الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس التاسع عشر من دروس منازل السالكين، ومنزلة اليوم منزلة المراقبة.
هذه المنزلة منزلة ذاتُ أهميةٍ كبيرةٍ في طريق الإيمان، لأنَّ الإنسانَ إذا أيقنَ أنَّ الله يُراقِبهُ استقامَ على أمره فَسَعِدَ في الدنيا والآخرة.
الآيات القرآنية المتعلقةُ بهذه المنزلة:
الآيات القرآنية المتعلقة بهذه المنزلة، يقول الله عزّ وجل:
﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)﴾
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ أي يجب أن تعلمَ أنَّ اللهَ يعلم، فإذا عَلِمتَ أنَّ الله يعلم أخذتَ الحِذرَ من أن تعصيهُ، وهذا هو سِرّ النجاح مع الله عزّ وجل.
آية ثانية من آيات المراقبة وهي قولهُ تعالى:
﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)﴾
لاشكَ أنَّ أحدنا إذا عَلِمَ أنهُ مُراقَب فإنهُ يُبالغُ في الانضباط، يُبالغُ في مراجعةِ نفسهِ، في كلماتهِ، وفي حركاتهِ، وفي سكناتهِ، هذا إذا راقبهُ إنسان، والإنسان مراقبتهُ محدودة، يستطيع أن يكتب عليك ما قُلت، وأن يُصوّر ما تحركت، ولكنهُ لا يستطيع أن يكشف ما في نفسك، ولا ما في ذهنك، المراقبة المحدودة من قِبِلِ إنسانِ ضعيفٍ مثلك تدعوكَ إلى الانضباط التام، فكيف لو علمتَ أنَّ الواحدَ الديّان يُراقِبُك؟ أنَّ الله عزّ وجل الذي يعلم السرَّ وأخفى مُطّلعٌ عليك؟ ناظرٌ إليك؟ يعلمُ سِركَ وجهرك؟ ما أخفيتَ وما أعلنت؟ ما أبطنتَ وما أظهرت؟ ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ لا عليك فقط؛ بل على خصومكَ وعلى سائر المخلوقات.
آية ثالثة من آيات المراقبة:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾
وهذه معيّةٌ عامة، الله سبحانه وتعالى معَ كلِّ مخلوق، مؤمناً كانَ أم كافراً.
آية رابعة، يقول الله عزّ وجل:
﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)﴾
مُطّلعٌ عليك.
آية خامسة، يقول الله عزّ وجل:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾
أي الإنسان في عين الله، بمعنى أنه يراه، وهناك معنى آخر أنه يحفظهُ، نقولُ: هذا الابنُ في عينِ أمهِ، أي أمهُ تحوطهُ بالرعاية والاهتمام، بمعنى أنها تعلمُ أينَ هوَ؟ وماذا يفعل؟ وبمعنى أنها تحوطهُ بالرعاية والاهتمام.
الآية الأخيرة في هذا الباب:
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾
وما من مخلوقٍ على وجه الأرض يستطيع أن يكشفَ خيانةَ العين إلا الله، هو وحدهُ يعلم خائنة الأعين، وأنا دائماً أسوق على هذه الآية ذلكَ المثل، طبيبٌ مسموحٌ له أن ينظرَ إلى جسدِ المرأة، لكنَّ الشرعَ سمحَ لهُ أن ينظرَ إلى موضع العِلّةِ فقط، فلو سبقتهُ عينهُ إلى مكانٍ آخر، هذا شيءٌ لا يستطيعُ مخلوقٌ أن يطّلعَ عليه إلا الله، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ﴾ وقد تكونُ في بيتك وحدك، تُفتَحُ نافذةُ جارك، تقفُ أمامها امرأة، لا يمكن لأحدٍ أن يطّلعَ على هذه المخالفة لو ملأتَ عينيكَ منها إلا الله، فإذا نظرت ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ .
إذاً: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ ، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ ، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ، ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ ، ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ ، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ كلُّ هذه الآيات تتضافر ليكونَ منها منزلة يجب أن يتحلّى بها المؤمن وهي منزلة المراقبة، أي أن يشعر وأن يوقن أنَّ الله يُراقبهُ.
أحاديث شريفة تتعلق بهذه المنزلة:
إلى السّنّة، يقول عليه الصلاة والسلام من حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام،
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، قَالَ: مَا الإِسْلامُ؟ قَالَ: الإِسْلامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. ))
حتى في بعض الأدعية النبوية قيل: اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، إذاً المراقبة دوام علمِ العبدِ وتَيقنِهِ باطلاعِ الحقِّ عليه سبحانهُ وتعالى على ظاهره وعلى باطنه، فاستدامتهُ لهذا العِلمِ واليقين هي المراقبة.
سؤال الآن؛ لو أنهُ من حينٍ لآخر شعرتَ أنَّ الله يُراقبك هل أنتَ في حال المراقبة؟ الجواب: لا، إذا دامَ هذا الشعور، وشعرتَ أنَّ الله يُراقبك في كلِّ أحوالك، في حركاتك وسكناتك، في كلِّ نشاطاتك، في خلوتك، في جلوتك، في لهوِكَ، في جِدك، في عملك، في بيتك، في الطريق، إذا سافرت إلى أماكن بعيدة، إذا استدامَ حالُ المُراقبة، إذا استدامَ شعورُكَ أنَّ الله يعلم، وأنَّ الله مُطّلعٌ عليك، وأنَّ الله يُراقِبك، فأنتَ في مرتبةٍ من أرقى المراتب، ومن أهم المراتب، ومن أكثرها فائدةً لك، إنها حالُ المُراقبة، المراقبة ثمرةٌ من ثمار العِلمِ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى رقيبٌ عليك.
لو دخل إنسان إلى متجر، وكان خبيراً بما في هذا المتجر من أجهزة، وآلات، ورأى آلات تصوير، وضعت في زوايا متعددة من هذا المتجر، وقرأ لوحةً كبيرة كُتبَ عليها: الصالة مراقبة تلفزيونياً، إذا قرأ اللوحة ورأى الأجهزة أيُعقل أن يدخلَ إلى زاويةٍ ميتةٍ فيأخذُ حاجةً ويضعُها في جيبه؟ مستحيل، هُنا أيقن أنهُ مُراقب.
أي موظف في شركة، ذهبَ إلى بلدٍ أجنبي، ودخلَ صالةً من صالات البيع، ورأى حاجةً غالية الثمن، خفيفة الوزن، وشعرَ أنَّ أحداً لا يُراقبهُ، فأخذها ووضعها في جيبه، وعندَ الباب أُلقي القبض عليه، وسيقَ إلى سفارته لينال جزاء عملهِ، وكانت فضيحة، وهو موظفٌ على مستوىً عالٍ، إذاً لأنهُ ظنَّ أن أحداً لا يعلم تورّطَ في هذه المخالفة، فلو عَلِمَ أنَّ القاعة مراقبة، وأنَّ هناك آلات تصوير تُصوّر وتُسجّل، أو أنَّ هناك لوحة كُتبَ عليها: القاعة مُراقبة، أو الصالة مراقبة، أنا أضرب لكم أمثلة بسيطة، إذا شعرتَ أنَّ الله مُطّلعٌ عليك، وأنتَ في البيت، من لم يكن له ورعٌ يصدهُ عن معصية اللهِ إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، إذاً كلُّ عملهِ نِفاقٌ في نفاق، ورياءٌ في رياء، أمّا إذا كانت خلوتهُ كجلوتهِ، سِرّهُ كعلانيتهِ، ظاهِرهُ كباطِنهِ، فهذا الذي ينجحُ ويُفلح، ركعتان من ورع خيرٌ من ألفِ ركعةٍ من مُخلّط، المُخلّط هو الذي خلطَ عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
أقوال العلماء في مقام المراقبة:
الآن إلى أقوال العلماء في مقام المراقبة، أو في مرتبة المراقبة، أو في منزلة المراقبة كما وردت في مدارج السالكين.
قيلَ: من راقبَ اللهَ في خواطرهِ عصمهُ في حركات جوارحهِ، أحياناً الإنسان يسمح لخواطره أن يَرِد عليها أشياء لا تُرضي الله، يتصور معصية، يتخيل أنهُ يعصي الله، يسوحُ خيالهُ في متاهات البُعدِ عن الله، إذا سَمَحَ لخواطرهِ أن تجولَ في المعاصي، أغلبُ الظن أنَّ هذه الخواطر إذا تُركت على عواهنها انقلبت إلى معاص، أنا أقول لكم كلاماً واضحاً الله سبحانه وتعالى لا يُحَاسِب إلا على العمل، ولكن إذا سمحت لخواطركَ بالشطط، ربما زلّت قدمك فانقلبت الخواطر إلى عمل، وشيءٌ آخر هو أنَّ مُعظمَ الذين عَصوا ربهم معاصٍ كبيرة هم في الأساس ما أرادوا أن يعصوا هذه المعصية، ولكن خاطِرٌ، فنظرةٌ، فكلامٌ، فابتسام، فموعدٌ، فلقاءٌ، ففاحشةٌ، أساسُها خاطر.
فلذلك من باب الوقاية، ومن باب الورع لا تسمحُ لخواطِركَ أن تجولَ في المعاصي، مع أنكَ لا تُحاسب على الخواطر، لكن نخافُ أن تدعها تجول، عندئذٍ تضعفُ عن مقاومتها، فإذا أنتَ أمامَ معصيةٍ.
مرة ثانية؛ من راقبَ اللهَ في خواطرهِ عصمهُ في حركات جوارحهِ، بالمناسبة يوجد قول لطيف أنه من تركَ ما اشتُبهَ عليه من المعاصي كانَ لِما استبانَ أترك، إذا قضية شُبُهة، تركها ورعاً، هو من باب أولى أنه لن يقترفَ المعاصي البيّنة، ومن وقع فيما اشتُبهَ به كان لِما استبان أوقع، ومن تجرّأَ وارتكبَ معصيةً تُعدُّ شُبهةً عِندَ الناس، في المرحلة التالية سوف يتجرأ، ويقع في المعصية البيّنة الواضحة.
قالَ الجُنيد: من تحقق في المُراقبة خافَ على فواتِ لحظةٍ من ربهِ لا غير، أي إذا كُنتَ في حال المراقبة، وشعرتَ أنَّ الله معكَ دائماً، وأنهُ مُطّلعٌ عليك، وأنهُ يعلمُ سِرّكَ ونجواك، خِفتَ أن تُضيعَ لحظةً من حياتك.
وقال ذو النون: علامة المراقبة إيثارُ ما أنزلَ الله، وتعظيمُ ما عظّمَ الله، وتصغيرُ ما صغّرَ الله، أي لاحظ نفسك، قيَمك، مقاييسك تنطبق على الكتاب والسنّة؟ أحياناً تُعظّمُ شيئاً حَقّرهُ الله، معناها قيِمك غير إسلامية، قيِمك غير رحمانية، وأحياناً مثلاً هناك أشخاص إذا خرجَ من بيتهِ بثياب النوم يَعدّ هذا عملاً همجيّاً، غيرَ حضاريّ، عملاً بشعاً قبيحاً جداً، أما إذا خرجت امرأته ترتدي أحدثَ الصرعات، وتُبرز من مفاتنها ما ينبغي أن يخفى، يُعدّ هذا رٌقيّاً، انظر للإنسان، هذا عظّمَ ما حقّرهُ الله، وحقّرَ ما عظّمهُ الله، فيجب أن تُلاحظ أن تكون مقاييسك وقيمك وزوايا النظر متوافقةً تماماً معَ ما في الكتاب والسنّة، لذلك قيل: طوبى لمن وَسِعتهُ السّنّة ولم تستهوهِ البِدعة.
وقالَ إبراهيم الخوّاص: المراقبة خلوص السرِّ والعلانية للهِ عزّ وجل، من الداخل ومن الخارج.
وقيلَ: أفضلُ ما يُلزمُ الإنسان نفسهُ في هذه الطريق المحاسبة والمراقبة وإيقاعَ عملهِ مع الحُكم الشرعي، أن تُراقب نفسك، بعد المُراقبة يوجد مُحاسبة، راقبنا هذا الطالب، إذا بهِ يَغُش في الامتحان، نكتب تقريراً نعطيه الصفر، إذا راقبَ نفسهُ ثمَّ حاسبها، وبعدَ أن حاسبها انتقل إلى مرحلة إيقاعِ عملهِ وفقَ الشريعة، راقب، وحاسب، ووفّقَ بين حركته وبين العلم الشرعي.
قال: إذا جلستَ للناسِ فكُن واعظاً لقلبكَ ونفسك، ولا يَغُرّنكَ اجتماعهم عليك، فإنهم يُراقبونَ ظاهرك، والله يُراقب باطنك، لا تغترَّ أن يجتمعَ الناسُ عليك، لأنهم يملكون أن يُراقِبوا ظاهِرك، وأنت طبعاً ذكي، سوف تجعل من ظاهركَ ظاهراً صالحاً، لكنَّ الواحدَ الديان يُراقب قلبك فاجهد أن تُحاسب نفسك قبلَ أن يُحاسبكَ الله عزّ وجل.
قال العلماء مجمِعون على أنَّ مراقبة الله تعالى في الخواطر سببٌ لِحفظها في حركات الظواهر، فمن راقبَ الله في سِرّهِ حَفِظهُ في حركاتهِ، في سِرّهِ وعلانيتهِ، أنتَ في حال المُراقبة، تعبد الله باسم الحفيظ، والرقيب، والعليم، والسميع، والبصير، هذه الأسماء الحُسنى الخمس كُلها تؤدي معنى المُراقبة، إذا تكلّمت فهو سميع، وإذا تحركت فهو بصير، وإذا أضمرت فهو عليم، وإذا خرجتَ من بيتك فهو الرقيب، وإذا عَمِلتَ عملاً فهو الحفيظ، يوجد نسخة، كلّ حركاتك مُسجلّة عِندَ الله عزّ وجل، إذاً حفيظٌ ورقيبُ وبصيرٌ وسميعُ وعليمٌ، الحركة بصير، الكلام سميع، الإضمار ما في الداخل عليم، الحفيظ الأعمال مُسجّلة موثّقة، المُراقب أي لكَ بالمرصاد، قال تعالى:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾
﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾
إذاً الله عز وجل الآية دقيقة جداً، ليس فقط بالمرصاد، يُعاقب على ما اقترفتهُ يداك، معنى بالمرصاد أنه يراكَ وسوفَ يُعاقبُك، الآن الحاكم يكتفي أن يضبط مخالفات الناس فقط؟ يا ليت، القضية سهلة جداً، يكفي أن يكتشف أنك أنت تبيع بسعر أعلى، يوجد ضبط، يوجد سجن، ويوجد حُكم عُرفي، فلما ربنا يقول: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ من لوازم أنه بالمرصاد ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ .
من لوازم حال المراقبة ألا تنصرفَ عن تعظيم الله إلى تعظيم من سِواه:
من ألطفِ ما وُصِفَت به هذه المنزلة منزلة المراقبة أنَّ مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام بينَ تعظيمٍ مُذهل ومُداناةٍ حاملة، وسرورٍ باعث، لاحظ نفسك إذا أنت عندك ضيف، له حجم معين بالمجتمع، صديق يحمل شهادة ثانوية، متفوق، فدخلَ عليكَ أستاذ جامعي، لاحظ نفسك، تستقبل الأستاذ الجامعي، وتنظر إليه، وتُحدّثهُ، وتنصرفُ إليه بكليّتك، وتنسى أنَّ في الغرفةِ طالباً آخر، ماذا حصل؟ هذا الإنسان الثاني صرفكَ عن الأول، فإذا أنت في بعض ساعاتك، في عملك، في حرفتك، في مكتبك، في متجرك، في معملك، في بيتك، هناك شيء صرفَكَ عن أنَّ الله يُراقُبك، هذا الحال حالٌ خطيرة، من علامة صِدق المُراقبة أن شيئاً مهما بدا عظيماً لك لا يصرفُكَ عن ملاحظةِ عظمةِ اللهِ لك التي تُراقُبك، لذلك أهل الله، أهلُ القُرب، المؤمنون الصادقون لا تغيب عظمة الله عن أذهانهم أبداً، بدليل أنَّ هذا الاستعظام للهِ عزّ وجل لا يصرِفهم إلى غير الله، فهذه الحال امتلاء القلب من عظمة الله عزّ وجل، بحيثُ يذهلُ عن تعظيم غيره، انظر إذا إنسان دخل لعند شخص مهم جداً، تجد يوجد على الطاولة جريدة، لا يقرؤها، يوجد قطعة ثمينة لا يمسكها، لا يُقلّبُها، هناك شخص آخر لا يلتفتُ إليه، أنا أُلاحظ أحياناً تُقابل إنساناً في نظرك مهماً، تجد الجلسة بأدب، الاتجاه نحوهُ، أي شيء، لا يعبث بمسبَحة أمامهُ، ولا يقرأ جريدة، لأنه شعرَ أنَّ هذا الذي أمامه شخص مهم، بيده مثلاً قضية أساسية في حياته، فلماذا نحنُ مع مخلوق في مقياس المجتمع عظيم نقفُ متأدبين؟ ننصرفُ إليه بكليّتنا؟ لا نعبثُ بسُبحة؟ ولا نقرأ جريدة؟ ولا نلتفتُ عنه إلى غيرهِ؟ لذلك حال المراقبة من لوازمهِ ألا تنصرفَ عن تعظيم الله عزّ وجل إلى تعظيم من سِواه.
من لوازم هذا الحال سيرٌ إلى الله، متابعةٌ لهذا السير، حضور القلبِ مع ذلك، تعظيم الله عزّ وجل، الذهول بعظمتهِ عمّا سِواه، هذه كلها من لوازم المراقبة، ومن فقرتها الأولى التي هي التعظيم المُذهل، تجد ذنبُ المنافق كأنهُ ذُبابة، يقول لك: ما الذي صار؟ ماذا عملنا؟ كل المستهترين بالقيم الدينية إذا سألتهم لماذا فعلتم هذا؟ يجيبون: ماذا فعلنا يا أخي؟ المسكونة خربت؟ إذا ملأَ عينيه من حرام، أكلناها شيء؟ نظر، ماذا فعلنا؟ المعصية سهلة عندهُ، وكلما ارتقى مقامك عِندَ الله يُصبحُ الذنب كأنه جبلٌ جاثمٌ على صدرك، كُلما صَغُرَ الذنبُ في عينيك كُلما قلَّ مقامُكَ عِندَ الله، وكُلما كانَ الذنبُ كبيراً، وكلما كَبُرَ الذنبُ في عينيك كانَ مقامُكَ عِندَ الله كبيراً، وصَغُرَ هذا الذنب، قضية دقيقة جداً.
أي إنسان يرتكب مخالفة، يقترف معصية، وينام مرتاحاً لا يقلق؟ إذا الإنسان تكلّم كلمة، وشعر أن لها مضاعفات، ويوجد إنسان سجلها عليه، لا ينام ليلتها، لماذا تكلمت هكذا؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، مع إنسان، أترى أنَّ الله عزَ وجل عظيم عظمةً بحيثُ لو ابتعدتَ عنهُ أو وقعتً في معصيتهِ تشعر كأنكَ سقطتَ من السماءِ إلى الأرض؟ هكذا حال المؤمن.
من شعر أن الله يراقبه يتولّد في نفسه فرحة ولذة لا يعدلهما شيء:
الآن يوجد موضوع أتمنى ألا يبدو لكم خيالياً، قالَ: أن تشعرَ أنَّ الله يُراقُبك، وأنهُ معك، وأنكَ مستقيم على أمره، قال: هذا الشعور يبعثُ في نفسكَ فرحةً عظيمة ولذّةً لا توجد في أيِّ شيءٍ في الدنيا، أي اسأل أهل الدنيا، الذين أكلوا أطيب الأطعمة، في أرقى الأماكن، في أجمل المناظر، يقول لك: طعام لا يوصف، والذين غَرِقوا في الملذاتِ إلى قِمةِ رأسهم، والذين حصّلوا المجدَ من كلِّ أطرافه، هؤلاءِ لو عَرفوا الله، وذاقوا طعمَ القُرب، يُقسمونَ بالله أنَّ كلَّ اللذائذ التي تمتعوا بِها من قبل لا تَعدِلُ لحظة إقبالٍ على الله عزّ وجل.
لذلك إذا المؤمن قال وحَلَفَ يميناً مُعظّماً: واللهِ ليسَ في الأرضِ من هوَ أسعدُ منّي إلا أن يكونَ أتقى مني، لا يحنثُ بيمينه، لأنك أنتَ حينما تتصل مع الأشياء الجميلة؛ من طعامٍ، من شرابٍ، من جو باردٍ في الصيف، من جوّ دافئٍ في الشتاء، من مناظر خلابة، أيّ شيء الله أعطاه مسحة من الجمال، الله هوَ الجميل، إذا تجلى، أحياناً ربنا عز وجل يتجلّى على البحر بالجمال، يقول لكَ: سهرنا سهرة على البحر لا أنساها، أمواج لطيفة، نسمات عليلة، تركب أحياناً بالبحر، تشعر بالسرور، مياه صافية، تكاد ترى قعرَ البحر، صفحة الماء كالزيت، هذا تجلّى الله على هذا البحر باسم الجميل، فإذا تجلّى عليه باسم الجبار يكادُ القلبُ ينخلع، أحياناً ربنا له أفعال، هذه باسم الجميل، قد تنظر إلى وجه طفلٍ بريء لا ترى في الأرض كُلها أجمل من هذا الوجه، كُلّهُ صفاء، كُلهُ براءة، كُلهُ ذاتيّة، وأحياناً تنظر إلى وجه كُلهُ نِقمة، هناك أفعال، تجد البراكين، يقول لك: ثمانون ألف إنسان تحت الأنقاض، مدينةٌ أصبحت للأشباح، أصبحت أثراً بعدَ عين، تُحسّ اسم الجبّار.
أحياناً تنظر إلى غابة في الربيع، تسمع أصوات العصافير، تشعر باسم الجميل، فربنا أسماؤه كثيرة جداً، يتجلّى في كلِّ أفعالهِ ببعضِ أسمائهِ، أحياناً اسم اللطيف يقول لكَ: من هنا مرت الرصاصة، شعري احترق،
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. ))
[ أحمد : الهيثمي : مجمع الزوائد : رجاله ثقات ]
وقف في رأس الوادي السحيق، يظهر معلوماتهُ بالقيادة ضعيفة، المِقود مضبوط نحوَ الوادي، وقبل أن يُشعل المُحرّك أرخى المِكبح فانطلقت نحو الوادي، الشخص أعرفهُ وزرته في البيت، من قمة الوادي إلى أسفل الوادي هو وزوجتهُ وأولادهُ، ولم يُصابوا إلا برضوض، وبعض الكسور الخفيفة، ومن ينظر إلى السيارة يقول: لابدَّ من أن رُكابها ماتوا جميعاً، اسم اللطيف، لطف الله عزّ وجل، أحياناً تجد اسم اللطيف واضحاً جداً، أوضح شاهد على اسم اللطيف حينما يذوب سِنّ الطفل الصغير شيئاً فشيئاً، أنت مهما كنت طبيباً ناجحاً، مهما كنت رحيماً، لابدّ من إبرة مخدر، لا بد من غرز الإبرة باللثة، وإذا كان المخدر غير ناجح أثناء قلع الضرس، أثناء قطع العصب، يخرج المريض من جلده من الألم، أليسَ كذلك؟ أما ربنا لطيف، انظر كيفَ تُقلَعُ أسنان الطفل الصغير الأولى، هو يأكل يجد كأنه يوجد بحصة بفمه، فيكون سنهُ، كيف انقطع العصب؟ كيف ذاب السن؟ اسم اللطيف.
الهواء يدلُ على اسم اللطيف، بيننا لا يحجُبُنا، أي لا شيء الهواء؟ الهواء يحمل طائرة، ثلاثمئة وخمسون طن، مئة وخمسون طن وزن الطائرة، مئة وخمسون طن وزن الوقود، وخمسون طن وزن الركاب، وعلى الهواء محمولة، الهواء إذا تحرك يقلع مُدناً بكاملها، عِندي صور مدن كبيرة، أصبحت أثراً بعدَ عين، قاعاً صفصفاً، مرّ إعصار سيليكون، سرعته ثمانمئة ميل بالساعة، ما أبقى شيئاً، شخص كان ساكناً ببيت، في مدينة جاءها إعصار، ما رأى من بيتهِ إلا مُحرّك سيارته بعد خمسة كيلو متر، عَرف المحرك من الرقم، أما أصبحت مع الأرض تماماً، انظر إلى الرياح تَهُب نسمات أحياناً تشعر بسرور، بانتعاش لا يوصف، اسم اللطيف، نفس الرياح، سرعة شديدة تُدمر كلَّ شيء بأمر ربها.
إذاً اسم المُراقبة، إذا أنت شعرت أنَّ الله يُراقِبُك، من ثِمار المُراقبة استقمتَ على أمره تماماً، وأحسنتَ إلى خَلقه، وأقبلتَ عليه، يجب أن تشعرَ بسرورٍ ولذةٍ لا تجدُهما في شيء آخر، فالذين أكلوا أطيب الطعام، والذين سكنوا أفخر البيوت، والذين تزوّجوا أجملَ الزوجات، والذين علا شأنُهم حتى صاروا من عَلية القوم، اسألهم جميعاً، هل ذقتم؟ لو أنَّ هؤلاء عَرفوا الله بعدَ ذلك، وأقبلوا عليه، اسألهم: وأنتم في أوجِ عظمتكم، وأنتم في أوجِ قوتكم، وأنتم في أوجِ استمتاعِكم بالدُنيا هل ذُقتم هذه السعادة التي الآن تعيشونها؟ يقولون: واللهِ بِملء فمهم لا والله، حتى إن بعض الصالحين أو إنَّ بعضَ البلاد الإسلامية زارها رجل سائح، فوجئ أنَّ كُلَّ القبور عليها تواريخ قليلة جداً، هذا عمرهُ سبع سنوات، ماتَ في السنة السابعة، هذا في السنة الخامسة، هذا في السنة السابعة عشرة، شيء عجيب! نحن نعرف ثمانين، خمسة وسبعين، ستين، أربعين، خمس، وست، هذه القرية لا تؤرّخ حياة الإنسان إلا بعد أن يعرف الله، هذا عَرَفَ الله بالخامسة والأربعين إذاً الآن بدأت حياتهُ، مات بالخامسة والخمسين، أي عمرهُ عشر سنوات، أي العمر الذي تمضيهِ في الجهل وفي المعصية، حينما تعرفُ الله يتمزق القلب، كيفَ أمضيتَ هذا العمر في المعصية؟ إذاً تجدُ اللذّةَ، وفرحة القلب، وقُرّةَ العين، وليس له نظيرٌ يُقاس به، وهو حالُ أهل الجنة، حتى قالَ بعضُ العارفين: إنه لَتَمر بي أوقاتٌ أقولُ فيها: إن كانَ أهلُ الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيب، حتى إنَّ بعضهم فَهِمَ كلام النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن سعيد بن زيد: أبو بكرٍ في الجنةِ ، وعمرُ في الجنةِ. – وساق معناه – ثم قال : لَمَشْهَدُ رجلٍ منهم مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَغْبَرُّ فيه وجهُهُ، خيرٌ من عملِ أحدِكم عُمُرَهُ، ولو عُمِّرَ عُمُرَ نوحٍ. ))
ما فَهِمَ هذا الكلام على أنهُ سوفَ يدخلُ الجنة، فَهِمَ هذا الكلام على أنهُ الآن في الجنة، في جنة القُرب، هو سيدخلُها؛ لكن الآن في جنة، وأنا أقول لكم: اجهد مع الله في طاعتهِ، وفي التقرّبِ إليه، وفي خدمة عباده، وفي وقف كل جُهدكَ، وعضلاتكَ، ووقتكَ، وطاقتكَ، وعلمِكَ، وأهلِكَ، أن تَقِفَ كلَّ هذا في سبيل الله، فإذا سمحَ لكَ بالقُرب، إذا تجلّى على قلبك، إذا ألقى في قلبكَ السكينة عندئذٍ تعرِفُ طرفاً من مقام أهل الجنة.
وأنا أقول لكم الآن كلمة دقيقة: أحدكم لو التقى بإنسان من أصدقائهِ القُدامى، وجلس معهُ ساعة، من حديثهُ يشعر أنهُ مقهور، أنهُ ضائع، أنهُ تائه، أنهُ شقي، أنهُ خائف، أنهُ متمزق، أنهُ يخافُ كلَّ شيء، أنهُ يُحِس بالقهر، اجلس مع مؤمن، تجد معنوياته عالية كثيراً، يشعر أنَّ خالقَ الكون يُحبهُ، يشعر أنه في عين الله، في رعايتهِ، يشعر أنَّ الله لن يتخلى عنه، تجده أخي يجب أن نعمل فحصاً دورياً من أجل السرطان، هذا شيء يُخيف، لو لم يصب بالسرطان، لو عاش ثمانين سنة من دون سرطان، هذا ذاق طعم السرطان ثمانين سنة، لأنكَ إذا كُنتَ تخافُ شيئاً فأنتَ فيه، أنتَ من خوف المرض في مرض.
أهلُ الدُنيا حينما ابتعدوا عن الله عزّ وجل قَلِقوا، يخافون أمراضاً خبيثة، يقول لكَ: أخي يوجد إحصاء مُخيف في أمريكا، كلّ ستة أشخاص يموت واحد بمرض القلب، أبداً، ثلث الوفيات من أمراض القلب، وكل النساء يخفن من سرطان الثدي، تجد فحصاً دورياً، والله شيء يُخيف، وهناك أيضاً أمراض الدماغ، يقول لكَ: يخاف أن يحدث انفجار بالدماغ، سُبات، انتهى، إذا الشخص يقرأ عن الأمراض يجب ألا ينام الليل، يخاف من أمراض المعدة والأمعاء، أم أمراض القلب والشرايين، أم أمراض الدماغ والأعصاب، أم يخاف أن إنساناً يقود مركبته ينام يدخل به يدهسهُ، ينقطع عمودهُ الفقري يصبح مشلولاً، فإذا الإنسان بَعُدَ عن الله عزّ وجل الحياة موحِشة، شيء مُخيف جداً، انظر المؤمن إذا سافر يقول: يا رب أنتَ الرفيق في السفر، والخليفةُ في الأهلِ والمالِ والولد، بغيابك ابنك، أحياناً الإنسان إبريق شاي، ينسكب على ابنه يصبح هذا الابن مصدر شقاء للأسرة كلها، كل حياته، فأنت إذا كنت تخاف من تشوه، يأتيك مولود مشوّه، لمّا تخاف من مرض خبيث، أما إذا كُنتَ مع الله، الله عزّ وجل يُطمئُنك: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أنا أقول والله يا أيها الإخوة، زوال الكون أهون على الله من أن يتخلّى عن مؤمن، أو أن يُضيّعَ مؤمناً، أو أن يجهدَ المؤمنَ في طاعة الله، ويجعلهُ في مؤخرة الركب، ليسَ هذا من أخلاق الله عزّ وجل.
من لم يجد السرور في قلبه أثناء عباداته فليتهم إيمانهُ وأعمالهُ:
يا إخوان؛ كلمة وإن كانت قاسية تحملّوها، قال: من لم يجد هذا السرور ولا شيئاً منه فليتهم إيمانهُ وأعمالهُ، إذا صلاتهُ شكليّة، تِلاوتهُ شكليّة، ولا مرة بكى، ولا مرة، ولا مرة قلبهُ اضطرب حُباً لله عزّ وجل، ولا اقشعرّ جلدهُ ولا مرة شعوراً بخشية الله عزّ وجل، ما شعر أنهُ هو غالٍ على الله، كل العبادات شكليّة يؤديها، قال: من لم يجد هذا السرور ولا شيئاً منه فليتهم إيمانهُ وأعمالهُ، فإنَّ للإيمان حلاوةً، من لم يَذُقها فليرجع، وليقتبس نوراً يجد به حلاوة الإيمان، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)﴾
أتحبون الدليل؟
(( عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا. ))
ذاق، الإيمان له طعم، إذا أكلت قطعة حلوى، سعر الكيلو ثلاثمئة وخمسون، وأكلت فجلة هل يستويان مذاقاً؟ هناك فرق كبير جداً، ((ذاقَ طعمَ الإيمان من رضيَّ باللهِ رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً)) إذا لم يكن هناك ذوق راجع نفسك، أعد حساباتك، راقب أين الخلل؟ أين المعصية؟ أين يوجد الشِرك؟ أين يوجد تعلّق في الدنيا؟ أين التقصير؟ راقب، إذا ما شعرتَ بهذا القُرب، وما شعرتَ بهذا الحُب، وما شعرتَ بهذا السمو، وما شعرتَ بهذه السعادة، راجع حساباتك.
حديثٌ آخر:
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ. ))
إذا شخص من الإخوان المؤمنين له رفيق لا يُصلّي، وعاص لله، وهو في أعلى درجات الغِنى والرفاه والبحبوحة، إذا قالَ هذا الصديقُ الأول المُستقيمُ على أمرِ الله: هنيئاً لفُلان، أقول لكم: إيمانهُ صِفر، لو أنهُ ذاق طعمَ الإيمان لما تمنىَ أن يكونَ مكانهُ، أقول لكم هذا الكلام: إذا تمنيتَ لساعةٍ واحدة وأنتَ في أشد حالاتِ الحِرمان من المال، من الصِحة، إذا تمنيتَ لساعةٍ واحدة أن تكون مكانَ إنسانٍ صحيح الجسم لكنهُ عاصٍ، قوي الجسم لكنهُ عاصٍ، رفيع المكانة لكنهُ عاصٍ، كثير المال لكنهُ عاصٍ، إذا تمنيتَ لساعةٍ واحدة أن تكونَ مكانه، بحالاتهِ، بمعاصيه، اعلم عِلم اليقين أنكَ لا تعرفُ الله، وما ذُقتَ من الإيمانِ شيئاً، وكلُّ عملكَ مردودٌ عليك، هكذا قالَ النبي: ((من كانَ اللهُ ورسولهُ أحبَّ إليه مما سِواهُما)) قالت له زوجته: أريد كذا وكذا، قال لها: اعلمي يا فُلانة أنَّ في الجنةٍ من الحورِ العين ما لو أطلّت إحداهُنَّ على الأرض لَغَلَبَ نورُ وجهها ضوءَ الشمسِ والقمر، فلأن أُضحي بِكِ من أجلهن أهون من أن أُضحي بِهن من أجلكِ، أي المؤمن يوجد بحياته شيء غير قابل للمساومة، لأنَّ اللهَ ورسولهُ أحبُّ إليه مما سِواهُما، لو قطعوه لا يعصي الله، وتجد إنساناً آخر على كلمة قيلت له ترك الصلاة، أخي لا أريد، على كلمة حذّرهُ بها فاسق تركَ دروسَ العِلم كُلها، يقول لك: أفضل، قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾
((ومن كان يُحبُ المرءَ لا يُحبهُ إلا لله)) لكَ أخ تُحِبهُ لله، لستَ زبوناً عِندهُ، وليسَ هو زبوناً عِندك، ولا يوجد قرابة، ولا يوجد صداقة، ولا يوجد مصالح، إطلاقاً لا تُحبهُ إلا لله، لا يوجد أي علاقة دنيوية بينكَ وبينهُ، هذه علامة الإيمان، ((ومن يكرهُ أن يعود في الكُفرِ بعدَ إذ أنقذهُ الله، كما يكرهُ أن يُلقى في النار)) .
يقول أحد العلماء: إذا لم تجد للعمل حلاوةً في قلبكَ وانشراحاً فاتهمهُ-اتهم قلبك-فإنَ الربَّ تعالى شكور؛ أي لابدَّ من أن يُثيب العامل على عملهِ في الدنيا من حلاوةٍ يجدُها في قلبهِ، يمكن وضعنا يدنا على معنى دقيق جداً من معاني الثواب، أخي لك ثواب اعمل، شيء فيه ثواب، كلمة ثواب يُرددها الناسُ عشرات المرات بل مئات المرات في اليوم الواحد.
قبلَ أن ننُهي الدرس لابدَّ من توضيح معنى الثواب، مرةً ثانية: كلمة الثواب تتناقلها الألسن كُلَّ يومٍ عشرات بل مئات المرات، هذا الشيء فيه ثواب، اعمل هكذا لكَ ثواب، هذا العمل الله يُثيبك عليه، ما معنى الثواب؟ هُنا يوجد معنى دقيق، الله عزّ وجل من أسمائهِ الشكور، معنى شكور أنكَ إذا عَملتَ عملاً صالِحاً ألقى في قلبِكَ سروراً وطمأنينةً وسكينةً وسعادةً كأجرٍ فوريٍّ يُقدمهُ لك مُعجّل، فإذا عَمِلتَ عملاً صالحاً ولم تشعر بشيء إطلاقاً فاعلم عِلمَ اليقين أنَّ هذا العمل فيه خلل، إمّا في النية، أو في القصد، أو في مُطابقتهِ للسنّة، إن لم تشعر بسعادةٍ لا توصف من خِلال أعمالكَ الصالحة التي تبتغي بها وجهَ الله عزّ وجل، معنى ذلك أنَّ أجرَ الله عزّ وجل المُعجّل لم يَصِلك، إذا الأجر لم يصل معناها العمل لم يُقبل، معناها العمل لم يُرفع إلى الله عزّ وجل، فإذا الإنسان ابتغى بعملهِ إرضاء الناس، أو أن ينتزعَ إعجاب الناس، أو أن يُثني الناسُ عليه، يفعلُ أعمالاً صالحةَ كالجبال، ومعَ ذلك قلبهُ مُتصحّر، والله أخدم كثيراً ولا أُحسّ بشيء، الثواب المعنى اللغوي: ما معنى ثابَ إلى رُشدِهِ؟ أي عادَ، الثواب يعني عادَ، أي أنتَ إذا فعلت عملاً صالحاً، العائد الذي يعودُ عليك هو شعوركَ بالسعادة، لذلك المؤمنون الصادقون إذا عَمِلوا الصالحات تمتلئُ قلوبُهم سعادةً، وما السعادة التي تمتلئُ بها قلوبهم إلا أجرٌ مُعجّلٌ أعادهُ الله عليهم في الدنيا، إذاً معنى الثواب هذه السعادة التي يشعرُ بها المخلِصون المستقيمون المنضبطون، فإذا الإنسان له أعمال صالحة كثيرة وكبيرة، وما شَعَرَ من خِلالِها أنَّ قلبهُ قد اهتز طرباً، وانتشى سعادةً، فليُراجع نفسهُ مرةً ثانية، هذا حال المُراقبة، أي إذا شعرتَ أنَّ الله يطّلعُ عليك، واستقمتَ على أمرِهِ، وأخلصتَ لهُ، جاءكَ الإحسان، جاءكَ السرور، جاءتكَ السعادة التي هي مُشجعٌ كبير في الدنيا.
وإن شاء الله تعالى ننتقل في درسٍ قادمٍ إلى منزلة جديدة من منازل مدارج السالكين، في فَهمِ معنى إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين.
الملف مدقق