- ٠4كتاب مقومات التكليف
- /
- ٠2المقوم الأول - الكون
من خلالِ الكتابِ والسنةِ، وأقوالِ الصحابةِ والتابعين .
ففي الكتاب قال تعالى.
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
فعلٌ مضارعٌ يفيدُ الخبرَ، لكنّ الخبرَ يأتي في القرآنِ الكريمِ في معرضِ الإنشاءِ والأمرِ، فإذا قال الله عز وجل.
﴿ وَلاَ يَزْنُونَ ﴾
أي. إيّاكم أنْ تزنوا، فإنّ نفيَ الشيء أبلغُ من النهيِ عنه، فإذا نهيتَ عن الشيءِ فكأنك تضعُ في ذهنِ الإنسانِ تصوُّرَ فِعْلِه،لكن إذا نفيتَه كان النفيُ أبلغَ، قال تعالى.
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾
ولم يقلْ. يا أيها الوالداتُ أرضعنَ أولادكنّ، لأنه من شأنِ الوالداتِ إرضاعُ أولادهنّ، فهذا خبرٌ جرَى مجرى الإنشاءِ والأمرِ .
وفي قوله تعالى.
﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ ﴾
أي. إنّ المؤمنين من شأنِهم التفكُّرُ في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ، وهو لازمٌ من لوازمِهم، وخصيصةٌ من خصائصِهم، وسِمَةٌ من سماتِهم .
في صحيحِ ابن حبّان عن عطاءٍ أنّ عائشةَ رضي الله عنها قالت. أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي، وقال.
(( يَا عَائِشَةُ، ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَقَامَ إِلَى القِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ حَتَّى بَِلَّ الأَرْضَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ، حَتَّى أَتَى بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِصلاَةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ. يَا رَسُولَ اللهِ
مَا يُبِْكيكَ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟! فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. وَيْحَكَ يَا بِلاَلُ ! وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَبْكِيَ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ. ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ )، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا، وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا ))
قيل للأوزاعي. " ما غايةُ التفكُّرِ فيهنّ ؟ قال. يقرأُهنّ ويعقلُهنّ " .
ورُوِيَ عن النبيِّ
(( أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْراً، وَنُطْقِي ذِكْراً، وَنَظَرِي عِبْرَةً ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ.
(( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ))
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(( مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ تَامَّةٍ، تَامَّةٍ، تَامَّةٍ ))
أليس التفكُّرُ من الذِّكرِ، فإذا صلّى الإنسانُ الفجرَ، وقرأَ شيئًا من القرآنِ، وتفكّرَ في آيةٍ من آياتِ اللهِ، ثم ذَكَرَ اللهَ تعالى كان له الأجرُ الكبيرُ من الله تعالى .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال. إن قوماً تفكروا في الله عز وجل فقال صلى الله عليه وسلم .
(( تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللهِ، وَلاَ تَفَكَّرُوا فِي اللهِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقْدِرُوا قَدْرَهُ ))
إذًا التفكرُ في ذاتِ اللهِ ممنوعٌ، وحرامٌ، ومهلِكٌ، والتفكّرُ في مخلوقاتِ اللهِ فريضةٌ من أرقى الفرائضِ .
وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه خرج على قومٍ ذاتَ يومٍ وهو يتفكّرون، فقال.
(( مَالَكُمْ لاَ تَتَكَلَّمُونَ ؟ ـ وهذا اسمُه في البلاغةِ تجاهلُ العارفِ ـ فَقَالُوا. نَتَفَكَّرُ فِي خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ . فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا، تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِهِ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِيهِ ))
أحد التابعين قال. " ركبتُ إلى أمّ ذرٍّ بعد موت أبي ذرٍّ، فسألتُها عن عبادةِ أبي ذرٍّ فقالت. " كان نهارُه في ناحيةِ البيتِ يتفكّرُ " .
وعن الحسن. " تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من قيامِ ليلةٍ " .
وعن الفضيل. " الفكرُ مرآةٌ، تريك حسناتِك وسيئاتِك " .
وقيل لإبراهيم. " إنك تطيلُ الفكرَ، فقال. الفكرُ مخُّ العقلِ " .
وكان سفيانُ بن عيينةَ يقول هذا البيتَ.
إذا المرءُ كانت له فكرة ففي كلٍّ شيء له عبرة
والإمامُ الحسنُ يقول. " من لم يكن كلامُه حكمةً فهو لغوٌ، ومن لم يكن سكوتُه تفكّرًا فهم سهوٌ، ومن لم يكن نظرُه اعتبارًا فهو لهوٌ " .
يقول أحدُ التابعين. " ما طالت فكرةُ امرئٍ قطُّ إلا علِمَ، وما علِمَ امرؤٌ قطُّ إلا عملَ ".
وقال عمرُ بن عبد العزيز. " الفكرةُ في نعمِ اللهِ عز وجل من أفضلِ العبادةِ " .
قال بِشرٌ. " لو تفكَّرَ الناسُ في عظمةِ اللهِ ما عصوا الهَا عز وجل " .
إذًا المعصيةُ أساسُها عدمُ الخشية، وعدمُ الخشيةِ أساسُه عدمُ العلمِ، فالأمرُ يدور بين علمٍ، فخشيةٍ، فطاعةٍ، أو جهلٍ، فعدمِ خشيةٍ، فمعصيةٍ .
يقول أبو سليمان الداراني. " عوِّدوا أعينَكم البكاءَ، وقلوبَكم التفكّرَ " .
قال بعضهم. " الفكر ُفي الدنيا حجابٌ عن الآخرةِ، والفكرُ في الآخرةِ يورثُ الحكمةَ، ويحيا القلبُ به " .
التفكر. علم وحال وعمل.
إنك إنْ تفكّرتَ علمتَ، وإن علمتَ نشأَ في قلبك حالٌ، هذا الحالُ يدفعك إلى العملِ، فالفكرُ أساسُ المعرفةِ، والمعرفةُ أساسُ الانفعالِ، والانفعالُ أساسُ السلوكِ، فإن صحّتْ فكرتُك صحَّ إدراكُك، وصحّ انفعالُك، وصحّ عملُك، ودخلتَ الجنّةَ .
القلبُ يطمئنُّ بذكرِ الله، لكنّ الفكرَ يزيدُ المرءَ علماً .
لو فرضنا شمعةً على الطاولةِ، وإلى جانبها عودُ ثقابٍ، والغرفةُ مظلمةٌ، وهناك على الطاولةِ قطعٌ من الأحجارِ، وقطعةٌ من الماسِ، وثمنُ هذه القطعةِ مئاتُ الألوفِ، إنك إنْ أمسكتَ عودَ الثقابِ، وأشعلتَ هذه الشمعةَ استنارَ المكانُ، فرأيتَ الماسَ، ففرحت فرحاً عظيماً، فتحركتَ نحوه فالتقطتَه، فسعدتَ به، وهذا هو الترتيبُ الطبيعيُّ، التفكّرُ يحتاج إلى تذكّرٍ، والتفكرُ يوصلُ إلى العلمِ، والعلمُ يوصلُ إلى الحالِ، والانفعالُ يولِّدُ العملَ، والعملُ ثمنُ الجنةِ، فالبدايةُ من التفكّرِ .
إنسانٌ مرتاحٌ في بستان، نظرَ فإذا بأفعى، انطبعتْ صورةُ هذه الأفعى على الشبكيّةِ، الشبكيةُ نقلتها إلى الدماغِ، هنا حصلَ الإحساسُ، وفي الدماغِ الإدراكُ، لما أدركَ قفزَ هارباً، علاقةُ الإنسانِ بالمحيطِ الخارجيّ وَفقَ قانونٍ ؛ ثلاثُ كلمات ؛ إدراكٌ، وانفعالٌ، وسلوكٌ .
إذا حصلَ العلمُ في القلبِ تغيّرَ حالُ القلبِ، وإذا تغيّرَ حالُ القلبِ تغيّرتْ أعمالُ الجوارحِ، فالعملُ تابعٌ للحالِ، والحالُ تابعٌ للعلمِ، والعلمُ تابعٌ للتفكّرِ، والتفكُّرُ تابعٌ للتذكّرِ، تذكّرٌ، فتفكّرٌ، فعلمٌ، فحالٌ، فعملٌ، ثم جنةٌ بعد ذلك .