وضع داكن
02-04-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 007 - منزلة الخُلُق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

تمهيد:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس السابع من دروس مدارج السالكين، منزلة اليوم منزلة الخُلق، وقبل أن نقفَ عند بعض الآيات الكريمة التي تتعلق بالخُلق منطلقةً من قول الله عزّ وجل واصفاً نبيه صلى الله عليه وسلم: 

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

أود أن أُمَهّدَ لهذا الموضوع بتمهيدٍ قصير، وهو كما أقول لكم دائماً مطلبٌ ثابتٌ عندكم جميعاً، وعندي، وعندَ كلِّ إنسانٍ على وجه الأرض، أن يَسْلمَ، وأن يَسعد، ونحنُ في عصرٍ ما أكثرَ الآراء، وما أكثرَ المذاهب، وما أكثرَ التفسيرات، وما أكثرَ الاتجاهات، ففي زحمةِ تماوج الأفكار، واضطرابها، وتداخلها، في هذه الزحمة ما من نِعمةٍ أعظم من أن تكتشف الحقيقة التي أرادها الله عزّ وجل لتكونَ لكَ مِنهاجاً، نِعمٌ كثيرة، قد تنعمُ بالصحة، قد تنعمُ بوفرة المال، قد تنعمُ بالمكانة، قد يكون لكَ أهلٌ وأولاد على ما تريد، ولكن تأكد، كلُّ شيءٍ أنتَ تعتز به في الدنيا ينتهي عندَ الموت، ولكنَ الشيء الذي لا يُقدّرُ بثمن، ولا شيء يعلو عليه، ولا شيء أثمنُ منه أن تعرف الحقيقة، لأنكَ إذا عرفتَ الحقيقة عَمِلتَ وفقها، فإذا عَمِلتَ وفقها سَعِدتَ في دنياكَ وأُخراك. 

(( عن أبي مويهبة مولى رسول الله، طرَقَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ لَيلةٍ، فقالَ: «يا أبا مُوَيْهِبةَ، انطلِقْ؛ فإنِّي قد أُمِرْتُ أنْ أستَغفِرَ لأهْلِ هذا البَقيعِ»، فانطلَقْتُ معَه، فلمَّا بلَغَ البَقيعَ ، قالَ: «السَّلامُ عليكم يا أهْلَ البَقيعِ ، ليَهُنْ لكُم ما أصبَحْتُم فيه، لو تَعلَمونَ ما أنْجاكمُ اللهُ منه، أقبَلَتِ الفِتَنُ كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ يَتبَعُ أوَّلُها آخِرَها»، ثمَّ قالَ: «يا أبا مُوَيْهِبةَ، إنَّ اللهَ خَيَّرَني أنْ يُؤْتيَني خَزائنَ الأرْضِ والخُلدَ فيها والجنَّةَ، وبيْنَ لِقاءِ ربِّي عزَّ وجلَّ»، فقلْتُ: بأبي أنتَ وأمِّي، فخُذْ مَفاتيحَ خَزائنِ الأرْضِ والخُلدَ فيها، ثمَّ الجنَّةَ، قالَ: «كلَّا يا أبا مُوَيْهِبةَ، لقدِ اختَرْتُ لِقاءَ ربِّي عزَّ وجلَّ»، ثمَّ استَغفَرَ لأهْلِ البَقيعِ ، ثمَّ انصرَفَ، فلمَّا أصبَحَ بدَأَه شَكْواه الَّذي قُبِضَ فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ))

[  الحاكم | المصدر :المستدرك على الصحيحين: خلاصة حكم المحدث : حديث صحيح على شرط مسلم إلا أنه عجب بهذا الإسناد ]

كل شيء يمكن أن يُزوّر، كل شيء يمكن أن يُجيّر، كل شيء يمكن أن يُبدّل، أن يُغيّر، فالإنسان في زحمةِ هذه الفِتن، وفي تضارب الآراء، واختلاف التفسيرات، وتعاكس التوجهات:

كلّ يدعي وصلاً بليلى                 وليلى لا تقر له بذاكا

[ أبو العتاهية ]

* * *

كلٌّ يدّعي أنه على حق، في هذه الزحمة لا شيء أثمن من أن تكونَ على حقّ فعلاً، لا شيء أثمن من أن تكونَ على حقّ حقيقةً، لذلك العمل أساس السعادة، وأساس صواب العمل أن تعرف الحقيقة.
فيا أيها الإخوة الأكارم؛ أضربُ لكم هذا المثل، وكنتُ قد ضربته لكم سابقاً: لو دخلتَ إلى غرفةٍ، وفيها ألفُ قطعةٍ صفراء اللون، بعضها من الذهب الخالص، بعضها من الذهب بأعيرةٍ متفاوتة، بعضها من النحاس المُلبّس بالذهب، بعضها من النحاس المُلمّع، بعضها من أخسّ المعادن، معادن كثيرة ألا ينبغي لكَ أن تنتقيَ ما كان ذهباً خالصاً؟
 

الله هو الجهة الوحيدة في الكون التي معها الحقيقة:


يا أيها الإخوة الأكارم؛ في زحمةِ تضارب الآراء، واختلاف التوجهات، وظهور الفِتن كقطع الليل المُظلم، يَتْبَعُ أولها آخرها لابد من معرفة الحقيقة، من هي الجهة في الكون الوحيدة التي معها الحقيقة، معها الحقيقة المُطلقة، معها الحقيقة التي لا زيغَ فيها، لا خلل، لا اضطراب، لا شائبة، إنها الله، أيّةُ جِهةٍ أرضيّة تُخطئ وتُصيب، تُفلح وتُخفق، تستقيم وتنحرف، تعطي ما هو صحيح وما هو مغلوط، ما هو مقبول وما هو مرفوض، ولكنَّ الله وحده الحقُّ المبين، ولكنَّ الله وحده الذي خلقَ الكون، وخلقَ الحياة، وخلقَ الإنسان، وسوفَ نعود إليه، ولن نَسعدَ إلا إذا كُنّا على منهجه، فلذلك ليسَ غريباً وليس شططاً أن يقفَ الإنسان ليُراجع حساباته، ليُراجع أفكاره، ليُراجع تصوراته، ليُراجع ممارساته اليومية، ليُراجع سلوكه. 
 

سِرُّ السعادة أن نعرفَ الحقيقة والمنهج:


يا أيها الأخوة الأكارم؛ أن نعرفَ الحقيقة، أن نعرفَ المنهج، أن نعرفَ القانون الحقيقي، الذي هو يتحّكمُ بالمخلوقات، هو سِرُّ السعادة، أحياناً أنت أمام باب عليه أقفال شديدة، تصور لو أردتَ أن تكسِرَ هذه الأقفال، أو أن تخلعَ هذا الباب، أو أن تهدِمَ هذا الحائط، كم تحتاج من جهد؟ ومن طاقة؟ ومن ضجيج؟ ومن خصومات؟ لو جِئت بمفتاح صغير، وزنه عشرون غراماً، وضعته في القفل المُحكم، فضغطتَ هكذا فَفُتحَ الباب، أليسَ هذا العمل أذكى وأرقى وأنجى وأنجح وأربح وأريح؟ كل شيء له مفتاح، السعادة لها مفتاح، التوفيق له مفتاح، أن تُحقِّق الهدف الذي خُلقتَ من أجله له أسباب.
 

أكبرُ مصيبةٍ هي أصغرُ من أن يُصاب الإنسان بعقيدته أو بدينه:


لمّا الإنسان يتقصّى الحقائق، يتعرّف إلى خالق الكون، ألف سؤال وسؤال، هناك ألف سؤال، أحياناً تقرأ آية: 

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[ سورة الروم  ]

﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)﴾

[ سورة يونس ]

﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾

[ سورة النساء ]

هناك مشكلة، هذه الآية إذا رأيتَ الواقع يُخالفها فأنتَ أمام تفسيرين، إما أن تُكذّب القرآن، وإمّا أن تقول: هذا كلام لا معنى له، هذا كلام غير واقعي، غير مُطبّق، وقعتَ في الكُفرِ وأنتَ لا تدري، وإمّا أن تسأل: هذه الآية ﴿ولن يجعلَ الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً﴾ ما تفسيرها؟ 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور  ]

إن رأيتَ الواقع على خِلاف هذه الآية بِم تُفسّرُ هذا؟ تقول: القرآن شيء غير واقعي، لا يتحقق، كأنه ليسَ كلامَ الله، وقعتَ في الكفر، أم أن تقول: لابد أنَّ هناكَ شرطاً لم يتحقق: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي﴾ كل إنسان قال: أنا مسلم، هو مسلم؟ كل إنسان قال: أنا مؤمن، هو مؤمن؟ كل إنسان قال: أنا أفعلُ كذا، هو يفعلُ كذا؟ لئلا تقعَ في مشكلةٍ خطيرةٍ خطيرة، وهي أن تَشُكَّ في مصداقية القرآن، يجب أن تتنوّر، يجب أن تتحقق، يجب أن تتبصر، يجب أن تقف عندَ المعنى الدقيق للآية، يجب أن تسأل، قال تعالى: 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾

[ سورة النحل ]

يجب أن تتحقق، لأن أخطر ما في الحياة أن تَشُك في عقيدتك، أخطر ما في الحياة أن تهتز عِندكَ المُثُل، أخطر ما في الحياة أن تَشُك في أنَّ هذا الكلام ليسَ كلامَ الله، أو أنه كلام الله، ولكن الواقع ما أكدّه، هذه مشكلة خطيرة جداً.
قلتُ لكم سابقاً: أكبرُ مصيبةٍ هي أصغرُ من أن يُصاب الإنسان بعقيدته أو بدينه، فلهذا بعيداً عن تداخل الآراء، عن اضطراب الآراء، عن اضطراب التفسيرات، هذا يدّعي كذا وهذا يدّعي كذا، أنا أريدُ الحقيقة الخالصة، أريدُ المنهج الصحيح الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، نبعٌ عذبٌ كالماء الزلال، عذبٌ فرات، سارَ هذا النبع، جاءه رافد، جاءه رافد، جاءه رافد، رافدٌ نقيٌّ، ورافدٌ غير نقيّ، ورافد فيه ماءٍ آسن، ورافدٌ فيه فضلات، ورافد، ورافد، وصلنا إلى نهاية هذا النهرِ فإذا هو مياهٌ سوداء، ما العقلُ؟ العقلُ أن أذهبَ إلى النبع.
 

لا يصلحُ آخرُ هذه الأمة إلا بما صَلَحَ به أولها:


أيها الأخوة الأكارم؛ لا يصلحُ آخرُ هذه الأمة إلا بما صَلَحَ به أولها، قلت لكم مرة: سيارة توقفت، هذا السائق لو خرجَ من السيارة، وملأَ الجوَ صخباً وضجيجاً وصياحاً وتوسلاً وبكاءً وعويلاً ودعاءً، يا رب أنا انقطعت، السلوك علمي؟ لا والله، السلوك العلمي أن تفتح غِطاء المُحرّك، وأن تنظر أينَ الخلل؟ هناك مشكلة في العالم الإسلامي، دائماً نشكو، لماذا تشكو؟ الله تخلّى عنّا؟ هل تخلّى الإله عنّا؟ شيء غير معقول، وعد الله حق، إذاً هناك خلل في حياتنا، في فهمنا للدين، في استقامتنا، في سلوكنا، مثلاً لو أنَّ طالباً على موعدٍ مع امتحانٍ خطير، هناك عشر مواد، لو أنه أتقنَ المواد التسعة، وأهملَ مادة، ولم ينجح، نحن مع احترامنا لجهده، واجتهاده، وتفوقه في هذه المواد التسعة، لكنه لأنه أهملَ المادة الأخيرة العاشرة كل هذه الدراسة ذهبت أدراج الرياح، كل هذا الجهد الذي بذله في أثناء العام الدراسي تلاشى، هذا مثل.
مثل آخر؛ هذه المركبة من أجل أن تسير لابد لها من كذا وكذا وكذا وكذا، راجعت هذه الجهة، وراجعت هذه الآلة، وراجعت هذا الجهاز، وأهملت أحدَ الأجهزة، بقيت في مكانها، ماذا أفادكَ اعتناؤك بكل هذه الأجهزة؟ ما أفادكَ شيئاً.
الإسلام مشكلته إما أن تأخذه كله، وإما لن تقطفَ ثماره، إن لم تأخذه كله لا تقطف ثماره، هذه المشكلة، فنحن كل فرد مبدئياً عليه أن يُراجع نفسه، على مستوى فردي وجد الطريق مسدوداً، هنا ما توفق، هنا ما نجح، هنا ما تحقق الهدف، بقيت نفسه كنفوس الآخرين، لم ترق نفسه في هذا المجال، إذاً هناك خلل.
دينُ الله ينبغي أن يكونَ واضحاً، وينبغي أن يكونَ مقنناً، يوجد قواعد، سبحان الله! يُهمل الناس هذه القواعد، ويحسبون أنفسهم مسلمين، وكأنهم يعاتبون الله عزّ وجل إذا بدا لهم أنه تخلى عنهم، ماذا نفذتَ أنتَ من الإسلام؟ هل طبقتَ الإسلام في بيتك؟ هل حررتَ دخلكَ من كلِّ شُبهة؟ هل ضبطت مشاعرك؟ هل كنتَ كما يريد الله حتى تطالبه أن يكون لكَ كما تريد؟ هل أنت على منهجه؟ هل أنتَ في مرضاته؟ هل أنتَ أخذتَ دينه جملةً وتفصيلاً؟ هل طبقتَ أوامره بحذافيرها؟ وإلا إن لم تكن كذلك لا ينبغي أن تعتب، ولا ينبغـي أن تقول لِمَ يكونُ هكذا؟ لِمَ يحدث هكذا؟ أينَ الله عزّ وجل؟ هذه أسئلة كبيرة جداً، إن لم تملك الجواب الصحيح عليها فأنتَ في مشكلة، أنتَ تُعامل خالقَ الكون، يجوز لو عاملتَ إنساناً يقول لكَ: لا أستطيع، إمكانياتي محدودة، هذه ليست بيدي، مع هذا الإنسان ألف عذرٍ وعذر ألا يُنجدكَ، أما إذا عاملتَ الخالق هو مطلق، كن فيكون، زُل فيزول، كلُّ شيء بيده، كل شيء خاضعٌ له، بيده ملكوت السماوات والأرض، لا يعزب عنه شيء في الأرضِ ولا في السماء، فإذا كان دعوتَ الله أن يغيثكَ بالمطر، فلم يغثك بالمطر، معناها يوجد خلل، تقنين الله عزّ وجل ليس تقنين عجز بل تقنين تأديب، أنا أريد أن يأخذ الإنسان الإسلام مأخذاً جِديّاً، أن يأخذه كمعادلات رياضية، أن يأخذه كقوانين حتمية، أن يأخذه كسنّة كونية، أن يأخذه كمنهج تفصيلي، أن يأخذه كقواعد قطعية، إذا فهمتَ الدينَ هكذا قطفتَ ثِمارَ الدين، وكنتَ أسعدَ الناس بهذا الدين، وشعرت بمعنى اسم السلام، الذي تحدثنا عنه في الدرس الماضي، وشعرت بالطمأنينة، وملكتَ التفسير الصحيح لِما يجري، الإنسان أحياناً بحاجةٍ ماسّة لأن يملكَ التفسير الصحيح لِما يجري حوله، لأنَّ الدين متكامل، الدين يغطي كلَّ شؤون الحياة، يغطي كلَّ نشاطات الحياة، يغطي كلَّ مناحي الحياة، فالدين ليسَ أن تصومَ وأن تُصلي فقط، وليسَ أن تبحثَ عن أحكام البيوع وأحكام كذا، الدين يقدم لكَ تفسيراً دقيقاً للكونِ والحياةِ والإنسان.
 

دراسة القرآن دراسة متأنية مع تدبر آياته:


لهذا سؤال كبير جداً، القرآن الكريم إذا درسناه يجب أن ندرسه دِراسةً متأنيّة، يجب أن نتدبره، ارجعوا إلى كتاب الله في كلِّ شيء، فيه كل شيء، منهجٌ، قال تعالى:

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾

[ سورة المائدة ]

مثلاً حينما يتوجه المسلمون إلى أنَّ الدين أن تؤدي هذه العبادات من صومٍ وصلاةٍ وحج وزكاة، ويغفلُ المسلمُ عن أنَّ الدين هو في استقامة الجوارح، وفي استقامة اللسان، وفي طلبِ الأسباب، والتوكل على الله عزّ وجل، هل يُعقلُ أن يكونَ الدينُ مظهراً للضعفِ؟ لا والله، هل يُعقل أن يكونَ الدينُ مظهراً للخنوعِ؟ مظهراً للكسلِ؟ مظهراً للقعودِ؟ لا والله، لذلك نحن إذا طبقّنا أكثرَ أوامر الدين، وأغفلنا بعض الأوامر، ما قطفنا ثمار الدين إطلاقاً.
 

أثمن ما في الوجود معرفة الحقيقة:


أخطرُ ما في الأمرِ أن يعزوَ الإنسان خطأه إلى ربه، الله عزّ وجل كتابه واضح: 

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾

[ سورة العنكبوت ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾

[ سورة الحج ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾

[ سورة محمد ]

فالإنسان في زحمةِ الفِتن، وفي زحمةِ اضطراب الأفكار والمقاييس، وفي زحمةِ اختلاط الأوراق، وفي زحمةِ تداخل التفسيرات، عليه أن يعودَ إلى النبع، إلى كتاب الله، وأن يقرأهُ، وأن يشعرَ بمصداقيته، لأنَّ كلَّ كلمة قالها الله عزّ وجل حقيقة قطعيّةٌ ثابتةٌ، الوقائع دائماً تؤكدها، وهذا الكلام أنا متأكد أنَّ كلَّ واحد منكم معه عليه أدلةٌ من حياته اليومية، ما من مصيبةٍ أصابته إلا بسببٍ وجيه، ولأمرٍ خطير، ولِعلاجٍ سريع، فإذا بدأ يفهم على الله عزّ وجل، لماذا كانَ هذا الأمر؟ ولماذا لم يكن؟ لماذا وُفّقتُ إلى هذا الأمر؟ ولماذا لم أُوفق إلى هذا الأمر؟ عندئذٍ يشعر أنَّ الدين أعطاه الحقيقة المطلقة التي هي أثمن ما في الوجود، أثمن ما في الوجود أن تعرف الحقيقة، انعكاس الحقيقة على حياتك الخاصة، وعلى حياتك العامة، وعلى حياتك البيتية، وعلى مهنتكَ انعكاسٌ رائع، وعلى مجموع الأمة. 
 

منزلة الخلق:


المشكلة أن هذا الدين قِوامه أنا الذي يُلفتُ نظري لما سيدنا جعفر سأله النجاشي: حدثنا عن هذه الدعوة التي جاءَ بها نبيكم؟ وقفتُ عندَ هذا الكلام ملياً، وأُعيده كثيراً، يقول:

(( عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها: أيها الملك، كُنّا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكلُ الميتة، ونأتي الفواحش، ونُسيء الجِوار، ويأكلُّ القويُّ مِنا الضعيف، حتى بعثَ الله فينا رجلاً نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونَسبه، فدعانا إلى الله لنعبده، ولنوحده، وندعَ ما كانَ يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والكفِّ عن المحارم والدماء. ))

[ إسناده صحيح أخرجه أحمد  ]

بربكم سيدنا جعفر هذا الصحابي الجليل ماذا فهم من الإسلام؟ مكارم أخلاق، فهمَ الدين خُلقاً، فهمَ الدين استقامة، فهمَ الدين صدقاً، فهمَ الدين إخلاصاً، فهمَ الدين رحمة، فهمَ الدين وقوفاً عندَ حدود الله، فهمَ الدين توحيداً، هذا الذي يأكل مالاً حراماً، ويتجاوز حدود الله عزّ وجل، ويلبّي نداء المؤذن كلما أذّن، هذا الإنسان ألا يزوّر الدين؟ ألا يشوّهُ حقيقته؟ قلت البارحة في عقد قران، ذكرت قول الإمام عليٍّ كرّمَ الله وجهه: أنَّ قوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالمٌ مستعملٌ علمه، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلم، قلت: إذا ضيّعَ العالم علمه استنكفَ الجاهل أن يتعلم.
أنت كمسلم بصراحة أقولها: أنت عند أهلك، عند والدك ووالدتك، عند زوجتك، عند أولادك، عند إخوتك، عند جيرانك، عند من هم دونك، عند من هم فوقك، عند أصحابك، عند زملائك، عند مجتمعك، عند بلدتك، عند أمتك، أنت محسوب على المسلمين، أنت مسلم، الناس لا يعبؤون بصلاتك ولا بصيامك، يعبؤون بمعاملتك، بذمتك، بصدقك، بعفتك، بطهارتك، بخُلُقك، بتواضعك، بعفوك، فإذا ما أحبَّ الناس الإسلام من خلال سلوكك فأنتَ لستَ مسلماً، إذا ما عَشِقَ الناس الدين من خلالك أنت لستَ مؤمناً، إذا ما قالَ الناس: هذا هو الدين، يا الله ما أروع الدين! أهذه تربية المسلمين؟ أهذه تربية الدين؟ إن لم تكن كذلك فلستَ مسلماً، لعلك رأيته يصلي في المسجد، قال له: نعم، قال: أنت لا تعرفه، هل جاورته؟ هل حاككته بالدرهم والدينار؟ هل سافرت معه؟ والله الذي لا إله إلا هو بنفسي حقائق حول موضوع الخُلق اليوم بإمكانك أن تكون أكبرَ داعيةٍ إلى هذا الدين وأنت ساكت، ليرى الناس منكَ العفاف، ((حتى بعثَ الله فينا رجلاً نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونَسبه)) أنتَ إذا ذهبتَ إلى مقام النبي عليه الصلاة والسلام ماذا ترى؟ ترى أناساً يبكون أمام مقامه، يا ربي هؤلاء ما رأوه، ما عاملوه، ما أخذوا منه شيئاً، ما أعطاهم شيئاً، لماذا هم يبكون أمامه؟ لأنَّ هذا النبي العظيم ما قالَ شيئاً خالفه في سلوكه، ما تكلّمَ كلمةً فعلَ عكسها، كانَ صادقاً مع نفسه، كانَ رحيماً بالناس، كانَ مثلاً أعلى، كانَ قدوةً صالحة. 
أنا أتمنى المشكلة أن الإنسان إذا حضر مجالس العلم، واستمع إلى إلقاء المحاضرة، وتأثرَ بها، ولم يطبّق ما سمع، يأتي معه حالة مرضية، يقسو قلبه، يصير يتعود على السماع، يصير سماعاً، لكن ليسَ مطبّقاً لِما يسمع، لا يقطف ثِمارَ ما يسمع، ثم يملّ، تحس عليه أنه ملّ، أخي كلام بكلام، ما طبق شيئاً، أعط إنساناً سيارة لكن لا تسير، يوم غسلها، يوم لمعها، يوم نظفّها، ما قطف ثِمارها، ثم يملّ منها، أما إذا رَكِبها، ونقلته إلى مكان جميل هوَ وأهله قطفَ ثِمارها، شعرَ بقيمتها.
 

تطبيق الدين كي نقطف ثماره ونذوق طعم الحب والصلة بالله:


أنا الذي أريده أن تذوقَ طعم القرب، أن تذوق طعمَ الحب، أن تذوق طعمَ الصلةِ بالله عزّ وجل، أن تشعرَ أن الدين نقلكَ من الجحيم إلى النعيم، أن تشعرَ أن الدين نقلك من الضياعِ إلى اللقيا، أن تشعرَ أن الدين نقلك من الهموم التي بعضها فوق بعض إلى الإشراقات التي يلي بعضها بعضاً، أي إن لم تكن أسعدَ الناس ما قيمة هذا الدين؟ أنت تمشي مع من؟ أنت مع خالق الكون، لا يحزن قارئ القرآن.
فلذلك نحن يجب أن يكون شعارنا أيّةُ آيةٍ قرآناها، أو أيّةُ آيةٍ فهمنا تفسيرها، أو أيُّ حديثٍ فهمنا معناه، ينبغي أن يكون شُغلنا الشاغل أن نطبّقه كي نقطفَ ثِماره، لو حدّثتَ الناس آلاف المرات، بل عشرات آلاف المرات، أنَّ الصدق يُنْجي، وأنتَ لم تكن كذلك، تملُّ من هذا الكلام، لكن دائماً كن صادقاً حتى مع الحيوان، هذا المُحدّثُ الشهير الذي قصدَ البصرة من المدينة، فلما رأى الرجل الذي جاءه ليأخذَ عنه الحديث قد كذبَ على فرسه، سكت وعاد إلى حيثُ كان، هذا الذي يكذب على فرسه ليسَ أهلاً أن يكونَ مُحدِّثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنحن أنا أقول لكم بصراحة: يجب أن يكونَ بيتك جنّة، كيف فعل النبي؟ كان إذا دخلَ بيته بسّاماً ضحّاكاً، هدفه الأكبر أن يهدي أولاده، أن يهدي أهله، يجب أن يكون عملك خلية نحل، يجب أن يتعلم الناس من تعاملك التجاري، الصدق والاستقامة والرحمة والنزاهة والأمانة هذا الذي نعوّلُ عليه، شبعنا كلاماً، الكلام كثير، خُطب رنانة، كتابات رائعة، بلاغة ناصعة، أفكار مُنظّمة، ولكنَ التطبيق هو الذي نحن نُقصّرُ فيه، لذلك ترى المساجد ملأى، كأن الله تخلى عنا، سؤال، المساجد ملأى، وهناك من يشكو الكذب والاحتيال، وأن تأخذَ ما ليسَ لكَ، وأن تبغي على شريككَ، على خليقكَ، يجب أن يكون البيت جنّة، والعمل في نزاهة، وفي كلّ مكان صحيح.
 

الدين هو الخُلق والخُلق هو الدين:


نحن اليوم هذا التمهيد ذكرته لكم لأنني ذكرت فيما ذكرت من قبل أول منزلة المحبة، ثم الإخلاص ثم العلم ثم الاستقامة، أليس كذلك؟ أربع، وهذه المنزلة الخامسة منزلة الخُلُق.
هذا سيد الخلق وحبيب الحق بماذا وُصِف؟ الآن نحن فلان حجمه المالي كذا، نَصِفه بالغنـى، فلان له مركز قوي في المجتمع، نصفه بالقـوة، فلان نَصِفه بالذكاء، فلان نَصِفه مثلاً بالحنكة والسياسة، فلان نَصِفه بالجمال، فلان نصفه بالصحة، فلان نَصِفه بتحصيل أعلى الشهادات، ولكنَّ هذا النبي الإنسان الأول، المخلوق الأول، الإمام مجاهد والصحابي الجليل ابن عباس قال: ﴿وإنكَ لعلى خُلقٍ عظيم﴾ فسّرَ هذه الآية وإنكَ لعلى دينٍ عظيم، أي جعل الخُلق هو الدين، وجعلَ الدين هوَ الخُلق، وكلاهما يعني شيئاً واحداً، أنتَ أخلاقي إذاً أنتَ مؤمن، أنت مؤمن إذاً أنت أخلاقي، هذا تفسير ابن عباس والإمام مجاهد، وإنَكَ لعلى دينٍ عظيم، لأن هذا الدينَ كله مكارمُ أخلاق، فإذا ألغينا مكارم الأخلاق مثلاً سيارة ألغينا مُحركها، أخي فقط نزعنا المحرك، الأبواب ممتازة، المقاعد وثيرة، العدادات متألقة، الطلاء لمّاع، فقط حذفنا المُحرك من السيارة، أي ألغينا السيارة، يوجد طائرة عند الشيخ رسلان تعرفونها هذه طائرة؟ هذه مطعم وليست طيارة، لأنها لا تطير، الطيارة تطير، أي أقول لكم: إذا ألغينا الأخلاق، إذا ألغينا الخُلق الحسن، إذا ألغينا السموَ النفسي، إذا ألغينا الطهارة القلبية من الدين فقد ألغينا الدين كله، أروع تفسير للإمام مجاهد وابن عباس: ﴿وإنكَ لعلى خُلقٍ عظيم﴾ وإنَكَ لعلى دينٍ عظيم، الدين هو الخُلق والخُلق هو الدين، هذه أول آية، الإمام الحسن قالَ: ﴿وإنكَ لعلى خُلقٍ عظيم﴾ وإنكَ لعلى آدابِ القرآن.
 

على كل إنسان أن يجعلَ القرآن وما فيه من قيّمٍ أخلاقيّةٍ دستوره:


القرآن بينَ أيديكم قال لك: 

﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)﴾

[ سورة المؤمنون ]

هذه الآية ليست كي تقرأها وتأتي بأحكامها، لا، كي تدفعَ بالتي هي أحسن، قال تعالى:

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾

[ سورة الأعراف ]

يجب أن تقرأ القرآن قراءةً تستنبط منها آيات الأخلاق، مرة حدثناكم، أتمنى على كلِّ أخٍ كريم أن يقرأ القرآن ليستنبطَ من هذه القِراءةِ الأوامر والنواهي، وأن يقرأ القرآن ليستنبطَ من هذه القِراءة القوانين والسنـن، وأن يقرأ القرآن ليستنبطَ منه مكارمَ الأخلاق، هذا الذي أتمناه على كلِّ أخ كريم، أن يجعلَ هذا القرآن وما فيه من قيّمٍ أخلاقيّةٍ دستوره، زوجتك، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)﴾

[ سورة النساء ]

افتح التفسير، ليست المعاشرة بالمعروف أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها، هذا دينك، دينك مع زوجتك أن تحتمل الأذى منها، دينك مع أولادك أن تُحسنَ إليهم، دينك مع والديك: 

﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)﴾

[ سورة العنكبوت ]

دينك مع جارك، دينك مع السائل، دينك مع الفقير.
 

خلق النبي:


درسنا الآن: ﴿إنكَ لعلى خُلقٍ عظيم﴾ إنكَ لعلى آداب القرآن، ما هذا الأدب؟ قالَ: أدبّني ربي فأحسنَ تأديبي، وتأديب الله للنبـي عليه الصلاة والسلام توجيهاته في القرآن الأخلاقية، والسيدة عائشة تقول:

(( عن عائشة أم المؤمنين  أتَيْتُ عائشةَ، فقُلْتُ: يا أُمَّ المُؤمِنينَ، أخْبِريني بخُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالت: كان خُلُقُه القُرآنَ ، أمَا تَقرَأُ القُرآنَ، قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، قُلْتُ: فإنِّي أُريدُ أنْ أتبَتَّلَ، قالت: لا تَفعَلْ، أمَا تَقرَأُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]؟ فقد تزوَّجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد وُلِدَ له. ))

[  أخرجه أحمد : شعيب الأرناؤوط  : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

أخي الناس مقصرون، يقصروا، الإله عادل إذا الناس أفلحوا جميعاً جاء الخير للمجموع، وإذا الناس أبَوا،

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ   عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلاسِلِ». ))

[ صحيح البخاري ]

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». ))

[ صحيح البخاري ]

أنا أدعو إلى الله، أنصحُ الناس، ولكن إذا رأيتُ إعراضاً من الناس، وتفلتاً، وانكباباً على حُطام الدنيا، وتشبثاً بالشهوات، ماذا أفعل؟ أنغمسُ معهم؟ لا والله، هذا الذي أتمناه على كلِّ أخ، إن يئستَ من مجتمعك فعليكَ بنفسك، إن يئستَ ممن حولك فعليكَ بخاصةِ نفسك، ودع عنك أمرَ العامة، إذا رأيتَ شُحّاً مُطاعاً، وهوىً متّبعاً، وإعجابَ كلَّ ذي رأي برأيه، كل إنسان يرى نفسه مِحور العالم، كل إنسان متشبث، وكل إنسان مادي وشهواني وأناني، وأنا هذا رأيي، وأنا صحيح، وأنت غلطان، حينما ترى الأمور اختلطت وتداخلت، والفِتن استعرت، عليكَ بخاصةِ نفسك، بمعنى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾

[ سورة المائدة ]

إنكَ لن تستطيعَ أن تفعلَ شيئاً قبلَ أن تُصلحَ نفسك.
يوجد عندنا سؤال دقيق: لا تقدر أن تؤثّر بمخلوق كائناً من كان قبلَ أن تكون أنتَ في المستوى المطلوب، فلذلك نحن الآن أهم شيء عندنا أن نهتم بأنفسنا، ونهتم بزوجاتنا، ببناتنا، بأولادنا، ببيوتنا، إذا كلّ واحد منكم جعلَ بيته إسلاميّاً، هذا الطريق الصحيح، لأن الضجيج والعويل والصراخ لا يفعل شيئاً، كالذي وقفت سيارته فجعلَ يصرخ، ويستغيث، ويعاتب الأقدار، ويتألم، ويبكي، افتح غطاء المحرك وانظر أين العطب؟ وهذا المجتمع أساسه البيوت، أساسه الأسرة، الأسرة هي اللبِنةُ الأولى، فكل واحد منا إذا أردتَ أن تنجوَ من عذاب الله، إذا أردتَ أن تنجوَ من الفِتن، إذا أردتَ أن تنجوَ من المِحن، إذا أردت أن تنجو من البلاء، قال تعالى: 

﴿ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)﴾

[ سورة فُصلت ]

 سيدنا يونس: 

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء ]

إذاً هذه الآية الكريمة: ﴿وإنكَ لعلى خُلقٍ عظيم﴾ إنكَ لعلى دينٍ عظيم، والمعنى الثاني: إنكَ على آدابِ القرآن، في الصحيحين أن (( سَعْد بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)) فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً. ))
 

العبرة بالتطبيق والانضباط:


يا أخوان؛ والله يوجد نقطة دقيقة، نسمع دروساً عشرين سنة، يوجد كتب، يوجد أشرطة، يوجد مؤلفات، يوجد خُطب، أي يوجد ذخيرة إسلامية لا يعلمها إلا الله، ومع ذلك هناك تقصير، هناك تفلت، هناك تسريب لبعض الشهوات، تجد مستودعاً فيه ثقب، مهما تملؤه تجده فارغاً، طبعاً شخص مستودعه يسرب بشكل قليل، شخص مستودعه فيه ثقب سنتمتر، شخص مستودعه فيه ثقب عشرة سنتمتر، هناك مستودع بلا قعر أبداً، قدر ما ملأته لا تستفيد، اسمع حتى تشبع، اسمع مليون خطبة، فالعبرة بالتطبيق، العبرة بالانضباط، ادخل إلى البيت، وافتح دفتراً، أين المخالفات؟ المخالفات المتعلقة بالزوجة، في خروجها، في مظهرها، في الاختلاط، في العلاقات، بالبنات، بالأولاد، في عملك، في كسبك، في ذممك، في واجباتك، يا سعدُ أطب مطعمكَ تكن مستجاب الدعوة، أطب مطعمك، أفضل شيء أن نعود إلى التطبيق كي يتجلّى الله على قلوبنا، كي نشعر بنعيم الدين، كي نشعر بلذّةِ القرب، كي نشعر باطمئنانِ الحب.
 

الآية التالية جمعت مكارم الأخلاقِ كُلها:


قال: الآية الكريمة ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ قال: هذه الآية جمعت مكارم الأخلاق كلها، ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ انظر لكلمة خذ، أنت معقول أن تعطي إنساناً شيئاً مؤذياً، خذ، خُذ هذه الساعة، هذه إلكترونية، خُذ هذا القلم، خُذ هذه القطعة من الذهب، خُذ هذه القطعة من الماس، كلمة خُذ من خالق الكون، ملك ماذا يعطي؟ إذا شخص تفوق أو عمل بطولة في الحرب هل يعطيه الملك قلم رصاص؟ قلم رصاص وطني النسر، مستحيل، يعطيه بيتاً أقل شيء،  سيارة، كلمة خذ من الله معناها شيء عظيم جداً، ماذا تأخذ؟ ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ أي هل هناك موقف أشد من أن يذهب النبي إلى الطائف وأن يدعو أهل الطائف؟ أهل الطائف سَخِروا منه، كذبوا دعوته، ردوّه ردّاً قبيحاً، ضربوه بالحجارة، ماذا قال؟ اللهم اهدِ قومي، تخلى عنهم؟ لم يقل: اهدِ هؤلاء، لا، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، ثلاثة أشياء بالدعاء: لم يتخلّ عنهم، واعتذرَ عنهم، ودعا لهم، أنت عندك الإمكانية أن تفعل هذا؟ إذا أصابك شرّ من إنسان تتمنى أن تقطعه إرباً، أليسَ كذلك؟ ويضغط على أسنانه أيضاً، ﴿خذ العفو وأُمر بالعرفِ وأعرض عن الجاهلين﴾ اُعفُ، اُعفُ عمن ظلمك، اُعفُ عمن أساء إليك، ترتقي، تعلو، الدعاء يقولون إنَّ هذه الآية الكريمة النبي عليه الصلاة والسلام وقفَ عِندها، فسألَ جبريل: ما هذا؟ قالَ جبريل: لا أدري حتى أسأل، فسألَ جبريل ربه، ثمَ رجعَ إليه، فقالَ: يا محمد إنَّ الله يأمركَ –اسمعوا التفسير الإلهي-أن تصلَ من قطعك، وأن تعطيَ من حرمك، وأن تعفوَ عمن ظلمك، هذه ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ ، معنى ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ أن تصلَ من قطعك، وأن تعطيَ من حرمك، وأن تعفوَ عمن ظلمك، زره، هذا الذي قطعك زره في بيته، هذا الذي حرمكَ أعطه، هذا الذي ظلمكَ اعفُ عنه، هذه الآية جمعت مكارم الأخلاقِ كُلها، إذا قُلنا: كلِّها على الأخلاق، لأنَّ كلمة مكارم جمع وأخلاق جمع، جمعت مكارم الأخلاق، إذا قلنا: كُلَّها على المكارم، إذا قلنا: كُلِّها على الأخلاق. 
﴿وأُمر بالعرفِ﴾ العُرف ما جاء به القرآن، ما جاء به الشرع، أنت كمؤمن لن تستطيع أن تدعوَ إلا إلى الشرع، لأنَّ الشرع شرعُ خالق الكون، الشرع تعليمات الصانع، الشرع تعليمات هذه الآلة، فإذا أحببت نفسكَ ﴿وأُمر بالعرفِ﴾ الآن لكَ أعداءٌ كثيرون، قال له: يا ربي، -سيدنا موسى بالمناجاة- لا تبقِ لي عدواً، قالَ: يا موسى هذه ليست لي، هذه لي لم تصح، لكَ أعداء، لكَ خصوم، لكَ حساد، لكَ ناس منتقدون، هذه: ﴿وأعرض عن الجاهلين﴾ ارتفع عن هذه المرتبة، اصعد إلى مستوى أرقى، لا تكن في هذا المستوى، يوجد عندنا آيتان: ﴿وإنكَ لعلى خُلقٍ عظيم﴾ ، ﴿خذ العفو وأُمر بالعرفِ وأعرض عن الجاهلين﴾

(( قال أنسُ رضي الله عنه: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ خُلقاً. ))

[ صحيح مسلم ]

حُكي لنا عن رجل كان مفتياً قبل خمسين عاماً في هذه البلدة، وكان من الصالحين الأتقياء، قال: كان قاضياً، دخلت عليه امرأةٌ، يبدو أنها وهي تصعد الدرج خرجَ منها صوتٌ قبيح، فاحمرَّ وجهها، وخَجِلت خجلاً شديداً، وقالت لأختها: سمعنا القاضي، وتألمت كثيراً، فلما وصلت إليه سألها عن اسمها، فأجابته، قالَ: ما سمعت، ارفعي صوتك يا أختي، رفعت صوتها، قال لها: أنا ما سمعت، أنا لا أسمع، قالت لها: رأيت معنى هذا لم يسمعنا، خُلق هذا، خُلق عظيم، خجلت، لا تحرجها، كلما ارتقى مستواك لا تُحمّر وجه أحد، لا تُحرج أحداً.
النبي عليه الصلاة والسلام لمّا كان مع أصحابه، وقد تناولوا لحمَ جَزور، وأصحابه كلهم أعلام، ظهرت رائحة كريهة، وكانوا جميعاً قد توضؤوا وصلّوا الظهر، وتناولوا الطعام، وها قد أذّن العصر، من هذا الذي سيقوم ليتوضأ؟ هذا يتمنى أن تنشقَّ الأرض وأن تبتلعه، فقالَ عليه الصلاة والسلام: كلُّ من أكل لحمَ جزورٍ فليتوضأ، فقالوا: كُلنا أكلنا، قالَ: كلكم فليتوضأ، ما هذا؟ من أين تأتي بهذا الخُلق؟ تجد الناس يهمه أن يُحرج، يضايقه، يُكذبه، ألم تقل أنت البارحة غير هذا الكلام أمام الناس، أوقعه بموقف حرج، هذا الخُلق، فالإنسان أحياناً، من جاءه أخوه متنصّلاً، فليقبل منه مُحقاً كان أم مُبطلاً، كإنسان مؤمن يقول لك: أنا لم أتكلم هذه الكلمة على العين والرأس، فعلاً أنتَ لم تتكلمها، أنا قَبِلت، من جاءه أخوه متنصّلاً، فليقبل منه مُحقاً كان أم مُبطلاً، لا يوجد شيء يرفعكَ إلا أن تكونَ أخلاقيّاً، فقال سيدنا أنس: ((كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ خُلقاً)).
و:

((  عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَرَ اللَّوْن، كَانَ عَرَقُهُ اللُّؤْلُؤَ، وَكَانَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَمَا مَسِسْتُ دِيبَاجًا قَطُّ وَلا حَرِيرًا وَلا شَيْئًا قَطُّ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا شَمَمْتُ رَائِحَةً قَطُّ مِسْكَةً وَلا عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رِيحِهِ. ))

[ صحيح الجامع ]

أحياناً تمسك يد شخص تجدها خشنة كالمبرد، هناك أشخاص لهم عمل بالأقمشة، تجد يده ناعمة، أي عنده حساسية بالغة، قال سيدنا أنس: ((ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألينَ من كفِّ رسول الله، ولا شممت رائحة قطُّ أطيبَ من رائحة رسول الله)) .

((  عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين فما قالَ لي قطُّ أفٍ.))

[ متفقٌ عليه ]

 تجد أناساً يفتحون الأبواب ويغلقونها بعنف، يكسرون الصحون، يسبّون، ويضربون، يقولون لك: أخي خلقه ضيق، ((ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين، فما قالَ لي قطُّ أفٍ، وما قالَ لشيءٍ فعلته: لِمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلتَ كذا؟)) هذه أخلاق رسول الله، يا ترى أنت مع الناس هكذا؟ مع إخوانك، مع أولادك، مع جيرانك، مع زملائك، عندك هذا اللين؟ هذه الرحمة؟ هذا العطف؟ حتى يحبوا الدين الخاص بك، يسألون: أنت من شيخك؟ أين تحضر؟ خذنا معك، الآن بالعكس يقول لك: هذا الذي علّمك إياه شيخك؟ عندما تغلط معه يقول: هذا الذي تعلمته بالجامع؟ هكذا الدين؟ يجب أن يشتهي الناس أن يكونوا مثلك،

(( عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الأنْصَارِيِّ، سَأَلْتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالإثْمِ، قَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. ))

[ أخرجه الحاكم في مستدركه: صحيح ]

هل لاحظتم في كل حياتكم إنساناً يمزج الماء وبالحليب أمام المشتري؟ توقف، هات الماء يا بني، هات إبريق الماء، لا أحد يعملها، أين يضعون الماء مع الحليب؟ بالمنزل يعملون هذه العملية، فكل شيء تكره أن يطّلعَ عليه الناس فهو إثم، المؤمن يصل لدرجة لا يوجد عنده ازدواجيّة أبداً، داخله مثل خارجه، بمنزله مثل بالطريق، سريرته كعلانيته، ما في قلبه على لسانه، ما في لسانه في قلبه، لن تكونَ مؤمناً صادقاً إلا بالتوحد، أما الازدواجيّة موقفان، لسانان، موقف مُعلن، موقف حقيقي، يأتي لعندك أهلاً وسهلاً، اشتقنا لك والله، يذهب يعمل إشارة عندما يذهب، هكذا المؤمن؟ هذا الموقف الازدواجي، وهذا الموقف التمثيلي، وهذا الموقف الخُلّبي، وهذه تتكلمها وتحلف بالله وأنتَ لستَ كذلك، ليسَ هذا من الدينِ في شيء، ((البِرُّ حُسنُ الخُلق، والإثمُ ما حاكَ في صدركَ، وكرهتَ أن يطلّعَ عليه الناس)) هذا مقياس، وفي الترمذي

(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قـَالَ: مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ. ))

[ الترمذي: حسن صحيح ]

 

الشعور أن الله يحبك شعور لا يُقدّر بثمن:


أنا أقول لكم كلمة: الإنسان عندما يبالغ في الاستقامة، يبالغ بالتمسك بمكارم الأخلاق، يصل لدرجة شعوره أنَّ الله يحبه، هذا الشعور لا يُقدّر بثمن، شعور الدلال يصير، كأنه غالٍ على الله يصير بالتعبير الشعبي غال على الله، يشعر عندما قال الله تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

كأنه كذلك: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾

[ سورة مريم ]

قليل أن يكون للإنسان مودة مع أعلى إنسان بالبلد؟ يدخل عليه متى شاء، تجده يخوّف الناس كُلّهم، قليل أن خالق الكون يحبك؟ يرضى عنك؟ قال تعالى:

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾

[ سورة الفتح ]

ألا تغار من الصحابة الكِرام؟ والباب مفتوح أن يرضى الله عنك، الآن في هذا العصر، ليس لكَ زوجة؟ ليسَ لكَ أقرباء؟ ليسَ لكَ أخوات؟ ليسَ لكَ أم؟ ليسَ لكَ أب؟ ليسَ لكَ جيران؟ ليسَ لكَ مهنة تكون نصوحاً فيها؟ صادقاً فيها؟ كريماً؟ رحيماً؟ أحياناً إنسان تدخل امرأة فقيرة على صيدلية ينقصها ليرتان، يقول لها: اذهبي وأحضريهما، ينقصها ليرة أحياناً، اذهبي وأحضريها، عمرها كعمر أمه، اذهبي وأحضري، هيا، هات الدواء، ضعيه بالدرج، ألا يوجد عندك رحمة؟ تقول لها: يا أختي مسامحة، لا يقدر، فكلما ارتقى الإنسان ينشأ في قلبه رحمة، ينشأ تسامح، ينشأ عطف.
درس اليوم الخلق، لا تقولوا بالغ في الموضوع، هذا درسنا، درسنا منزلة الخلق، هناك درس منزلة الحب، درس منزلة الإخلاص، درس منزلة العلم، درس منزلة الاستقامة، اليوم درسنا منزلة الخلق.
 

تقوى الله وحُسنُ الخُلق أكثر ما يُدخل الناسَ الجنة:


 قال:

((  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ. ))

[ صحيح الترغيب: حسن ]

لا تظن حالك إذا قرأت كتاباً قراءة متينة جداً وحفظته، وصار عندك قوة تناقش به كل الناس أن الله راض عنك، لا، العلم ضروري جداً، والعالم على العين والرأس، أما لو كان الذي قرأ الكتاب، وحفظه، وفهمه، وما كانت أخلاقه رضية، ما أفلح، ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ)) اللسان، كذب، غيبة، نميمة، سخرية، فحش، بذاءة، دجل، تزوير، تدليس، سُباب، شتائم، هذا اللسان، الفم، هذا الطالع، والداخل؟ ضع بالخرج، أخذناها بالقوة، أهم شيء الداخل من لقمة حرام، والخارج من كلمة سوء، أكثر ما يُدخل الناس النار الفمُ والفرجُ، شهوة الطعامِ وشهوة الفرجِ، وأكثر ما يُدخل الناسَ الجنة تقوى الله وحُسنُ الخُلق.

(( عَنْ أبي هريرة: أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائِهم. ))

[ الجامع الصغير: صحيح  ]

(( عن عائشة رضي الله عنها: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ. ))

[ أبو داود: صحيح أو حسن  ]

إنسان صام يوم عاشوراء، لكن خلقه ضيق، وآخر لم يصم، الأخلاقي الذي خلقه حسن لو لم يصم سبق الصائم، شخص صلى قيام الليل، وفي اليوم الثاني خلقه ضيق، يشتم الناس ويسب ويهين، والذي لم يصلّ قيام الليل وبقي نائماً، وفي اليوم الثاني خلقه حسن أفضلُ منه، أما الأفضل من هذا وذاك، من صلى قيام الليل وكان خلقه حسناً، هذا أفضل طبعاً، أما إذا صلى ركعتين بالليل وفي اليوم الثاني أخلاقه شرسة مع الناس، لا والله، نم في الليل وكن أخلاقك حسنة،

(( عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قال: المتكبّرون. ))

[ تخريج الإحياء للعراقي: فيه انقطاع ]

هناك جبابرة العلماء، يرى نفسه فوق الناس جميعاً، هذا المتكبر مقطوع عن الله عزّ وجل.
هذا الموضوع طويل إن شاء الله يحتاج لدرس قادم، على كُلٍ من الأخلاق الأساسيّة: الصبر، والعِفة، والشجاعة، والعدل، ومن أساسيات الانحرافات الأخلاقيّة الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب، وأساس الأخلاق أن تكونَ بين الإفراط والتفريط، هذه كلها موضوعات إن شاء الله نأخذها في درس قادم. 
على كل ليس لهذه الدروس من قيمةٍ إطلاقاً إلا إذا تجسدت في السلوك، إلا إذا طُبقت في البيوت، إلا إذا طُبقت في الطريق، إلا إذا طُبقت في الحوانيت، في الدوائر، في المعامل، في المصانع، في المتاجر، في المزارع، إلا إذا طبقتَ هذه الأخلاقَ في حياتكَ اليومية، عندئذٍ تقطفُ ثمارها.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور