- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس العاشر من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الثالثة والعشرين، وهي قوله تعالى :
﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(24) ﴾
حقائق مهمة مستنبطة من الآية :
الحقيقة الأولى : العاصي لله ظالمٌ لنفسِه :
أيها الإخوة، الحقيقة الأولى أن الإنسان حينما يعصي ربه هو في الحقيقة يظلم نفسه، يحرمها من السعادة، يحرمها من القرب، يحرمها من التوفيق، يحرمها من النجاح، يحرمها من الأمن، يحرمها من الحكمة، يحرمها من الرضا، يحرمها من تحقيق الهدف الذي خُلقت له .
الحقيقة الثانية : العاصي لله خاسرٌ :
الذي يعصي الله خاسر، ومستحيل ألف ألفِ ألْف مستحيل أن تعصيه وتربح، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾
(( أنا خلقت الخير والشر ، فطوبى لمن قدرت على يده الخير ، وويل لمن قدرت على يده الشر ))
الحقيقة الثالثة : الإنسان خَلَقه الله الخبير الحكيم :
الإنسان أيها الإخوة، الذي خلَقه هو الخبير، هو الصانع الحكيم، هو الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتبع تعليماتها، أنت حينما تقتني آلة غالية الثمن، عظيمة النفع، دقيقة الصنع، ومعها تعليمات الصانع، أنت انطلاقاً من حبك لذاتك، من حرصك على سلامتك، تطيع تعليمات الصانع.
﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا
الحقيقة الرابعة : الخطأ من طبيعة البشر :
﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾
الحقيقة الخامسة : التوبة النصوح تمحو الذنب :
إذاً: حينما أودع الله فينا الشهوات أودعها كي نسمو بها إلى رب الأرض والسماوات، فلو زلّت القدم الصلح حاصل، والتوبة ممكنة، والعفو ممكن، والمغفرة ممكنة، والرجوع إلى الله ممكن.
عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :
(( يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ))
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
للتقريب: عند إنسان مركبة غالية جداً، هناك مركبات بأربعين مليونًا، أمسك مطرقة، وكسر بلورها، وثمنه مئة ألف، ضرّ مَن ؟ أغضب مَن ؟ استفز مَن ؟ ضر نفسه، وأغضب نفسه، وخسّر نفسه.
الحقيقة السادسة : أوامر الشرع ليست قيداً للحرية :
أنت حينما تؤمن أن أوامر الشرع ليست قيداً لحريتك، ولكنها ضمان لسلامتك، العلاقة بين الأمر والنهي علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة، الأمر نفسه في نتائجه والنهي نفسه في نتائجه، يعني إذا وضعت لك الحكومة لوحة أمام خط التوتر العالي ممنوع الاقتراب - دقق - من هو الأحمق؟ الذي يريد أن يعصي التعليمات، وهو يتأكد ليس هناك شرطي يراقبه، التيار يعاقبك، التيار يجعل المقترب منه فحمة سوداء بعد دقيقة، وحينما تقول: هل أحد يراني؟ هذا حمق، لأن التيار نفسه يعاقب .
لو كنتَ تقود مركبة شاحنة تحمل عشرين طناً، وصلت إلى جسر كُتب عليه: " الحمولة القصوى عشرة أطنان "، الأحمق يتلفت، هل هناك شرطة ؟ لا، الموضوع أعمق من هذا، الجسر سوف يخسف بك، بعد قليل تكون في النهر .
فلذلك حينما تؤمن أن العلاقة بين الأمر ونتائجه علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة تأتمر انطلاقاً من مصلحتك، تأتمر انطلاقاً من حبك لسلامتك، تأتمر انطلاقاً من حبك لسعادتك، من حبك لكمالك، من حبك لطمأنينتك لذلك :
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ
هذا الفهم للدين، أنت حينما ترى الأوامر والنواهي ليست قيداً لحريتك، ولكنها ضمان لسلامتك تكون فقيهاً .
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا
أيها الإخوة:
﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
أيها الإخوة ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾
﴿وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
((يا داود ، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلي ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمقبلين ))
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾
1 – معنى الهبوط :
أيها الإخوة ﴿اهْبِطُوا﴾
2 – طبيعة النفس في الجنة :
سيدنا آدم كان في الجنة يأكل ما يشتهي من دون أن يدخل الطعام إلى جوفه، يستمتع بكل ما في الجنة من دون أن يتأذى بها، أما في الأرض حينما أصبح جسمه محيطاً بنفسه فلا يستمتع بالشيء إلا إذا أدخله إلى جوفه، وإذا أدخله إلى جوفه فهناك جهاز هضم، وهناك فضلات، وهناك براز، وإذا شرب فهناك بول، لوجود دخول إلى داخل الجسم، صار نظاماً آخراً، نظام الجنة النفس محيطة بالجسم، يمكن أن تأكل مليار تفاحة، وأن تستمتع بطعمها دون أن تتأذى .
لذلك طبيعة الجنة من طبيعة خاصة، وطبيعة الدنيا طبيعة خاصة .
﴿ اهْبِطُوا ﴾
﴿ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ
في الجنة لمجرد أن تطلب شيئاً فهو أمامك ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا ﴾
﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) ﴾
أما حينما عصى آدم ربه، وأكل من التفاحة بدت لهما سوآتهما .
3 – الإنسان مخلوق للعيش على الأرض :
إذاً: الآية الكريمة: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾
﴿اهْبِطُوا﴾
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
الإنسان مخلوق للدنيا، ولكن حينما خلقه للدنيا، وكلفه حمل الأمانة، أعطاه درساً بليغاً له ولذريته من بعده .
4 – طبيعة العيش على الأرض مقتضية للصراع :
يعني حينما قال الله عز وجل قال: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾
بالتصريحات دائماً: مصلحتنا فوق كل شيء، في المصلحة غدر، ونقض عهد، وعدوان، وحرب استباقية، وجرائم تحت غطاء المصلحة، أما المؤمن فهو إنسانُ مبدأٍ، إنسان قيم، إنسان أهداف نبيلة، والكافر إنسان مصلحة، إنسان حاجة، إنسان ابتزاز .
إذاً : كلمة: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾
إذاً: معركة الحق والباطل - دققوا - معركة أزلية أرادها الله، لأن الحق لا ينمو إلا بالتحدي، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالتضحية، يعني أعطانا الله فرصة أن نضحي، وأن نصارع، وأن نتحمل العدوان، والكفران، والمعارضة، والتآمر.
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وطِّنوا أنفسكم أن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، وأن هذه المعركة قدرنا، والله عز وجل معنا، ولن يتِرنا أعمالنا، وهو يؤيدنا، وينصرنا .
﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ
كي نُمتحن، دخول هذا الصراع هو ثمن الجنة، يعني الذين وقفوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، والذين وقفوا ضده، ما المصير؟ النبي انتصر، وأصحابه انتصروا، وأصحابه في أعلى عليين، والذين ناصبوه العداء في مزبلة التاريخ .
إذا ذكرنا أبا بكر نقول: رضي الله عنه، إنه سيدنا، إذا ذكرنا عمر: رضي الله عنه، سيدنا، وإذا ذكرنا عدو الله أبا جهل نقول: لعنه الله .
5 – إيَّاك أنْ تكون في خندق مُعادٍ للحق :
القضية واضحة جداً، لذلك عُدّ للمليار قبل أن تكون في خندق معادٍ للحق، إن كنت في خندق معادٍ للحق فهل تعلم من الطرف الآخر؟ الله عز وجل، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ قَالَ :
(( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ... ))
إياك ، ثم إياك ، ثم إياك أن تكون في خندق مناهض للحق .
ما الدرس الذي تلقاه آدم ويجب أن تأخذه ذريته من بعده؟ أن تجربة آدم عليه السلام في الجنة من أجل أن يعرف نتائج المعصية، ومن أجل أن يعرف ما أعد الله له بعد الدنيا من جنة، هذا نموذج، والمعصية سبب الشقاء .
لذلك الدرس البليغ معنى الطاعة الجنة، معنى المعصية الخروج منها، معنى العداوة :
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6) ﴾
هذا الدرس، الدرس لآدم عليه السلام ولأمته من بعده إلى يوم القيامة ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا
فائدة : بين ( اهْبِطَا )و( اهْبِطُوا ) :
الآية ﴿اهْبِطَا﴾
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾
6 – كل شيء يُكشَف عند الموت :
يعني الصراع ليس مستمراً، الإنسان حينما يقترب من الموت تنكشف له الحقائق، ينكشف له ما جاء به الأنبياء .
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22) ﴾
أؤكد لكم أن كل إنسان على وجه الأرض من أي دين، من أي مذهب، من أي اتجاه، من أي طائفة، حتى لو كان ملحداً، حتى لو كان مجوسياً، أي إنسان عند الموت تُكشف له الحقائق، أوضح دليل، أكفر كفار الأرض الذي قال :
﴿ فَقَال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24) ﴾
حينما أدركه الغرق قال :
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ
إذاً: خيارنا مع الإيمان خيار وقت فقط، لا خيار قبول أو رفض، إما أن نؤمن الآن، ونحن في بحبوحة، وأن ننتفع من إيماننا، وإما أن نؤمن بعد فوات الأوان.
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَر
﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَر﴾
﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ
اعملوا ما شئتم .
﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾
﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾
المعركة بين الحق والباطل بثمن باهظ :
أيها الإخوة، يعني هذه المعركة التي بين الحق والباطل معركة بثمن، لا بلا ثمن، بل بثمن فلكي، بثمن باهظ، حينما تأتي إلى الدنيا، وتتجه نحو الحق، وتتحمل عداوات الناس، تتحول المكر، والدهاء، تتحول أحياناً الظلم، لأنك مؤمن، ماذا فعل أصحاب الأخدود ؟ ليس لهم ذنب إلا أنهم قالوا :
ربنا الله، والآن المؤمنون في الأرض ما ذنبهم؟ والله ولا ذنب لهم إلا أنهم مؤمنون، يقول لك: تطهير عرقي في البوسنة والهرسك، تطهير عرقي، مكافحة الإرهاب، أيّ إرهاب هذا؟ والله الإرهاب الذي نراه ممن يحاربون الإرهاب يفوق حد الخيال، يعني يمكن أن تكون نتائج حرب مليون قتيل، وسلاح فسفوري، وسلاح كيماوي، وسلاح دمار شامل، ولا شيء عليهم، أما إذا دافع الإنسان عن نفسه تقوم الدنيا ولا تقعد، عشرون ألف أسير لا أمل بإطلاق سراحهم، من أجل أسيرين دُمّر بلد بأكمله، هذا الحق والباطل واضح جداً، الآن الباطل قوي جداً، المعركة أزلية أبدية، هذه قدرنا .
لكن اسمعوا الجواب: هذه المعركة لها ثمن باهظ، لها ثمن فلكي، جنة عرضها السماوات والأرض، إلى أبد الآبدين، لذلك :
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)﴾
الله عز وجل يوضح، قال فيها، أي في الدنيا :
﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ(25) ﴾
فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
1 – الموت مصير كل حي :
يعني الموت مصير كل حي، هناك إنسان يولد فيفرح الأهل به فرحاً كبيراً، الحمد لله أنه سليم، مرة قال لي أحدهم: إذا جاءك مولود سليم معه مليون ليرة، قلت له: كيف ؟ قال لي: ابن ابنتي جاء الشريان محل الوريد في القلب، العملية تكلف 400 ألف ليرة، والمستشفى 300 ألفاً والنقل إلى بيروت 50 ألفاً، قال لي: دفعت 750 ألفاً خلال ساعة، يأتي سليماً، الآن يُربّى، ينظف، ويفرح به الأهل، وحين تخرج أسنانه يفرحون، يدخل الحضانة، كل ما جاء ضيف ينادونه ليقرأ الفاتحة، بعدها دخل الابتدائي، ثم الإعدادي، ثم الثانوي، أخذ شهادة ثانوية، دخل الجامعة، أخذ الجامعة، نريد وظيفة، الآن همّ الوظيفة، أربع سنوات في الجامعة والمقرر صعب، والأستاذ أسئلته غير متوقعة، وهذا متآمر ... وإلخ ، يلقي تهم على الأساتذة جزافاً لأنه هو مقصر، يتخرج ليظهر موضوع العمل ، يجد عملاً مناسباً، يريد زوجة ، هذه طويلة، وهذه قصيرة، وهذه مدخل البيت غير مقدر، وهذه الأم صعبة، متاهة طويلة عريضة، تزوج فما أنجب، هل السبب منه أم منها ؟ الله يعلم، الآن تبدأ أعراض في جسمه فيأكل خبز النخالة والجزر والسلطات والرياضة، بعدها تجد معه كيساً من الأدوية، بعدها تُعلَّق نعوُته .
﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ(17) ﴾
هذا طريق إجباري لكل الناس، فلذلك: ﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ﴾
﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾
أعرف رجلاً ثانياً ما شاء الله له معامل، ومؤسسات، وأموال منقولة، وغير منقولة، وبيت بأرقى أحياء دمشق ثمنه 110 ملايين، وبيت بالمصيف، وبيت على البحر، وكل سنة رحلة على العالم، فتح القبر بأيام مطيرة، خرج منه مياه سوداء، فلتت مياه المجاري عليه، ابنه مهندس، سألوه، فقال: ضعوه، ماذا نفعل؟ يقول لي مدير معمله: ما أكلت أسبوعاً، هنا وضعوا معلمي؟ ﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ﴾
2 – الحياة زمن مؤقت :
لذلك البطولة أن تُعِد للقبر، هذا البيت مؤقت مهما اعتنيت به البيت مؤقت، مهما اعتنيت به، اسأل كم من إنسان كسا البيت لسنتين، وما سكن فيه، هناك بناء بأرقى أحياء دمشق في سبعة طوابق، ولا واحد سكن بالبيت، كلهم ماتوا قبل استلام البيت، البيوت كلها فارغة، البيت الواحد بمئة مليون .
﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾
إخواننا الكرام، الغنى غنى العمل الصالح فقط، هذا الغنى الحقيقي، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.
والله كنت مرة بحلب فأطلعوني على أرقى أحياء حلب، والحقيقة أن هناك أبنية يصعب وصفها، مهندسون أجانب وفلل، والقصة في عام 74 قديمة جداً، رأينا بيتاً كل الرخام فيه أونكس، هذا أرقى أنواع الرخام، القصة لما كانت الليرة السورية 3 ليرات تساوي دولاراً، كان في البيت خمسة ملايين رخام فقط فصاحب هذا البيت صاحب ذوق رفيع المستوى جداً، فتوفي في الثانية والأربعين، في وقت مبكر بمرض عضال، ولحكمة أرادها الله كان طويلاً جداً، والقبر كان أقصر من قامته، لا إله إلا الله، من قصرٍ الآن يساوي 700 مليون، صاحب هذا القصر كان القبر أقصر من طول قامته، فكان بوضع خاص .
الموت عبرة، الموت أكبر عبرة لنا جميعاً، فأنت كطالب علم، لك أن تنال شهادة، وأن تعمل، وأن تتزوج، لكن لا تنسى أن الله ينتظر عملك الصالح، وأن البطولة أن تلقى الله وأنت مستقيم على أمره، وأنت محسن إلى خلقه، وأن مالك حلال ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾
3 – هل لك جواب عن سؤال الله ؟
قبل أن تتكلم، قبل أن تغضب، قبل أن ترضى، قبل أن تبتسم، قبل أن تتجهّم، قبل أن تعطي، قبل أن تمنع، قبل أن تصل، قبل أن تقطع، هل هذا العمل يرضي الله، لو أن الله سألني لماذا طلقتها؟ معك جواب؟ لماذا أعطيت ابن فلانة التي هي زوجتك بيتاً، ولم تعطِ ابن الزوجة الثانية؟ يوجد سؤال.
" إن الرجل ليعبد الله ستين سنة ثم يضر بالوصية فتجب له النار " .
قبل أن تخص الذكور بمالك وتحرم البنات، هل معك لله جواب؟ قبل أن تخرج شريكك من الشركة، وله حق فيها مثلك، لكن المحل باسمك، أنت أقوى منه، فأخرجته، ضايقته وأهنته فلم يحتمل، قال لك: نفك الشركة، أعطيته، والمحل بقي لك، قبل أن تفعل هذا هل هيأت لله جواباً؟ قبل أن تطلق هذه المسكينة التي قبلت بك فقيراً، ولم تعبأ بها، هل هذا جزاء الإنسان؟ هل عندك جواب عن كل شيء تفعله؟ هذا المبلغ الذي أخذته هل يرضى الله عنه، هل أخذته حلالاً؟
إخواننا الكرام :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ ))
هناك رجل في مصر غني جداً وتوفي، سمع أولاده من بعض العلماء أن أول ليلة هي أصعب ليلة، فرَجَوْا إنساناً فقيراً يموت من الجوع، قالوا له: خذ عشر جنيهات، ونمْ معه أول ليلة، مبلغ كبير له ـ طبعاً القصة رمزية لا تصدقوها ـ جاء منكر ونكير فوجدوا اثنين، هذا شيء جديد علينا، سمع صوتاً فحركوا رجله، هذا حي، وليس ميتاً، تعال نبدأ فيه، أجلسوه، مِن شدة فقره كان لابساً كيس خيش، فتحه من فوق ليخرج رأسه منه، ومن أطرافه خرجت يديه، وربطه بحبل بدؤوا بالحبل: مِن أين أتيت به؟ قال لهم: من بستان، تركوا البستان، كيف دخلت البستان؟ ما عرف كيف يجيب، ضربوه بشدة، الآن كيف دخل، بعدها الحبل، بعدها كيس الخيش، هذا بعد التحقيق والقتل والضرب صباحاً خرج من القبر، وقال: أعان الله أباكم . ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8) ﴾
هذه الآية تكفي، جاء أعرابي إلى النبي الكريم فقال له: عظني ولا تطل، فتلا عليه هذه الآية، فقال كُفيت.
يعني أعرابي راعي غنم بسيط، ثقافته محدودة، ما عنده كمبيوتر، ولا عنده مكتبة ضخمة، ولا حضر مؤتمرات إطلاقاً، وثقافته محدودة، قال له ابن سيدنا عمر: بعني هذه الشاة، وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال له: قل لصاحبها: ماتت، أمرٌ سهل جداً، قال ليست لي، قال له: خذ ثمنها، قال: ليست لي، قال له: خذ ثمنها، قال له: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب، لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين، وهذا هو الفقيه .
إذا قلت: أين الله فأنت مؤمن وربِّ الكعبة، لما تؤدي الحقوق، تقوم بواجباتك، تأخذ الذي لك فقط، أنت مؤمن ورب الكعبة، أما الآن فهناك مظاهر دينية صارخة، وأكل مال حرام مخيف، هذه المشكلة.
في درس قادم إن شاء الله نتابع قوله تعالى :
﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(25) ﴾
والحمد لله رب العالمين