- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
تمهيد :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من دروس جامع العثمان , وعدتكم في لقاءٍ سابق , أن يكون هذا الدرس في موضوع الاستقامة , وكنت قد قلت لكم :
حينما تحدثنا في موضوع الحب أو منزلة المحبة , أن الحب أصلٌ من أصول الدين .
وحينما تحدثنا عن الإخلاص ، قلت لكم إن الإخلاص هو كلُّ شيء .
وحينما تحدثنا عن العلم ، قلت لكم العلم أساس الدين .
وأنا اليوم أقول لكم :
الاستقامة عين الكرامة , لأن كلَّ ثِمار الدين , وكلَّ ما في الدين من سعادةٍ , وسكينةٍ , واطمئنانٍ , وتوفيقٍ , وشعورٍ بالأمن , وشعورٍ بالتفوق , وشعورٍ بالفوز ، خطيرة وثمينة , لا يقطفها الإنسان إلا إذا استقام على أمر الله , فبين الذي يستمع كثيراً ولا يطبّق , وبين الذي يستمع ويطبّق بونٌ شاسع .
منزلة الإستقامة :
ماذا وردَ في القرآن الكريم عن الاستقامة ؟
الآية الأولى :
ربنا سبحانه وتعالى في سورة فُصلّت , الآية الثلاثون يقول :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
ربنا الله هذه ليست كلمة تُقال ، لكنها بحثٌ ذاتي ، بحثٌ طويل ، الإيمان لا يتأتى بكلمةٍ تقولها , ولكن ببحثٍ ذاتيٍ طويل تبحثه , فنهاية المطاف , ونهاية هذا البحث , ونهاية التأمل , ونهاية التفكر , ونهاية التدبر , أن تقولَ : ربيَّ الله .
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
ذكرَ الله عزّ وجل في هذه الآية ثمرتين من ثمار الاستقامة :
ألا تخافوا ولا تحزنوا .
وقد يخاف الناس , وقد ينخلعُ قلبُ الناس لخطرٍ داهمٍ , وقد يقلقون , وقد يُقهرون ، أما ربنا سبحانه وتعالى يصف هؤلاء المستقيمين بأنهم يتمتعون بشيئين :
ألا تخافوا ولا تحزنوا .
لا تخافوا مما هو آت , ولا تحزنوا على ما فات ، وهل من شعورٍ يدمّر السعادة الإنسانية كالخوف أو الندم ؟.
إنَّ من أمضِّ المشاعر, ومن أشدها إيلاماً : أن تندمَ على شيء فات , وأن تقلقَ للمستقبل .
القلق والندم صفتان ملازمتان للمنحرفين , دائماً يندم على ما فات , ودائماً يقلق لِما هو آت . فالمستقيم كما وعدَ الله عزّ وجل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
لما قالوا ربنا الله ثمَّ استقاموا ، تكوّنت قناعاتهم بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الربّ , وهو الربٌّ وحده , يجب أن تؤمن بأن الله هو الخالق , وأنه لا خالقَ سِواه , وأنه هو الربّ , وأنه لا ربَّ سِواه , وأنه هوَ المُسير , وأنه لا مُسير سِواه .
عبّرَ علماء التوحيد عن هذه الحقائق بقولهم :
وحدة الخلق ، وحدة الربوبية ، وحدة الإلوهية .
الآية الثانية :
في سورة الأحقاف :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
الذي أتمناه على أخوتي الكرام ؛ أن ينزِعوا من أذهانهم هذا المفهوم الخاطئ , المفهوم الساذج ، كلما طالبتهم بالاستقامة يقول لك أحدهم :
أنا لست نبياً !!
ومن قال لك إن الاستقامة خاصة بالأنبياء ؟!!!
من قال لك ذلك ؟!!!
إليكَ الدليل القطعي ، القطعي في ثبوته والقطعي في دلالته :
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
استقم : فِعلُ أمرٍ يفيد الوجوب .
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾
النبي عليه الصلاة والسلام فسّرَ هذه الآية فقال : إن الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين .
كلما دعوتَ إنساناً إلى أن يستقيم رفعَ عقيرته وقال : أخي أنا لست نبياً , لا تكلفني ما لا أطيق , هذا كلامٌ فيه ضلالٌ كبير , وفيه زيغُ خطير .
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾
هذه الآية وردت في سورة هود ، لذلك حينما قالَ عليه الصلاة والسلام : شيّبتني هود ؛ يعني سورة هود ، والذي شيّبَ النبي فيها هذا الأمر الخطير .
أنتَ أيها الأخُ الكريم ؛ تطلب من الله الكرامة ، تطلب من الله أن ينصرك الله على أعدائك ، أن يوفقك ، أن يرفع شأنك , أن يستخلفكَ في الأرض ، أن يمكّن لكَ دينك ، وهو يطلب منك الاستقامة , إذا أردتَ أن تكون أكرمَ الناس فاتقِ الله ؛ أي استقم على أمرِ الله .
ما الاستقامة ؟
قال بعضهم : إنها ضدُ الطغيان .
ما معنى طغى ؟ خرجَ عن الخط المستقيم .
طغى : خرجَ عن المنهج .
طغى القطار : إذا خرجَ عن سكته .
طغت السيارة : إذا خرجت عن الطريق المعبّد إلى وادٍ سحيق ، والله سبحانه وتعالى حينما خلق الإنسان , خلقَ له منهجاً , وقالَ الله عزّ وجل :
﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾
قدّمَ الله تعليم القرآن على خلقِ الإنسان، هذا التقديم ليسَ تقديماً زمنيّاً, لا يُعقلُ أن يعلّمَ القرآن, ثمَّ يُخلق هذا, مستحيل, لكن هذا التقديم تقديم رُتبي, فما قيمة الإنسان بلا منهج؟ ما قيمة هذه الآلة المعقدة بلا تعليمات؟ ما قيمة هذه الجامعة بلا نظامٍ داخلي؟.
الاستقامة أن تلزمَ المنهجَ الإلهي, أن تلزم أمرَ الله وسُنّة نبيه, والطغيان أن تحيدَ عن هذا المنهج؛ في عقيدتك, في تصرفاتك, في كسبِ المال, في إنفاق المال, في علاقاتك, في جِدّكَ, في لَهوكَ, في إقامتكَ, في سفركَ, في علاقاتك الداخلية, في علاقاتك الخاصة جداً, في علاقاتك العامة.
أيها الأخوة الأكارم ؛ متى تخرج عن منهج الله؟ لا بد من أن تعرف هذا المنهج, حتى تعرف ما إذا كنتَ قد خرجتَ أو لم تخرج، كيف تعرف أنك خرجت عن هذا المنهج إن لم تعرف المنهج؟ إذاً: طلب العِلمِ فريضة, طلبُ الفِقهِ حتمٌ واجبٌ على كلِّ مسلم، طلب العلمِ أساس الاستقامة, وطلب العلم أساس التوبة, كيف تتوب من ذنبٍ قبلَّ أن تعرفَ أنه ذنب؟ وكيف تستقيم على منهج الله قبلَ أن تعرف منهج الله عزّ وجل؟.
الخطوة الأولى ، الحركة الأولى ، الموقف الأول ، الهمُّ الأول ، الاهتمام الأول : أن تعرف منهجَ الله عزّ وجل ، أمره ونهيه .
الآية الثالثة :
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾
هنا أضيف معنى جديداً : استقيموا إليه , قد تستقيم إلى زيدٍ أوعُبيد ، قد تستقيم لتنالَ مكانة عندَ فلان, قد تتسلمُ عملاً ذا عائدٍ كبير ودخلٍ كبير, من حرصكَ على هذا الدخل, تستقيم في هذا العمل, ولكن استقامتك من أجلِ أن يرضى صاحب العمل, فأنت استقمتَ لا إلى الله عزّ وجل, استقمتَ إلى زيدٍ أو عُبيد, هنا في معنى جديد :
﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه﴾
هذا يشبه قول الله عزّ وجل :
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾
قد توضعُ في ظرفٍ تؤمر أمراً تعسفيّاً, وأنتَ ضعيف, وليس في إمكانكَ أن تقولَ: لا, إنكَ تصبر, ولكن تصبر وأنتَ مقهور, ليسَ هذا الصبر هو الذي أراده الله عزّ وجل، الله عزّ وجل يقول :
﴿ولربّكَ فاصبر﴾
بالمناسبة : كلما تذللتَ إلى الله رفعكَ الله، وكلما صبرتَ لله أعزكَ الله، وكلما كنتَ خاضعاً لله أخضعَ الله الآخرين إليك، وكلما هِبتَ الله هابَكَ الناس، وكلما نُزعت من قلبكَ هيبة الله, نُزعت من الناس هيبتك, قواعد ... قوانين ... الإنسان لو أنه يفهم ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام فهماً عميقاً, إذا فهمَ ما قاله النبي على أنه قواعد ثابتة, قوانين مثلاً: عفّوا تعفُ نساؤكم.
كلما غضضتَ بصركَ عن محارم الله, الله سبحانه وتعالى حفظَ لكَ زوجتكَ من أن تَزِلَّ قدمها.
((برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم))
((ما أكرمَ شابٌ شيخاً لسنه, إلا قيض الله له من يكرمه عندَ سنه))
((من أرضى الله بسخطِ الناس, رضي عنه الله وأرضى عنه الناس))
هذه قواعد, لو عرفتَ أن هذه القواعد حتميّة واقعةٌ لا محالة, لأنها من عندِ خالق البشر, من عندِ خالق الكون، القضية: أن تقف من هذا الأمر أو هذه القاعدة موقف المصدّق, موقف المهتم، والطريق إلى ذلك: كلما عَظُمَ عِندكَ ربك كلما عَظُمَ أمرك .
إذا تفكرّتَ في خلقِ السموات والأرض, وازدادت خشيتك لله عزّ وجل, تُعظّمُ أمرَ الله عزّ وجل، لهذا قال أحد أصحاب رسول الله, أظنه سيدنا بلال: لا تنظر إلى صِغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت .
فاستقيموا إليه : يجب أن تكون استقامتك خالصة إليه, قد يأتي أمرٌ إلهي متوافقٌ مع أمرٍ وضعي, فالسرقةُ حرامٌ في شرعِ الله, وحرام في قوانين الناس, فالذي يمتنع عن السرقة لا تدري: أهوَ خوفٌ من عِقاب البشر أم خوفٌ من عِقاب خالق البشر؟ القضية هنا مختلطة، أما هناك أوامر ينفردُ بها الدين وحده, أمركَ بغض البصر, فحينما يستجيب المؤمن لهذا الأمر, مع أنه ليسَ في الأرض كلها قانون أو أمرٌ, يحظّرُ عليك أن تنظرَ إلى امرأةٍ في الطريق، حينما تنفذُ أمراً ينفرد به الدين, هذا يؤكد لك أنك مخلصٌ لله عزّ وجل، غضُّ البصر مدرسة, لأن كلَّ من يغضُ بصره عن محارم الله, يشعر في قرارةِ نفسه أنه لا يبتغي بهذا الغض إلا وجه الله, لأنَّ الناسَ لا يعنيهم هذا الأمر, ولا يوجّهونَ هذا التوجيه .
الآية الرابعة :
ومعنى جديد الاستقامة :
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾
الطريقة مستقيمة إذا استقاموا عليها, إذا تابعوا هذا السير المستقيم:
﴿لأسقيناهم ماءاً غدقاً لنفتنهم فيه﴾
أول ثِمار الاستقامة : أن تكونَ في بحبوحة, هذا كلام خالق الكون، كلام الله عزّ وجل، هذه الأمطار الشحيحة, المعدلات المتدنيّة, انحباس ماء السماء، هذه الظاهرة إلهية, الحقيقة: إن الله عزّ وجل حينما يقول في كتابه الكريم :
﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءاً غدقاً لنفتنهم فيه﴾
الناس لو استقاموا على أمر ربهم, لانهمرت السماء بمائها، لذلك كلما قلَّ ماء الحياء قلَّ ماء السماء, وكلما رَخُصَ لحم النساء غلا لحم الضأن، علاقات ثابتة، وكلما هانَ الله على الناس هانوا عليه .
الإنسان حينما لا يبالي أكان دخله من حلالٍ أم من حرام, بعد عن الاستقامة، كلما هانَ أمر الله على الناس هانوا عليه، ماذا قال الله عزّ وجل؟:
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾
هذه البراكين والصواعق, وما يشبه الصواعق القذائف: ما أقسى بأسها
﴿قل هو القادر على أن يبعثَ عليكم عذاباً من فوقكم﴾
أو من تحت أرجلكم الزلازل, ما أقصى بأس الإنسان!:
﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾
هذا عقابٌ من الله عزّ وجل .
﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءاً غدقاً لنفتنهم فيه﴾
من ثمار الاستقامة من خلال هذه الآيات : ألا تخاف مما هو آت, وألا تحزنَ على ما قد فات، أنتَ في منجاةٍ من القلق ومن الندم، والقلق والندم حالتان نفسيتان تدمران الصحة النفسية.
يجب أن تستقيم على أمر الله كما أُمرَ النبي أن يستقيم على أمر الله، أنتَ بهذا الأمر واحد، الاستقامة يجب أن تكون في سبيل الله, ابتغاء مرضاة الله, لا ابتغاء زيدٍ أو عُبيد .
والاستقامة من ثِمارها : أن الله سبحانه وتعالى يفرّجُ عنك, يزيلُ عنكَ كلَّ كرب, كلَّ هم, كلَّ حزن, كلَّ ضيق, كلَّ قلق .
أقوال الخلفاء الراشدين بالإستقامة :
إلى الخلفاء الراشدين الهادين المهديين ، الذين حدثنا عليه الصلاة والسلام عنهم .
عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ:
(( صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ, ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا, فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً, ذَرَفَتْ لَهَا الأعْيُنُ, وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ, قُلْنَا أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا, قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ, وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا, فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ, يَرَى بَعْدِي اخْتِلافًا كَثِيرًا, فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ, وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ, وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ, فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ))
أبو بكر الصديق رضي الله عنه :
ماذا قالَ سيدنا الصديّق عن الاستقامة؟ قالَ: ألا تُشركَ باللهِ شيئاً، تطيعَ إنساناً وتعصي ربك فقد أشركتَ به، رأيتَ طاعته أغلى من طاعة الله، أن تتبعَ هواك وتعصي أمرَ الله عزّ وجل, أشركتَ نفسكَ مع الله:
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾
هذا فهمٌ عميقٌ جداً للاستقامة، الاستقامة عندَ هذا الصحابيّ الجليل, عندَ سيّدِ الصحابةِ والتابعين, عِندَ من لم تطلع شمسٌ على رجلٍ خيرٍ منهُ, وسيدنا عمر لمّا كان مع أصحابه الكِرام, أحدهم أرادَ أن يتقرّبَ منه, قالَ: واللهِ ما رأينا أحداً أفضلَ منكَ بعدَ رسول الله, فما كان من هذا الخليفة العظيم, إلا أن نظرَ في أصحابه محدّقاً ومستنكرّاً، أحدهم قال: لا والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك, قال: ومن هو؟ قال: أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، فقال عمر رضي الله عنه: لقد كذبتم جميعاً وصدق، جعلَ سكوتَ هؤلاء جميعاً كذِباً .
قال: كنتُ أضلَّ من بعيري, وكانَ أبو بكرٍ أطيبَ من ريح المِسك ...
سيدنا الصدّيق يقول: الاستقامة ألا تُشركَ باللهِ شيئاً, اعلم عِلمَ اليقين: أن تعصي الله عزّ وجل, فتجدَ في هذه المعصية أنها مغنمٌ, هنا الشِرك، رأيتَ هذا الإنسان؛ إذا أطعته وعصيتَ الله, وقعتَ في الشركِ وأنتَ لا تدري.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
سيدنا عمر عملاق الإسلام, قالَ عن الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي, أن يجدكَ حيثُ أمرك, وأن يفتقدكَ حيثُ نهاك, ولا تراوغ روغانَ الثعلب, الحل يعقد على فتاة صغيرة في سن الرضاع, ثم تأتي زوجة أخيه فترضعها, فإذا هي أمُّ زوجته من الرضاع, ثمَّ يطلّقُ هذه الفتاة الرضيع، زوجة أخيه هي أمُّ زوجته على التأبيد, له الحقُّ أن يراها, هذا اسمه روغان الثعلب كما قال سيدنا عمر, حيلة شرعية, وكأن الله لا يدري ما يحصل، وكأن الله عالمُ السرِّ والنجوى لا يدري .
عثمان بن عفان رضي الله عنه :
سيدنا عثمان ماذا قال عن الاستقامة؟ قال: استقاموا؛ أي أخلصوا العمل لله، سيدنا عثمان ألقى الأضواء على الإخلاص بالاستقامة سيدنا عمر على العمل، سيدنا الصدّيق على العقيدة، التركيز عندَ الصدّيق كان على الشِرك، المنحرف مشرك، سيدنا عمر التركيز على العمل، سيدنا عثمان على الإخلاص, وكلهم من رسول الله ملتمسون.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
أما سيدنا عليّ رضيَّ الله عنه وابن عباس قالوا: استقاموا؛ أيّ أدَوّا الفرائض، من أين جاء بها؟ الحديث الشريف:
((ما عُبدَ الله بأفضلَ مما افترضه عليكم))
أداء الفرائض مُقدمٌ على كلِّ شيء.
((اتقِ المحارمَ تكن أعبدَ الناس, وارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس))
سيدنا الحسن رضي الله عنه :
سيدنا الحسن قال: استقاموا على أمر الله؛ عَمِلوا بطاعته واجتنبوا معصيته، اجتنبوا معصيته؛ أيّ تركوا بينهم وبينها هامشَ أمان .
بعض العلماء يقول: استقاموا؛ أي استقاموا على محبته وعبوديته.
كما قلت لكم دائماً: العبودية غاية الخضوع مع غاية الحب، هذا معنى استقاموا.
أحاديث عن الاستقامة :
سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام كما ورد في صحيح مسلم: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ:
((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلْ لِي فِي الإسْلامِ قَوْلا لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ, قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: بَعْدَكَ, قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
قل: آمنت بالله ثم استقم, هذا هو الدين كله .
إذا الإنسان آمن بالله ولم يستقم, لم يفعل شيئاً, مع أن الاستقامة لا بد لها من إيمانٍ بالله, إنسان على وشكِ الموتِ عطشاً, عَرَفَ أن في هذه الجهةِ نبعٌ فياض, فيه ماء نميرٌ زُلال ، لم يذهب إليه، هذه المعرفة ما قيمتها؟ ماتَ عطشاً, هذه حقيقة, هذا ملخص الملخص.
لهذا ربنا عزّ وجل يقول :
﴿ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه فمن كان يرجو لقاء ربه﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
ما قيمة إيمانك؟ ما قيمة كلِّ قناعاتك؟ كلّ الحقائق التي عرفتها إن لم تتخذ موقفاً عمليّاً، إن لم تنته، إن لم تأتمر، إن لم تفعل، إن لم تصل, إن لم تقطع، إن لم تغضب، إن لم ترضَ، إن لم تعطِ, إن لم تمنع؟ لا قيمة لكلِّ قناعاتك .
النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ صحيحٍ, رواه الإمام أحمد في مسنده, عَنْ ثَوْبَانَ, أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قال:
((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا, وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ دينكم الصَّلاةُ, وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إلا مُؤْمِنٌ))
النبي عليه الصلاة والسلام كما قالَ عن نفسه -أوتي جوامعَ الكلم- .
((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))
لكَ أن تفهمَ هذا الحديث فهمين :
الأول : أنكَ إذا استقمتَ على أمر الله, لن تحصي الخيرات التي تتأتى من هذه الاستقامة ، سعادة نفسية ، توفيق في العمل ، سرور ، طمأنينة , شعور بالراحة ، شعور بالتفوق , هذا كله من لوازم الاستقامة .
من علامات الاستقامة أن يقول المستقيم : ليس في الأرض من هو أسعدُ مني، المؤمن مُبتلى، المؤمن قد تأتيه بعض المكاره, ولكن ليسَ معنى هذا أنه ليسَ بسعيد, سعادته داخلية, شعوره أنَّ الله يحبه هذا مُسعد، شعوره أن الله راضٍ عنه هذا مُسعد، شعوره أنه على منهج الله هذا مُسعد، شعوره أن الله وعده بالجنة هذا مُسعد, فالإنسان المؤمن سعيدٌ في داخله, ولا يمنع أن يُبتلى في ظاهره .. يبتلى ..:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
الإنسان لا بد من أن يُبتلى :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))
الثاني :
وللحديث معنى آخر : في حالات إذا الإنسان دخل بالوسواس , فالقضية صعبة جداً ، فيمكن أن يُفهم هذا الحديث , أن الإنسان لا يدخل في حالة الوسواس , يشك ؛ توضأ أم لم يتوضأ ؟ الماء تبلّغ أم لم يتبلّغ ؟ أعاد الوضوء مرة ثانية وثالثة ورابعة , دخل بما يسمى الوساوس ، فهذا المعنى الآخر قد يكون من هذا الباب .
الاستقامة هيَّ السداد، السداد يعني أن تصيب الهدف, وفي حالات قد لا تستطيع شيء فوقَ طاقتك، إذاً لا بدَ من المقاربة, المقاربة كما قالَ عليه الصلاة والسلام:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ:
((سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ, يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا, فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ, قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ, وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ))
أهون الشرّين, أحياناً الإنسان يُفرض عليه وضعان, عليه أن يختارَ أهونهما، أهون الشرّين سماها النبي عليه الصلاة والسلام: مقاربة, له أخت ليست ملتزمة على أمر الله, هل يقاطعها أم يصلها؟ إن قاطعها تزداد انحرافاً، وإن وصلها لا تصلي، نقول له: صِلها, إنكَ إن وصلتها لعلها تهتدي، يقول لكَ: ليست مستقيمة، أهون الشريّن أن تصلها, أحياناً أنتَ مضطر أن تفعل ما هو قريب من الاستقامة, لا في الأحكام الشرعية ولكن في المعاملات .
((سددوا وقارِبوا, واعلموا أنه لن ينجو أحداً منكم بعمله, قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قالَ: ولا أنا, إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضله))
إذا أعطيناك مفتاح بيت, ثمنه ثلاثين مليوناً, المفتاح ثمنه عشرون ليرة, ظننت أن البيت مِلكُكَ, أنتَ أخذتَ مفتاح البيت ولم تدفع ثمن البيت، البيت فضلٌ من الله عزّ وجل مثل للتقريب, أنتَ حينما تستقيم على أمر الله, دفعتَ ثمن الجنة أم دفعتَ ثمن مفتاح الجنة؟ اشتريتَ مفتاح الجنة, ولم تشترِ الجنة بكاملها, الجنة محضُ فضلٍ من الله عزّ وجل، فرقٌ بين أن تشتري المفتاح وبين أن تشتري الجنة، فالجنة برحمة الله كما قالَ عليه الصلاة والسلام .
حتى أخواننا الكرام ما يقعوا في تناقض بينَ هذا الحديث الصحيح الذي خرّجه علماء الحديث وبين آياتٍ كثيرةٍ تقول:
﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
نوّفق بين هذه الآيات وبين هذا الحديث, التوفيق سهل جداً، كنتُ قد ضربتُ لكم مثلاً من قبل: أن شاباً في الصف العاشر, توفيَّ والده، والده فقير, له عمٌ غني, قالَ العمُ لابن أخيه: ابن أخي إن أردتَ أن تدرس, فأنا أنفقُ عليكَ, وعلى أهلك، هذا الشاب نال أعلى شهادة بالطب, فتح عيادة، تألقَ اسمه, وذاعَ صيته, وكبرَ دخله، وصارَ في بحبوحةٍ, التقى العم مع ابنِ الأخ, فقال العم لابنِ أخيه: يا بنَ أخي, لقد نِلتَ ما نلتَ؛ بجهدك, وسعيك, واجتهادك, وعرقك, وكدِّ يمينك, وعرقِ جبينك, هذا الكلام صحيح؟ قال له ابن الأخ: واللهِ يا عمي, لولا فضلك واللهِ لما كنتُ بهذا المقام .
هو العم, لو أنَّ ابنَّ أخيه لم يجتهد, ما تابعَ الإنفاقَ عليه, ولو أنّه كانَ مجتهداً, ولم يتوافر له عمٌ ينفقُ عليه, لما نالَ هذه المرتبة, فنقول: إن ما حصّله من هذه المرتبة الاجتماعية والعلمية, سببها, مفتاحها: اجتهاده والفضلُ فيها لعمه .
فإذا قالَ عليه الصلاة والسلام:
((سددوا وقارِبوا, واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله, قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قالَ: ولا أنا, إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضله))
فالعمل مهما كانَ مستقيماً، مهما كانَ البذلُ كبيراً, لا يكفي لدخول الجنة, هو مفتاحٌ للجنة, ربنا عزّ وجل جعل الاستقامة والأعمالَ الصالحة مفتاحاً لدخول الجنة, أما دخول الجنة بفضلِ اللهِ عزّ وجل .
مثل آخر للتوضيح: إذا أب وعد ابنه بدراجة غالية الثمن, إذا هو نالَ الدرجة الأولى على رفاقه, هذا الطالب نالَ الدرجة الأولى, حملَ الجلاء, وتوجه من فوره إلى بائع الدراجات, قال له: أعطني هذه الدراجة, وهذا الجلاء تفضل, أيعطيه إياها؟ هل قال له الأب: خذ الدرجة الأولى, وخذ هذه الدراجة من عند هذا البائع؟ لا بد من دفع الثمن من قِبل الأب ..
أيها الأخوة الأكارم ؛ الاستقامة بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ, وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ, وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))
شطرٌ كبير من الاستقامة؛ استقامة اللسان.
شروط الاستقامة :
لكن بعض العلماء قال: الاستقامة فيها ستة شروط, والمعنى دقيق جداً, قالَ: اجتهادٌ في العمل، واقتصادٌ فيه، ووقوفٌ عندَ حدود العِلم، وإخلاص للمعبود، ومتابعةٌ للسُنّة.
اجتهادٌ في العمل: أحياناً الإنسان يعمل عملاً شكلياً, صلى؛ هذه الصلاة التي أرادها الله عزّ وجل, صام؛ هذا الصيام الذي أراده الله عزّ وجل, تصدق, دفعَ زكاة ماله, بالعكس عنده بضاعة فاسدة, قدّمها إلى جمعية, وقال: أخي, هذه زكاة مالي, في بضائع الناس ليسوا بحاجة لها، الناس بحاجة إلى طعام وشراب أحياناً، لاحظت ملاحظة بالجمعيات الخيرية, باركَ الله بها جميعاً, لكن كل شيء كسد عند التجار يقدمونه لهذه الجمعيات, من حِسابِ زكاةِ أموالهم, هذا اجتهاد بالعمل, لا والله ليس اجتهاداً، تطاولَ بعض التجار على الله عزّ وجل, وعدَّ الضريبة من الزكاة, شعر براحة عظيمة، طعام كرهته نفسه فقدمه للفقراء, هذا لا يجوز أبداً، الاجتهاد أن تبذلَ غاية الجهدِ.
لهذا قالَ الله عزّ وجل :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
استنفذوا كل استطاعتكم, فهموها فهماً آخر معاكساً, يعني بعض الجهد, الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
أنتَ تريد أن تصلي, فصلِ في غرفة خاصة, لو صليت في غرفة الجلوس, لا بد من أن تنصرف لِما يقال حولك, فلو صليتَ في غرفةٍ خاصةٍ بعيدةٍ عن الأصوات, معنى ذلك: أنك بذلتَ جهداً في هذه العبادة، لو صليتَ وأنت حاقن, أيةُ صلاةٍ هذه؟ صليت وأنت جائع!! فهمتك أن تنتهي من هذه الصلاة .
المقصود: بذلُ الجهدِ في العمل، زكاة مالك دفعتها لأول مستحق دون اجتهاد, يجب أن يُدفع المال لمن هو يستحقه تماماً, ففي دفع الزكاة, بالحج أخذت الرُخص كلها ارتحت.
قالَ: حججنا, صليت العصر بجدة يوم عرفة, ركبنا السيارة, الطرقات فارغة إلى مكة, طفنا طواف القدوم وسعينا, لا يوجد ازدحام, خرجنا من مكة إلى عرفات, الطريق فارغ, أول ما وجدنا الازدحام توقفنا، الشمس ما غابت بعد, غادرنا والطرقات فارغة، هذا هو الجهد يا ترى؟ بالصلاة مثلاً, بغض البصر ..
قالً العلماء: من تصيّد الرُخص من كلِّ المذاهب رقَّ دينه, يتبعُّ أيَّ مذهب بشرط أن يكون فيه رخصة .
بالاستقامة أيها الأخوة ؛ الاقتصاد .
الاقتصاد أن تسلك بين طرفي الإفراطِ والتفريط, أن لا تتعنتَ في الدين، أن تغلوَ في الدين, العوام تقول: لا إفراط ولا تفريط .
مثلاً: أنتَ ورع جداً, غيور جداً على زوجتك، من غيرتك على زوجتك, رفضتَ أن تأخذها إلى الطبيب, أنت أخذتَ جانبَ الغلوِّ في الدين, أنتَ أورعُ من سيد المرسلين؟ أنتَ أشدُ ورعاً من العلماء العاملين؟ فالانحراف عن الاستقامة له مظهرين: إما الإفراط أو التفريط .
الاستقامة أول شرط من شروطها: أن تبذلَ غاية الجهدِ، وثانياً: أن تقفَ الموقف المعتدل بين الطرفين, أنت زاهد, أعرضتَ عن الدنيا إعراضاً كليّاً .
زوجة شكت زوجها لسيدنا عمر, أن زوجها كانَ صوّاماً قوّاماّ, يبدو أنه لم ينتبه لقولها, قال لها: باركَ الله في زوجك، أحد الصحابة انتبه أنها تشكوه ولا تثني عليه, قال: إنها تشكو زوجها, قال: فاحكم أنتَ بينهما, فحكم أن يعطيها كل أربعة أيام يوماً, لأنه لو عنده أربع زوجات, للواحدة منهنَّ حق يوم .
الاستقامة: أن تعطي لكل ذي حقٍ حقه، أن تؤدي الحقوق تماماً، لا أن تُفرّط ولا أن تُفرط.
مرة قال لي أخ: طُلب منه أن يصنع أبيات مصاحف رفض, وهو في أشدِّ الحاجةِ إلى المال, لماذا رفض؟ قال: لأن الذي كلّفه بهذا العمل, ليسَ مسلماً من أهل الكتاب, من قال لك: إنَّ هذه استقامة؟ لكَ أن تتعاملَ معه شِراءً أو بيعاً !!!:
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾
من الانحراف عن الاستقامة أن تُفرّط أو أن تُفرط، ما دام الشرع سمح للطبيب الأجنبي, أن يرى المرأة المسلمة, أما إذا في طبيبة أولى, طبيبان مسلم وغير مسلم, المسلم أولى, أما حينما يكون المرض خطيراً, وفي طبيب متخصص بهذا المرض فلا حرج .
سيدنا رسول الله في الهجرة, اختار خبيراً للطريق ليسَ مسلماً, أحياناً الخِبرة لا بدَ منها ..
الصفة الثانية: الاقتصاد, أي السلوك بين طرفي الإفراط, وهو الجورُ على النفوسِ والتفريط بالإضاعة .
النبي ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال:
((رَوِحوا القلوبَ ساعةً بعدَ ساعة, فإنَّ القلوبَ إذا كلّت عَميت))
سيدنا معاذ صلى بأصحاب رسول الله, فأطال الصلاة, فقالَ:
((أفتّانٌ أنتَ يا معاذ؟))
إذا صلى النبي وحده أطالَ الصلاة, أما إذا صلى إماماً, كان أخفهم في تمام صلاته .
في كسب المال, يقول لك: العمل عبادة, أين الصلاة؟ ترك صلاته أو أهمل صلاته, وأهمل دروس العلم كلها, لم يعد يقرأ القرآن, أخي العمل عبادة, أفرط أو ترك العمل من أجل العبادة.
قال: من يطعمك؟ قالَ: أخي، فقال: أخوك أعبدُ منك, لهذا الجسدِ عليكَ حق, ولأهلكَ عليكَ حق, ولأولادكَ عليكَ حق, ولعملكَ عليكَ حق, فأعطِ كلَّ ذي حقٍ حقه.
أحياناً الشيطان :
﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
يأتيكَ عن اليمين افعل هذا، دع هذا العمل فيه شبهة، فتبقى بلا شغل، بلا دخل, ضاع، أفتى, حرّم الحلال، بلا مال، ثم جاءه الشيطان, قال له: أنت مستقيم والله لم يعطك شيئاً .
أيام في حالات انتكاس خطيرة جداً، السبب: أنه لم يأخذ المنهج المعتدل، لما ترك العمل, عاش أزمات مالية, تفاقمت في ساعات ضعفه .
وقوفاً مع ما يرسمه العلم، ما معنى الأمر والنهي؟ الأمر أن لا تفعل كذا, والنهي أن تفعل كذا، أراد أن يصوم صياماً طويلاً, لما صام تعطل عن عمله, فاضطرب نفسياً, النبي الكريم أمر بالصيام اثنين وخميس أو ثلاثة أيام في الشهر، فلما زادَ ذلك انعكس على حالته النفسية .
هذه الاستقامة: عملٌ مع بذل الجهدِ، اقتصادٌ بين الإفراط والتفريط، متابعةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إخلاصٌ في هذا العمل، وقوفٌ عندَ الأمر والنهي .
السلف الصالح كانوا يُركزّون على أصلين خطيرين؛ الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسُنّة, قالَ بعض السلف: ما أمرَ الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريطٍ وإما إلى إفراط, ولا يبالي الشيطان بأيهما ظَفِرَ زيادةً أو نقصاناً .
النبي عليه الصلاة السلام يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص:
(( يا عبد الله بن عمرو, إن لكلِّ عاملٍ شِرّةً .
-شِرّةً: هي الفورة, الإنسان حينما يؤمن, ينتقل من الضياع إلى الهدى، من الشقاء إلى السعادة، من التفلت إلى الانضباط، ما كان يصلي, وجد في الصلاة سعادة كبيرة، لمّا غض بصره, شعر بسعادة ثانية، لمّا حضر مجلس علم شعر بسعادة، هذه سمّاها النبي: الشِرّة, يعني فورة, هذه الفورة رائعة جداً, لكن لها خطران، ولكلِّ شِرّةٍ فترة, بعد هذه الفورة فترة, كما قال سيدنا الصدّيق: بكينا حتى جفت مآقينا, فكل مؤمن له فترة-.
ولكلِّ شِرّةِ فترةً, فمن كانت فترته إلى سُنّةٍ أفلح, ومن كانت فترته إلى بِدعةٍ خابَ وخسر))
فالإنسان وهو في الفورة, يجب أن ينضبط بالشرع, لو فرضنا بالفورة دفع كل ماله, فلما جاءت الفترة ندمَ على ذلك, فامتنع عن دفع الصدقات, انتهى إلى بِدعة .
كلُّ الخير كما قالَ بعض العلماء: في اجتهادٍ باقتصاد وإخلاصٍ باتباع, اقتصاد بين الإفراط والتفريط مع الاجتهاد والإخلاص مع الاتباع, يعني اقتصادٌ في سبيلٍ وسُنّةٍ خيرٌ من اجتهاد في خِلاف سبيلٍ وسُنّةٍ, قال: فاحرصوا على أن تكون أعمالكم على منهج الأنبياء عليهم السلام .
الآن: ما الذي يُخرجُ من الاستقامة؟ قال: الرياءُ في الأعمال يخرج من الاستقامة, الرياء والفتور والتواني, على المستقيم أن يفرّقَ دائماً بينَ الأمر والنهي, والثواب والعقاب, والموالاة والمعاداة, وبين ما يحبه الله وبين ما يبغضه, وبين ما يرضيه وبين ما يسخطه .
مناسبة: نتحدث حديثاً سريعاً عن الحيل الشرعية لأنه الموضوع بالاستقامة, أولاً: بعضهم يحتج بِفعل سيدنا يوسف, لمّا وضع في رحلِ أخيه صواع الملك, وقال: أيتها العير إنكم لسارقون, والقصة معروفة عندكم بهذه الحيلة, احتجزَ أخاه عِنده، فبعض الذين يسلكون الحيل الشرعية, يحتجون بهذا الموقف, مع أن هذا الموقف هو حيلة, ولكن كي يأتي بأبيه وأخوته ليسكنوا عنده في مصر ليكرمهم, إذا إنسان لا يأخذ إطلاقاً منكَ شيئاً, وأنتَ احتلتَ على أن تعطيه على شكل قرض مثلاً, هذه حيلة مقبولة, في حيل رائعة جداً .
إنسان متنعنتاً, وعليك مساعدته, قد تسلك معه حيلةً كي تساعده, فالحيلة في أصلها مشروعةٌ, إن كانت لجلبِ خيرٍ أو لدفعِ شرٍ, أما إذا كانت الحيلة للتحلل من بعضِ أوامر الله عزّ وجل, فهذه حيلةٌ شيطانيةٌ مرفوضة.
مثلاً: من الحيل الشائعة: أنتَ معكَ نِصاب المال, قبل أن يحولَ الحول تَهبُ جزءاً منه لابنكَ, تتفق معه, بعد شهرين يعيد المال لك, يهبُ جزءاً من ماله لشخص قبلَ أن يأتي الحول، النِصاب ما تم، بعد أن يمضيَ الحول, يسترجع هذه الهِبة, هذه حيلة .
الحيلة الثانية: يشتري حاجة من بائع, ثم يردها له بعد مجيء الحول، هذه حيلة في إسقاط الزكاة .
في حيلة في التعامل بالربا: بيع العينة, العينة: أن تضع حاجة أمامك تبيعها ديناً بسعر ونقداً بسعر, تبيعها للمشتري ديناً بمائة ليرة, ثم تشتريها منه بثمانين ليرة نقداً, هذا بيع العينة, هذا رِبا, لكن بشكل بيع وشراء .
أحياناً تطلّقُ المرأة طلاقاً فيه بينونة كبرى من زوجها, فيقوم زواج شكلي, هذا التيس المستعار, يعقد زواجاً شكلياً, ثم يطلّق, ثم تعود لزوجها الأول, أحياناً يُرهنُ العِقار والرهن لا يستعمل, ثم يَهبُ لكَ صاحِبُ العَقار منفعته, أنت أقرضته مبلغاً, وضع عندك عِقاراً رهناً, فأنت سكنت بالعِقار, هذا القرض جرَّ نفعاً, هو على شكل رهن, والرهن لا يستعمل صاحب العِقار, وهبك الانتفاعَ به, عملت حيلة, كسبتَ فائدةً من هذا القرض وهكذا, كلُّ هذه الحيل حرامٌ, لأنها احتيالٌ على الشرع, للتفلت من أوامر الله عزّ وجل, ولكن الحيل الجائزة لجلبِ الخير أو لدفعِ الشر, لجلب الخير كما فعل سيدنا يوسف, احتال على أخيه عن طريق وضع صواع الملك في رحله, ثم فُتشَ هؤلاء, وظهرَ صواع الملك في رحلِ أخيه فاحتجزه, من أجلِ أن يأتي بأبيه وأخوته, ويكرمهم في مصر .
كلُّ حيلة تنتهي بصاحبها إلى التفلتِ من أوامر الشرع, هي حيلةٌ باطلةٌ حرامٌ، أما الحيلة التي تجلب الخير وتدفع الشر, فهي حيلةٌ مقبولةٌ في الشرع .