- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ قبل أن أشرح الحديث المقرر لهذا الدرس أريد أن ألفت النظر إلى أن بعض الناس يفهمون الدين على أنه مجموعةٌ من المعلومات، يعني هناك أحاديث، هناك آيات، هناك تفاسير، هناك قصص، هناك سِيَر، فإذا تتبعها الإنسان، وحفظها فاز فوزاً عظيماً، والحقيقة خلاف ذلك.
المعلومات لا تشكل من الدين إلا جزءًا يسيراً، الدين وجهةٌ إلى الله سبحانه وتعالى، الدين إقبالٌ عليه، الدين إحكام الاتصال به، فالحقيقة عندما ينقلب الإسلام إلى معلومات، أو إلى كتب، أو إلى ثقافة ليس غير، انتهى الإسلام، أما إذا كان الإسلام التزاماً، كان الإسلام طهارةً، كان الإسلام سمواً، كان الإسلام التزاماً، عندئذٍ هذا المسلم يفعل المعجزات، واحدٌ كألف وألفٌ كأف.
فمن حين لآخر أجد نفسي مضطراً أن ألفت نظر الإخوة الأكارم إلى أن تحصيل المعلومات فقط لا قيمة له في الإسلام، الصحابة الكرام فتحوا العالم، وكانوا أبطالاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لا لأنهم سمعوا أحاديث رسول الله، ولكن لأنهم عاشوها، الإسلام يجب أن تعيشه، يجب أن تعيشه في بيتك، يجب أن تعيشه في كل علاقاتك، يجب أن تكون لك صلةٌ بالله واضحة، يجب أن تقبل عليه وأنت مشتاقٌ في هذا الإقبال.
فأنا أحب من حين لآخر ما يسمونه تصحيح السير، فلما يميل بالإنسان الاتجاه إلى تجميع المعلومات، تكون صلاته جوفاء، واستقامته فيها خلل، وانضباطه ضعيف، والتزامه قليل، هذا لن يحصِّل من الدين شيئاً، فأن تعدل ساعةً خيرٌ من أن تعبد الله ستين سنة، أن تعدل في عملك، أن تكون مُنْصفاً، أن تكون صادقاً، أن تكون أميناً، لذلك الإمام الغزالي ـ وأعيد هذا مراتٍ كثيرة ـ لما حدثنا عن العلم بالله قال: " هذا العلم ثمنه المجاهدة "، ثمنه باهظٌ جداً، ونتائجه باهرةٌ جداً، ثمنه باهظ أن هذا العلم لا يحصل بحضور مجلس علم، هذا العلم لا يحصَّل بقراءة كتاب، لا يحصل بإتقان التجويد، لا يحصل بالاطلاع على الفقه، لا يحصل بالانتساب إلى جامعة ـ إلى كلية الشريعة ـ هذا العلم لا يحصل إلا بالمجاهدة، كما قال الإمام الغزالي: جاهد تشاهد.
فإذا جاهدت نفسك وهواك، أحكمت الصلة بالله عزَّ وجل، كل واحد منا يعرف إذا وقف بين يدي الله عزَّ وجل ما إذا كان متصلاً أو مقطوعاً، يمكن أن تتوضأ، وأن تقف بين يدي الله عزَّ وجل، وأن تقرأ الفاتحة وسورة، وأن تركع، وأن تسجد، وأن تؤدي الصلاة كما أرادها الفقهاء تماماً، ويمكن مع هذا الأداء الكامل للصلاة أن تكون مقطوعاً عن الله عزَّ وجل ؛ بذنبٍ، أو بمخالفةٍ، أو بطمعٍ، أو بانحرافٍ، أو بتجاوزٍ، أو بتقصيرٍ، أو بشهوة، أو بشركٍ خفي، فمقياس الإنسان الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الصلاة ميزان فمن وفَّى استوفى ))
يعني من وفَّى الاستقامة حقها، استوفى من الصلاة ثمراتها.
فالعمر ثمين جداً، ولكي لا يقول الإنسان: أنا داومت خمس سنوات، ست سنوات، سبعن سنوات، عشر سنوات، اثنتا عشرة سنة، ولم أستفد شيء، وهو ليس ملتزمًا، فلذلك إذا أحب الإنسان أن يكون من المؤمنين الصادقين فلابد له بادئ ذي بدء من أن يعقد العزم على أن يستقيم على أمر الله تماماً، أما هذه الكلمات: قدر الإمكان، الله يتوب علينا، الله يعفو عنا، الله عزَّ وجل لن يحاسبنا، لن يدقق، لن يضع عقله بعقلنا ـ كما يقول بعض العوام ـ هذا كلام كله مرفوض، الله عزَّ وجل عدله مطلق، وجنَّته ثمينة، وسلعة الله غالية، ولن يعطيها إلا لمن يستحق، فمَن تمنى أن يكون مؤمناً هذا التمني لا يغنيه شيئاً، ولا يقدم ولا يؤخر.
لذلك لما يضع الإنسان برنامجًا لنفسه، برنامجًا فيه سيره إلى الله عزَّ وجل، برنامجًا حازمًا فأحياناً ينقلب عند الإنسان حضور هذه المجالس إلى عادة من العادات، والله اليوم الأحد عندنا درس، بعد الأحد عندنا سهرة مختلطة، وكأنه ما حضر الدرس، يوم الاثنين عنده دوام بالمحل، المحل فيه أحياناً حلف يمين كاذب، فيه أحياناً ترويج سلعة زائفة، فيه أحياناً إخفاء عيب بالبضاعة، فإذا لم يكن ثمة انضباط شرعي خلال الأسبوع، والله هذا الدرس سيكون حجةً عليك.
والله أنا الذي أتمناه على الله عزَّ وجل أن النخبة المطبقة للإسلام مئة في المئة، فالإنسان يراجع نفسه هل بيته فيه مخالفات ؟ يا ترى زوجته هل هي منضبطة ؟ بناته منضبطات ؟ يا ترى بيته منضبط ؟ بيته إسلامي ؟ يا ترى بيعه وشرائه إسلامي ؟ علاقاته مع الناس إسلامية، فيها تقصير ؟ يا ترى إذا قام ليصلي هل يشتاق لله عزَّ وجل ؟ يصلي ـ كما يقول بعضهم ـ أرحنا منها، أم أرحنا بها ؟ وشتان بين أن تقول: أرحنا منها يا فلان، وبين أن تقول:
فأنا أحب من حين لآخر، ولو كان التوجيه ثقيلا على الإخوان، لكن والله الحقيقة مرَّة دائماً، والحقيقة أحياناً تأتي قاسية، فلماذا كان الصحابة الكرام في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في قمة السعادة ؟ إنسان مسلم يغتاب أخاه !! والله هذا ليس بمسلم، لما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
فالذي أتمناه على كل إخواني الأكارم أن هذا وقت مبذول، تأتون من مكان بعيد، يجب أن تستفيد من هذا الوقت بأعلى درجة ممكنة، فالقضية لا بالكتابة، ولا بالقراءة، ولا بالتأليف، ولا بسماع المحاضرات، ولا بسماع الخُطَب، ولا بتحصيل الثقافة، هذه كلها أشياء لابد منها ولكنها غير كافية، يعني إذا ما دخل الإسلام بصميم حياتك، إذا ما دخل الإسلام إلى مشاعرك، فإذا قرأت القرآن هل تدمع عيناك ؟ هل يقشعر جلدك ؟ هذا كلام الله، على قدر تفاعلك مع هذا الكتاب، على قدر الانضباط، على قدر البذل، على قدر العمل الصالح تتفاعل مع كتاب الله، فقد تأتي على المؤمن ساعة.
والله أنا قرأت حديث، سبحان الله، النبي عليه الصلاة والسلام ذاتٍ ليلةٍ افتتح البقرة فقال بعض أصحابه: يركع عند المئة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها بركعةٍ، فمضى، فقلت يركع بها، قرأ النساء، قرأ آل عمران.
نحن إذا أطلنا نقع في مشكلة، يا ترى هل هناك هذا السرور بإطالة القرآن بالصلاة؟ يجب أن يكون لكل واحد ساعة مع ربه يسعد بها، له مثلاً ساعة قيام ليل يصلي ركعتين، ثلاثا، ستً، ثماني، قرأ آيات طويلة، شعر أنه ذاب ذوبان محبة لله عزَّ وجل، إذا لم يكن له قلب يخفق بمحبة الله، وله جوارح تقشعر من خشية الله، ولا انضباط كامل، ورع على مستوى الليرة، والنصف ليرة، والفرنك لهذه الدرجة ورع؟ أحد التابعين كان لا يأكل مع أمه في قصعةٍ واحدة، فسألوه لمَ؟ فقال: والله أخاف أن تقع على عين أمي لقمة فتسبقها يدي إلى فمي، لهذه الدرجة ورع ؟! الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ما وقف في ظل بيتٍ مرهونٍ عنده لئلا يستفيد منه ، يعني ورع إلى درجة، ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلط.
مادام قلب الإنسان ينبض، مادام فيه حياة، فالقضية سهلة كثير، الصلحة بلمحة، اعمل جردًا ؛ في بيتك، خارج بيتك، عملك، دخلك، مصروفك، علاقاتك، زياراتك، أصدقاءك، نشاطاتك، فيها مخالفات للشرع ؟ فيها شيء لا يرضي الله ؟ فيها مجاوزات ؟ فيها تقصيرات ؟ اعمل انضباطًا.
فهل هناك أسعد في الحياة كلها من أن تسعى لمرضاة الله عزَّ وجل ؟ هل في الحياة كلها في موقف أشرف من أن تبحث عن طاعة الله ؟ أو موقف أشرف من أن تخدم عباد الله ؟ لا نريد كلامًا، نريد عملا، الكلام انتهى، والله الآن الدنيا ممتلئة بالكلام، في أي موضوع، في كتب، وفي مجلات، وفي بحوث، وفي أشرطة، وفي محاضرات مصور بصورة وصوت، وملون، وغير ملون، ومع بيانات، ومع تصاوير، ومع أدلة، ومع براهين، العالم الآن مفعم بالكلام، أما الصحابة الكرام فكانوا إلى أن يفعلوا أقرب إلى أن يقولوا.
فيمكن لله أن يجعل على يد واحد هدى أمة بأكملها، أو مجتمع بأكمله، فقضية البطولة مفتوحة، باب البطولة مفتوح، لما يكون الإنسان محسوبًا على الناس أنه ديِّن، أين ذاهب؟ على الجامع، من أين جئت؟ من الجامع، فلان صاحب دين، فلان تمشيخ، فلان تلميذ الجامع الفلاني، فأنت محسوب على المسلمين، يا ترى ماذا فعلت؟ سؤال كبير، أنت حجمك عند الله بحجم عملك، ما الذي فعلته في هذه الحياة؟ ما الذي بذلت ؟ ألك عملٌ تلقى الله به، حينما يأتي ملك الموت؟
موضوع الموت خطير جداً، لما يدخل الإنسان غرفة مظلمة، أغلق الباب عليه، هذه أحد حالات القبر، تفضل صلِّ، تفضل أقبل على الله عزَّ وجل، يا ترى هل عندك عمل تلقى الله به ؟ هل لك عمل ترضى عنه ؟ هل لك عمل يرفعك الله عزَّ وجل من أجله ؟ فلما يصير الدين ذهابا إلى المسجد، وعودة منه، وعدم انضباط، عدم التزام، عدم بذل، وقوع في غيبة، ونميمة، وبهتان، ومشكلات، فالمشكلة خطيرة.
فالذي أرجوه من الله سبحانه وتعالى أن يهدي قلوبنا إلى طاعته، وإلى محبته، وإلى العمل بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فأنا أحب علم الأحاديث، وعلم السِيَر، لكن أحب أكثر أن أرى إنسانًا دخل الدين إلى كل خليَّة من خلاياه، وكيان نفسه، وعقله، ومشاعره، وجوارحه كلها مع هذا الدين، بيته، انضباطه، سلامة صدر، ذاتية، صفاء، ود، تواضع، عطاء، لما يكون الإنسان كذلك فهذه القضية تحتاج إلى شيء من العبادة الصحيحة.
لما يعاهد الأخ من الإخوان الأكارم نفسه على قيام ركعتين من الليل قبل صلاة الفجر، في شهر من الزمان، يجد وجه قد تألق، شعر بسعادة، شعر أنه قريب من الله عزَّ وجل، ولما يعاهد نفسه أن يقرأ من القرآن جزءًا، نصف جزء، ربع جزء، لكن قسم، أقل شيء خمس صفحات تقرأها يومياً بخشوع، ويتدبر الآيات، ولما يعاهد نفسه على أن يذكر الله كل يوم ربع ساعة، جلسة مع الله ساعة زمن ؛ قسمًا للقرآن، وقسمًا للذكر، وقسمًا للصلاة، وقسمًا للتهجُّد، جلسة صباحية يومية مع شيء من قيام الليل، مع أداء الصلوات بإتقان، تجد حالك قد صرت إنسانًا آخر، هذه المعلومات ليست لها قيمة إلى الحد الذي تصبح هي كل الدين.
لكن لما يكون للإنسان هذه الصلة بالله عزَّ وجل، جاهد تشاهد، اعمل أعمالا صالحة، وانضبط، وافعل الخيرات، وساعتئذٍ قل لي: كم هي الحالة السعيدة التي تغمرك ؟ فهذه الملاحظة، فطريق الإيمان طريق يحتاج إلى انضباط، إلى موارد، إلى أوراد، إلى ذكر، إلى صلاة، إلى تهجد، إلى قيام ليل، إلى عمل صالح، ولما يبذل الإنسان وينضبط، والله لو تسأله: كيف حالك ؟ ليقول لك: ليس في الأرض من هو أسعد مني، والله أنا لا أبالغ إذا انضبط الإنسان، واصطلح مع الله عزَّ وجل، واتقدت نفسه بمحبة الله عزَّ وجل، لو أنك سألته سؤالاً صريحاً: كيف حالك ؟ قد يكون هذا الإنسان يعيش في وسط من أناسٍ مقهورين، متعبين، في ضياع، في قلق، في خوف يقول لك: والله ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني، هذه علامة الإيمان، الحياة جميلة جداً في طاعة الله، الإيمان له عز.
أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأظنه سيدنا الحسن، قالوا:
ـ يا سيدنا، أو يا فلان أتيهٌ في الإسلام؟
ـ قال: هذا عز الطاعة.
إذا أطاع الإنسان الله عزَّ وجل يشعر بعزة ما بعدها عز.
حديث: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ.
فنحن عندنا أحاديث أختارها لكم من كتاب رياض الصالحين، وهذا الكتاب ـ كما تعلمون ـ يحتوي على الأحاديث الصحيحة، ومن هذه الأحاديث حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، طبعاً سيدنا العباس من أصحاب رسول الله، وسيدنا ابن عباس من أصحاب رسول الله، فإذا ذكرت صحابياً وابنه أو وأباه، فيجب أن تقول: رضي الله عنهما.
(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
هذا الحديث في باب المجاهدة من كتاب رياض الصالحين.
نعمة الصحة لا يعرفها إلا مَن فقدها.
وقد قالوا: من أدرك الإسلام والصحة ما فاته شيء.
هناك من يخيَّر، لو أن له مئات الملايين، ويفقد بعض أعضائه، أو بعض أجهزته لما رضي، فالإنسان الصحيح غنيٌ، وأي غنيّ، فربنا عزَّ وجل ما جعل هذه الصحة كي تستنفذها في الأمور التافهة، هذه القوة ؛ أن تمشي، أن تنهض، أن تستخدم يديك، أن تستخدم حواسك، هذه كلها يجب أن تستخدم في طاعة الله عزَّ وجل، هذه العين يجب أن ترى بها آيات الله، هذه الأذن يجب أن تستمع بها إلى الحق، هذا اللسان يجب أن ينطق بالحق، هذه اليد يجب أن تساعد بها المحتاجين، هذه الرِّجل يجب أن تنتقل بها إلى المسجد، أو إلى عملٍ شريف، أو إلى عملٍ صالح.
نعمة الفراغ.
لذلك:
لما يستيقظ الإنسان ويفتح عينيه يجب أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سمح له أن يعيش هذا اليوم، كم من إنسان مات، نام وما استيقظ، زوجته نائمة إلى جانبه فوضعت يدها على يده فرأتها باردة جداً، وقفت فرأته ميتًا، نام وليس به شيء، فهذه القصص كثيرة جداً، فلما يعرف الإنسان حاله أن هذا الوقت لابد من أن ينتهي فيجب أن يسارع، لذلك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾
أي: لا يأتينكم الموت إلا وأنتم مسلمون، استسلام كامل، استسلام في الاستقامة، استسلام نفسي، استسلام للمقادير.
واللهِ قال أحد العلماء في الشام، وقد مر في الطريق أمام مقهى، فرأى أناسًا يلعبون النرد، فقال هذا العالم الجليل، وأظنه الشيخ بدر الدين: سبحان الله !! لو أن الوقت يشترى من هؤلاء لاشتريناه منهم، جالس في المقهى إلى الساعة الثانية عشرة، ما هذا؟ هذا الوقت الثمين أهكذا يستهلك؟ أهكذا تستهلكه؟ والله هناك ألف مجال ترقى به إلى الله، هذه السهرة، الآن عندك سهرة أيام الشتاء، ربيع المؤمن، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه ))
هذه السهرة ذهبت إلى البيت الساعة الثامنة والنصف، ممكن أن تجلس مع أهلك تحدثهم عن الله عزَّ وجل، ممكن تقرأ موضوعًا، ممكن تقرأ القرآن، ممكن أن تصلي، ممكن أن تتابع موضوعًا في كتاب، ممكن أن تكتب مقالة، ممن أن تنصح إنسانًا، ممكن أن تتألف قلبَ أخت بعيدة تزورها، ممكن أن تعاون الأهل، ممكن أن تقوم بعمل يرضي الله عزَّ وجل.
لذلك هذا الذي يعنيه النبي عليه الصلاة والسلام بالصحة والفراغ، فهؤلاء الشباب عندهم وقت فراغ، بعد فترة يتزوج، باللغة الدارجة ـ ينعمى قلبه ـ يوم مشكلة، وبكرة ابنه سخن، وبعد بكرة عند زوجته ولادة، ويريد إبرة غير متوافرة بالصيدليات من أجل الدم، لكي لا يصير فساد في الدم، يدخل الإنسان في عالم، وبعد ذلك يأتي المولود، فيحتاج حاجاته، يريد أن يسعى ليؤمن غذاء للمولود، فقبل أن يتزوج الرجل هذه فرصة كبيرة جداً، استغلها في معرفة الله عزَّ وجل، إذا كان للواحد عمل بسيط، وساعات دوامه قليلة فهذه نعمة كبيرة، ثمة أشخاص عندهم عمل اثنتي عشرة ساعة، وأشخاص ثماني عشرة ساعة يعمل حتى يستطيع أن يؤمن حاجاته وحاجات أهله.
هذا الحديث هو حديث اليوم
صور من مواقف عمر بن الخطاب.
والآن إلى متابعة الحديث عن عملاق الإسلام سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
موقفه من أهله.
حينما أفاء الله على المسلمين في عهده خيراً كثيرا، وامتلأ بيت المال بالمال، أشار عليه نفرٌ من أصحابه أن يقوم بإحصاء الناس، ورصد أسمائهم في ديوان، حتى ينالوا جميعاً رواتبهم السنوية في نظامٍ مُحْكَم، واختير لهذه المهمة عقيل بن أبي طالب ـ أخو سيدنا علي ـ وجبير بن مطعم، ومخرمة بن نوفل، وكانوا أعلم الناس بأنساب قريش، وأكثرهم معرفةً بالمسلمين، جلسوا يدونون الأسماء بادئين ببني هاشم، ثم بآل أبي بكر، ثم ببني عدي آل عمر.
فلما طالع أمير المؤمنين الكتاب رده إليهم، وأمرهم أن يقدموا على آل عمر كثيرين ممَّن هم قبلهم، وذكر عائلتهم، وقال: ضعوا عمر وقومه في آخر الأسماء، وعلم بنو عدي بهذا، فذهبوا إليه راجين أن تظل أسماؤهم في مقدمة الديوان كي ينالوا مناصبهم والمال الوفير، وقالوا له:
ـ ألسنا أهل أمير المؤمنين؟.
ـ فأجابهم عمر: بخٍ بخٍ بني عدي، أردتم أن تأكلوا على ظهري، وأن أهب لكم حسناتي، لا والله، لتأخُذُنَّ مكانكم، ولو جئتم آخر الناس.
هذا موقفه من أهله رضي الله عنه.
موقفه من الخلافة.
سيدنا عمر رفض أن يجعل ابنه عبد الله، وهو من أصحاب رسول الله، وكان تقياً، ورعاً، قوياً، رفض أن يجعل ابنه عبد الله من الستة الذين رشَّحهم للخلافة، قائلاً:
ـ حَسْبُ آل عمر أن يحاسب منهم واحد وهو عمر، يكفيهم واحد.
ـ فقالوا له: لكن يا أمير المؤمنين إن ولدك عبد الله هو التقي العادل، فهل ذنبه وذنب الناس الذين ستسعدهم ولايته أنه ابن أمير المؤمنين؟!
طالما قيل هذا القول لعمر فيذكر قائليه بأن عبد الله ـ اسمعوا الجواب ـ قبل أن يكون رجل حكم، فإذا استعمل اليوم صالحي أهله، فربما جاء من بعده مَن يستعملون أهليهم ويقولون: هكذا فعل عمر، لجعلها سنةَ من بعده، لهذا قال سيدنا عمر: من استعمل رجلاً لمودةٍ أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
أنت مثلاً عندك معمل، عندك مدرسة، عندك مستشفى، في لك صهر طبيب مثلاً، عينت هذا الصهر فرضاً رئيس قسم الأمراض الفلانية، وفي هذا القسم مَن هو أكفأ منه، مَن هو أخلص منه، أنت عينت هذا الصهر لأنك حابيته، أو جاملته، مَن فعل هذا فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
من استعمل رجلاً لمودةٍ أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
موقفه أثناء توليه الخلافة.
أجمل خطبة قالها هذا الخليفة العادل حينما تولى الخلافة، يبدو أن بعضهم قال:
ـ يا أمير المؤمنين إن الناس خافوا منك، خافوا من شدتك.
ـ فقال هذا الخليفة رضي الله عنه: بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد ورسول الله بين أظهرنا ـ رسول الله رحيم، لطيف، حليم، وعمر شديد، لكن هناك من يوقفه، ويخفف من شدته ـ ثم اشتد علينا وأبو بكرٍ والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟!
أحياناً يكون الأب والأم في البيت، الأب يشد، والأم ترخي، توازن، إذا ماتت الأم يأخذ الأب دور الأم والأب، لما يشد الأب الأم تخفف، الآن ماتت الأم، يأخذ الأب دور الأم، ثم اشتد علينا وأبو بكرٍ والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه ؟ الآن الأمر كله له، لا يرحم شديد.
ـ فقال سيدنا عمر: آلا مَن قال هذا فقد صدق ـ معه حق ـ فإني كنت مع رسول الله عونه وخادمه، وكان عليه السلام مَن لا يبلغ أحدٌ صفته من اللين ـ كان لين، والرحمة ـ وكان كما قال الله تعالى:
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يغمدني ـ أنا سيف له يغمدني فأغمد، أنا جهاد بيده ـ أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، الحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد ـ أنا كنت سيفًا بيد رسول الله فكان يغمدني أو يستعملني ـ ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر فكان مَن لا تنكرون دعته، وكرمه، ولينه، فكنت خادمه، وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني، أو يدعني فأمضِي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عزَّ وجل وهو عني راضٍ، الحمد لله على ذلك كثيراً وأنا به أسعد.
كنت سيفا لرسول الله يستعملني أو يغمدني، وكنت سيفا لسيدنا الصديق يستعملني أو يغمدني، قال:
ـ ثم إني قد وليت أمركم أيها الناس ـ أما الآن فهناك وضع ثان ـ فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت ـ الآن أنا سآخذ دور الأم والأب ـ ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ـ هذه الشدة تبقى شدة على أهل الظلم والتعدي ـ فأما أهل السلامة، والدين، والقصد، فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً، أو يعتدي عليه حتى أضع خده على الأرض، حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف، وأهل الكفاف والتقوى ـ أنا مع أهل العفاف والكفاف والتقوى أضع لهم خدي على الأرض ـ ولكم عليَّ أيها الناس خصالٌ أذكرها لكم فخذوني بها ـ أي حاسبوني عليها ـ لكم علي ألا أجتبي شيئاً من خراجكم، وما أفاء الله عليكم إلا من وجهه ـ أي لكم علي ألا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه ـ ولكم علي إذا وقع في يدي منها شيء ألا يخرج مني إلا في حقه ـ لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه، ولا أنفقه إلا بحقه ـ ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم ـ أرفع الرواتب، هذا حق لكم، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم ـ إن شاء الله تعالى، ولكم علي أن أسد ثغوركم ـ أحمي البلاد من العدوان، وهذه من مهمات الحاكم، حماية الحدود من العدوان ـ ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، وإذا غبتم في البعوث ـ يعني في الحروب ـ فأنا أبو العيال حتى ترجعوا، يعني أنا أبٌ لكل طفلٍ من أطفالكم.
لذلك العناية بأبناء من يقاتلون في ساحات القتال هذا عمل عظيم، عمل كبير، وهذا يشجع الإنسان أن يدافع عن وطنه، ويدافع عن أمته.
ـ قال: فاتقوا الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعني أنتم عاونوني، مروني بالمعروف وانهوني عن المنكر.
سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اختار أحد كبار العلماء، وجعله مستشاراً له، اسمه أيضاً عمر، قال له: أنت اجلس إلى جانبي، وراقب أعمالي وأقوالي، فإذا رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي، وهزني هزاً شديداً، وقل لي: اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت، هذه وظيفتك.
ـ فسيدنا عمر يقول: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النصيحة فيما ولاني الله من أمركم.
هذه خطبةٌ افتتح بها ولايته على المسلمين.
موقفه من أهل الشام .
حين زار الشام جيء له بطعامٍ طيِّب ـ معنى هذا أن أهل الشام من زمان أكلهم طيب، هكذا يظهر ـ مختلفٍ ألوانه، وبدلاً من أن يقبل عليه، وينعم بمذاقه رمقه بعينين باكيتين، وقال: كل هذا لنا، وقد مات إخواننا الفقراء لا يشبعون من خبز الشعير؟! هؤلاء الصحابة الذين ماتوا في بدر وفي أحد والخندق تألم من أجلهم، كل هذا لنا وإخواننا ماتوا فقراء لم يشبعوا من خبز الشعير؟!.
رحمته مع الناس.
اسمعوا هذه القصة:
قدم المدينة بعض التجار في إحدى الأمسيات، وخيَّموا عند مشارفها، فاصطحب أمير المؤمنين عبد الرحمن بن عوف ليتفقد أمر القافلة، سمع بقافلة جاءت إلى المدينة، وخيمت في ظاهرها، فقال لعبد الرحمن بن عوف: اذهب بنا لنتفقد هذه القافلة.
وكان الليل قد تصَرَّم، انقضى جزءٌ منه، واقترب الهزيع الأخير منه، وعند القافلة النائمة اتخذ عمر وصاحبه مجلساً على مقرُبةٍ منها، وقال عمر لعبد الرحمن: فلنمضِ بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا، الجماعة نائمون كلهم، قال له: اقعد نحرس الضيوف، يعني من ذئب، لهم غنم، وهو مخيِّمون، قال له: فلنمضِ بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا، بإذن الله طبعاً.
وإذا هما جالسان سمع صوت بكاء صبي بالقافلة، فانتبه عمر وصمت، وانتظر أن يكف الصبي عن بكائه، ولكنه تمادى فيه، فمضى يسرع صوبه، وحينما اقترب منه سمع أمه تنهنهه، أي تسكته، ولكن لا ترضعه، قال لها: اتقِ الله، وأحسني إلى صبيكِ، ثم عاد إلى مكانه، وبعد حين عاود الصبي البكاء، فهرول نحوه عمر، ونادى أمه: قلت لك اتقِ الله، وأحسني إلى صبيك، وعاد إلى مجلسه، بيد أنه لم يكد يستقر حتى زلزله مرةً أخرى بكاء الصبي، فذهب إلى أمه وقال لها:
ـ ويحك إني لأراك أمّ سوء ـ أنت أم سيئة ـ ما لصبيك لا يقر له قرار؟ أي ما ترضعينه؟.
ـ فقالت وهي لا تعرف من تخاطب، قالت: يا عبد الله قد أضجرتني، يعني هلكتني حل عني ـ بهذا المعنى ـ لقد أضجرتني إني أحمله على الفطام فيأبى، أنا أفطمه اليوم.
ـ سألها عمر: ولمَ تحمليه على الفطام؟
ـ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم، لا يعطي معاشًا، تعويضًا عائليًّا إلا للفطيم.
ـ قال وأنفاسه تتواثب، بدأ يلهث: وكم له من العمر؟.
ـ قالت: بضعة أشهر.
ـ قال: ويحك لا تعجليه، أرضعيه.
يقول صاحبه عبد الرحمن بن عوف: فصلى بنا الفجر يومئذٍ، وما يستبين الناس قراءته ـ يقرأ ويبكي بالصلاة، ما فهموا ما هي الآيات الناس، ماذا قرأ ما فهموا، يقرأ ويبكي ـ من غلبة البكاء، فلما سلّم قال: يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين.
اعتبر حاله قاتل، لأنه أعطى التعويض العائلي للفطيم، فصارت الأمهات حتى يتعجلن التعويض يفطمن أولادهن في وقت مبكر قبل أن يتم الرضاعة فقال:
يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر منادياً ينادي في المدينة: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض من بيت المال لكل مولودٍ في الإسلام، ليس لكل واحد فطم، ولكن لكل واحد ولد، ثم فرض هذا إلى جميع ولاته في الأمصار، عممه على أنحاء البلاد الإسلامية.
موقفه عام الرماد.
في عام الرمادة سمع عن جماعةٍ في أقصى المدينة قد نزل بهم الضر أكثر مما نزل بأهل المدينة كلها، فيحمل فوق ظهره جرابين من دقيق، ويحمل خادمه أسلم قربةً مملوءةً زيتاً، ثم يهرولان إلى هناك يحملان النجدة والغوث، وعندما يصلان القوم يطرح أمير المؤمنين بردائه، ويطهو بنفسه طعامهم حتى يشبعوا، ثم يرسل خادمه ليعود إليه بإبلٍ يحملهم على ظهورها إلى دخل المدينة، حتى يكونوا بقربٍ منهم.
وكان يقول: يا علي، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، ويا عثمان، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ويا سعد، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل أقاربك على رقاب الناس.
وفي العام الذي لقي الله فيه كان على موعدٍ مع نفسه أن يطوف بجميع الأمصار، ليتفقد أحوال الناس، ويبلو أخبارهم، ولقد قال يوماً لأصحابه: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أمَا إنّ ولاتهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي ـ هم لا يصِلون، وولاتهم لا ترفع أمورهم إلي ـ أسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنِعم الحول هذا.
أي يتفقد بنفسه بشكل ميداني أنحاء المملكة، أو أنحاء البلاد الإسلامية، ليتعرف عن كسب على أحوال المسلمين.
مرة سأل أصحابه ـ امتحنهم ـ: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ـ انتقيت أفضل واحد فيكم ـ ثم أمرته بالعدل، أكان هذا يبرئني من الله عزَّ وجل؟.
ـ فقال أصحابه: نعم.
ـ قال: لا ـ إذا استعملت أفضل واحد، أطهر واحد، أنقى واحد، وأمرته بالعدل تنتهي مسؤوليتي أنا، قالوا طبعاً تنتهي، قالوا: نعم، قال: كلا حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لم يعمل ؟ لاَ تبرؤ ذمتي من الله عزَّ وجل حتى أتابع ما أمرته به، هل فعل هذا أم لم يفعل ؟ أيما عاملٍ لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته فلم أغيرها فكأنما ظلمته أنا.
أي موظف عندي يظلم مظلمةً بلغتني فلم أغيرها فكأنما ظلمته أنا، هذا كان فهمه للمسؤولية.
موقفه من الولاة.
آخر قاعدة لسيدنا عمر، هذه القاعدة أخذها عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله، أو يحرص عليه، أي إنسيان يسأل أن يتولى أمراً عندئذٍ لا نوليه، مادام طلب الولاية معنى هذا أنه راغبٌ فيها، ليس عالماً بما فيها من مسؤوليات، إذاً هو ليس أهلاً بها.
ذات يومٍ أسرّ في نفسه اختيار أحد أصحابه ليجعله والياً على أحد الأقاليم، ولو صبر هذا الصحابي بضع ساعاتٍ لاستدعاه عمر يقلده هذا المنصب، ولكن أخانا بادر الأمور التي لم يكن يعرف عنها شيئاً، وذهب إلى عمر يسأله أن يوليه هذا المنصب، ويبتسم عمر لحكمة المقادير، ويقول: قد كنا أردناك لذلك، ولكن من يطلب هذا الأمر لا يعان عليه، ولا يجاب إليه، ثم صرفه وولى.
اختاره فلما طلب منه ذلك غير قراره.
مرة اختار أحد الولاة قال له: إني لم أستعملك على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم، ولكني استعملتك لتقيم فيهم الصلاة، وتقسم بينهم، وتحكم فيهم بالعدل، ثم يعُدُّ له عداً النواهي التي يجب عليه أن يتجنبها: لا تركب دابةً مُطَهَّمَة ـ يعني فخمة ـ لا تلبس ثوباً رقيقاً، لا تأكل طعاماً غاليًا، لا تغلق بابك دون حوائج الناس، كن في حياتك خشناً، وافتح بابك للناس جميعاً.
مرة قال: دلوني على رجلٍ أكِلُ إليه أمراً يهمني؟.
ـ فقالوا: فلان.
ـ قال: لا حاجة لنا فيه.
ـ قالوا: فمن تريد؟.
ـ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً عليهم، بدا وكأنه أميرهم ـ من شدة عطفه واهتمامه، وفطنته، وحكمته، وهو ليس أمير بدا وكأنه أميرٌ عليهم ـ وإذا كان فيهم وهو أميرهم بدا وكأنه واحدٌ منهم.
إذا معين أمير بدا وكأنه واحد منهم، وإذا ما كان فيهم أمير بدا وكأنه أميرهم، هذا شرط صعب جداً.
في موسم الحج، وعلى ملأٍ من الأعداد الهائلة من حجاج المسلمين القادمين من كل بلد، جمع عماله وولاته جميعاً، ووقف فيهم خطيباً قال:
أيها الناس، إني والله لا أبعث عمَّالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فُعِل به سوى ذلك فليرفعه إليّ، فو الذي نفسي بيده لأمكننه من القصاص.
أنا عينتهم ولاة كي يعلموكم دينكم وسنة رسولكم، أما أن يضربوا جلودكم، ويأكلوا أموالكم فليس هذا من مهمته.
يظهر أن سيدنا عمرو بن العاص وجد أن هذا الكلام لا يناسبه، أن يثير الناس على الولاة، ضعَّف هيبة الولاة، فقال له: الذي رأى في هذا الحض خطراً على هيبة الولادة، قال له:
ـ أرأيت إن كان رجل من المسلمين والياً على رعيةٍ، فأدَّب بعضهم أتقتص منه؟.
ـ عمر: إي والذي نفسي بيده لأفعلن، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص بنفسه ويقول:
من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه
من مجمع الزوائدعن الفضل بن العباس بن عبدالمطلب
ألا يكفي قدوة لنا؟.
والحديث عنه يطول ـ وقصته في هذا الكتاب أطول قصة، إن شاء الله في دروس قادمة نتابع الحديث.
لكن البارحة قرأت في كتاب آخر كلمة أثارت كل مشاعري، قال: خطب امرأةً وهو أمير المؤمنين فرفضت، فهل سمعتم في حياتكم أمير مؤمنين يخطب امرأة فترفض؟ فلما سئلت: لماذا لم تقبلي؟ قالت: إنه في حياته خشن، بيته ليس فيه شيء، متقشف، وهو علينا شديد.
فقال الكاتب: إن رفض هذه المرأة الزواج من أمير المؤمنين هي أكبر شهادةٍ ترفعه إلى الأوج، في حين أن مئات النساء لو تهافتن عليه ما كانت كل هذه الحوادث لتكون شهادة حسن سلوك، أما سيدنا عمر يخطب امرأة، وهو خليفة المسلمين، فتأبى، لا تريد، ويحك أمير المؤمنين !! قالت: إنه رأى آخرته فذهل بها عن دنياه، وإنه يرى ربه، وكأنه يحاسبه.
له صفة عجيبة، فأن ترفض امرأةٌ الزواج من عمر، هذه شهادةٌ وأية شهادة.
على كلٍ بهذه القصص تحيى القلوب، بهذه القصص تتعطر المجالس، فإذا كان الإنسان أبًا فليقتدِ بسيدنا عمر، إذا كان معلمًا، إذا رفعه الله على عشرة أشخاص بمعمل، بدائرة، بمستشفى، كان طبيبًا، كان عنده مرضى، عنده موظفون، يقتدي بسيدنا عمر في أخلاقه، في تواضعه، في مساواته للناس، في اعترافه بخطئه، في قبوله للنصيحة، في قبوله للاعتراض والنقد، في أن يكون مع الناس سواءً بسواء، هذه كلها أولاً: نتأثر بها، وثانياً: يجب أن نقتدي بها.
و الحمد لله رب العالمين