- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠1العقيدة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
هل يكفي للمستعيذ بالله إذا مسه شيطان مقولة الاستعاذة ؟
أيها الأخوة, هناك نقطة في الدرس الماضي وهي أن الإنسان حينما يمسه طائف من الشيطان عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم, فقد يظن بعضكم أو يتوهم أنه مجرد أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ينتهي الأمر, أي قولٍ يقولـه: لابد من أن ترافقه حالة نفسية, يعني كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, يجب أن يرافقها استعاذة نفسية بالله عزّ وجل، ليس المقصود الكلمات ولكن المقصود الأحوال, هذه الأوهام عند بعض الناس أنه بمجرد أن تقول كذا و كذا ينتهي الأمر لا بد أن يرافق هذا القول حال نفسي.
في الصلاة تقول: الحمد لله رب العالمين, لو أنّ إنساناً كان ساخطاً على الله عزّ وجل ووقف ليصلي, وقال: الحمد لله رب العالمين لا يُقبل منه هذا, لا بد له من أن يشعر بفضل الله عزّ وجل عليه, إذا كانت حالته النفسية حالة الحمد فهذا القول يصح منه, أما إذا كانت حالته النفسية حالة السخط فإن كلمة الحمد لله رب العالمين لا تقدم ولا تؤخر, فإذا كان الحال موجوداً واللفظ موفوراً فكلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سلاحٌ فعال فتّاك لذلك قال الله عزّ وجل:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾
من صفات الشيطان أنه خنّاس, ومعنى خنّاس أنه بمجرد أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم يخنس, فلا يصح سحرٌ ولا حسدٌ ولا مسٌ ولا كيدٌ للمؤمن لأنه مستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
الإسلام حقائق وتعبد لله وليس شكليات لا يدرك صاحبها معناها:
ليس في الإسلام شكليات, الإسلام حقائق يعني:
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾
يتوهم بعض الناس أنك إذا قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر انتهى الأمر, حالة التسبيح وحالة التكبير وحالة الحمد وحالة التوحيد تحتاج إلى حالة نفسية فهذه الحالة إذا وجدت تستمر معك إلى الآخر, أما المال والبنون ينتهيان في الدنيا, لذلك المال والبنون زينة الحياة الدنيا, والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً.
أردت من هذه المقدمة أن أؤكد لكم أن في الإسلام حقائق, لو أردنا أن نوسع الموضوع, إذا كنت في الحج هل تظن أنك إذا طفت حول الكعبة انتهى الأمر ؟ لا بد من طواف نفسي, ولا بد من سعي نفسي، ولا بد من تلبية نفسية، ولا بد من الوقوف في عرفة من معرفة الله سبحانه وتعالى, ولا بد عند نحر الأضاحي من نحر الشيطان, فكل مناسك الحجّ لا معنى لها إن لم ترافقها حالات تعبّر عنها، وما هذه المناسك إلا رموز لحالات يشعر بها الحاجّ ؟ فلئلا يتوهم بعض الأخوة أنه إذا قلت وأنت غافل ومتلبس بالمخالفات والمعاصي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, لو قلت أعوذ بالله ألف مرة يبقى الشيطان متمكناً, لكنك إذا شعرت بأنك ملتجئ إلى الله مستعيذ به ولّى الشيطان هارباً.
الإسلام مبني على قواعد وأسس وكل ما جاء به الكهنة باطل لأنه يناقض شريعة القرآن:
ذكرت لكم في قوله تعالى:
﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾
الأفّاك: هو الذي يختلق الحديث اختلاقاً, ولا أساس له من الصحة, قد يقول لك الساحر: كيت وكيت وكذا وكذا, وكل هذا كذب بكذب, لأن الساحر أو الكاهن أو العراف أو شيطان الإنس أو شيطان الجن, هؤلاء قد يصيبون مرة ويكذبون على هذه المرة ألف مرة, وما يدعيه بعضهم من تحضير الأرواح, إن تحضير الأرواح في مجمله كذب في كذب, لو أن هذا الشيطان من الإنس تعاون مع قرين هذا الإنسان الذي تُحضّر روحه " على زعم من يزعم ذلك " هذا القرين قد يكذب أيضاً، قد يعرف شيئاً, وتغيب عنه أشياء, وقد يقول شيئاً: لا أساس له من الصحة.
موضوع الجن والسحرة, هذا الموضوع يجب أن يُلف ويُلقى في عرض الطريق, لأن الدين الذي جاءنا النبي عليه الصلاة والسلام به, دين مبني على قواعد وعلى أُسس وعلى آيات وليس في الكون إلا الله, وليس هناك من طريقة لاكتساب رضائه إلا بطاعته, أما ما يدعيه بعض السحرة والمشعوذين والمنجمين والكهنة فهذه لم يريدوا منها إلا تضليل الناس, بعض الذين يتعاونون مع الجن لهم مظهرٌ يُرضي, يظهرون ورعاً وخشية وخوفاً من الله عزّ وجل, وكأنهم يقولون للناس: نحن نتعاون مع جن المؤمنين من أجل هدايتكم, هذا الكلام أيضاً باطل.
موقف القرآن الكريم من قصة هاروت وماروت رداً على أكاذيب اليهود وافتراءاتهم:
هذه القصة التي نحن بصددها القصة المشهورة التي وردت في القرآن الكريم في سورة البقرة قال تعالى:
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
القرآن الكريم موحى به من عند إله عظيم ونزل على نبي كريم, أهل الكتاب لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون, عندهم في التوراة والإنجيل وصفهم للنبي عليه الصلاة والسلام:
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾
ومع ذلك قال:
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
هذه الآيات التي وردت في سورة البقرة، اختلف حولها المفسرون، فبعض المفسرين أخذوا تفسير هذه الآيات من كتب بني إسرائيل من " التلمود " وأثبتوها في بعض التفاسير, ماذا قال التلمود عن هذه القصة ؟ سأرويها لكم كي تحذروها, وإياكم أن تظنوا أن هذه القصة أوافق عليها, قيل في هاروت وماروت أحاديث عديدة: فزعموا أن هاروت وماروت أنهما كانا ملكين من الملائكة, وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي أنكرا ذلك على أهل الأرض, " فأوحى الله إليهما أني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني فقالا يارب: لو ابتلينا لم نفعل المعصية و لا نعصيك, فأهبطهما الله إلى الأرض وابتلاهما الله بشهوات بني آدم فمكثا في بلدة كانت فيها امرأة فاجرة تسمى الزُهرة فدعوها إلى الفاحشة, ووقعا بها بعد أن شربا الخمر، وقتلا النفس، وسجدا للصنم " يعني هذان الملكان اللذان زعما أنهما لا يعصيان الله، حينما أهبطهما الله إلى الأرض, وابتلاهما بحياة بني آدم شربا الخمر, وقتلا, وسجدا للصنم وزنيا بهذه الفاجرة، وعلّما هذه المرأة الفاجرة اسم الله الأعظم فتكلمت هذه المرأة بهذا الاسم فعرجت إلى السماء, فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب " كوكب الزهرة " ثم إن الله تعالى عرّف هاروت وماروت قبيح ما قد وقعا فيه, ثم خيرهما بين عذاب الآخرة آجلاً وبين عذاب الدنيا عاجلاً, فاختارا عذاب الدنيا عاجلاً فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة، وهما يعلمان الناس السحر, ولا يراهما أحد إلا ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر, قال المؤلف: وهذه القصة من اختلاق اليهود, ولم يقل بها القرآن مطلقاً, وإنما ذكرها التلمود.
إذن هذه القصة التي رويتها لكم لا أساس لها من الصحة، كذب، وباطل, إنما وردت في بعض التفاسير نقلاً عن كتب بني إسرائيل, وهذه المشكلة المعضلة التي يسميها العلماء بالإسرائيليات, أي القصص التي نقلت عن كتب بني إسرائيل.
رأي الإمام الرازي في قصة هاروت وماروت:
الإمام الرازي رضي الله عنه في تفسيره يقول: أن هذه القصة التي ذكرت باطلة من عدة وجوه:
أولاً: أنهما ذكرا في القصة " أن الله تعالى قال لهما: لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا: لو فعلت بنا ذلك يا رب لما عصيناك ", هذا تكذيب لله عزّ وجل وتجهيل له وهذا من صريح الكفر, الملائكة عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم, لو أنّ الله ربّ العزة قال لهم: لو ابتليتكما لعصيتماني, قالا: لا يا رب لا نعصيك ! هذا تكذيب لله عزّ وجل وهذا تجهيل له, فالقصة باطلة من أساسها.
ثانياً: " أنهما خُيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ", وهذا فاسد أيضاً بل كان الأولى أن يُخيرا بين التوبة وبين العذاب, والله تعالى خيّر بينهما من أشرك به طوال عمره, وبالغ في إيذاء أنبيائه فلو أنه تاب لانتهى الأمر, فالتخيير أيضاً باطل وهو تكذيب على الله وتجهيله.
ثالثاً: أن من أعجب الأمور قولهم: " أنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعاقبان في بئر منكوسي الرؤوس ويعلمان الناس السحر ", أيضاً شيء لا يستقيم المنطق إنسان في الأشغال الشاقة يعلم الناس السحر هذا استنباط باطل.
رأي الإمام أبو مسلم في بطلان نزول السحر على الملكين:
الإمام أبو مسلم احتجّ على بطلان نزول السحر عليهما بوجوه:
أولاً: السحر لو كان نازلاً عليهما لكان منزله هو الله, وهذا غير جائز لأن السحر كفرٌ وعبثٌ لا يليق بالله تعالى إطلاقاً, أيليق بالله تعالى أن ينهانا عن السحر وينزله من السماء علينا ؟.
الثاني: أن قوله تعالى:
﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾
يدل على أن تعليم الناس السحر كفر, ولكن الشياطين كفروا فما هي علامة كفرهم ؟ أنهم يعلمون الناس السحر فهذا استنباط رائع جداً,
" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ "
كما قال عليه الصلاة والسلام: فقد دلّ على أن تعليم السحر كفر فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر للزمهم الكفر وهذا باطل.
الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر، فكذلك بالملائكة من باب أولى.
الرابع: أن السحر يضاف إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة تقول: هذا ولي يستخدم الجن حتى يشفي بعض الناس, وحتى يحل لهم مشاكلهم, وكيف يضاف إلى الله ما يمنع عنهم ويتوعد عليه بالعقاب ؟ وهل السحر إلا الباطل المموّه, وقد جرت عادة الله بإبطاله ؟ كما قال الله تعالى في قصة سيدنا موسى:
﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾
إذا كان الله سبحانه وتعالى يّبطل السحر, فهل يضاف السحر إلى الله سبحانه وتعالى ؟ مستحيل, فهذا الكلام وهذه الأدلة والبراهين والمناقشات نقد صريح وواضح وجلي لهذه القصة التي وردت في التلمود, وقد نُقلت في بعض التفاسير تحت عنوان الإسرائيليات, وإن هذه القصة باطلة لا أساس لها من الصحة.
كيف نفسر هذه الآيات ؟
1- افتراء اليهود على النبي سليمان بأنه فقد نبوته في خاتمه والرد على هذا الباطل من القرآن:
كيف نفسر هذه الآيات ؟ بدأنا بالخطأ وبالباطل، هدّمنا الباطل, والآن نريد أن نفسر هذه الآيات، فهؤلاء أهل الكتاب:
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
وَاتَّبَعُوا يعني تركوا هذا القرآن الكريم وما فيه من ذكرٍ حكيم, و تركوا الآيات الكونية والتشريعات الأرضية واتبعوا:
﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾
تلا عليه يعني كذب عليه، لو فتحتم القواميس على فعل تلا " على " فإذا أضيفت "على " إلى " تلا " فمعناها كذب عليه قال تعالى:
﴿وإتبعوا ماتتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾
اليهود يقولون: في قصة طويلة مختلقة مفتراة على هذا النبي العظيم, أن هذا النبي عليه السلام كل نبوته في خاتمه, فمرة ضاع منه خاتمه ففقد نبوته، يعني هذا النبي العظيم يفقد نبوته ويفقد معرفته, ويفقد ما آتاه الله من علم بأقوال الحيوانات ومن تسخير للجن, كل هذا الملك الذي قال الله في حقه:
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾
يزول عنه لمجرد أن ينسى خاتمه في مكان فتأخذه الشياطين, ويحكمون بدلاً من سليمان، وسليمان هائم على وجهه في البراري والقفار لا يعبأ به أحد, ولا يلتفت إليه أحد حتى لا يجد قوت يومه، وهو في أشد حالات الجوع والفقر والضياع والذلّ صاد سمكة فلما شق بطنها رأى خاتمه فعاد له ملكه, قال: هذه القصص كلها من تخريف اليهود, وقالوا عنه: أنه كفر وعبد الصنم وشرب الخمر, وعبد الصنم وتعلم السحر وسحر الناس فربنا عزّ وجل قال:
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾
الأنبياء لا يكفرون, النبوة مرتبة لا كفر بعدها ولا زيغ ولا ضلال قال الله:
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾
أما كلمة الشياطين: تعني شياطين الإنس، والدليل يعلمون الناس السحر, شياطين الجن لا يعلمون الناس السحر, وشياطين الجن لا تتلوا, التلاوة المقصود بها الكلام.
2- نفي العلماء نزول الملكين من السماء مع الدليل:
هناك قرينتان تؤكدان أن الشياطين في هذه الآية تعني شياطين الإنس قال تعالى:
﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾
في فقرة مهمة جداً هي " ما " قال تعالى:
﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾
هذه " ما " نافية وليست موصولة, لدينا " ما " الاستفهامية، و " ما " الموصولة، و" ما " النافية يقول لك فلان: " أنا ما أكلت "، " والله ما أكلت " هذه " ما " نافية.
تقول له أحياناً: " إن ما أكلته ليس لك " هذه " ما " موصولة يعني أن الذي أكلته ليس لك.
" ما " استفهامية, لو قال أحدهم لطالبٍ نال مجموعاً عالياً: " بما حصلت هذا المجموع يقول لك: بما بذلت من جهد, " ما " الأولى استفهامية، أما " ما " الثانية موصولة, فالنقطة كلها في هذه الصورة متوقفة على تفسير " ما " إذا فسرت ما نافية انتهى الأمر, تأتي المعاني يأخذ بعضها برقاب بعض, فإذا فسرتها على أنها موصولة وقعنا في خطأ كبير, اعلموا أن للعلماء في هذه الآية وجوهاً كثيرة, وأقوالاً عديدة فمنهم من ذهب فيها مذهب الإخباريين، نقله نقل الغث السمين، ومنهم من وقف مع ظاهرها البحت, وأكثر العلماء على أن ما هنا نافية قال تعالى:
﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾
هؤلاء ليسوا ملكين, وما أنزل عليهم شيئاً من السماء قال تعالى:
﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾
ما قصة هؤلاء الملكان في الآية ؟
نعود إلى القصة قال تعالى:
﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾
هؤلاء رجلان من بني إسرائيل, رجلان أقاما ببابل, واحترفا صناعة السحر، وعلما الناس السحر وأوهماهما أنهما صالحان، وهما ليسا ملكين، ولم ينّزل عليهم شيئاً من السماء قال الله:
﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾
إيّاك أن تستمع لقولنا فمن أجل أن تزيد محبتك لهما, و من أجل أن يزيد اعتقادك بهما, يحذرانك من الكفر إذا آمنت بهما, يعني ورع وصلاح وتقوى هذا المظهر الكاذب, من أجل أن يوهما الناس أنهما صالحان, نتابع تفسير هذه الآية من كتب التفسير, ذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتدّ في آخر عمره, وعبد الأصنام, كما تراه في الفصل الحادي عشر من ( سفر المبيت السادس ) فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والوقاحة الكبيرة, ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الأكاذيب, اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهامياً, بل بعضها كتب على طريقة المؤرخين يعني بلا إلهام, كما في إظهار الحق.
ماذا تعني كلمة الشياطين في الآية ؟
المراد بالشياطين, شياطين الإنس وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء الدعاة إلى الباطل, وقوله: " على ملك سليمان " أي على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه, وقولـه تعالى:
﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾
تنزيه لسيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام من الردّة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه، وتكذيب لمن تقولها, وقال كثيرون: هذه تبرئة له من السحر لسيدنا سليمان, وأنّه تعالى كنَّ عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفرٌ, وأنه من كان نبياً كان معصوماً عنه, وإنما كان كفراً لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها, وقوله تعالى:
﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾
والشياطين هم خبثاء الإنس وأشرارهم كما في قوله تعالى:
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾
وقوله:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
والذي يعيّن أن كلمة الشياطين في هذه الآية تعني شياطين الإنس قوله تعالى:
﴿تَتْلُوا ﴾
لأن تلاوة شياطين الجن لا يسمعها أحد, ومعنى تتلوا أي تقص كما تقدم، وقوله:
﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾
يعيّن هذا المعنى أيضاً إذا لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس لانعدام مكان الاتصال بهم أي شياطين الجن, المراد بقولـه:
﴿كَفَرُوا﴾
أي كفروا بآيات الله المنزلة, وقوله تعالى:
﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾
جملة حالية، أي حالتهم تعليم الناس السحر.
3- ما ذهب إليه المحققون:
قوله تعالى:
﴿ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
الذي ذهب إليه المحققون: أن هاروت وماروت كانا رجلين و ليسا ملكين, يتظاهران بالصلاح والتقوى في بابل, وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات, وكانا يعلمان الناس السحر, وكثيرون ممن يعلمون الناس السحر يتظاهرون بالتقوى والصلاح, أوهموا الناس أنهما ملكان وأن ما يفعلانه من وحي السماء, وبلغ مكر هذان الرجلان ومحافظتهما على اعتقاد الناس الحسن فيهما, أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما قال الله:
﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ﴾
إياك أن تكفر بالله "هذا من أجل التضليل " أي إنما نحن فتنة نبلوك ونختبرك, أتشكر أم تكفر ؟ وننصح لك ألاّ تكفر ؟ هذا من تضليلهم أيضاً.
يقول المفسر: قائلين لمن يعلمونهم الكتاب, نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجلٍ غير زوجها, يعني بوصوا الجن بعدم تعلّق الزوجة بغير زوجها إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء, فجاء القرآن مكذباً لهم في دعواهم نزول هذا السحر من السماء وفي ذم السحر فقال:
﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾
" ما " هنا نافية على أصح الأقوال.
لماذا ذكر الله لفظ الملكين في قصة هاروت وماروت ؟
في سؤال هنا, الله قال الملكين لماذا ؟ لو فرضنا في اثنين مشعوذين ادّعا أنهما طبيبان و مارسا الطب, فصار لهما اسم شائع أنهما طبيبان مشعوذان, فإذا قلت: طبيبان, هل يعني ذلك أنك اعترفت أنهما طبيبان ؟ أحياناً يكون طالب لم يفتح الكتاب بحياته, لكن يلبس لباس طلاب تقول: هذا الطالب لماذا لا يدرس ؟ اسمه طالب علم لكنه لا يطلب علم, فأحياناً تسمي الشيء بما تعارف الناس على تسميته, فربنا قال: "وما أنزل " " ما " نافية أما لما قال الملكان: فهذا على زعم اليهود وزعم الناس, ولفظ الملكين هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين.
ما معنى قوله تعالى " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ؟
وقوله تعالى:
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾
من قبيل التمثيل وإظهار الأمر في أقبح صورة، يعني السحر شر كله أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من دروب الحيّل, وطرق الإفساد أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم رابطة كالمرء وزوجه.
في قصة مشهورة كثيراً كيف أن شيطان الإنس يوهم الزوج أن امرأته تخونه, ويوهم الزوجة أن زوجها يخونها, ويقول للزوجة: إذا شئت دليلاً أن يمتنع عن خيانتك فخذي شعرة من رأسه وهو نائم, ويقول للزوج: أن امرأتك تريد أن تقتلك وأنت نائم، هذا الزوج يعمل نفسه نايم يسمع حركة فيرى مقص بيد زوجته فيقوم فيقتلها ؟ هذا عمل الشياطين هذه قصة مشهورة ترد بكتب الفقه كثيراً.
قصة قاضي, قاضي متزوج في وفاق ووئام ومحبة وصفاء، شيطانة من شيطانات الإنس دخلت إلى بيت امرأة القاضي, وأثنت على جمالها, وزهدتها بزوجها, وقالت: إن زوجك ينظر إلى النساء ويفعل كذا وكذا, وذهبت إلى الزوج, وقالت: إن زوجتك يدخل عليها الرجال في غيبتك, ونصحت الزوجة أن تأخذ شعرة من رأسه بالمقص, وأوهمت الزوج أن امرأته سوف تقتله هذه الليلة, عندئذ قام القاضي وقتل زوجته, هذا من عمل الشيطان, وهذه القصص تقع كل يوم, فلذلك قال تعالى:
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾
خلاصة الآية والعبرة منها:
أن معنى الآية من أولها إلى آخرها أن اليهود كذّبوا القرآن, ونبذوه وراء ظهورهم وبدلوه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه, وزعموا أنه كفر وهو لم يكفر, ولكن الشياطين هم الذين كفروا هذه القصة أصبحت واضحة, وأهم ما في هذه القصة هذه الآية وهو قوله تعالى:
﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾
إذا كنت مسلماً مصدقاً أن هذا القرآن كلام الله, وأن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيجب أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الشياطين كلها, لو اجتمعت لا تستطيع أن تفعل شيئاً ولا أن تضرك أبداً إلا بإذن الله.
﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ ﴾
وأي تعليم يتعلمه الإنسان من شياطين الإنس والجن إنما يضره ولا ينفعه قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾