وضع داكن
25-11-2024
Logo
المؤلفات - كتاب مقومات التكليف – المقوم الأول - الفقرة : 3 - مهمة التفكر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

إنّ معرفةَ الله تعالى من أصولِ الدين، ويُعرَفُ اللهُ من خلالِ التفكّرِ في خَلقه
( الآيات الكونية )، ويُعرَف من تدبُّرِ كلامِه، ( الآيات القرآنية )، ويُعرَف من النظرِ في أفعاله
والتفكّرُ هو أوسعُ، وأسرعُ طريقٍ للوصول إلى اللهِ تعالى، إنه يعني أنْ يعرفَ الإنسانُ ربّه، وكلما ازدادت معرفتُه بالله ازدادتْ طاعتُه له، و ازدادت خشيتُه له، وازداد إقبالُه عليه، وازداد رجاؤُه لرحمته، وازداد عملُه للجنةِ، واتقاؤُه للنارِ، فبقدرِ معرفتك باللهِ تنصاعُ لأمرِه، والتفكّرُ يرفعُ مستوى المعرفةِ.
يعجبُ الإنسانُ أحياناً لآلةٍ، أو بحاسوبٍ، أو بطائرةٍ، وعندها يعظّمُ الصانعَ، ويشعرُ أنّ المصمِّمَ على مستوىً ذوقيٍّ رفيعٍ جداً ، وعلى مستوىً من الدقّةِ بالغةٍ جداً، وعلى مستوى من العلمِ عالٍ جداً، فأهلُ الدنيا يُعظِّمون بعضَهم بعضاً، أمّا المؤمنُ فيُعظِّمُ ربَّ الكونِ من خلالِ خَلقْه، الإنسانُ يأكلُ، ويشربُ، وينتفعُ بالكونِ، ولكنه لا ينسى أنْ يُطالعَ ما في الكونِ من آياتٍ، كالأمطارِ، والسحبِ، والجبالِ، والأنهارِ، والبحيراتِ، وأنواعِ الخضارِ والفواكهِ، هذه كلّها بين يديه.
الكونُ مسخَّرٌ لنا مرّتين:
الكونُ بكلّ ما فيه مسخَّرٌ لنا مرّتين، تسخيرَ تعريفٍ، وتسخيرَ تكريمٍ، له مهمّةٌ تعريفيّةٌ، ومهمّةٌ نفعيّةٌ، أمّا العالَمُ الغربيّ فقد برعَ أيّما براعةٍ في الانتفاعِ بالكونِ، لكنّ وظيفةَ الانتفاعِ إذا قيستْ بوظيفةِ التعريفِ ليست بشيءٍ، لأنّ الانتفاعَ ينتهي عند الموتِ، لكنّ وظيفةَ التعريفِ لا تنتهي، بل تنفعُ الإنسانَ إلى أبد الآبدين، وفي الحديث الشريف عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ

(( أَنَّ النَّبِيَّ  كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا، وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا ))

[ أبو داود ( 5092 ) عن قتادة، والطبراني في الأوسط ( 311 ) عن أنس، وفي الكبير ( 4409 ) عن رافع بن خديج]

أي: هذا الهلالُ يُرشدني إلى اللهِ، وينفعنُي في الدنيا، فحينما نستغلُّ الهلالَ للانتفاع به بقي أنْ نستغلّ مهمّتَه في التعريفِ باللهِ عز وجل.
لو فرضنا أنّ إنساناً ثريّاً يمكنُ أنْ يأكلَ العسلَ كلَّ يومٍ، هذا الإنسانُ استطاعَ أنْ يستفيدَ من العسلِ الفائدةَ الدنيويّةَ المحدودةَ !
وإنسانٌ آخرُ لا يسمحُ له دخْلُه المحدودُ أنْ يأكلَ العسلَ إطلاقًا، إلاّ أنه قرأ مقالةً، أو سمعَ حديثاً عن فوائدِ العسلِ، وعن عظيمِ صنعِ اللهِ فيه، فاقشعرَّ جِلدُه، ودمعتْ عينُه من خشيةِ الله، لقد حقّق الهدفَ الأسمى من خَلْقِ العسلِ، لقد حقّقَ الفائدةَ الأخرويّةَ الأبديّةَ.
حاولْ ألاّ تفوِّتْ على نفسِك أيَّ مشهدٍ من هذا الكونِ قبْل أنْ تستفيدَ منه الفائدةَ التي خُلِقَ من أجلِها، فكلُّ مخلوقٍ على وجهِ الأرضِ مسخَّرٌ لك، ولفائدتين: دنيويّةٍ محدودةٍ، وأخرويّةٍ أبديّةٍ.
فإياك أنْ تشربَ كأسَ ماءٍ قبل أنْ تنظرَ في عظمةِ خَلقِ الماءِ، وإيّاك ألاّ تحمدَ اللهَ بعدَ ذلك على نعمةِ الماءِ .
إنك إنْ شربتَ الماءَ فحسبُ فقد رضيتَ بالنزرِ اليسيرِ، وقنعتَ بفائدةٍ محدودةٍ تنتهي عند العطشِ من جديدٍ، ولربّما صحّ لنا أن نقيسَ على ما وردَ عن سيدنا عمرَ أنه أمسك تفاحةً ثم قال: " أكلتُها ذهبتْ، أطعمتُها ـ أي تصدقتُ بها ـ بقيتْ "، وكذلك نقول: إنك إن أكلتَ التفاحةَ دون أن تذكّركَ بخالقِها فقد فنِيَتْ، وإن ذكّرتكَ بالله فقد بقيتْ، وأخذتَ منها الفائدةَ الأخرويّةَ الدائمةَ التي تعلو كثيراً على فائدةِ الغذاءِ الدنيويّةِ المؤقّتةِ.
سؤال وجواب:
لو قال أحدُهم: إنّ كلَّ عملِي في العلمِ، فأنا طبيبٌ، وعندي اطّلاعٌ دقيقٌ جداً على خَلقِ الإنسانِ، أليس هذا تفكراً ؟ فبماذا نجيبُه ؟
هؤلاء العلماءُ الكبارُ الذين يرون في مخابِرهم من آياتِ اللهِ الدالّةِ على عظمتِه الشيءَ الذي لا يكاد يُصدَّقُ، فهناك سُفنُ أبحاثٍ مصفَّحةٌ، معها أضواء كاشفةٌ ترى بأمّ عينك في خليجِ مريانةَ، الذي يبلغُ عمقُه اثني عشرَ ألفَ مترٍ في المحيطِ الهاديِّ، ترى أنواعَ الأسماكِ، والكائناتَ البحريةَ، والنباتاتَ البحريةَ، والذين وصلوا إلى القمرِ رأوا الأرضَ كرةً، وصوَّروها، وهؤلاء الذين يرون الكائناتِ الدقيقةَ في المخابرِ الجرثوميةِ، وهؤلاء الذين يرون المجراتِ العملاقةَ في التلسكوباتِ الفلكيةِ، وهؤلاء الذين يكبِّرون النسجَ البشريةَ، فإذا منظرُ النسيجِ البشريّ شيءٌ لا يكاد يُصدّقُ، هؤلاء لِمَ لمْ يؤمنوا ؟ لِمَ لم تخشعْ قلوبهم لذكرِ اللهِ ؟ لِمَ لا يعرفون اللهَ، وهم يقفون أمامَ آياتٍ باهراتٍ ؟
لو كان للإنسانِ هدفٌ غيرُ معرفةِ اللهِ عز وجل فإنك لو وضعتَ أمامه آلافَ الآياتِ لا يرى منها شيئاً، فهناك في الطبّ والفيزياءِ والكيمياءِ آياتٌ كثيرةٌٌ تَدَعُ الحليمَ حيرانَ، ومع ذلك لا يتأثّرُ المختصّون بها، والسببُ أنهم يهدفون إلى شيءٍ آخرَ، فالإنسانُ لا يرى إلا حاجَته،

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[ الجاثية: الآية 23 ]

إنّ الذي يبحثُ عن شهوته، يبحثُ عن مالٍ وفيرٍ، وجاهٍ عريضٍ لا يرى الحقائقَ، شأنُه شأنُ آلةِ تصويرٍ غاليةٍ جداً، ولكن لا يوجد فيها ( فيلم )، قد تلتقطُ أجملَ المناظرِ، ولكنْ لعدمِ وجودِ ( الفيلم ) لا ينطبعُ عليها شيءٌ.
هؤلاء الأشخاصُ يعيشون مع حقائقَ عجيبةٍ، ولكنّ هذه الحقائقَ لا تنقلهم إلى اللهِ، لأنهم ما أرادوا أن يعرفوا اللهَ، فمن أجلِ أن نخزّنَ الصورَ لا نستفيدُ من آلةٍ غاليةِ الثمنِ بلا ( فيلم )، ونستفيدُ من آلةٍ رخيصةٍ جداً مع ( فيلم ).
التفكّرُ عمليةٌ فكريةٌ تحتاجُ إلى موادَّ أوليةٍ، لو فرضنا إنساناً قرأَ موضوعًا عن الطيورِ، هذا الموضوعُ ليس تفكّراً، وقراءةُ هذا الموضوعِ ليست تفكّراً، ولكنه موادُّ أوليةٌ للتفكرِ تحتاجُ إلى تصنيعٍ، التفكّرُ في خلقِ الله هو القفزةُ نحو الأعلى، فالتفكرُ بلا بضاعةٍ لا يقدّم شيئًا، والبضاعةُ بلا تفكّرٍ لا تقدِّم شيئًا، الغربُ عندهم بضاعةٌ بلا تفكّرٍ، عندهم حقائقُ دقيقةٌ عن الكونِ، ولهم مؤلَّفاتٌ تذهبُ بالعقولِ.
إنّ الأكملَ أنْ تملكَ معلوماتٍ دقيقةً عن الكونِ، ومن خلالِ هذه المعلوماتِ تقفزُ بها إلى معرفةِ اللهِ عز وجل.

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور