- ٠4كتاب مقومات التكليف
- /
- ٠2المقوم الأول - الكون
كيف نقرأ الكون:
ينبغي أن نقدرَ اللهَ حقَّ قدْرِه عن طريقِ العلمِ، وقد عبّر اللهُ جل جلاله عن العلمِ بمفتاحِه، وهو فعل:
﴿ اِقْرَأْ ﴾
وفي اللغةِ أنّ الفعلَ إذا حُذف مفعولُه أُطلق معناه، فنقرأ في كتابِ اللهِ، أو في بيانِ المعصومِ ، أو في كتابِ الكونِ، فالكونُ قرآنٌ صامتٌ، والقرآنُ كونٌ ناطقٌ، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي، لذلك كانت أولُ آيةٍ في القرآنِ الكريمِ:
﴿ اِقْرَأْ ﴾
القراءةُ الأولى: قراءةُ إيمانٍ
الأصلُ الأولُ في هذه القراءةِ: أنْ تكونَ قراءةً إيمانيةً تنتهي إلى الإيمانِ بالله، موجوداً، وواحداً، وكاملاً، خالقاً، ومربّياً، ومسيّراً، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
وهذه القراءةُ مقدورٌ عليها، بدليلِ أنها تنطلقُ من أقربِ شيءٍ إلى الإنسانِ، من نفسِه التي بين جَنْبَيْه، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾
أمّا الأصلُ الثاني لهذه القراءةِ: فهو أن تكونَ قراءةَ شكرٍ وعرفانٍ:
﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾
أساسُها شكرَ المُنعِمِ على نعمةِ الإيجادِ، ونعمةِ الإمدادِ، ونعمةِ الهدى والرشادِ، لقد خلقَ اللهُ الإنسانَ ليسعِدَه في الدنيا والآخرةِ، قال تعالى:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
القراءةُ الأولى: قراءةُ إيمانٍ
والثانية: قراءةُ شكرٍ وعرفانٍ.
لقد سخّر اللهُ الكونَ لهذا الإنسانِ تسخيرَ تعريفٍ وتكريمٍ، أمّا تسخيرُ التعريفِ فكلُّ ما في السماوات والأرضِ ينطقُ بوجودِ اللهِ ووحدانيته وكمالِه، ويشفُّ عن أسمائِه الحسنى وصفاتِه الفضلى، وهو مجالٌ رحبٌ للتفكّرِ في خَلقِ السماواتِ والأرضِ، قال تعالى:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
أي: إنّ تقديرَ
الله حقَّ قدْرِه طريقُه التفكّرُ في خَلقِ السماواتِ والأرضِ، لذلك قال تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
، هذا تسخيرُ التعريفِ.
وأما تسخيرُ التكريمِ فقد قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾
إنّ من الواجبِ على الإنسانِ تجاهَ تسخيرِ التعريفِ أنْ يؤمنَ، وتجاهَ تسخيرِ التكريمِ أنْ يشكرَ، فإذا آمنَ وشكرَ فقد حقّقَ الغايةَ من وجودِه، لذلك يتوقّفُ التأديبُ والمعالجةُ، يقولُ الله عزّ وجل:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾
والثالثة: قراءة الوحي والتلقي:
وأمّا الأصلُ الثالثِ لهذه القراءةِ: فهو قراءةُ الوحيِ والتلقّي، فمعرفةُ طرفٍ من حقيقةِ الذاتِ الإلهيّةِ، وكمالِها المطلقِ، ومعرفةُ الماضي السحيقِ، والمستقبلِ البعيدِ، ومعرفةُ حقيقةِ الحياةِ الدنيا والحياةِ الآخرةِ، ومعرفةُ حقيقةِ الإنسانِ، وسرِّ وجودهِ، وغايةِ وجودِه، ومعرفةُ حقيقةِ النبوّاتِ والرسالاتِ، ومعرفةُ حقيقةِ المنهجِ ودقائقِهِ، ومفرداتِ التكاليفِ وتفاصيلِها، هذا كلُّه يُؤخَذ من الوحيين ؛ الكتابِ والسُّنةِ , وهذا مما يستنبطُ من قوله تعالى:
﴿ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
ولكن لا يعني هذا الكلامُ أنّ المسلمين اليومَ يقرؤون هذه القراءاتِ الثلاثَ، ولو فعلوا لما استطاعَ أحدٌ أن ينالَ منهم , ولكنْ هذا من قَبيلِ ما ينبغي أنْ يكونَ،لا ما هو كائنٌ.
أما إذا قرأَ الإنسانُ ما في الكونِ قراءةً نفعيّةً، ليس غيرُ، وابتعدَ عن هذه القراءاتِ الثلاثِ كان الطغيانُ والعدوانُ
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾
وهذا طغيانُ العلمِ الذي يقودُ الإنسانَ الذي قرأ هذه القراءةَ النفعيّةَ بعيداً عن الإيمانِ والعرفانِ، يقوده هذا العلمُ إلى القوّةِ والطغيانِ، فيبني مجدَه على أنقاضِ الآخرين، ويبني غناه على فقرِهم، وحياتَه على موتِهم، وقوّتَه على ضعفِهم، وأَمْنَه على خوفِهم، وعزّه على ذلّهم، وبهذا يكون قد طغى بالعلمِ، واستخدمَه لغيرِ ما أُريدَ منه.
وقد ضربَ اللهُ لنا مثلاً في القرآنِ الكريمِ قومَ عادٍ كنموذجٍ متكرّرٍ لهذا الإنسانِ الذي قرأَ قراءةً نفعيّةً، فطغى، وبغى، ونسي المبتدى والمنتهى، ونسي الجبّارَ الأعلى، فعادُ تفوّقتْ في شتّى الميادينِ، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
وعادٌ تفوّقتْ في العمرانِ والحصونِ والمنشآت، قال تعالى:
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
وعادٌ تفوّقتْ بالقوةِ العسكريةِ، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾
وعادٌ تفوّقتْ بالناحيةِ العلميةِ
﴿ وَعَاداً وَثَمُودَا وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾
ولم يكن فوقَ عادٍ إلا اللهُ، بدليلِ أنّ اللهَ ما أهلكَ قوماً إلا وذكّرهم أنه أهلكَ مَن أشدُّ منه قوّةً، إلا عاداً حين أهلكها قال:
﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾
وعادٌ بسببِ تفوّقِها وبُعْدِها عن اللهِ، وقراءتِها لِما في الكونِ قراءةً نفعيّةً تكبّرتْ بغيرِ حقٍّ، واستعلتْ، وتغطرستْ، وبَغَتْ، لا في بلدِها فحسبُ، بل في كلّ البلادِ، قال تعالى:
﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
فماذا كانت محصِّلةُ هذا لتفوّقِ المادي ؟ لقد طغوا في البلادِ، والطغيان مجاوزةُ الحدّ بالعدوانِ، ولم يقل: طغوا في بلدهم، بل قال:
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ﴾
أي: في البلادِ كلِّها، ليصفَ طغيانَهم بالشمولِ، وأنهم أكثروا فيها الفسادَ، ولم يقل: فسدوا، ليبيّنَ أنّ إفسادَهم عمّ الأرضَ.
والحديثُ عن مصيرِ عادٍ في القرآنِ الكريمِ لا يخصّ عاداً الأولى، بل يتجّهُ إلى كلّ قومٍ سلكوا مسلكَ عادٍ، فقومُ عادٍ نموذجٌ متكرّر، بدليلِ أنّ اللهَ تعالى يقول:
﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى ﴾
وهذا يعني فيما يعني أن هناك عاداً ثانيةً، أو انتظروا عاداً ثانيةً، لقد كان تأديبُهم بالأعاصيرِ التي تدمّر كلَّ شيءٍ أَتَتْ عليه، قال تعالى:
﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾
فماذا كانت النتيجةُ ؟ قال عزوجل:
﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
أي: بالمرصادِ لكلّ مَن يكونُ على شاكلةِ عادٍ مِن أممِ الأرضِ.