ, فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ, فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ, ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ, وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ, ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ, حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا, فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا, وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ ))
كان من الممكن أن يكون له زوجات كالدمى، لكن له زوجات متعبات أحياناً ليكون أسوة لنا، هذا الحديث يطول، ولكن أردت منه شيئاً واحداً: كن بأي وضع شئت، بأي مستوى؛ اجتماعي, اقتصادي, علمي, جمالي، كن بأي شكل، العبرة أن تطيع الله عز وجل، وانتهى الأمر, قال تعالى:
لا أبالغ أيها الإخوة؛ قد يكون الإنسان له شأن كبير، ولا تستطيع أن تصل إليه إلا بصعوبة بالغة، وعنده حاجب، وقد تكون قلامة ظفر هذا الحاجب أكرم على الله من هذا السيد، فالدنيا لها مقاييس، والله عز وجل عنده مراتب، قال تعالى:
﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) ﴾
فالعبرة بمراتب الآخرة، لأنك في الدنيا لا تجد إلا إنساناً يملك ملايين مملينة، هذا بيل قيت يملك تسعين مليار دولار، أو قد تجد إنساناً لا يملك أجرة طريق، يذهب إلى بيته ماشياً في أيام البرد والمطر, وقد تجد إنساناً قوياً ليس فيمن حوله من يحاسبه، وقد تجد إنساناً لو تكلم كلمة واحدة لحوسب عليها، في الدنيا قوي وضعيف، وغني وفقير, وصحيح ومريض، قال تعالى:
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ﴾
العبرة بمراتب الآخرة، لأن مراتب الآخرة أبدية، قال تعالى:
﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) ﴾
في مراتب الدنيا هناك قلق عميق، القلق العميق: أن يذهب الذي بين يديك أو أن تذهب أنت عنه، يكون الإنسان في أوج تألقه المالي والاجتماعي والصحي، يأتيه ملك الموت, فيجعله خبراً في طرفة عين, هو ذهب عن هذه النعمة، وقد تذهب عنه، أكبر قلق يصيب الإنسان في الدنيا أنه في نعمة، فإما أن تذهب عنه، وإما أن يذهب عنها، أما إذا كان في الجنة لا يذهب عنها ولا تذهب عنه، في عيشة راضية، راضية عنهم فلا تغادرهم، قال تعالى:
منزلة السر ؛ أويس القرني .
أيها الإخوة؛ هذه المنزلة ، منزلة السر, يتولى اللهُ عز وجل حفظ هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين هم في الدرجات الدنيا الاجتماعية، فالمجتمع فيه إنسان له حجم وله مكانة وله هيمنة وله أتباع، وهناك إنسان لا أحد يعرفه, وقد ضرب النبي -عليه الصلاة والسلام- لنا المثل بأويس القرني.
(( عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ, سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ, فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ, مِنْ مُرَادٍ, ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ. فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ, قَالَ: أَلا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ, قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ, حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ, فَوَافَقَ عُمَرَ, فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ, كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ.
فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي, قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ, فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ, فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ, قَالَ: أُسَيْرٌ وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً, فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ, قَالَ: مِنْ أَيْنَ لأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ؟ ))
مرتبته الاجتماعية أجير قوم وراعي إبل، سأل سيدنا عمر أهل اليمن: هل بقي منكم أحد؟ قال: لا كلنا جئنا، أبداً، لا, هناك رجل أجير قوم وراعي إبل لا شأن له، هو من ضعف المكانة: أنه لك يُذكر، وكان من كبار التابعين ولا أحد يدري.
أيها الإخوة؛ قضية أن يكون لك مقام عند الله, هذا تحصِّله باجتهادك:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب
إن كنت فقيراً ومستقيماً على أمر الله, فأنت رفيع المقام عند الله, وإن كنت ضعيفاً و كنت على أمر الله مستقيماً, لك عند الله منزلة رفيعة, العبرة بالطاعة، والآية الكريمة:
في الدرس الثاني قلت:
هناك عشرة حجُب تحجبنا عن الله عز وجل, ذكرت منها: حجاب الجهل، وحجاب الشرك، وحجاب البدع القولية, وحجاب البدع العملية، وحجاب أهل الكبائر الباطنة، وحجاب أهل الكبائر الظاهرة، وحجاب أهل الصغائر، وحجاب أهل المباحات, وحجاب أهل الغفلة، وحجاب المجتهدين السالكين في السير عن المقصود.
وأما اليوم وهو الدرس الأخير:
فالحديث عن عناصر هذه الحجب من أين تنشأ؟
أحد العلماء يقول: إنها تنشأ من عنصر النفس وعنصر الشيطان وعنصر الدنيا وعنصر الهوى، النفس والشيطان والدنيا والهوى ورد, هكذا سمعت ولم أقرأ.
سمعت هذا من عالم توفي رحمه الله قال: لا بد لك من كافر يقاتلك، ومن منافق يحسدك، ومن الشيطان يغويك, ومن نفس ترديك.
قال: هذه العناصر الأربعة؛ النفس ، العوام يقولون: ستة نفوس, الإنسان أحياناً ينتصر لنفسه، ولو جانب الحق، ولو أدلى بشهادة كاذبة, ولو فعل شيئاً لا يرضي الله عز وجل, قال البوصيري:
وخالف النفس والشيطان واعصِهما وإن هما محَّضاك النصحَ فاتَّهمِ
والشيطان مهمَّته إغواء الإنسان، وإبعاده عن الرحمن، والتفريق بينه وبين أهله، و تخويفه من أداء الله عز وجل، وتخويفه من الفقر، قال تعالى:
﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)﴾
ويخوفهم من أعداء الله، ويفرق بينهم وبين أزواجهم، من الناس من يحب أي امرأة ويبادلها المودة والهوى وزوجته لا يحبها، شيطان يوسوس له, ويزين له الدنيا بشهواتها, وبلذائذها, وبمالها, وبنسائها, وبمكانتها, وبما فيها.
قال: النفس والشيطان والدنيا والهوى تفسد القول, وتفسد العمل, وتفسد القصد, و تفسد الطريق، هناك قول، والقول عمل، وهناك عمل حقيقي مادي، وهناك قصد, وهناك طريق، فإذا دخلت النفس أو الشيطان أو الدنيا أو الهوى, صار القول فاسداً.
هذا ما وصف الله به النبي وهذا ما يصنعه أتباعه :
اللهم صلِّ عليه بماذا وُصف قوله؟ بأنه:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) ﴾
كثير من الناس لا يتكلمون إلا بالهوى، حتى في بيعهم وشرائهم، هذا كلام غير موضوعي, صادر عن الهوى، إذا كان وكيل شركة, كل البضاعة التي تأتي من هذه الشركة, يمدحها مديحاً غير معقول، فإن سُحبت منه هذه الوكالة تكلم العكس، هذا ميثاق، مديحك لا قيمة له، وذمك لا قيمة له، أحياناً تلاحظ معصية من صديق لا تتكلم, فإذا نشأ خلاف بينك وبينه تتكلم عن معاصيه، لماذا لم تتكلم بها حينما لم يكن بينك وبينه شيء؟ لماذا لم تنصحه؟ هذا موقف شيطاني، لماذا حينما لاحظته لا يصلي لم تعاتبه, فلما اختلفت معه أصبحت الصلاة عنصراً في الخصومة؟ هذا ينطق عن الهوى.
أحياناً: تجد إنساناً ينطق ولكنه ينطق بلسان الشيطان، يصغِّر الإنسان ويفرِّق بين الإنسان وأهله، يطعن في عمله، يضعِّف له همَّته, ويثبَّط عزيمته، شيطان ينطق.
حدَّثني أخٌ، قال لي: كنت في مؤتمر، رجل محسوب على المسلمين, سمع الكفر البواح, فلم ينبس ببنت شفة، فلما تكلم مسلم, ودافع عن الدين, واعترض، بدأ يعترض، ماذا تفسِّر هذا؟! شيطان ينطق باسمه، أنا أعتقد أن نسبة كلام الناس في الهوى كثير، والكلام الصحيح قليل، والله عز وجل قال:
قصة :
أروي قصة يمكن أني ذكرتها مرة أو مرتين: أريد أن أشتري ستائر، فأقنعني البائع قائلاً: يا أستاذ, إذا أردت ستائر جميلة جداً, يجب أن تقيس عرض الحائط, وتأخذ قماشاً بما يعادل ضعف العرض زائد متر -كلام دقيق-, اخترت القماش الذي أعجبني، قاسه فوجده ضعف العرض ناقص متر، قال لي: يا أستاذ, هذا المطرَّز على الفرد يكون أحلى -عكس الآية-, الآن أقنعني بقاعدة قبل دقيقة وجاء بأدلة، فلما تضرَّرت مصلحته بهذه القاعدة, لا بد أن يبيع القماش، وأنا أعجبني, قال لي: هذا المطرز يا أستاذ على الفرد يأتي أحلى، هو ينطق عن الهوى، لا ينطق عن الحقيقة.
لو لاحظت نفسك تجد نصف كلام الناس عن هوى, يأتي الخاطب يصبح ولياً من أولياء الله، وإذا لم تتم الخطبة يصبح شيطاناً، قبل شهر قلتم: لا يوجد مثله، ما الذي حدث؟ لا المديح له قيمة, ولا الذم له قيمة، يكون شريكاً, يقول لك: ملك من السماء بعثه الله لي، اختلف الشريكان أصبح شيطاناً.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أُرَاهُ رَفَعَهُ, قَالَ: أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَاعَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا ، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَاعَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَـكَ يَوْمًا مَا ))
دائماً اترك شعرة معاوية.
ما يفسد القول :
النفس والشيطان والدنيا والهوى تفسد القول، صار القول غير موضوعي, والمديح غير صحيح، الذم غير صحيح هوى، الأم مع ابنتها، وهي ضد زوجة ابنها, لأنها غريبة، أتى ابنها بغسَّالة أوتوماتيك لزوجته أقامت عليه النكير، فلما جاء صهرها في اليوم نفسه بغسالة أوتوماتيك لزوجته التي هي ابنتها، كانت راضية عنه، في دقيقة واحدة توبِّخين إنساناً وترضين على إنسان بعمل واحد، هي تنطق عن الهوى.
معقول: أن يكون للإنسان صانع في المحل, وعنده ابن في سن واحدة, يحمِّل الصانع أول ثوب والثاني والثالث والرابع، لا يستطيع أن يحمل، قال له: أنت شاب، فإذا حمل ابنه ثوباً واحداً, قال له: احذر ظهرك، معقول!! هو ينطق عن الهوى، والإنسان الذي ينطق عن الهوى يسقط عن عين الله، ولئن تسقط من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعُك, أهون من أن تسقط من عين الله.
تجد نمدح ونذم وننتقد، أحياناً: ننتقد فقط حسداً, إنسان تفوَّق لا بد أن ننزله، لماذا تفوَّق؟ هو كان يعمل ليلاً ونهاراً وأنت كنت نائماً، هناك شخص تجده نائماً, ليس عنده أي رغبة أن يخدم الناس, هناك إنسان شمَّر وقال: يا رب، الله وفَّقه وتألق، يقال: هذا ادعاء للمعرفة زعبرة، هذا شيطان يتكلم، لِم لم تعمل مثله؟ لِم لمْ تجتهد كما اجتهد؟ لِم لم تشمِّر كما شمَّر؟ لِم لم تفرَّ إلى الله كما فرَّ إلى الله؟ لِم لم تجاهد نفسك وهواك كما جاهد هو؟ لكن أنا أنتقده فقط، وأطعن فيه, وأحطِّمه، حتى انتصر لنفسي، والله الذي لا إله إلا هو, لو برئت نفوسنا من الحسد, لكنا في حال غير هذا الحال، أي ستة أعشار تقييم الناس بعضها بعضاً حسد، حتى في حقل الدعوة إلى الله، حتى في حقل الجماعات الإسلامية حسد، إذا تألَّق إنسان، من أين صعد هذا؟ لا يتحمَّل هؤلاء أصحاب الوجاهة, وأصحاب الاحتكار لا يتحملون.
علة الاختلاف بين العلماء :
قال: هناك عالم تألق جداً في العصر العباسي, أحد كبار العلماء المحسوبين على أنه من أساطين العلم, ووحيد عصره, وفريد زمانه, وقُدِّس سرُّه, أراد أن يحضر درس هذا الشاب ليصغِّره حسداً فقط، والآية تؤكِّد ذلك، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ
علة الاختلاف هو البغي فقط، قال له أمام الناس: يا هذا، هذا الكلام الذي قلته ما سمعناه، من أين جئت به؟ فقال له الشاب: يا سيدي, هل حصَّلت كل العلم؟ قال: لا، قال: هذا من الذي لم تحصِّله.
أيضاً: عالم آخر شاب, تألق نجمه, وذاع صيتُه, وانتشر ذكره في الآفاق, قال: و الله إني أشفق عليك مما يقوله الناس عنك، قال له: وهل سمعت مني عنهم شيئاً؟ قال: لا، قال : عليهم فأشفق.
ما يفسد العمل :
أنت راقب نفسك: تسعة أعشار كلام الناس عن هوى، ليس هناك موضوعية, يمدح بلا سبب, يمدح لمصلحة، ويذم لمصلحة، يظهر العيوب عند الضرورة لمصلحة, ويخفي العيوب لمصلحة، فالنفس والشيطان والدنيا والهوى، هذه تفسد القول كما أنها تفسد العمل، يغش الناس هذا داخل في العمل، يقول لك: أنا عندي أولاد، واللهُ لا يؤاخذني إن شاء الله، فمال الحرام عند الناس ليس مشكلة، فيخترع أدلة ويخترع تعليلات مضحكة شيطانية.
قال له: والله يا أستاذ أنا لي مطعم يقدم الخمر، إن شاء الله في رقبة شريكي, وأنا لا دخل لي، كيف لا دخل لك؟ يصلي في أول صف في المسجد, والمطعم يبيع الخمر، قال: إن شاء الله في رقبته, هو هكذا, ماذا أفعل له؟ أنا عليَّ ان آخذ ربحي فقط، هذا الذي أخذته إثم, لماذا مددت يدك لأخذ الربح؟ فغير الكلام عمل، والعمل فسد، صار هناك كذب, وصار هناك غش، وصار هناك إساءة, وصار هناك حسد, والقصد: كان قصدُه الله عز وجل، فصار قصده الدنيا.
قال واحد: لزم صلاة الفجر أربعين عاماً, يكبِّر مع الإمام، ففي يوم تغيَّب, تألم ألما غير معقول، قال: ماذا يقول الناس عني اليوم؟
أي أن الأربعين سنة ليست لله, انتبه القصد، صحِّحوا قصدكم، وصحِّحوا نواياكم، ماذا يقول الناس عني اليوم؟ أنت فاتتك هذه الصلاة, ولم تخش من الله شيئاً، لكنك خشيت الناس، والطريق إلى الله عز وجل صار غير سالك، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) ﴾
صار الطريق مغلقاً، هذه الأربعة؛ النفس والشيطان والهوى والدنيا, تفسد القول, والعمل, وتفسد القصد, وتفسد الطريق بحسب غلبتها وقلَّتها، تقطع طريق القول والعمل و القصد أن يصل إلى القلب، وما وصل منه إلى القلب قطعت عليه الطريق إلى أن يصل إلى الرب، تُقطع الطريق إلى القلب، فإن وصلت إلى القلب قطعت الطريق إلى الرب, قال تعالى:
﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) ﴾
وقال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) ﴾
قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
يجب أن تكون الاستقامة خالصة له، ويجب أن توصلك استقامتك إليه, لا إلى سمعة, ولا إلى مكانة, ولا إلى مديح, ولا إلى ثناء.
يا إخوان؛ الآن: كيف تُحارب الدنيا؟
قال: بالزهد فيها، ما دام أنه عندنا أربعة عناصر مخيفة؛ الدنيا والنفس والهوى، كيف نحارب هذه العناصر الهدَّامة؟ هذه القواطع التي تقطعنا عن الله, تقطع علينا صوابَ القول والعمل والقصد والطريق.
قال: الدنيا تُحارب بالزهد فيها.
قال سيدنا عمر لأويس القرني: أآمر لك بصلة؟ قال: معي أربعة دراهم متى تُراني أنفقتها, وعلي إزار وثوب متى تُراني خرقتهما؟.
الزهد، فالإنسان حينما يغتني بالله يزهد في الدنيا، ومن عرف الله زهد فيما سواه، إذًا: يجب أن يزهد فيها، والحد الأدنى أن يخرجها من قلبه، ولا يضرُّه أن تكون في يديه.
إنسان غني في يده أموال طائلة، وإنسان فقير هل تصدِّقون: -طبعاً هذه من المفارقات الحادة- أن هذا الفقير الذي لا يملك ثمن طعام, قد يكون متعلقاً بالدنيا أضعافاً مضاعفة عن هذا الغني الذي بيده كل شيء؟ والمؤمنون يبيعون ويشترون, ولكن تجارتهم لا تلهيهم عن ذكر الله؛ صلواته وعباداته ودروسه, إقباله وحرصه وأعماله الصالحة فوق كل شيء، لذلك أنا أتمنى على كل أخ أن ينظِّم وقته.
الدنيا ينبغي أن تكون في يديك لا في قلبك :
والذي أراه: أن المؤمن القوي كما قال النبي الكريم.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ, وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ, وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ, فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ))
والقوة تحتاج إلى أسباب، من أجل أن تكون حاملاً للدكتوراه لا بد لك من دراسة، أن تكون تاجراً كبيراً لا بد أن تهتمَّ اهتماماً شديداً، فإذا اهتممت أنت وحصَّلت مرتبة عالية ووظَّفتها في الحق، فهذا عمل عظيم, لكن ينبغي أن تكون الدنيا في يديك لا في قلبك، فتُحارب الدنيا بالزهد فيها وإخراجها من القلب، ولا يضر أن تكون في يديه وبيته ولا يقلِّل ذلك بقوة يقينه بالآخرة.
سيدنا عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- كان يقول: ماذا أفعل إذا كنت أنفق مائة في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء؟ ماذا أفعل؟
-هناك إنسان رزقه الله، ويوظِف هذا المال في خدمة هذا الحق-، قال سيدنا عبد الرحمن: واللهِ -من باب التفاؤل والاعتماد على رحمة الله-, لأدخلن الجنة خبباً.
وهو غني كبير، ويحارب الشيطان بترك استجابته لداعي الهوى، قال تعالى:
﴿
الذي يستجيب للهوى, قال تعالى:
﴿
تُحارب الدنيا بالزهد, ونقلها من القلب إلى اليدين, ويُحارب الشيطان بعدم الاستجابة له.
فائدة :
حدَّثنا أخٌ بكلام طيِّب، قال: والدي -المتكلم أحد علماء دمشق-, قال لي مرة: يا بني, إذا وسوس لك الشيطان فعاقبه، قال له: كيف؟ قال: إذا أردت أن تدفع ألف ليرة, وجاءك الشيطان, وقال لك: لا تدفعها، أولادك أولى، عاقِبه وادفع ألفي ليرة, ضاعفْ المبلغ، قال لك: لا تصل، صلِّ ضعف، أيُّ وسوسة وسوس لك بها, افعل عكسها وزيادة, هذه معاقبة الشيطان ، لا تستجب له، يقول لك: حارب فلاناً, اذهب إليه, واستسمحه، وصله، الإنسان عليه أن يعاقب الشيطان، والشيطان يستعين بالدوافع الأساسية، أهانك فلان, اذهب إليه, وتجاوز عن إهانته.
أتى رجل إلى الرسول قال:
يا رسول إنني نؤوم، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم أذهِب عليه النوم، فقال سيدنا عمر: ويحك يا رجل, لقد فضحت نفسك! فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(( دعهُ يا عمر, فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ))
ويُحارب الهوى بتحكيم الأمر المطلق، كل واحد منا له أهواء وشهوات، والله سمح بشهوة في قناة نظيفة، أنا أسمح لنفسي ما سمح الله لي فقط من النساء زوجة، ومن المال ما كان حلالاً، من النزهات ما خلا من معصية، أنا أمارس الذي سمح الله لي به، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿
لذلك ورد:
(( لا يؤمن أحدكم, حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ))
ويحارب النفس بقوة الإخلاص، إذا استيقظ الإنسان في الليل وصلى ولم يتحدث بكلمة للآخرين، هل تستطيع نفسه أن تقول له: لقد نافقت في هذه الصلاة؟ ما تكلم، الإنفاق دون الذكر دليل إخلاص، وغض البصر دليل إخلاص، النوافل دليل إخلاص، صلاة الليل دليل إخلاص, فأنت تحارب نفسك بقوة إخلاص، وتحارب الهوى بتحكيم الشرع, وتحارب الشيطان بعدم الاستجابة له، وتحارب الدنيا بالزهد فيها, ونقلها من القلب إلى اليدين، هذه الموانع والقواطع.
الآن: عندنا منزلق يقال لخاصة المؤمنين .
زهِد فلان في الدنيا, وأخلص لله, وحكَّم الشرع, ولم يحكِّم الهوى, ولم يستجب للشيطان، نال مكانة عند الله، فظنَّ أن هذه المكانة حصَّلها بقوة إرادته فاستكبر بها, حتى في الاستقامة، حتى في الإخلاص، هناك منزلق الكِبر والعُجب.
أنا قرأت عن عالم في الهند, صار أتباعه قريباً من مائة ألف، يعني ذاع صيتُه و اشتهر وتقلَّب في مراتب الدين العليا ثم ادَّعى الألوهية.
إخواننا الكرام؛ حتى النجاح فيه مخاطر، فيه مخاطر انزلاق بالعُجب والغرور و الكِبر، لذلك ابن عطاء الله السكندري يقول: رُبَّ معصية أورثتْ ذلاًّ وانكساراً, خيرٌ من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً, قال: وانظر إلى الشرِّيد السكِّير، هذا بالمقابل الذي كان كثيراً ما يُلقى به إلى النبي مخموراً، فيحدُّه على الشراب، كيف قامت به قوةُ إيمانه ويقينه ومحبَّته لله و رسوله وتواضعه وانكساره, حتى نهى النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- عن لعنِه، وهو عياض بن حمار -رضي الله عنه- وتاب.
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, أَنَّ رَجُلا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ, وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا, وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ, فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ, فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ, فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا تَلْعَنُوهُ, فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))
فهذا السكِّير والخمِّير انتهت حياتُه بتوبة نصوح، وهذا الذي أخذه الغرورُ والعجبُ حتى لو نجوتَ من هذه المعوقات:
لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر –العجب-.
أنا ذكرت مرة مثلاً لطيفاً: أنه جاءك عشرون ضيفاً، ليس عندك شيء، عندك في البيت كيلو لبن، أضفت له خمس أمثاله ماءً, ووضعت ثلجاً وملحاً, وقدَّمته شراباً عيران، تحمل الكيلو خمسة أمثال ماء هذا اللبن، لو وضعت فيه نقطة كاز واحدة لفسد، خمسة أضعافه ماءً يُشرَب, الكبر كنقطة الكاز تفسد العمل، فانتبهوا يا أخوان.
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
طبعاً: هذه الفكرة الأخيرة لخاصة الخاصة، هذا الكلام موجَّه لواحد ناجح نجاحاً كبيراً.
دخل ابن المبارك على طلابه, لقي عشرة آلاف أمامه, قال: يا ربي لا تحجبني عنك بهم، ولا تحجبهم عنك بي, والله قال:
﴿
الإخلاص، أنت مع الله، أديب, محبٌّ, متواضع، تخدم، لكن مقصودك هو الله، أحياناً ينسى الإنسانُ اللهَ فيعبد سوى الله وهو لا يشعر، وقع في شرك.
(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ, وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي ))
هكذا .....
من صفات أصحاب السر :
1- أنهم سبقوا ولم يوقف لهم على رسم :
هؤلاء أصحاب السر, قال: لهم صفات، صفاته الإجابية أنهم سبقوا ولم يوقف لهم على رسم، سبقوا بلا ضجيج، هناك إنسان في دهره صلى قيام ليل، يحكي القصة مائة مرة، هذا الإنسان سبق من دون ضجيج، لأنه مخلص, يصوم فلان يوماً، يقول: أنتم لستم صائمين اليوم, يباهي بصيامه.
وجد أحد لوزةً أثناء الطواف صاح: من صاحب هذه اللوزة؟ من صاحب هذه اللوزة؟ قال له سيدنا عمر: كلها يا صاحب الورع الكاذب.
كلها وخلِّصنا, هناك عمل مع ضجيج، قال: هذا الإنسان صاحب السر, يعمل بلا ضجيج، ومن دون تبجُّح، ومن دون تعليقات, ومن دون لفت نظر.
2- العلامة الثانية: أنهم لم يُنسبوا إلى اسم, لم يشتهروا به.
هناك إنسان يحبُّ الألقاب، عضو مثلاً المجمع الفلاني, دكتوراه في كذا.
قديماً كانوا: الفقير إليه تعالى، ويكون عالماً من كبار علماء الأرض، الفقير إلى الله تعالى، لا يهتمُّون بالأسماء والألقاب والمراتب، احذر أن تقول لدكتور: أستاذ، أخطأت معه، خطأ تكفِّره، دكتور لها رنين خاص, أصحاب السر لا يهتمون بالألقاب ولا بالمراتب.
3-عبادتهم مطلقة وليست مقيدة :
أما ألطف شيء في مقام هؤلاء: أن عبادتهم مطلقة وليست مقيَّدة، هناك شخص ليس له عمل غير الفقه فقط، أم هذا صاحب السر يخدم في جامع, وينظِّف, ويمشي مع إنسان، و يتفقَّد أخوانه، ويفعل كلَّ شيء، ليس له عمل واحد، عالم فقط, أو مؤلِّف، أو مفكِّر، يمكن أن يدخل وساطة بين اثنين، ويمكن أن يساعد إنساناً، ويمكن أن ينظِّف مسجداً، تجد نفسه هيِّنةً، هذه العبادة المطلقة أمر كبيرٌ، أن تعبد اللهَ فيما أقامك، أقامك غنيًّا أول عبادة إنفاق المال، أقامك عالماً أول عبادة تعليم العلم، أقامك قويًّا أول عبادة تساعد الضعيف، أقامها امرأة أول عبادة رعاية زوجها وأولادها، هذه فيما أقامك، هناك ظرف وضعك فيه، الأب مريض أول عبادة تمريض الأب، الابن عنده امتحان أول عبادة معاونة الابن، الزوجة مريضة أول عبادة مراعاة الزوجة، عندك ضيف أول عبادة إكرام الضيف، في الوقت الذي أذَّن له وقت فجر و قت صلاة، وليس لغسيل سيارات, كل وقت له ترتيبه.
فهذا صاحب السر كل الأعمال يفعلها، تريدون دليلاً من السنة؟ هل هناك مقام أعلى من مقام رسول الله؟ مقامه مقام الدعوة، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46) ﴾
في بدر, هناك ثلاثمائة راحلة وألف صحابي، قال النبي: كل ثلاثة على راحلة، و أنا وعليٌّ وأبو لبابة على راحلة –النتيجة-: ركب النبي الكريم وانتهت نوبته، جاء دوره في المشي، فصاحباه توسَّلا إليه، قالوا: يا رسول الله! ابقَ راكبا -أي أكرمنا-, ماذا قال؟: ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما على الأجر.
أنا أريد أجر المشي, هو داع إلى الله كبير، وإن كنت أنت داعية كبيراً ودُعيتَ لفض نزاع، لا تقل: أخي أنا ليس لدي وقت، دعيت إلى وساطة، اذهب معي إلى فلان, أذهب معه.
مرة قرأت: أن سيدنا ابن عباس, كان معتكفاً، فجاء رجل ورآه كئيباً، قال له: ما لي أراك كئيباً؟ قال له: ديون لزمتني لا أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان, قال سيدنا ابن عباس: أتحبُّ أن أكلِّمه لك؟ قال له: إذا شئت، فقام ليكلِّمه, قالوا: يا بن عباس, أنسيتَ أنك معتكف؟ -أنت لك اعتكافك ومقامك وإقبالك وبكاؤك، أين ذاهب؟-, قال له: سمعت صاحب هذا القبر -والعهد به قريب-, لأن أمشي مع أخي في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا.
انظر كيف فهم العبادة؟ خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا.
أحياناً: يقتضي أن تمشي مع أخيك, ويقتضي أن تعينه، وتأخذه إلى مستشفى، و تمرِّضه, وتقرضه, وتشتري له حاجاته من السوق، أنت لك خبرة، وهو ليس له خبرة، لا بد أن تأخذ له غرفة نوم, كيف تشتريها وتساعده؟.
زيارة خاصة :
عندنا أخٌ من إخواننا، أنا أثق ببراءته ثقةً مطلقة، حصل خطأ إداري, دخل السجن, ذهبت إلى زيارته في السجن، استغرب مدير السجن كثيراً، احتفى احتفاء غير طبيعي لما دخل الأخ، قلت له: نبيٌّ كريم دخل السجن، جبراً لخاطره, أي مؤمن دخل السجن بسبب أو لآخر، هذه الزيارة لن ينساها إلى الموت, كلَّفتني وقتاً وجهداً وإجراءات صعبة للدخول إلى هناك, فالأعمال الصالحة أنواع كثيرة، بالمساعدة وبالنصح، وأن تعود مريضاً، أو تسعف هرة.
وجدت هرة مدعوسة, أخذتها إلى مستشفى بيطري, قال: تعال غداً، هذا عمل صالح، هؤلاء أصحاب السر أعمالهم منوَّعة؛ من دعوة, إلى خدمة, إلى تنظيف مسجد, إلى اجتماع, إلى وساطة, إلى مساعدة, إلى كتابة استدعاء أحياناً وشكل.
4- ليس عندهم كهنوت وزي خاص :
شيء آخر: في هؤلاء أصحاب السر ليس عندهم كهنوت وزيٌّ خاص, لباس خاص فخم جدًّا, يكلِّف مئات الألوف، لا، ليس لهم رسم خاص, وأختام خاصة, وهيئة خاصة, و جلسة خاصة، لا يوجد شيء من هذه.
دخل أعرابيٌّ:
لم يعرفه، أين كان جالساً النبي؟ مع أصحابه على الأرض.
قال: هؤلاء لا يتقيَّدون لا بإشارة, و بلا رسم, و بلا اسم, ولا بزيٍّ, ولا بطريق وضعي اصطلاحي.
من شيخك؟ قل: رسول الله طريقك، الاتِّباع: اتباع النبي، مَن؟ أنا متَّبع لرسول الله فقط، مذهبك؟ السنة.
هناك صفات كثيرة جداً لهؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء، واجعلنا من أصحاب السر الذين أخلصوا لله عز وجل، ولو كنا في الدرحة العادية في المجتمع.
قال: أهلاً بمن خبَّرني جبريلُ بقدومه، قال: أومثلي؟ قال: نعم يا أخي، خامل في الأرض علَم في السماء
و الحمد لله رب العالمين