الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
النّفاق أخطر موضوعٍ من موضوعات الإيمان:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الثامن والعشرين من دروس مدارج السالكين، في مراتب إيّاكَ نعبُد وإيّاكَ نستعين، ونحنُ قبلَ درسين أو أكثر بدأنا في موضوع التوبة، وقبلَ أن ندخُلَ في صُلبِ موضوع التوبة بدأنا في ذِكرِ المعاصي والذنوب التي ينبغي أن نتوبَ منها، وتحدثنا من قبلُ عن أنَ أكبرَ المعاصي أن تقولَ على اللهِ ما لا تعلم، وتحدثنا عن الفحشاء والمُنكر، وتحدثنا عن الإثمِ والعدوان، وتحدثنا عن أنواع الفِسق، وكيفَ أنَّ هُناكَ فِسقاً يُخرِجُ من المِلّة؟ وكيفَ أنَّ هُناكَ فِسقاً يوجِبُ التوبة؟
وننتقلُ اليوم، ولستُ أُبالغ إلى أخطرِ موضوعٍ من موضوعات الإيمان، ألا وهو النِّفاق، لأنَّ أخطرَ الأمراض في عالم الطِّب هي الأمراضُ التي لا أعراضَ لها، هُناكَ أمراضٌ لها آلامٌ لا تُحتمل ليست خطيرة، لأنها في وقتٍ مُبكر تكشِفُها، ولكنَّ أخطرَ الأمراض هيَ الأمراض التي لا يُصاحِبُها ارتفاع حرارةٍ ولا آلامُ مُبرّحة، إنما هيَ أمراضٌ تتسلل تسللاً بطيئاً إلى أن تستفحلَ فجأةً، وعندئذٍ يستحيلُ الدواء، ذكرتُ هذا لأنَّ الذي يخافُ أن يكونَ مُنافقاً قولاً واحداً ليسَ مُنافقاً، لكن المنافق لا يدري أنه منافق، يحسبُ أنهُ مؤمن، هذا الذي يُفسَّرُ بهِ أن تأتي ثلاث أو أربعُ آيات في مقدمة القرآن الكريم، وفي أولِ سورةٍ منه تتحدثُ عن المؤمنين، وفي آيتين فقط يتحدثُ القرآن عن الكافرين، وفي ثلاث عشرة آية يتحدثُ عن المنافقين.
المنافق أخطرُ إنسانٍ في المجتمع الإسلامي:
عندما الإنسان يتكلّم كلام الكُفر، هذا الإنسان ليسَ خطراً أبداً، لأنَّ الناسَ يحذرونهُ، لأنَّ كفرهُ بُواح، مهما يكن كفرهُ شديداً الناسُ يحذرونهُ، أمّا الذي يُخشى منهُ هذا الذي تظنهُ مؤمناً وهو كافر، فالذي تظنهُ مؤمناً وهو كافر هو المنافق، لهُ مظهر وله مخبر، لهُ موقفٌ مُعلَن ولهُ موقفٌ حقيقي، لهُ سلوك خارجي ولهُ اعتقاد داخلي، المنافق أخطرُ إنسانٍ في المجتمع الإسلامي.
لذلك هذا الذي تزيّا بزيّ المسلمين، وصلى صلاتهم، وصام صيامهم، وحجَّ حجهم، وأدى زكاة مالِهِ كما يؤدون، ولبّسَ على المُسلمين، وهو يكيد لهم، ويحاول أن يُطفئ نور اللهِ عزّ وجل بطريقةٍ أو بأخرى، هذا ليسَ مكانهُ في النارِ كما هو مكان الكُفار، بل مكانهُ في الدركِ الأسفلِ من النار، هذا معنى قولهِ تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)﴾
السّر الذي أودعه رسول الله عند حذيفة بن اليمان:
كُلُكم يعلم أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما نزلَ قولهُ تعالى:
﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)﴾
أودعَ سِرّاً لسيدنا حُذيفة بن اليمان، وأعطاهُ أسماءَ سبعةَ عشر مُنافقاً، أمرهُ إذا توفاهُ اللهُ عزّ وجل ألا يُصلّى عليهم، أمّا أن يأتي عمر بن الخطاب عِملاق الإسلام، الخليفة الراشد، الذي كان فذّاً عبقريّاً، يسألُ حذيفةَ بن اليمان ويقول له: أُنشِدكَ الله هل ذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم اسمي مع المنافقين؟ هذا لِعِظَمِ حقِّ اللهِ عليه.
لذلك أيها الإخوة؛ مهما اتهمتم أنفسكم فأنتم تفعلون ما هي صفات المؤمن، المؤمن كثير الاتهام لنفسه، دقيقٌ في حِسابهِ، عسيرٌ في محاسبةِ نفسه، يُراجع نفسهُ كثيراً، يتهمُ نفسهُ كثيراً، يلومُها كثيراً، حتى إن الله سبحانه وتعالى أثنى على تلكَ النفس اللوامة، أمّا هذا الذي يمدحُ نفسهُ، ويظنُّ بِها خيراً، ويُحسنُ الظنَّ بها، وهي ليست كذلك، فهذا على شُعبةٍ من شُعبِ النِفاق.
الآن النِّفاق خطورتهُ أنَّ الإنسانَ يمتلئُ منهُ وهو لا يشعر، والنِّفاقُ خطورتهُ أنهُ يخفى على الناس، إذا أحدهم قال: ليسَ هُناكَ إله، مع أن هذا الكلام هو الكُفر، لكن أنا أرى هذا الكلام ليسَ لهُ خطورةٌ على المجتمعِ أبداً، لأنَّ الناسَ لا يصدقونهُ، ويحذرونهُ، ويبتعدون عنهُ، ويتهمونهُ بالكُفر، أمّا هذا الذي يقول كما يقول الناس، ويصلي صلاتهم، ويصوم صيامهم، ويكيدُ للمسلمين، هذا مُنافق، أي إذا الإنسان جاء بالآيات، وجهها توجيهاً ليوافقَ روحَ العصر، جاء بآيات فسّرها تفسيراً يُكرّس في انحرافات العصر فرضاً، فرّغَ الإسلام من مضمونهِ، وهو يقول: الله جلَّ جلاله، والنبي عليه الصلاة والسلام، هُنا الخطر، لأنَ هذا سُمٌّ في دسم، دسم مع السُّم.
الحقيقة النِّفاق نوعان؛ نِفاقٌ أكبر، ونِفاقٌ أصغر، النِّفاق الأكبر يوجِبُ الخلود في النار، الخلود ليسَ دخول النار فقط، يوجب الخلود في النار، لكن نعوذ بالله من هذا النوع، النِّفاق الأكبر أن تُنكِرَ كُلَّ شيء في الدين، وأن ترفضَ هذا الدين جملةً وتفصيلاً، وألا تعتقدَ لا بما جاءَ بهِ النبي ولا بما نزلَ بهِ القرآن، لكنكَ بدافعٍ من مصالحكَ وذكائِكَ ترى أن مصالِحكَ كُلّها لا تصونُها إلا إذا أظهرتَ للناس أنكَ منهم، هذا هو النِّفاق الأكبر الذي يوجب الخلودَ في النار، بل في دركِها الأسفل، وهو أن يُظهِرَ الإنسان للناسِ إيمانهُ بالله، وملائكتهِ، وكُتبهِ، ورُسلهِ، واليوم الآخر.
تطبيق عملي للنفاق الأكبر:
إذا كُنت في بلد يُطبَّقُ فيه الدين تطبيقاً كاملاً، وسارعتَ إلى الصلاة كُلما أذّنَ المؤذّن لأنهُ لو لم تذهب هُناك سجن، وهُناك عقوبات كبيرة، فإذا غادرتَ بلدكَ إلى بلدٍ غربي انغمست في الملذاتِ والزِّنا والخمرِ إلى قِمةِ رأسك، إذاً هذا الذي يصلي في بلدهِ كُل وقت بوقته، ويحجُ البيت، ويطوف، ويسعى، ويدفع زكاة مالهُ، لأنَّ عليه مراقبة شديدة، فإذا لم يفعل عوقب وجُلِد وإلخ، فإذا خرجَ من بلدهِ إلى بلدٍ أوروبي، انغمسَ في الزِّنا والخمر إلى قِمةِ رأسهِ، أليسَ هذا هو النِفاق الأكبر؟ لا يعبأُ بشيء من أوامر الله عزّ وجل، بل هو لا يقبلُها، بل لا يعتقدُ بها.
أردتُ أن أقرأ عليكم في سورة البقرة في مطلعها الصنفين من أصناف المنافقين، فالصِّنفُ الأول:
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)﴾
هذا النِفاق الأكبر ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ .
النِّفاق الأصغر:
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)﴾
لكنهُ لم يذهب بسمعهم وأبصارهم، لأنهُ ينتظر أن يهتدوا، وأن يؤمنوا، فالمنافق إمّا إنسان مؤمن بالله، لكن إيمانهُ ضعيف، وغَلبتهُ نفسهُ فانساقَ مع شهواتهِ، فهذا النِّفاق الأصغر الذي نرجو لصاحبهِ أن يؤمن، وأن يهتدي، وأن يتوب، وأمّا النِّفاق الأكبر فهو أن تُنكرَ أصلاً كُلَّ ما جاء بهِ النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تُنكرَ هذا الكتاب، لكنكَ تفعلُ أفعال المُسلمين تمشيّاً مع مصالِحك، لعلَّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ))
فيما يبدو للناس ((فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ)) فيدخلها، هذا الذي قصدهُ النبي، إنهُ في الأصلِ يعملُ بعملِ أهلِ الجنة، لكنهُ هو من أهلِ النار، هو كافرٌ كفراً بوُاحاً، ولكن يتظاهر.
المنافقون جميعاً متفقون على شيء واحد وهو تركُ الاهتداء للوحي:
الحقيقة في سورة التوبة وصفٌ دقيقٌ دقيق للمنافقين، وفي سورة المنافقون وصفٌ دقيقٌ لهم، وفي ثنياتِ السور الأخرى وصفٌ لهم، أمّا الذي أتمناهُ على كلِّ أخٍ مؤمن أن تكونَ صفات المنافقين واضحةً في ذهنهِ وضوحاً جليّاً، لماذا؟ ليعرف أينَ هو من هؤلاء؟ وفي هذا الدرس إن شاء الله تعالى سنقف عِندَ آيات المنافقين آيةً آية، نقفُ عِندها وقفةً متأنية لنرى الأبعاد التي تعنيها تلكَ الآيات، فلعلها تكونُ مقياساً، يمرض الإنسان أحياناً، يعطونه قائمة أطعمة هذه لا ليأكلهابل ليمتنع عنها.
وإذا وقفنا عِندَ آيات المنافقين في هذا الدرس من أجلِ هذا، من أجلِ أن نحذرَ أن نكونَ من هؤلاء، وأن نحذرَ أن تنطبِقَ علينا صِفاتِ بعضِ هؤلاء، المنافقون جميعاً متفقون على شيء واحد، وهو تركُ الاهتداء للوحي، أنت إنسان تحتاج إلى منهج، تحتاج إلى دستور، تحتاج إلى قانون، ما المنهج الذي تسيرُ عليه؟ ما القانون الذي يُقنّنُ تصرفاتك؟ ما الدستور الذي تهتدي به؟ المنافقون جميعاً أنكروا الوحي ورفضوه، والدليل:
﴿ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)﴾
الوحيُ في واد، ومبادئهم وأفكارُهم وقيمُهم وأساليبُهم وحركاتُهم في وادٍ آخر: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ والشياطين كما تعلمون:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾
أي مُلخصُ هاتين الآيتين أنهُ:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾
أنتَ كمُسلم هذا حِكمُ اللهِ في الرِّبا، وهذا حُكمُ اللهِ في العلاقةِ مع النساء، وهذا حُكمُ اللهِ في الغيبة، وهذا حُكمُ اللهِ في الزواج، فإذا رفضتَ حُكمَ اللهِ، ولو كانَ الرفضُ داخليّاً فأنتَ شئتَ أم أبيت وقعتَ في خندقِ المنافقين، أي المنافقون:
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)﴾
أي كتابٌ لا يصلُحُ لهذا الزمن، كتابٌ نتبرّكُ بهِ ولكن ليسَ هوَ الدستور، ليسَ هوَ القانون، كتابٌ نتلوهُ على الأموات، كتابٌ نقرؤهُ نتقوّى، كتابٌ فصيحٌ جداً إذا قرأناهُ استقامت ألسِنتُنا، معناها اتخذتهُ مهجوراً أنت، هذا الكتاب لم تر أنهُ الدستور الكامل.
الحقيقة أول صِفة من صِفات المنافقين ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هذا المرض حُبُّ الدنيا، وقد قيل: حُبُّكَ الشيْء يُعْمِي وَيُصِمُّ، حبّ الدنيا رأس كل خطيئة، حُبُّ الدُنيا هوَ الذي يحمِلُ على معصية الله، هو الذي يحملُ على أن تأخذَ ما ليسَ لك، هوَ الذي يحمِلُ على أن تطغى وأن تبغي، لذلك: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ فلمّا أصرّوا على هذه الشهوات وتشبثوا بِها: ﴿فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أطلقهم إليها لعلّهم يتخلصونَ منها، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ على اللهِ عزّ وجل، إذاً أساس النِّفاق حُبُّ الدُنيا، وحُبُّ الدنيا عبّرَ الله عنه بكلمة: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا﴾ .
أحياناً المنافق لسببٍ أو لآخر يستمع إلى خُطبة، أو يجلس في مجلس عِلم، إذا انفضّ المجلس لو سألتهُ عن كلمةٍ واحدةٍ ألقيت في هذا المجلس، والله لا أتذكر، عن آية واحدة، عن تفسيرِ حديثٍ واحد، عن مِحور الدرس، عن عنوان الدرس، يقول لك: والله لا أتذكر، إذا خرجوا من عِندِ رسولِ الله قالوا: ما قالَ آنِفاً؟ والله لم نفهم شيئاً، فربنا عزّ وجل وصفهم فقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ .
الفرق بين المنافق وبين المؤمن في المسجد:
يقولون: الحجاج مرة رأى شخصاً يُصلي قاعداً في دُكانهِ، وهو يبيعُ بعض الأواني، ودُكانهُ سقفُها مرتفع، وعِندهُ سُلّم، وهُناك رفوف بعضُها فوقَ بعض، فقالَ لهُ: باللهِ عليك هذا الإناء، اختار أعلى إناء، أرِني إياه، بنشاط وضعَ السُّلّم وصعد وجاء بهِ، قال: لا، ليسَ هذا، الذي إلى جانبهِ، أيضاً صعد وجاءَ بهِ، أرادَ الحجاج أن يمتحنَ صِدقهُ مرتين، وثلاث، وأربع مرات وهو يصعد ويهبِط، بعدئذٍ قال: تُصلي قاعداً في دُكانِك وأنتَ في البيع والشِراء نشيطٌ جداً؟! أحياناً الإنسان يقول لكَ: الإمام طوّلها، أي يكون قد قرأ آية زيادة، توقفهُ على باب الجامع تُحدِثهُ ساعة على الواقف مبسوط، استكثر آية يتلوها الإمام في صلاة الفجر زائدة، ووقفَ ساعةً يُحدِّثُكَ في حديثٍ سخيف وهو لا ينزعج، فلذلك المؤمن في المسجد كما يقولون كالسمكِ في الماء، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص، أي متضايق: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ .
من علاماتِهم كما تعرفون:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾
النبي الكريم كان يقول
(( عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ، لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَا بِلالُ، أَقِمِ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا. ))
[ هداية الرواة: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]
(( عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ-فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ. ))
إذاً الذي يقومُ إلى الصلاةِ كسلاناً: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ هذه صِفةٌ ليست طيبةً في حقِّ المُسلم، ذِكرهُ للهِ قليل، أي إذا خُضتَ معهُ في موضوعٍ دُنيوي خاضَ فيهِ إلى قِمةِ رأسهِ، فإذا دخلتَ في موضوعٍ ديني نظر إلى ساعتهِ، ويقول لكَ: تعذرُني أنا مستعجل، عِندي موعد، ساعة ونصف يستمعُ إليك بنهم، ما دام الموضوع بالتجارة والمشاريع والاستيراد والتصدير وأسعار العُملات، أمّا إذا دخلتَ في موضوعٍ ديني اعتذر فوراً، فلذلك: ﴿وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً﴾ .
المنافق مشكلتهُ أنهُ يجعلُكَ في حيرة، لا هو مع المؤمنين فيقطِف ثِمارَ الإيمان، ولا هو مع الكُفار فتظنهُ كافراً وتستريحُ منهُ، أي أحياناً تجد طالباً لا يدرس، لو دخل بصنعة كانَ قد تعلمّها، وكان قد أتقن صنعة، طالب؟ ليس بطالب، وقتهُ مُعطّل، ليسَ بطالب ليتعلّم، يأخذ شهادات عُليا، يتفوق، يصبح طبيباً، محامياً، مهندساً، مدرساً، ولا هو إنسان أتقن عملاً يكسب منهُ رِزقهُ:
﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾
لو كان مؤمناً صادقاً قطف ثِمار الإيمان، شعر بالراحة، تيسرت أُمورهُ، تجلّى اللهُ على قلبِهِ، ألقى اللهُ في قلبهِ نوراً، شعر بطمأنينة، حياتهُ سعيدة، بيتهُ سعيد، ولو كان كافراً لانطبق عليه قولهُ تعالى:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
أي باللغة العامية خُذ الدنيا وانمحق، خذها خلصني، لا هو من المؤمنين فيقطِف ثِمارَ الإيمان، ولا هوَ من الكافرين حتى يخرُجَ من العناية المُشددة.
المؤمن مبتلى وهو ضمن العناية الإلهية:
البارحة حضرت مولداً، رجل أُصيب بحادث سير، وقُطعت يدهُ بهذا الحادث، بعدَ أن شُفيَ من الأعراض الجانبية من هذا الحادث أُقيمَ لهُ مولد جيد، فألقى فيه بعضُ العُلماء كلمات، فأنا خطرَ في بالي هذا المعنى، لو أن شابين، واحد طالب مدرسة، والثاني بِلا دراسة وبِلا عمل، أي عاطل عن العمل، طالب المدرسة إذا تأخر يُحاسب، إذا لم يحفظ الدرس يُحاسب، لم يكتب الوظيفة يُحاسب، نسيَ الكتاب يُحاسب، مرة أحضر والدكَ، مرة وقّع تعهداً، مرة قف خارج الدرس، مرة، فيشكو همهُ لهذا العاطل عن العمل، فقالَ له: أنا أعوذ بالله من يجرؤ على محادثتي، لا أحد يقول لي: أحضر والدك، أو اعمل تعهداً، ولا شيء أبداً، لكن يوجد جواب لطيف جداً، أنتَ خارج المدرسة، هذا مستقبلهُ معروف، هذا آخرته طبيب.
فلمّا الله عزّ وجل يُهمِلُ الإنسان، تجده يزداد قوة ومنعة وغِنى، وهو غارق في المعاصي، يفتخر أنه هو لا يوجد به شيء، ليسَ فيه مرض، وليسَ عِندهُ مشكلة، وعملهُ جيد، فهذا الشاب الذي لا في العير ولا في النفير، لا في التعليم ولا في المِهن ولا في الحِرف، فلتان، أي قد تكون بعض العبارات قاسية لكنها مُعبّرة، دابة فلتانة، لا قيد يُقيده، ولا قانون يحكمهُ، ولا قيم تُقيّمهُ، ولا شرع يهتدي به، ولا كتاب يُطيعهُ، لا يوجد شيء، يفعلُ ما يشاء بِلا حِساب، فلذلك الإنسان إذا شعرَ أنَّ اللهَ يُتابِعهُ، وأنَّ اللهَ يُحاسِبهُ على حركاتهِ وسكناتهِ وخطراتهِ فهذه من نِعم الله الكُبرى، أي أنتَ في العناية المُشددة.
أنت قبل كل شيء إما أن تكون في العناية المشددة، أحد الأعراب قالَ له: عِظني ولا تُطل، قالَ له: قُل: آمنت باللهِ ثم استقم، قالَ: أُريد أخفَ من ذلك؟ هذه ثقيلة، فقالَ لهُ: إذاً فاستعدَ للبلاء، فالمؤمن مُبتلى.
يوجد قصة غريبة جداً، هناك صحابية لها زوج لم يمرض مرة بحياتهِ، لا مرض ولا مُشكلة، والمال بين يديه موفور، وصحتهُ طيبة، فخافت أن يكون هذا منافقاً، فذهبت إلى النبي لتشكُوهُ، لا أريد هذا الزوج، غير معقول أن يكون مؤمناً هذا الزوج! المؤمن مُبتلى، يُحاسب، يُعاتب، مرة يمرض، مرض يتألم، مرة يُضيّق اللهُ عليه، قال له: يا محمد أتُحبُّ أن تكونَ نبيّاً ملكِاً أم نبيّاً عبداً؟ قال: بل نبيّاً عبداً، أجوعُ يوماً فأذكُرهُ، وأشبعُ يوماً فأشكرهُ، هذا لا يوجد به شيء، لا وجع رأس، ولا ألم، ولا همّ، ولا حُزن، فذهبت زوجتهُ إلى النبي لتشكوهُ، ولعلّها تبتعدُ عنهُ، وكانَ في رِفقتِها، وقعَ في الطريق فتعثرت قدمهُ، فقالت: ارجع انتهى الأمر، أي أصبحتَ مُبتلى، فالمؤمن ضمن العناية المشددة.
رحمة الله بعبده المؤمن:
أنا والله أقول لكم هذا الكلام: الله عزّ وجل لمّا يُحاسِبُك في الدنيا هكذا ورد في بعض الأحاديث أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام زار أحد أصحابه كانَ مريضاً، قالَ: يا رسول الله! ادع اللهَ أن يرحمني؟ فيبدو أنَّ النبي سألَ اللهَ عز وجل أن يرحمهُ، فقالَ اللهُ عزّ وجل: كيفَ أرحمهُ مما أنا بهِ أرحمُ؟ وعِزتي وجلالي لا أقبِضُ عبدي المؤمن وأنا أُحبُّ أن أرحمهُ إلا ابتليته بكل سيئةٍ كانَ قد عَمِلها سُقماً في جسده، أو إقتاراً في رِزقه، أو مصيبةً في ماله أو ولده، حتى أبلُغَ منهُ مِثلَ الذر، فإذا بقي عليه شيء شددتُ عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيومَ ولدتهُ أُمهُ.
أنا أقول لكم والله وأنا صادق في هذا الكلام: إذا أحدكم الله عزّ وجل يُتابِعهُ تماماً، كُلما زلّت قدمهُ جاء العِقاب والله ليفرح، لأنهُ في العناية المُشددة، وإذا رأى نفسهُ يُسيء ولا يُحاسب، معناها ليحزن، لأنهُ خارِجُ العناية المُشددة، تماماً كهذا الذي يقول: أنا لا يتكلم معي أحد ولا كلمة، أنتَ خارج المدرسة، أنتَ فلتان طبعاً لا يوجد من يُحاسِبُك، فالمنافقون: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ .
المنافق إذا كان لهُ قضية، أي قضية تجارية، خصومة تجارية، دين، عِندهُ حاسة سادسة، إذا كانت تُحلّ عِندَ العُلماء يقول: أنا يا أخي أُريد الشرع، لأنَّ القانون يجوز أن يكون ضِدهُ، أمّا الشرع معهُ، تجده يُريد العُلماء، أخي أنا أُريد حُكم الله، وأحياناً يشعر بالحاسة السادسة أنَّ الشرع ليسَ معهُ، أمّا القانون معهُ، يقول: أنا أُريد المحكمة، نحنُ ببلد فيه محاكم، فدائماً يُلاحق مصلحتهُ، إذا تُحلّ قضيتهُ مع الشرع صار مع الشرع، تُحلّ مع القانون صار مع القانون، هذه أيضاً صِفة من صِفات المنافقين:
﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾
نحنُ معكم، نحنُ منكم وفيكم، ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ .
المنافق طليق اللسان، ذرب اللسان، أي أحياناً عِندهُ قوة إقناع، فصيح أحياناً، قالَ تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)﴾
﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بالمناسبة-وهذه القصة التي أقولها لكم الآن أنا أُعدُها من أخطر القِصص-لو كنت أنت طليق اللسان، وعندك بيان، عندك قوة إقناع، واستطعت أن تنتزع حُكماً لا من فُلان أو عِلان، لا من شيخ أو غير شيخ، أن تنتزعَ حُكماً لصالِحِكَ من فمِ رسولِ الله، هل هناك أعظم من رسول الله؟ من فمِ الصادق المصدوق؟ من فمِ المعصوم؟ من فمِ سيدِ الخلق؟ من فمِ حبيب الحق؟ ولم تُكن على الحق، لا تنجو من عذاب الله، والدليل: قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا. ))
ما قولُكم؟ علاقتكَ مع من؟ مع الله عزّ وجل، لا تنجو، فالذي يريد فتوى من فُلان فتى لكَ، لو النبي فتى لكَ، لو لم تكن على الحق، واستصدرتَ من النبي فتوى لا تنجو من عذاب الله، فهذا من ضعف الإيمان، من الشِّرك الخفي في الإنسان أنه أخذ فتوى، يقول: أخي إن شاء الله برقبته، وإذا كانت برقبته لا تنجو أنت من عذاب الله، لو استصدرتَ فتوى من زيد، لو استصدرتها من رسول الله لا تنجو، وهذا الدليل القطعي.
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)﴾
المنافق مُفسد، معنى مُفسد أي الشيء يُخرجِهُ عن طبيعته، الماء طاهر، لا لونَ له، لا رائحةَ لهُ، لا طعمَ لهُ، هذه صفاتهُ، ما معنى إفساد الماء؟ تلويثهُ، أخرجتهُ عن طبيعتهُ، هذه الفتاة طاهرة، نقية، شريفة، خجولة، صاحبة حياء، إذا أخرجتها من حيائها، أخرجتها من عِفتها، أخرجتها من صونِها، ففسدت، بأي غطاء، مشاركة أو المرأة نصف المجتمع أو كذا، المنافق مُفسِد وهو لا يشعر: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ أحياناً يُفسد فتاة وقد تكون ابنتهُ، يقول لكَ: أُحبّ أن أُربي ابنتي تربية استقلالية، لها أن تفعل ما تشاء، وأن تُصاحب من تشاء، وأن تأتي متى تشاء، يقول لك: هكذا التربية الحديثة، لمّا أطلقتَ لها العِقال، وانطلقت كما تشاء، وهي ضعيفة الإيمان، فربما أغواها فتى، ربما جرّتها فتاة إلى مكانٍ لا يُرضي الله عزّ وجل، أنتَ أفسدتها، لذلك الجواب يوم القيامة، تقولُ لهُ: يا ربي لا أدخلُ النار حتى أُدخلُ أبي قبلي، هو الذي أفسدني، أي إن رأى ابنهُ لا يُصلي ولا يستقيم، لكنهُ متفوق في دراسته، هو مرتاح تماماً، يُريدُ مستقبلهُ الدنيوي فقط، حتى إذا أرسلهُ إلى بلد أجنبي ليتعلّم اللغة، ولا يحفلُ لما يفعلهُ في هذا البلد من موبِقات، يقول لك: المُهم أنهُ عادَ متمكناً من اللغة، هو يُفسد، قد يفسد بين شريكين، بين أخوين، بين جارين، على كُلٍّ إفسادُ الشيء أن يخرُجَ عن صلاحهِ، إذاً: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ .
5-المنافق لا يرضى بحكم الله:
المنافق لا يرضى بِحُكمِ الله عزّ وجل والدليل:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)﴾
لا يقبل حُكمَ اللهِ عزّ وجل لأنَّ شهواتِهِ تغلِبُهُ.
6-اتخاذه الأيمان المغلظة:
المنافق يشعر أنهُ غير مُصدّق، فأحياناً يُلقي كلامهُ ويدعمهُ بالأيمان المُغلّظة، لِمَ اليمين؟ لِمَ تحلف؟ من يُكذبُك؟ يشعر أنهُ غير مُصدّق، ليسَ نظيفاً من الداخل، ليسَ صافياً، قال:
﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام كانَ إذا غزا، وعادَ من غزوتهِ، يجلس لسماعِ أعذارِ المؤمنين، هناك أُناس تخلّفوا، فمرة عادَ من غزوةٍ واصطفَّ المخلّفونَ، وسَمِعَ أعذارهُم واحِداً واحِداً، كُلُّ واحدٍ أقسمَ أيماناً مُغلّظةً أنهُ كان مشغولاً، أنهُ كان مريضاً، زوجتهُ مريضة، استمعَ إلى سبعين رجلاً، ثم جاء مؤمن صادق، قالَ: واللهِ يا رسول الله! حينما دعوتنا إلى الجِهاد ما كُنتُ في وقتٍ أنشطَ من هذا الوقت، ولكنني تخلّفت، فالنبي الكريم تبسّم، وقال: أمّا هذا فقد صدق، معنى هذا أن السبعين كانوا كاذبين، قال: وأمّا هذا فقد صدق، وهذا الذي مع رِفاقهِ الاثنين الذينَ أمرَ اللهُ عزّ وجل بمقاطعتهم خمسينَ يوماً ثمَ تابَ اللهُ عليهم، كُن صادقاً مع الله، كُن صادقاً مع نفسك، أمّا الكذب سهل، لكن إذا كذبت سقطت من عين الله، وانتهى الأمر: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾
متكلمون، ملء السمع والبصر، قال: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ أي: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ أمّا في أُمور دُنياهم متفوقون، أي أحياناً الإنسان يكون الله قد أعطاه هيئة، طول، فخامة، لون، عيون واسعة، جبهة عريضة مثلاً، طليق اللسان، أنيق جداً، ما قيمةُ هذا؟ ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا﴾ مثقف ثقافة عالية، يتفلسف عليك دائماً، ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ أما عِندَ الله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ .
الأمور الشكلية الظاهرية لا قيمة لها عِندَ اللهِ أبداً:
الحقيقة أن الإنسان أحياناً كما قلت لكم مرة الأحنف بن قيس كان قصير القامة، أسمرَ اللونِ، غائرَ العينين، ناتئَ الوجنتين، مائِلَ الذقن، أحنفَ الرِّجلِ، ضيقَ الجبهةِ، ليسَ شيء من قُبحِ المنظر إلا وهوَ آخذٌ منهُ بنصيب، وكانَ مع ذلكَ سيدَ قومِهِ، إذا غَضِبَ غَضِبَ لغضبتهِ مئة ألف سيفٍ لا يسألونه فيمَ غَضب؟ وكانَ إذا عَلِمَ أنَّ الماءَ يُفسدُ مروءته ما شربهُ.
مرة كان عِند معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يأخذُ لابنهِ يزيد، فتكلّمَ الناسُ في مدحِ يزيد، وبقيَ الأحنفُ صامتاً، فصمتهُ أحرجَ المجلس، قالَ: تكلّم يا أحنف، قالَ: أخافُ الله إن كذبت، وأخافُكم إن صدقت، فكانَ تلميحاً أبلغَ من تصريح، وكانَ معَ ذلكَ سيدَ قومهِ، إذا غَضِبَ غَضِبَ لغضبتهِ مئة ألف سيفٍ لا يسألونه فيمَ غَضب؟ إذاً الأمور الشكلية الظاهرية لا قيمةَ لها عِندَ اللهِ أبداً،
(( عن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ. ))
منعطف هام:
أنا مرة يعني سمعت كلمة من شخص، قال لي: أنا عملي قذر، فعلاً عملهُ قذر، لكنه غنياً من أهل اليسار، بعد يوم اضطررت أن أُصلح مركبتي عِند إنسان مؤمن، فهو مرتد لِباساً، لونه أزرق، من الشحم والوحل صارَ أسود، أصلح تصليحاً متقناً، أخذَ سعراً مُعتدلاً، قُلت: والله هذا عملهُ نظيف، قارنت، هذا عملهُ نظيف، أحياناً يكون وضعك خَشناً جداً مُتعباً، لكن يوجد استقامة، يوجد صِدق، يوجد إخلاص، يوجد انضباط، يوجد طاعة لله عزّ وجل، فأنتَ عِندَ اللهِ عظيم، ((رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طمرين مدفوعٍ بالأبواب لو أقسمَ على اللهِ لأبرّه)) هنا: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ .
8-المنافق يتألم إذا أصاب المؤمن خيراً ويفرح إذا أصابه الشر:
المنافق إذا كان المؤمن أصابهُ خير يحزن، يتألم جداً، قال تعالى:
﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)﴾
﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)﴾
أي المنافق يُحب أن يُحكى على المؤمن، يُحب أن تشيعَ الفاحشة بينَ المؤمنين، يقول: ألم أقل لكَ: كلهُ خلط، كلهُ زعبرة، يتمنى دعوة إلى الله أن تتحطم، يتمنى إنساناً مؤمناً في موطن إعجاب الناس يُحكى عليه: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ دائماً يتربص بالمؤمنين، فإذا أصابهم الخير تألمَ جداً، وإذا أصابهم الشر ارتاح، إذاً هو ليسَ منهم، هو في خندقٍ آخر، ما دام فَرِحَ لما أصابهم، وتألم لِما يُسرُهم، إذاً هوَ في خندقٍ آخر.
قال تعالى:
﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)﴾
المنافق مادي، إذا أنفقت مالاً أمامه يقول لكَ: بِلا جنون، حافظ على المال وأبقيه لكَ، إذا خدمت إنساناً يقول لكَ: ما بِكَ؟ ماذا يأتيكَ منه؟ يُثبط عزيمتكَ دائماً، مثل الجمر يُصب عليه ماء، تكون مُتقداً حماساً، وتُحب أن تعينَ الناس، يقول لك: اجلس في بيتك واسترح، ما بِكَ؟ مالك وللناس؟ ليسَ منهم سِوى وجع الرأس، إن أنفقت أمامهُ يتهمكَ بالجنون، احفظ قرشك، أبقه معك الآن:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)﴾
هذا قول الكافرين أيضاً.
10-المنافق يُضعف العزيمة ويُثبط الهمم:
قال تعالى:
﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)﴾
المنافق يُضعّف العزيمة، يُثبّط الهِمم، يجعل المادي أذكى، والمؤمن المندفع لِخدمة الخلق يجعلهُ أحمق، فدائماً تجلس معهُ ترى نفسكَ صغيراً أمامهُ، هو مادي، صاحٍ، يقول: أخي أُريد أن أُديّن، إياك أن تُديّن أحداً، العملة تنزل أسعارها فتخسر مالك، يمنعُكَ أن تُديّن، يقول لكَ: الآن يوجد تضخم نقدي سبعة عشر بالمئة كل سنة، كيف تُديّن نقودك لسنة؟ ذهبَ خُمس مالكَ، فدائماً ضعيف الهِمة، ويُضعِفُ هِمّةَ الآخرين، إذا قال لكَ: أنا أُصلي الصبح حاضر بالمسجد، يقول لكَ: والله يا أخي بالليل يجب ألا تخرج من بيتك، أنسبُ لكَ، أنا أنصحك، يُريدُك ألا تُصلي بالمسجد، وإن حضرتَ الدرس أخذوا اسمك، أي همهُ أن يُخوّفك، همهُ أن يُضعف لكَ هِمتك، همهُ أن يُبعِدُكَ عن الحق، همهُ أن يمنعكَ من إنفاق المال، لو ساعدت إنساناً يُحبّ أن تبتعد عن هذا الشيء لذلك الله عزّ وجل قال، لماذا الله كره انبعاثهم؟ قال: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ .
11-المنافق يكره حكم الله:
المنافق يكرهُ حُكمَ الله، قال:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)﴾
أي يُحبّ الاختلاط، أين تعيشون أنتم؟ خذوا طريقاً، ويا الله، ما هذه؟ يقول له: هل سنأكل زوجتكَ نحن؟ يكرهُ حُكم الله عزّ وجل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ .
موقف المنافقين يوم القيامة:
الحقيقة أنَّ سورة التوبة كما قلتُ قبلَ قليل وسورة المنافقون على الحكاية، هاتان السورتان فيهما وصفٌ دقيقٌ دقيق لأحوال المنافقين، فلذلك نحنُ إذا قرأنا هاتين السورتين واستنبطنا بعضَ الآيات التي تصفُ المنافقين كما يسألُ المريض الطبيب: أعطني قائمةً بالممنوعات حتى لا أتورطَ فيها أبداً، والمؤمن كذلك، أي أدق موقف للمنافقين، أدق موقف يوم القيامة في سورة الحديد الآية الثالثة عشرة، المنافق كان مع المؤمن في الدنيا، في جامع واحد، حجوا معاً، أي هو مظهره كالمؤمنين تماماً، فيوم القيامة كما قالَ الله عزّ وجل:
﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)﴾
فتنتم أنفسكم في الدنيا، وتربصتم بالمؤمنين، تتمنون أن يأتيهم الشر، وارتبتم بكتاب الله، وغرّتكم الأمانيّ، كانت الدنيا تملأ قلوبكم حتى جاءَ أمرُ اللهِ وهو الموت، قال تعالى:
﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)﴾
موقف مؤلم جداً ﴿ألم نكن معكم﴾ .
لمّا النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ. ))
إنسان شاهد جاره، ابنه، قال، نعم يا أم المؤمنين إلا في ثلاثة مواطن إذا الصحف نشرت، وعند الصراط وعند الميزان، في هذه المواقف الثلاث لو وقعت عينُ الأم على ابنها لا تعرفهُ، لِهولِ الموقف، الله عزّ وجل قال:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾
ما قال: كُلُّ مُرضعٍ، لو قال: كُلُّ مُرضعٍ، أي امرأة تُرضع ابنها في طورِ الإرضاع، أمّا كُلُّ مُرْضِعَةٍ ابنها على ثديها تلقيهِ وتهرب، ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ فيوم القيامة لو وقعت عينُ الأمِ على ابنها لا تعرفهُ، قال: فإذا وقعت عينُ الأمِ على ابنها في غير هذا الموطن، غير الصِّراط والميزان:
﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)﴾
تقول لهُ: يا بني! جعلتُ لكَ صدري سقاءً، وحِجري وِطاءً، وبطني وِعاءً، فهل من حسنةٍ يعودُ عليَّ خيرُها اليوم؟ يقول لها ابنُها: ليتي أستطيع ذلك يا أُماه، إنما أشكو مما أنتِ منهُ تشكين.
هُنا الموقف مؤلم: ﴿ألم نكن معكم﴾ ، ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ أي حسنة لله: ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ أنتم في الدنيا كُنتم غافلون: ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ*يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ بالدنيا، هنا وصف المنافقين الدقيق: ﴿فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ في الدنيا ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ بالمؤمنين، تتمنونَ أن يأتيهم الشر، وارتبتم بما جاءَ في كتاب الله، كلامُ اللهِ ليسَ مِلء سمعِكَ وبصرِك، ﴿وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ﴾ ببالك أحلام، بيوت ومراكب ونساء وحدائق غنّاء وسفر حولَ العالم ورصيد كبير، عندما تنام يأتي ببالك خواطر من هذا النوع: ﴿وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ الموت ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الشيطان، يقول لكَ: أنتَ لستَ من أُمةِ محمد؟ هذه أُمتهُ مرحومة، النبي لن يدخُلَ الجنة حتى يُدخِلَ كُلَ أُمتهِ قبلهُ، اطمئن، الشيطان الله سمّاه الغَرور، لأنهُ يَغُرُّ المنافق ويُمنّيه:
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾
والمنافق الشهير ثعلبة الذي كانَ حمامةَ المسجد، وكانت لا تفوتهُ تكبيرةُ الإحرام خلفَ سيدِ الأنام، رآهُ النبي مرةً بثوبٍ بالٍ، قالَ: كيفَ حالُكَ يا ثعلبة؟ قالَ: حالي كما تراني، ما هذه الحياة؟ تجد المؤمن الحمد لله، يكون عاطلاً عن العمل، يكون عِندهُ خمسون علة بجسمهُ، لكن الحمدُ لله، تجد شخصاً يقول لكَ: الحياة لا تُعاش، ما هذه الحياة؟ دائماً ناقم، قالَ لهُ: حالي كما تراني، قالَ لهُ: يا ثعلبة قليلُ تشكرهُ خيرٌ من كثيرٍ يُطغيك، قليلُ يكفيك خيرٌ من كثيرٍ يُطغيك، قالَ له: ادع اللهَ أن يجعلني غنيّاً، ألحَّ عليهِ كثيراً، فتوجهَ النبي عليه الصلاة والسلام إلى اللهِ عزّ وجل ودعا له بالغِنى، هذا كثُرت أموالهُ، وملأَ قطيعُ غنمهِ شِعابَ المدينة، وصارَ غنيّاً، وغابَ عن مجلسِ النبي عليه الصلاة والسلام، بصراحة أقول لكم: أحياناً يكون الإنسان بِلا عمل، لا يغيب عن درس، إذا وجدَ عملاً صغيراً لم نعد نُشاهدهُ، أينَ أنت يا أخي؟ واللهِ مشغول يا أستاذ، لا يجوز هذا، هذا مجلس عِلم، حبذا وأنتَ في قِمةِ انهماكِكَ في العمل أن تُحافظَ على مجالس العِلم، غاب عن المسجد، النبي أرسلَ لهُ من يُطالِبهُ بزكاةِ مالِهِ، فقالَ لهُ: قُل لِصاحِبكَ، قالَ: أو ما تراهُ صاحِباً لك؟ ليسَ في الإسلامِ زكاة، قالَ له: جمعتَ معَ النِّفاق الكفر، نزلَ في حقهِ قولهُ تعالى:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)﴾
يا رب إذا أكرمتني لسوفَ أعمل كذا، يكرمه، لا يستغني عن شيء بعد ذلك، هذا المنافق يُريد أنَّ يُكرمهُ الله، يعطيه بيتاً، يجعلهُ تاجراً، ربنا عزّ وجل يعطيه ما يُريد، فإذا هو ينكثُ عهدهُ مع الله عزّ وجل، هذه الصفات والله مخيفة أيها الإخوة، فأرجو اللهَ سبحانهُ وتعالى أن نستوعِبها، وأن نخافَ من أن تنطبقَ علينا كما نخافُ مرضاً عُضالاً، لأنَّ المرضَ العُضال ينتهي معَ الموت، ولكنَّ هذا المرض النفسي يبدأُ بعدَ الموت.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، اقْسِم لنَا من خَشْيَتِكَ ما تحُولُ بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتّعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق