الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الستِّين من مدارج السالكين في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة التَّمكُّن، وهي مستنبطة من قوله تعالى:
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)﴾
الإنسان إما أن يكون مُتمكّناً من إيمانه، مُتمكِّناً من هدفه، مُتمكِّناً من منهجه، أو أن الذين لا يوقنون يستخفُّونه، يجرُّونه إليهم، يحملونه على المعصية، يُزهِّدونه بالآخرة، يستفزُّونه فيستجيب لهم، فالناس رجلان، متمكِّن وخفيف؛ خفيف يستفزُّه أيُّ إنسان، يصرفه أيُّ إنسان، يغيِّر وجهتَه أيُّ إنسان، بالتعبير الدارج كلمة تأخذه وكلمة تحضره أي خفيف، لا وزن له، تافه، مقاومته هشَّة، صبره قليل، يقينه ضعيف، أملُه في الدنيا طويل، التَّمكُّن شيء والخِّفة شيء، فالله عز وجل يَصِف النبيَّ عليه الصلاة والسلام عن طريق نهيه، ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ أيْ كن مُتمكِّناً، وإذا وُجِّه الأمر إلى من اتَّصف بهذا الأمر، أيْ ثابر على ذلك، إذا قلتَ للمجتهد: اِجتهِد؛ أي حافظْ على اجتهادك، وإذا قلت للكسول: اجتهِد؛ أي اجتهد، أما إذا قلت للمجتهد: اجتهد؛ أي اِبقَ مجتهداً، حافظ على اجتهادك.
الحقيقة واقعُ المسلمين يُجسِّد هذا المعنى، إنسان يلتزم بمسجد، كلمة طائشة خبيثة هادفة إلى قطْعه عن الله عز وجل تفعل فيه فعلَ السِّحر، ينقطع لسبب تافهٍ، هذا الذي ينقطع لسبب تافهٍ أو يلتزم لسبب تافه هذا خفيف، لا وزن له عند الله، وهناك آية تؤكِّد ذلك:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾
لا وزن له، كلمة تأخذه وكلمة تحضره، يسلك طريقَ الإيمان ويرى بأمِّ عينه الحقائق، ثم تُغريه فتاةٌ فينصرف عن الدين، يغريه مبلغٌ كبير فينصرف عن الدين، هذا إنسان خفيف، مقاومتُه هشَّة، صبرُه قليل، يقينُه ضعيف، أملُه في الدنيا طويل، مثلُ هذا الإنسان مُعرَّضٌ للنكسة في كلِّ آنٍ، أبداً، لا تكن خفيفاً، لا تكن ساذجاً.
زلزلة المؤمنين يوم الخندق:
مثلاً، اللهُ عز وجل في معركة الخندق زلزل المؤمنين، قال تعالى:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾
هذه الزلزلة من أجل الفرز، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾
تشعر أحياناً بأخٍ مثل الجبل، لا يزعزعه شيءٌ، الفقرُ لا يهزُّه، مشكلة لا تهزُّه، وعيدٌ لا يهزُّه، تهديد لا يهزُّه، مرَضٌ شديد لا يهزُّه، ماكن، مُتمكِّن، وهناك إنسان إذا قال له: أخذوا اسمك، لم يعد يأتي، انتهى، كلمة، كلُّ اتِّجاهه ثمنه كلمة.
المؤمن متمكّن لأنه يعلم أن الذي يوحده بيده مقاليد كلِّ شيء:
بالمناسبة هذا الذي تعبده بيده كلُّ شيء، هذا الذي توحِّده بيده مقاليد كلِّ شيء، هذا الذي تحبُّه بيده كلُّ شيء، فإذا لم تكن واثقاً أنه سيحميك وأنه سينصرك لا تعبده، قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
هذا التَّمكن، قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾
على الطرف، ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ على حرف، المؤمن بالأعماق، ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾ لكن بعد قليل قال اللهُ عز وجل:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾
لا غيَّر ولا بدَّل، ولا ندم ولا ضعُف، ولا استكان ولا خنَع، ولا خضع أبداً، أحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ.
ذكرتُ البارحة-لا أذكـر أين قرأتُ هذه القصَّة قديماً-هناك ملك بطَّاش أراد أن يقتل إنسانًا قال: ربي اللهُ، فجيء به، قبل أن يُقتَل، هكذا العادات والتقاليد، جيء بشيخٍ يُلقِّنه الشهادة، فقال هذا الإنسانُ لهذا الشيخ: أنا أموت، قال: قل: لا إله إلا الله، قال له: أنا سأموت من أجلها لكنَّك أنت ترتزق بها، وشتَّان بين من يموت من أجل هذه الكلمة وبين من يرتزق بها، المؤمن متمكِّن، ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ هذا التمكُّن، القارِبُ موجةٌ خفيفة تقلبه رأساً على عقِب، أما باخرة كبيرة شامخة راسخة، الأمواج تتلاعب على جدرانها وهي ثابتة، هكذا المؤمن.
معاهدة أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله رسولَ الله على الطاعة والالتزام:
إخواننا الكرام؛ أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله عاهدوا رسولَ الله على الطاعة، والالتزام في المَنشط والمكره، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، أحياناً تجد زبوناً شتويًّا، الدنيا شتاء، ومتغيِّر مزاجه، برد، يأتي إلى الجامع، في الصيف لا تجده أبداً، سرح، لا يجد مكاناً يسهر فيه فيأتي إلى الدرس، جاء الصيفُ عنده بيت، ترك المسجد كلِّيًاً، هذا اسمه زبون شتوي، هناك إنسان يأتي مرتاح، ليس له مشكلة، عندما خطب اختفى، بعد أن خطب اختفى نهائياً، عاهدنا رسول الله على الطاعة في المنشط والمكره، في إقبال الدنيا وإدبارها، في الفقر والغنى في الصحة والمرض.
سيِدنا سعد بن أبي وقَّاص كان معه مرضٌ عُضالٌ، كان يقود المعركة وهو منبطحٌ، من شدَّة آلام كانت في ظهره، هكذا كان أصحابُ رسول الله، أي معقول سيِّدنا جعفر تُقطَع يدُه اليمنى التي يُمسِك بها الرَّايةَ فيمسك الرَّايةَ بيده اليسرى؟! تُقطَع اليسرى فيمسكها بعضديه؟! هكذا كان أصحابُ النبيِّ، هؤلاء الذين فتحوا هذه البلادَ هكذا كانوا.
إذاً التَّمكن أن تكون في الأعماق، تصوَّر إنساناً يقف على الشطِّ والأمواج عاتية، فقد تأتي موجةٌ وتأخذه إلى البحر، تصوَّر إنساناً يقف على قمَّة جبل، والجبل ارتفاعُه ثلاثة آلاف متر، والبحر في سفح هذا الجبل، أيَّة موجة يمكن أن تصل إليه؟ هكذا، هذا التَّمكن، لا يُغيِّر ولا يبدِّل، ولا يُطوِّر ولا يُعدِّل، ولا يبتدع، ولا يحلها برمة، ولا يقول لك: هناك فتوى، وأخي بمصر أفتوا بالربا، حلوها برمة، يسروا وخلِّصونا مثلاً: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ .
قال: المتمكِّن لا يبالي بكثرة الشَّواغل، ولا بمخالفة أصحاب الغفلات، لو أن الناس جميعاً وقفوا في وجهه، لو أن الناسَ جميعاً كادوا له:
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾
هكذا المؤمن، إذاً المتمكِّن لا يبالي بكثرة الشواغل، ولا بمخالفة أصحاب الغفلات، ولا بمعاشرة أهل البطالات، قد يلتقي مع أناسٍ شاردين تائهين مقصِّرين منتقدين، من أهل الدنيا، أقوياء أغنياء، هدفُه اللهُ، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، في أيِّ مكان يعبد اللهَ، ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري.
قال: تمكَّن بصبره ويقينه، نقطتان دقيقتان، يقين بوعد الله، وقوَّة صبر على تحمُّل الشدائد، قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾
اصبِر من أجل الله عز وجل، وقال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)﴾
أي ممكن سيِّد الخلق يكون في الطَّائف، سيِّد الخلق جميعاً، قمَّة البشرية جميعاً، أكملُ الخلق جميعاً، أقرب الخلق إلى الله جميعاً، أحبُّ الخلق إلى الله جميعاً، في الطَّائف يُكذَّب، ويُسخَر منه، ويُضرَب! ويقول: يا ربي، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، ولك العُتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي.
المسلمون المعاصرون ماذا أصابهم؟ يأكل، يشرب، ينام، ساكن، سيارته أمامه، زوجته أمامه، بيته مطمئن، في الصيف البيت مبرَّد، في الشتاء مدفّأ، تعالَ إلى الجامع؟ والله لستُ متفرِّغاً، عندي ضيوف لا تؤاخذوني، ماذا تقدِّم أنت؟ ماذا قدَّمت؟ الصحابة قدَّموا أرواحهم، أنت ماذا قدَّمت للمسلمين؟ حجمُك عند الله بحجم عملك الصالح، لذلك تمكَّن بصبره على الشدائد، وبصبره عن الشهوات، وبصبره على الطاعات، ويقينه بأن الآخرة حقٌّ، وأن الجنة حقٌّ، وأن النار حقٌّ، وأن وعد الله حقٌّ، وأن وعيده حقٌّ، ولهذا قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ .
مثلاً من يصدِّق أن إنساناً مهدورٌ دمُه، مئة ناقة لمن يأتي به حيًّا أو ميِّتاً، طريدٌ في الصحارى، أيّ إنسان قبض عليه إن سلّمه حياً أو ميتاً يأخذ مئة ناقة، الناقة بمئة ألف، مئة ناقة مئة مئة ألف، عشرة ملايين ليرة تقريباً، يتبعه سُراقة، يقول له النبيُّ الكريم: يا سراقة! كيف بك إذا لبستَ سواري كسرى؟ معنى ذلك النبيَّ سيصل سالماً، كلام نبيٍّ، معنى ذلك أنه سيصل سالماً، وسيؤسِّس دولةً في المدينة، وسيحارب كسرى، وسيأتي بكنوز كسرى، وسيلبسها سراقةُ، وهذا الذي حصل في عهد عمرَ، أين سراقة؟ ألبسه سواري كسرى، فقال: بخٍ بخٍ أُعيْرابيٌّ من بني مدلِج يلبس سواري كسرى؟! ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ .
متى يستفز المتمكن ومتى لا يستفز من قبل المبطلين؟
قال: فمن وفَّى الصبرَ حقَّه، وتيقَّن أن وعد الله حقٌّ، لم يستفزَّه المبطلون، ولم يستخفه الذين لا يوقنون، ومتى ضعُف صبرُه ويقينُه أو كلاهما، استفزَّه هؤلاء واستخفَّه هؤلاء، فجذبوه إليهم بحسب ضعف قوَّة صبره ويقينه، فكلَّما ضعُف ذلك منه قويَ جذبُهم إليه، وكلَّما قويَ صبرُه ويقينه قويَ انجذابُه منهم وجذبُه لهم.
هل تعرفون لعبةَ شدِّ الحبل؟ المتمكِّن يشدُّ الآخرين إليه، أما إذا كان ضعيفاً يشدُّه الآخرون، وأنت اِجعلْ هذا مقياساً دقيقاً، في أيِّ مكان أنت، هل بإمكانك أن تشدَّهم إليك أم أن يشدُّوك إليهم؟ أي نصيحة؛ إذا كنتَ في مجلس ولم تستطع أن تشدَّهم إليك لا تجلس معهم، أما إن استطاعوا أن يشدُّوك إليهم ابتعِد عنهم.
قالوا: التَّمكُّن هو القدرةُ على التَّصرُّف في الفعل والتَّرك، أي أنت حرٌّ، لك أن تفعل بحسب إيمانك، ولك أن تقول: لا، بملء فمك، لا، زوجته يبدو أنها جميلة وضغطت عليه، أريد كذا وكذا، قال: يا فلانة، إن في الجنة من الحور العين ما لو أطلَّت إحداهن على الأرض لغلبَ نورُ وجهها ضوءَ الشمس والقمر، فلأن أضحِّي بك من أجلهن أهونُ من أضحِّي بهن من أجلك.
يا بنيَّ! إما أن تكفر بمحمَّد وإما أن أدعَ الطعامَ حتى أموت، متمكِّن سيِّدنا سعد، قال: يا أمِّي، لو أن لك مئة نفسٍ فخرجت واحدة واحدة ما كفرتُ بمحمَّد، فكُلي إن شئتِ أو لا تأكلي.
الإسلام الآن بحاجة إلى مسلم قويٍّ، مسلم مُتمكِّن، مسلم شديد في دين الله، مسلم لا تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، مسلم لا يبحث عن أنصاف الحلول، لا يبحث عن فتوى ضعيفة يتعلَّق بها، لا يبحث عن فُرجة ينفذ منها، كلام النبيِّ اللهمَ صلِّ عليه: واللهِ يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، على أن أدع هذا الأمرَ ما تركتُه، حتى يُظهرَه اللهُ أو أهلك دونه.
قال: التَّمكُّن فوق الطمأنينة، لأن الطمأنينة تكون مع نوع من المنازعة، فيطمئن القلبُ إلى ما يُسَكِّنه، وقد يتمكَّن فيه وقد لا يتمكَّن، قانع بالحقِّ، فأنت مطمئن أن الحق حقٌّ، لكن أحياناً نفسُك تغلبك، أما المتمكِّن فوق المطمئن.
قالوا: التَّمكن هو غاية الاستقرار، وهو تَفعُّل من المكان، تمكُّن من المكان، كأنه قد صار مقامُه مكاناً لقلبه، أضرب مثلاً؛ عندما كنا صغاراً، كان هناك حافلات كهربائية، وهناك خطوط هي صعود، أي الخط في مكان مرتفع، فهذه الحافلة تصعد، إذا إنسان راكب درَّاجة يحلو له أن يمسك بالحافلة فيستريح، تسحبه، تعلَّقَ بها فَجَرَّته، أما الذي عنده محرِّك ذاتي ينطلق في الصعود سريعاً بقوَّته الذاتية لا بتعلُّقه بغيره.
علماءُ القلوب قالوا: هذا هو الفرقُ بين الحال والمقام، أي أنت لا سمح الله إنسان مُقصِّر، تجلس في مجلس علم تتألَّق، تقول: والله سُرِرنا، ارتحتُ كثيراً، صار تجلّ، هذا الحالُ ليس حالَك، هذا حالُ المجلس، تأثَّرت به، حال هذه الجماعة، حالُ المتكلِّم، كلامٌ واضح، لكن الإنسان الضعيف إذا جلس بمجلس علم، التقى مع مؤمن موصول بالله، يشعر براحة، هذه الراحة ليست منه ذاتيًّا، هذه الراحة من الذي جلس معه واتَّصل به، وهذا معنى قول سيِّدنا حنظلة،
((عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ-وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟! قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَ اللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلاثَ مَرَّاتٍ))
مع رسول الله في أعلى درجة من التَّألُّق، يأتي إلى البيت حالُه صار عاديًّا جدًّا كالناس، فالنبيُّ عليه الصلاة والسلام قال: ((أما نحن معشر الأنبياء فتنام أعيننا ولا تنام قلوبنا)) اتِّصالٌ دائم ((وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة ولزارتكم في بيوتكم)) فالحالُ يأتيك ممَّن تلازمه، من مجلس علم، من أخٍ كريم إيمانه أقوى من إيمانك، من إنسان متألِّق متَّصل بالله عز وجل، فهذا الحال ليس منك، كما أن راكب الدراجة حينما يمسك بالحافلة تجرُّه، هذه السرعة ليست سرعة راكب الدراجة، هذه سرعة الحافلة، لأنك تعلَّقتَ بها جرَّتك، أما حينما تملك مركبة لها محرِّك ذاتي، حينما تكون في أيِّ مكان موصول بالله هذا صار مقاماً، المقام ثابت، المقام ملكك، أما الحالُ ليس ملكَك، الحال ملك من تجلس معه، الحال ملكُ المجلس، ملك من في المسجد، أما إذا انفردتَ عن هؤلاء تعود إلى الكآبة، وإلى الضَّيق، وإلى السأم، وإلى الضَّجر، فالحال طارئ، والحال مستعار، والحال ليس حالَك، أما المقام الشيءُ الثابت، فقالوا: التَّمكُّن هو غاية الاستقرار، وهو تفعُّل من المكان، فكأنه قد صار مقامُه مكاناً لقلبه، أي قلبُه سكن الحقَّ، قد تبوَّأه منزلاً ومستقرًّا، وصار معتصماً به كما قال الله عز وجل:
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)﴾
وقال تعالى:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾
التمكُّن أساسه الاعتصام.
ذكرت في خطبة سابقة أن الإنسان في الطريق عنده خطران؛ خطر أن يضلَّ الطريق، يدخل بطريق فرعيٍّ، ويضيع عنه الهدفُ الأساسي، فهذا علاجُه أن يعتصم بحبل الله، أي بالقرآن، بالسنة، الاعتصام بحبل الله أن تحافظ على المنهج، أما الاعتصام بالله أن يحافظ اللهُ عليك بحفظه.
إنسان يركب مركبةً في طريق، هو مُعرَّض لأن ينحرف عن الطريق الأساسي ويضلَّ هدفَه، أو معرَّض أن تأتيَه مركبةٌ أخرى فتصدمُه، إذاً هو يعتصم بالله لينجوَ من الهلاك، ويعتصم بحبل الله لينجوَ من الضلال، إن اعتصمتَ بحبل الله نجوتَ من الضلال، وإن اعتصمتَ بالله نجوت من الهلاك.
لذلك العلماء قالوا: الاعتصام به نوعان؛ اعتصام توكُّلٍ، واستعانة، وتفويض، وعياذٍ، وإسلام نفسٍ، واستسلام له، والثاني: الاعتصام بوحيه، وهو تحكيمه دون آراء الرجال، ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم، وكشوفاتهم، ومواجيدهم، فمن لم يكن كذلك فهو مُنسلٌّ من هذا الاعتصام، تعتصم بالله لئلا تهلك، وتعتصم بشرعه لئلا تضلَّ.
التمكن تسبقه محن وابتلاء:
حينما سُئل الإمام الشافعي: أندعو اللهَ بالتَّمكن أم بالابتلاء؟ فقال: لن تُمكَّن قبل أن تُبتلى، لن تكون متمكِّناً قبل أن تُبتلى، يُروى أن شاعراً كتب الشِّعرَ، أو نظم الشِّعر، ثم توفيت زوجتُه وكان يحبُّها، فقال بعضُهم مُعلِّقا على هذا الحدث: الآن صار شاعراً، دخل بتجربة عاطفية عميقة، فصار كلامُه معبِّراً عن شعور صادق، فلذلك التَّمكن تسبقه محنٌ، يسبقه ابتلاء غير البلاء، ابتلاء امتحان، فإذا نجح في الامتحان صار متمكناً.
أنا أذكر هذا المثلَ كثيراً، رأيت في متحف باستانبول قطعة ألماس، سمعتُ أن ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، بحجم البيضة، هذا حجمٌ نادر جدًّا، قلتُ: الألماس أساسه فحمٌ، لو أتيـت بفحمة بحجم هذه الألماسة كم ثمنها؟ ليرة أو أقلّ، نصف ليرة سورية، وثمن الألماسة مئة وخمسون مليون دولار، والألماسة أساسها فحمٌ، الألماس فحم، لكن جاءه ضغط شديد، هذا الضغط جعله ألماساً، هذا المثل أتفاءل به، أي إذا أخٌ جاءه ضغطٌ شديد صار ألماساً، كان يساوي نصف ليرة صار بمئة وخمسين مليون دولار، الضغط يعمل خبراتٍ، الضغط يعمل شعوراً بالتَّفوُّق، الضغط يعمل شعوراً بأن هذا الدين حقٌّ، وأنا عند الله مرضيٍّ.
التَّمكن يحتاج إلى صحَّة قصد وسِعة طريق:
هنا نقطة دقيقة، قال: التَّمكن أن يجتمع للعبد صحَّةُ قصدٍ يُسيِّره، وسَعة طريق تروِّحه، أي أنا أريد هدفاً وطريقاً، فإذا الإنسان لم يعرف اللهَ ما صحَّ هدفُه، ضائع، شارد، إنسان بلا هدف، أي تائه، قال الشاعر:
جِئت لا أعلم من أين ولكني أتيـــــــــــــتُ
فرأيتُ أبصرتُ قدَّامي طريقاً فمشـــــــيت
كيف جئت؟ كيف أبـصــرت طريقـــــي؟
لَستُ أَدري وَلِماذا لَستُ أَدري لَستُ أَدري
قصيدة طويلة جداً، عنوانها:
لَستُ أَدري وَلِماذا لَستُ أَدري لَستُ أَدري
شارد، تجد الناسَ ساعةً تأخذهم الشهواتُ، ساعة تأخذهم التُّحفُ، ساعة تأخذهم الرحلات، ساعة يأخذهم التَّباهي، ثم يأتيهم الموتُ فجأةً فيحبِط اللهُ عملَهم، أما المؤمن هدفه واضح.
إذًا التَّمكن يحتاج إلى صحَّة قصد، يكون هدفُك واضحاً وصحيحاً، وسِعة طريق توصلك إلى هذا الهدف، قال تعالى:
﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)﴾
الشرع عظيم، وهناك منهج لهذا الشرع.
قال: فبصحة القصد يصحُّ السيرُ، وبصحَّة العلم تنكشف له معالمُ الطريق، الآن بسعة السير يهون عليه السيرُ، دائماً شرفُ المؤمن قيامُه بالليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس، فكلما شرُف قصدُك شرُفتَ أنت مع هذا القصد، قل لي ما الذي يهمُّك أقلْ لك من أنت؟
(( عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت الدُّنيا همَّه، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ. ))
[ السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد رجاله ثقات ]
أحد إخواننا يسكن بشارع برنية، قال لي: إنسان اشترى بلاطة أي طابقين متجاورين، هذا مصطلح عند تجار البناء، في الطابق الثاني عشر، والبيتان جاهزان، لم يُعجبه كسوة هذين البيتين، فاقتلع البلاط، وكسَّر السيراميك، ونزع النوافذَ، وأعاد البيت على العظم، وهو يتمتَّع بذوقٍ عالٍ جدًّا في الكسوة، وضع البلاط الرائع، والسيراميك الغالي، والمنجور المدهِش، قال لي: والله يا أستاذ سنتان بالتَّمام والكمال وهو يُتمِّم كسوة هذين البيتين، قال: حتى وصل الأمرُ أن أنشأ طاولةً من الرخام الشَّفَّاف-هذا أغلى أنواع الرخام-ثابتة، وجعل تحتها الإضاءة، والبناء لم يكن فيه مصعد، سنتان، اثنا عشر طابق وهو صاعد نازل، ثم فجأةً وافتْه المنيَّةُ بعد أن انتهت كسوة البيتين بأيام ثلاث، الطريق مسدود، هذه حوادث تتكرَّر كثيراً، يتوهَّم أن هذا الشيءَ يسعده، ثم يُفاجأ بعد فوات الأوان أنه لم يسعده، ومشكلة أهل الدنيا أنهم كلما وصلوا إلى شيء منها ظهر شيء أجمل، فاسودَّ هذا في أعينهم، تظنُّ أنك أنت قد فعلتَ شيئاً جميلاً جدًّا، بعد سنة تأتي أشياء أجمل، فالذي هدفُه الدنيا فقط يسودُّ هذا في عينه، أما المؤمن يستعين بالدنيا استعانة على آخرته، فيرضيه منها كلُّ شيء، قال: دخل أحدُ الصحابة إلى غرفة سيِّدنا أبي عبيدة الجرَّاح، هكذا قرأتُ، وجد قِدرَ ماءٍ مغطًّى برغيف خبز، وسيفاً معلَّقاً، وجلداً يجلس عليه، فقيل: ما هذا يا أمين هذه الأمة؟ قال: هو للدنيا وعلى الدنيا كثير، ألا يبلِّغنا المقيل؟
أي أنت ألم تصدف أنك عزَّيتَ ببيت ثمنه حوالي خمسين مليوناً، وهذا الذي دُفن قبل يوم هو الذي أنشأ هذا البيتَ، وزيَّن البيت، وفرَش البيتَ، واعتنى بهذا البيت، أين هو الآن؟ هذه أكبر موعظة، ترك وذهب.
إذاً إذا تحقَّق العبدُ بطلب ربِّه وحدَه تعيَّن مطلوبُه، فإذا بذل جهدَه في طلبه صحَّ له طلبُه، المؤمن الصادق قصدُه اللهُ عز وجل، فلذلك أيُّ شيء يقرِّبه إلى اللهِ يفعله، وأيُّ شيء يُبعِده عن الله يبتعد عنه.
تمام العبودية أن توافق رسول الله في قصده ومقصوده وطريقه:
قال: تمام العبودية أن توافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصده ومقصوده وطريقه، فمقصوده اللهُ وحدَه، وقصدُه تنفيذُ أوامره في نفسه وفي خلقه، وطريقه اتِّباع ما أوحيَ إليه، هذا هو أعلى درجة العبودية، أن يكون قصدُك ومقصودك ومنهجك ما فعله النبيُّ، هو قصد النبيِّ ومقصود النبي ومنهج النبيِّ.
قال: خيارُ الناس من وافق النبيَّ عليه الصلاة والسلام في المقصود والطريق، وأبعدُهم عن الله ورسوله من خالفه في المقصود والطريق، الفكرة دقيقة، أنت الآن بدمشق، هدفُك حمص، من أين الطريق؟ ليس من درعا، طريق النبك، يجب أن يكون الهدفُ واضحاً، وأن تسلك الطريق الموصلَ لهذا الهدف، الطريق الموصل لهذا الهدف هو اتِّباع السنة، الهدف هو اللهُ، كيف وصل النبيُّ إلى الله؟ يجب أن تسلك الطريق نفسه الذي سلكه النبيُّ.
التَّمكن أساسه وضوحُ الهدف وصحَّته ووجود الطريق المفضي إليه، والطريق المفضي إليه هو الشرع، والهدف تعرفه من سرِّ وجودك، وغاية وجودك، فمن كان مرادُه اللهُ والدارَ الآخرة فقد وافق النبيَّ عليه الصلاة والسلام في المقصود، فإن عبَد اللهَ بما به أمر، اللهُ عز وجل لا يُعبَد إلا بما أمر، أناسٌ كثيرون مسلمون كثُرٌ يعبدون الله بأمزجتهم، لا بما أمرهم الله عز وجل، لذلك يبتدعون، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلا هَادِيَ لَهُ، إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ السَّاعَةَ احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَعَلا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ مَسَّاكُمْ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَرَكَ مَالا فَلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ أَوْ عَلَيَّ، وَأَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ. ))
إذًا أن تُعيِّن الهدفَ، وأن يكون هذا الهدفُ واضحاً، وأن تبحث عن الطريق الموصل إليه، هذا يقودك إلى منزلة اسمُها التَّمكُّن، أي أنت ممتنِع، أنت في حصنٍ حصين، لا يستخفنَّك أحدٌ.
الآن: أحد أسباب التَّمكن قال: أن تزيل العلائق التي تصرف عن هذا الهدف، فأيَّة علاقة بينك وبين الآخرين إذا حجبتْك عن الله عز وجل يجب أن تخرج منها، لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حالُه، ويدلُّك على الله مقالُه، لذلك قضية الصحبة مهمَّة جدًّا، اللهُ عز وجل قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
ثم يقول:
﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ كأن الآية تقول: اتقوا الله، لكنكم لن تستطيعوا هذه التقوى إلا إذا كنتم في بيئة مؤمنة، فأنت بقدر ما تستطيع اِجعلْ علاقاتك مع المؤمنين، نزهاتك مع المؤمنين، جلساتك مع المؤمنين،
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ. ))
[ أخرجه ابن حبان في صحيحه ]
فهذه البيئة الطيِّبة تُعينك على أن تكون مثلهم، الإنسان عنده صفة أساسية نسمِّيها الغيرةَ، الغيرة أصحُّ تسمية، إذا جلست مع المؤمنين تتمنى أن تكون مثلَهم بدافع الغيرة، إذاّ هم يشدُّونك إلى الله، إن جلست مع أهل الدنيا تتمنى أن تكون مثلهم، إذاً هم يشدُّونك إلى الدنيا فلذلك: قل لي من تصاحب أقُلْ لك من أنت؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)﴾
المتمكِّن في حرز حريز وفي حصن حصين:
أيها الإخوة الكرام؛ هذه المنزلة هي منزلة التمكن مستنبطة من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ المتمكِّن في حرز حريز، وفي حصن حصين، وقد عاهد اللهَ على السير إليه في المنشط والمكره، وفي إقبال الدنيا وإدبارها، والمُتمكِّن لا يسمح لأحد أن يُغيِّر وجهتَه، ولا أن يحرفه عن سيره، ويقابل هذا المتمكن ضعيفُ الإيمان الذي لم يتَّضِح هدفُه، ولم يكتشف الطريق لهدفه الذي رسمه له.
أرجو اللهَ سبحانه وتعالى أن نعالج في درس آخر منزلة من منازل مدارج السالكين في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين.
الملف مدقق