- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
مقدمة :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع عشر من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الخامسة والثلاثين، وهي قوله تعالى :
﴿ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(35)﴾
أيها الإخوة، بعد أنْ بيّن الله لنا في الآيات السابقة أنه أحلّ لنا الطيبات، وحرّم علينا الخبائث، وأعطانا منهجاً يضمن لنا سلامتنا كأفراد وكمجتمع، ثم طمأننا أنّ الأمم الطاغية لها أجل .
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ
بعد كل هذا خاطب بني آدم عامة، والقرآن أحياناً يخاطب المؤمنين بفروع الدين، ولكنه يخاطب الناس جميعاً بأصول الدين، خاطب ربنا جل جلاله في هذه الآية بني آدم :
﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4) ﴾
هذا الذي منحه الله لك أيها الإنسان لتهتدي إليه :
أعطاه الكون ينطق بكل جزئياته بوجود الله ووحدانيته وكماله، أعطاه العقل كأداة معرفته، وجعل مبادئه متوافقة مع خصائص الكون أعطاه الفِطرة، وجعلها مقياساً يكشف بها خطأه، أودع فيه الشهوات لتكون دافعاً له إلى رب الأرض والسماوات، منحه حرية الاختيار ليُثمَّن عمله، أعطاه الوقت غلاف عمله، وفضلاً عن كل ذلك، فضلاً عن أنّ العقل كافٍ لمعرفة الله، وعن أنّ الكون مظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، وعن أنّ الفطرة كافية لمعرفة الخطأ، وعن أنّ الشهوة دافعة إلى الله عز وجل، وعن أنّ الحرية تُثمِّن عمله، فضلاً عن كل ذلك أرسل الأنبياء، وأرسل المرسلين، هؤلاء منْ فضل الله على البشر .
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ
للتقريب: منح أب ابنه كل شيء، وضعه في أرقى مدرسة، وهيّأ له كل الأجواء المناسبة من أجل أن ينال الدراجات العالية، وفضلاً عن كل ذلك هيّأ له أستاذاً خاصاً يأتيه إلى البيت.
من رحمة الله بعباده : يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ
لذلك :
﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ﴾
أب جالس في غرفته، والمدفأة مشتعلة، وله ابن صغير، واقترب من المدفأة هل في الأرض كلها أب يبقى ساكتاً؟ أو يبقى جالساً؟ مستحيل ألاّ يُسديَ إليه توجيهًا، إما بصوت أو بحركة ليبتعد ابنه عن المدفأة، لِئَلّا يحترق .
لذلك أنت في الصلاة تقول: الحمد لله رب العالمين، تقتضي رحمة الله عز وجل أنْ يبعث الأنبياء، وأنْ يرسل المرسلين .
وأحياناً شيء طبيعي جداً أنّ الناس حينما يتفلتون من منهج الله، ويألفون الانغماس في الشهوات، لا يعجبهم أنْ يُقيَّدوا بمنهج، المنهج يزعجهم، يقيد حركتهم، هم غارقون في ملذّاتهم، غارقون في شهواتهم، غارقون في تحقيق مصالحهم، فإذا جاء المنهج الإلهي الذي يحدد لهم حركتهم في الأعم الأغلب يكذبون الرسول .
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا
لكل رسول معجزة تشهد لرسالته :
لذلك لا بد لهذا الإله العظيم من أن يؤيد رسوله الكريم بشهادة منه عن طريق المعجزات، فكل نبي معه معجزة فيها خرق للعادات، هذا الخرق شهادة الله للناس أنّ هذا الإنسان رسول الله، فسيدنا موسى:
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107) ﴾
وسيدنا عيسى أحيا الميت، وسيدنا إبراهيم أُلقي في النار فلم يحترق، ولكل نبي معجزة.
القرآن بإعجازه شهادة للرسول بصدق نبوته :
إلّا أنّ النبي عليه الصلاة والسلام لأنه خاتَم الأنبياء والمرسلين، ولأنه لكل البشر أجمعين، ولأن كتابه خاتم الكتب، فلا يمكن أنْ تكون معجزته حسية بمعنى أنها وقعت وانتهت، وأصبحت خبراً يصدقه من يصدقه، ويكذبه مَن يكذبه، لا بد من أنْ تكون معجزة النبي لأنه خاتم الأنبياء، ولأنه خاتم الرسل، ولأن كتابه خاتم الكتب من أنْ تكون مستمرة .
لذلك كان في القرآن الكريم 1300 آية تتحدث عن الكون، وفي هذه الآيات إشارات فيها على حدّ قول العلماء سَبْقٌ علمي، فالحقائق التي اكتُشِفت حديثاً أشار القرآن إليها من 1400 عام وهي دليل قطعي على أنّ القرآن كلام الله .
إذاً : رحمة الله تقتضي أنه إذا أرسل رسولاً، أو بعث نبياً معه شهادة من الله الشهادة: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾
﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108) ﴾
الشهوات حيادية ومقوم من مقومات التكليف :
فقصة النبوة والأنبياء تعني رحمة الله عز وجل، تعني أنّ هذا الإنسان زوّده الله بالشهوات، الشهوات حيادية، وبإمكانك أن تتحرك بالشهوات 180 درجة، أودع في الإنسان حبّ المرأة .
﴿
فهذه الشهوات الحركة فيها واسعة جداً، إلا أنّ منهج الله أعطاك مساحة مسموحاً بها، وهناك مساحات مُحرّمة، المرأة زوجة فقط، المال مِن كسبٍ مشروع، أنت تكون عالياً في الأرض بوسائل مشروعة، أنْ تكون في خدمة الخلق .
أيها الإخوة، هذا الذي أقوله يعني أنّ الإنسان حينما يتحرك بدافع شهواته وفق منهج ربه لا يشعر بالحرمان إطلاقاً .
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ
المعنى المخالف: الذي يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه .
إرسال الرسل لفائدة الناس :
﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾
﴿ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
للطريق الأمثل، يهديهم بالقرآن :
﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ
يهديك القرآن إلى سلامٍ مع نفسك، إلى سلامٍ مع ربك، إلى سلامٍ مع البشر، مع الخلق، مع من حولك، مع من فوقك، مع من دونك، مع كل المخلوقات، المؤمن بعد أنْ اهتدى إلى الله اصطلح مع الخلق ، أصبح متناغماً مع الخلق .
لذلك :
الرسل بشرٌ كسائر البشر :
﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ
هم بحاجة إلى الطعام والشراب، وبحاجة إلى حركة في الأسواق، ليكسبوا ثمن الطعام والشراب، لولا أنّ النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر، لَمَا كان سيد البشر النبي يشتهي، ويرضى، ويغضب.
(( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ))
لذلك بعض الجهلة تمنَّوا -وقد ذكرهم الله عز وجل- أن يكون النبي ملكاً، قال :
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً(94) ﴾
ماذا تتوقعون؟ أن يكون مَلَكاً؟ فلو جاء الرسول مَلَكاً ماذا تقولون له دائماً إن أمركم بغض البصر؟ لا، نحن بشر، أنت ملَك، نحن لا نستطيع ذلك، أنت من طينة أخرى، أنت فُطرت على الكمال، نحن بشر عندنا شهوات، لذلك :
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً(95)﴾
لو أنّ الذين دُعوا إلى الله عز وجل ملائكة لكان أنبياؤهم ملائكة، ولو أنّ الذين دُعوا إلى الله بشراً لكان الأنبياء بشراً .
إذاً كلمة :
﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
لولا أن التكليف في وسْعِ البشر لما كان هناك تفوق لأحد .
من الممكن أن نعطي طالباً الأسئلة، ويأتي بالعلامة التامة، ونقيم له حفلاً تكريمياً، وبقية الطلاب جاءتهم أسئلة من معلومات لم يدرسوها إطلاقاً، ثم نوبّخهم، لولا أنّ هناك تكافؤ فرص، لولا أنّ المنهج دُرّس بإتقان، والطلاب متكافئون في القدرات، والسؤال معقول، لَمَا كان هناك للتفوق مجال إطلاقاً.
إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ
لولا أن النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر لَمَا كان سيد البشر، لذلك كان قدوة لنا، النبي قدوة لنا، فهذا الذي يقول هو نبي، لا يا أخي .
(( وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ))
مقام الطبيب الجرّاح كبير، لكن أي ممرض إنْ أراد أن يعطي حقنة للمريض لا بد من أن يعقمها كالطبيب .
هناك أشياء شاملة وكاملة، على كل الأطراف أن يطبقوها، الإنسان هو الذي صنع هذه السيارة، كل الشركات العملاقة لها أصحاب، لو أنّ صاحب مركبة قاد مركبة من اختراعه، يجب أن يعرف كيف يوقفها، وكيف يحركها، كأي سائق آخر .
لذلك الاستقامة أيها الإخوة حديّة، التفاوت لا بالاستقامة، التفاوت بالعمل الصالح، يعني
فلذلك :
﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾
هذا بعض ما عاناه النبي عليه الصلاة والسلام في حياته :
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ ))
في بدر بدأ النبي يدعو ربه حتى انخلع الرداء عن مِنكبيه، خاف أن يكون الاستعداد قليلاً، خاف أن يكون الأخذ بالأسباب ضعيفاً، نصرُ الله عز وجل لا يتنزّل إلا على مَن طبّق منهج الله عز وجل، ومنهج الله في الحرب أنْ تأخذ بالأسباب وكأنها كلّ شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .
فلذلك :
﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾
تزوج النبي عليه الصلاة والسلام زوجات عديدات، هناك زوجات أتعبنَه، وصبر، وجاع، أذاقه الله الفقر، كان يدخل بيته أحياناً فيسأل: هل عندكم طعام؟ يقولون: لا، يقول: فإني صائم، وهو سيد الخلق، أذاقه الفقر فكان قدوة لنا بالصبر، وأذاقه الغنى، لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك، وادٍ من الغنم، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أذاقه الفقر، وأذاقه الغنى، في الفقر كان مثلاً أعلى، وفي الغنى كان مثلاً أعلى، ثم أذاقه النصر، فدخل مكة فاتحاً، مطأطئ الرأس متواضعاً، حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عز وجل، ما دخلها متغطرساً، ولا مُستبيحاً للمدينة ، ولا مُتشفِّياً من أعدائه .
(( معشر قريشٍ ، ما ترون أني فاعلٌ بكم ؟ قالوا : خيرًا ، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ ! ! قال : فإني أقولُ لكم ما قال يوسفُ لإخوتِه . : لا تثريبَ عليكم اليوم ، اذهبوا فأنتم الطلقاءُ
( ما ترون إني فاعل فيكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم) قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)
أذاقه النصر فعفا، وأذاقه القهر في الطائف، كذّبه أهل الطائف، وسخروا منه وأمروا صبيانهم أن ينالوا منه، فقال: يا رب إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى، أذاقه موت الولد، فقال :
(( إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا ، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ))
أذاقه أن ابنتيه طُلِّقتا، فصبر، أذاقه الهجرة، إنسان يُقتَلع من جذوره، وينتقل إلى مكان جديد، يعني لولا أنّ النبي أذاقه الله كل شيء فكان في كل موقف مثلاً أعلى لَمَا كان سيد الأنبياء والمرسلين .
البطولة أن تنجح في الامتحان :
لذلك أقول لكم أيها الإخوة كلمة دقيقة جداً يحتاجها كل واحد منا: ليست البطولة ألّا تُمتَحن، لا بد من أنْ تُمتَحن، ولكن البطولة أن تنجح في الامتحان، قد تُمتحن بالفقر، وقد تُمتحن بالغنى، وقد تُمتحن بالصحة، وقد تُمتحن بالمرض، لا سمح الله، وقد تُمتحن بالقوة، وقد تُمتحن بالضعف، وقد تُمتحن بالوسامة، وقد تُمتحن بالدّمامة، وقد تُمتحن بتألّق الذكاء، وقد تُمتحن بالمحدودية، وقد تُمتحن بطلاقة اللسان، وقد تُمتحن بعيّ اللسان، البطولة لا أن تنجو من امتحان، لكن البطولة أن تنجح في الامتحان .
الإمام الشافعي سُئل: أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: " لن تُمكَّن قبل أن تُبتَلى "
صدقوا أيها الإخوة، لا يمكن أن يرقى الإنسان عند الله إلا بعد الامتحان، الله عز وجل عنده امتحانات لا تعد ولا تحصى، الله عز وجل قادر أن يُحجِّم كل إنسان، أو أنْ يعيده إلى حجمه الحقيقي، يقول لك: أنا مستقيم، أنا نزيه، أنا لا آكل مالاً حراماً إطلاقاً، يتبجّح، ويحكي، هو لا يأكل على مستوى ألف ليرة، إن كان المبلغ كبيراً تضعف نفسه، يقول لك: ماذا نفعل ؟ بلوى عامة، إياك أن تظن أن الله لا يمتحنك .
لابد من الابتلاء :
هناك كثير من الأشخاص يتوهم نفسه بمستوى عالٍ، الله بلطف بالغ يحجِّمه، لستَ كما تقول، لست كما تدَّعي، ليست محبتك لي كما تظن، بالرخاء والصحة الطيبة، والدخل الكبير، والزوجة، والأولاد، والمركبة، يقول لك: الله تفضل علينا، بمرض خفيف لا يحتمل، يا رب ماذا فعلت لك أنا؟
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
لا يمكن أن ينجو أحد من امتحان .
لذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه: << الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين >>
ما مِن إنسان يمتحن مركبة في طريق نازل إطلاقاً، إلا بطريق صاعد" الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين " .
يعني الله عز وجل امتحن الصحابة في الخندق، صحابة كرام، ومجاهدون مع رسول الله، سيد الأنام، ومُقرّبون من رسول الله، وهم فَدَوْه بأرواحهم وأنفسهم، في الخندق ليس موضوع معركة، بل موضوع إبادة، وموضوع استئصال، عشرة آلاف مقاتل أرادوا أن يستأصلوا الإسلام كله، حتى قال بعض مَن كان مع النبي الكريم: << أيعدنا صاحبكم أن تُفتَح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟ لم يقل رسول الله، قال: صاحبكم ، قال تعالى :
﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً(11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً(12) ﴾
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً(23)﴾
﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾
وطِّن نفسك، وأنواع البلاء لا تعد ولا تحصى، ونحن الآن كمسلمين في أشد أنواع البلاء، ما البلاء الذي نحن نُحاط به؟ الله عز وجل قوّى أعداءنا، قوّاهم، ثم قوّاهم، ثم قوّاهم، وهم يتفننون بإفقارنا، وإضلالنا، وإفسادنا، وإذلالنا، وإبادتنا، بلادنا مُستباحة لهم، ثرواتنا ملكهم، حياة شبابنا لا تساوي عندهم شيئاً، مليون قتيلاً في العراق، أربعة ملايين مُشرّداً، مليون مُعاقاً، كله بلا ثمن، لو وقع واحد من جنودهم أسيراً لَقامت الدنيا ولم تقعد، هذا ابتلاء صعب جداً .
لذلك الله أحياناًـ وهذا أشد أنواع الابتلاء ـ يقوّي الأعداء إلى درجة أنْ يقول ضعيف الإيمان: أين الله؟ والله هناك آلاف من الناس تركوا الصلاة، أين الله ؟ ما مِن خبر سار، نحن في أشد أنواع الابتلاء، والبطولة أنْ تصمد ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾
(( سَدِّدُوا وقارِبُوا، واعْلَمُوا أنْ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وأنَّ أحَبَّ الأعْمالِ إلى اللَّهِ أدْوَمُها وإنْ قَلَّ
ولا تصدقوا أن الله يتخلى عنا أبداً .
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6) ﴾
هذه الآية بشارة ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾
والله مستحيل وألف ألف ألف ألف مستحيل أن تستطيع قوة في الأرض طاغية أنْ تخطط لأمجادها ورخائها على أنقاض الشعوب، أنْ توفر لشعوبها دخولاً فلكية على حساب إفقار الشعوب، وأن توفر لثقافتها ديمومة وتألّقاً على حساب محو ثقافات الشعوب، وأن تجعل شعوبها في أعلى مستوى على حساب قهر الشعوب، والله الذي لا إله إلا هو نجاح خِطط هذه الدول الكبرى الطاغية على المدى البعيد يتناقض مع وجود الله، مستحيل وألف ألف مستحيل، اطمئن، لو أنّ قِوى الأرض اجتمعت على أن تُفسِد على الله هدايته لخلقه لا تستطيع .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ(36) ﴾
في بلادٍ زرتها قبل أسبوعين أراد المستعمرون إلغاء الهوية الإسلامية كلياً، ألغَوا اللغة العربية، منحوا الشعب بأكمله جنسية الدولة الحاكمة، المساجد أُغلِقت، كل ما تستطيع أن تفعله أنها أُخرِجت من هذه البلاد، والآن عامرة بالمساجد والإيمان، وهي تحب العلماء ورجال الدين حباً يفوق حد الخيال.
هذا دين الله، لولا أنه دين الله لانتهى من ألف سنة، هذا دين الله، وما مِن قوة في الأرض أو جهة في الأرض تستطيع أن تلغي التعليم الشرعي، أن تُلغِي التديُّن، هذا الدِّين من أنواع عظمته أنك إذا قمعته يزداد قوة، وحينما تُكشَف الحقائق يوم القيامة ترى أن هؤلاء الذين حاربوا الدين لهم فضل على الدين، لكن بلا أجر إطلاقاً، لأنهم ساهموا في تقوية الإيمان، وبجمع المؤمنين، وبالصحوة، لولا الطرف الآخر لبقينا نائمين، لكن الطرف الآخر أيقظنا، ونبّهنا، وعرّفنا بما ينوي أن يفعل بنا.
رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي
أيها الإخوة ﴿ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ﴾
1 – آيات الله قرآنية وكونية وتكوينية :
هذه آيات، آيات الكون، وآيات التكوين، وآيات القرآن، الآيات الكونية خلقه، والآيات التكوينية أفعاله، والآيات القرآنية كلامه .
2 – فَمَنِ اتَّقَى
﴿فَمَنِ اتَّقَى﴾
3 – وَأَصْلَحَ
﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ﴾
﴿فَمَنِ اتَّقَى﴾
غضب الله بطاعته، الله عز وجل هو الجهة الوحيد بالكون، لا ملجأ منه إلا إليه، فِرَّ منه إليه، الجأْ منه إليه
﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ﴾
4 – فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
أنت في لحظة، هذه اللحظة الحانية، هناك مستقبل وهناك ماضٍ، المستقبل مغطى بـ: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾
سيدنا الصديق رضي الله عنه ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ
لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، من دون الهدى الإلهي هناك مليون سؤال لا جواب له، هناك ضياع عند الناس، لماذا الحياة قصيرة ؟ عند الطبيب سنوات الممارسة أقلُّ من الدراسة بكثير، لماذا هناك فقر وغنى؟ لماذا هناك مرض وصحة؟ لماذا هناك قهر في العالم؟ لماذا هناك اجتياح؟ لماذا هناك دول طاغية؟ ودول مسحوقة ضعيفة، لماذا؟ من دون إيمان بالله عز وجل ينشأ مليون سؤال، أما القرآن قدّم لك تفسيراً عميقاً، دقيقاً، متناسقاً للكون والحياة والإنسان، كل تساؤلٍ كبيرٍ عند أهل الدنيا في القرآن الكريم جوابٌ له واضح جداً .
﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(36) ﴾
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
1 – لابد من إدخال الموت في الحسابات اليومية:
هؤلاء الذين ما أدخلوا الموت في حساباتهم، وهذا والله حال معظم الناس، يعيش لحظته، مع أن هناك موتًا، وانتقالاً من بيت 400 متر إلى قبر، هناك انتقال مفاجئ من زوجة وأولاد وأصدقاء وأتباع وخدم وحشم إلى قبر! سبحان من قهرَ عباده بالموت .
يعني حينما يعيش الإنسان المستقبل يكون عاقلاً كبيراً، ودائماً الأغبياء يعيشون الماضي، نتغنّى بالماضي، والأقلُّ غباء يعيشون الحاضر، ردود فعل، نُفاجَأ بفعل لم نعلم عنه شيئاً، يُخطَّط لنا، نُفاجَأ به، نستنكر، نندّد، نشجُب، لكن العقلاء يعيشون المستقبل، وأخطر حدث في المستقبل مغادرة الدنيا، ماذا أعددتَ لهذه المغادرة؟ ماذا أعددتَ للقبر؟ أعددتَ عملاً صالحاً؟ أعددتَ استقامة؟ أعددت تربية لأولادك؟ أعددتَ ضبطاً لشهواتك؟ أعددتَ ضبطاً لدخلك ولإنفاقك؟ أعددتَ علاقات اجتماعية منهجية وفق منهج الله؟ ماذا أعددت؟
2 – وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾
والله أيها الإخوة، ولا أبالغ: معظم الناس ما أدخلوا الله في حساباتهم أبداً.
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.