- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (019) سورة مريم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أسماء الله الحسنى كلها محققة في الدنيا إلا اسم العدل لا يتحقق إلا بالآخرة :
الآية الواحد والسبعون من سورة مريم وهي قوله تعالى :
﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72)﴾
( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا )
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
هذا المعنى أن أسماء الله الحسنى كلها محققة في الدنيا ، اسم العليم ، كل ما في الكون ينطق بهذا الاسم اسم الحكيم ، اسم الغني ، اسم القدير ، لكن اسم العدل قد لا يبدو للناس في الدنيا ، قد يجد الناس رجلاً قوياً ، فاجراً ، منحرفاً ، فاسقاً ، يتحدى ذات الله عز وجل ، ويتمتع بأقوى صحة ، وقد تجد إنساناً مؤمناً مستقيماً مستضعفاً ، لا يقوى على أن يحرك ساكناً ، اسم العدل لا يتحقق إلا بالآخرة ، لذلك ورود النار شيء ودخولها شيء آخر ، فإذا ورد المؤمن النار لا ليصلى حرها ، بل ليرى مصير الظالمين فيها ، ليتحقق عنده العدل الإلهي ، ليرى مكانه في النار فيما لو لم يكن مؤمناً ، هذا مما يضاعف سعادته بالجنة .
لو فرضنا شريكين ، اقترح أحدهم على الآخر أن يتعامل ببضاعة غير نظامية ، الثاني رفض أشد الرفض ، فلما رفض فسخت الشركة ، وتولى الأول خطته ، واشترى بضاعة غير نظامية ، وباعها ، ثم ضبطت هذه المخالفة ، وألقي القبض عليه ، وألقي في السجن ، فذهب الثاني ليزوره ، فضلاً عن أنه يزوره ، ويواسيه ، ألا يشعر بحكمة بالغة وسعادة غامرة من جراء القرار الحكيم الذي رفض به هذه الصفقة ؟
دخول النار شيء وورودها شيء آخر :
إذاً ربنا سبحانه وتعالى إذا أورد الناس جميعاً النار ليروا عدالته ، ليروا أسم العدل محققاً .
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
آيات كثيرة .
﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)﴾
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
مرة ثانية أيها الإخوة ؛ دخول النار شيء وورودها شيء آخر .
مرة كنا في متحف حيوانات ، في قسم الأفاعي والثعابين ، أي مكان فيه الثعبان من أكبر حجم ، لكن أمامه بلور كثيف ، فنحن نقف أمامه ، بيننا عشرون سنتمتراً ، مطمئن ، نحن لم ندخل على هذا الثعبان ، نحن أطللنا عليه فقط وبيننا وبينه حرز حريز ، تمتعنا برؤية حركته ، وعيونه ، وأجزاء خلقه ، وبيئته التي هو فيها ، وبيننا وبينه يوجد عشرون سنتمتراً ، لكن يوجد بلور كثيف وإضاءة شديدة ، وهو في بيئته الطبيعية ، يتحرك ويتلوى ، هل يقال : نحن دخلنا إلى جحر الثعبان ؟ لا ! نحن وردنا ولم ندخل ، فالمؤمن إذا ورد النار لا يشعر بوهجها أبداً ، لا يرى إلا عدالة الله محققة في هؤلاء الذين ظلموه في الدنيا ، له شريك مثلاً فاجر ، كافر ، منحرف ، انتزع منه المحل التجاري ، وشكاه إلى الله ، وعاش في بحبوحة وقوة ومنعة ، وانتهت الحياة ، ولم يقع حكم الله في ، جاءت الآخرة ، رأى شريكه في مكانه الطبيعي ، وشيء آخر ، لولا أنه آمن بالله ، وعرفه ، واستقام على منهجه ، وسار في طريق الإيمان ، لكان هنا محله ، بالنار ، تتضاعف سعادة المؤمن في الجنة بعد هذا الورود ، فهذا الورود ليس دخولاً ، قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (71))
آيات الله في الدنيا محققة كلها يوم القيامة :
أحياناً عندما ينزل العقاب بالمجرمين بالساحات العامة ، إنسان قاتل نعدمه في الساحة العامة ، هناك هدف تربوي كبير ، أما إذا أعدم في السجن ، ما رآه أحد ، ولا أخبر به أحد ، هناك حكمة بالغة الإنسان حينما يرى عدالة الله عز وجل ، وأنه قيوم السماوات والأرض ، وأن كل شيء عنده بمقدار .
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾
﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(77)﴾
تأكل تمرة تجد بالنواة فلقتان ، وسط الفلقتين يوجد خيط ، والتمرة لها رأس مدبب ، النواة ، لو وضعتها على اللسان كالإبرة ، هذا النقير ، والفتيل الخيط ، وأحياناً لها غشاء رقيق جداً اسمه القطمير ، فربنا عز وجل قال : ( وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(77))
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)﴾
﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)﴾
هل هناك من قيمة لغلاف رقيق يلف النواة ؟ ترونه ، هل هناك من قيمة لرأس مدبب كالدبوس تنتهي به النواة ؟ هل هناك من قيمة لخيط بين فلقتي نواة ؟ قال : ( وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(77) )
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)﴾
﴿ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾
إذاً هذه الآيات التي تقرؤها في الدنيا ، في كتاب الله ، تراها محققة يوم القيامة .
العاقل من يعدّ لكل شيء عدته قبل فوات الأوان :
لذلك يوم القيامة هو الذي خلقكم ثم يعيدكم لتجزى كل نفس بما تسعى .
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
لذلك المؤمن أيها الإخوة ؛ هذا المشهد ، مشهد العبد المطلق ، لا يغيب عن ذهنه أبداً قبل أن يظلم ، قبل أن يفعل شيئاً لا يرضي الله ، قبل أن يأخذ ما ليس له ، يقف عند هذه الآيات ، ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72))
تروى قصة رمزية بكتب الأدب ، أن صيادين مرا على غدير ، في هذا الغدير سمكات ثلاثة ، كيسة ؛ أي عاقلة ، وكيسة منها ، وعاجزة ، تواعد الصيادان أن يرجعا ، ومعهما شباكهما ، ليصيدا ما في هذا الغدير من سمك ، قال : فسمعت السمكات قولهما ، أما أكيسهن أي أعقلهن فإنها ارتابت وتخوفت ، وقالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، ثم إنها خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت ، هذا العاقل ، قال : وأما الكيسة ، الأقل عقلاً ، الأقل ذكاء ، بقيت في مكانها ، أهملت ، حتى عاد الصيادان ، في ذهنها خطة ثابتة ، جاهزة ، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها ، فإذا بالمكان قد سدّ ، قالت : فرطت وهذه عاقبة التفريط ، غير إن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ثم إنها تماوتت ، فطفت على وجه الماء ، متقلبة تارة على بطنها ، وتارة على ظهرها ، فأخذها الصيادان ، ووضعاها على الأرض ميتة بين النهر والغدير ، فوثبت في النهر فنجت ، لكنها حرقت أعصابها ، الأولى أذكى ، قال : وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وأدبار حتى صيدت ، العاجز لا ينجز شيئاً ، الكسول المهمل يعيش لساعة أجله ، إلى أن يأتيه الموت لا يصلي ، كل عمره بالطاولة بالليل حتى الساعة الثانية ، طاولة ، وغيبة ، ونميمة ، واختلاط ، إلى أن يأتي الأجل ، ليس مستعداً ، قال : وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وأدبار حتى صيدت وأكلت ، أما العاقلة جداً فاحتاطت للأمر قبل وقوعه ، والأقل عقلاً مع وقوعه ، والغبي لا قبل وقوعه ، ولا مع وقوعه ، ولا بعد وقوعه ، هذا عطل تفكيره ، فلذلك هذه الآية أيها الأخوة متعلقة بيوم القيامة ، ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72))
والحمد لله رب العالمين