وضع داكن
19-04-2024
Logo
الحلال والحرام - الدرس : 18 - البيوع.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون الذكر فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

بيع الحاضر للبادي نوع من أنواع الاحتكار :

 أيها الأخوة المؤمنون: مع الدرس الثامن عشر من دروس سلسلة: "الحلال والحرام في الإسلام"، ولا زلنا في موضوع البيوع، وقد تحدثت بفضل الله تعالى في الدرس الماضي عن الاحتكار ومما يلحق بالاحتكار أن يبيع الحاضر للبادي.

الحاضر هو ساكن المدينة، والبادي هو ساكن البادية، فقد يقدم بدوي ليبيع حاجته في سوق المدينة بسعر يومه، فيأتيه ابن المدينة فيقول له: خلِّ متاعك عندي حتى أبيعه لك على المهلة بثمن غال، ولو باع البادي بنفسه لأرخص وانتفع أهل المدينة وانتفع هو أيضاً.
 هذه الصورة أيها الأخوة من صور البيوع أن يبيع الحاضر للبادي كانت شائعة جداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنس رضي الله عنه: "نهينا أن يبيع حاضر لباد ولو كان أخاه لأبيه وأمه".
 لأن هذه السلعة لها ثمن إذا باعها بثمنها بسعر السوق انتفع الناس بها، فإذا جاء المدني وخزنها حتى يرتفع الثمن ثم باعها، منع طرحها في الأسواق، فبهذا تدخل هذا الإنسان بحركة السوق الطبيعية.
 السوق له حركة طبيعية، إن كانت الحركة طبيعية تستقر الأسعار على وضع مقبول، أما إذا حدث تدخل، أو افتعال، أو اصطناع، أو إيهام، أو حبس بضاعة، أو رفع سعر، أو اتفاق على منع البيع، فهذا كله تدخل في حركة السوق الطبيعية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ))

[ مسلم عن جابر]

 كنت مرة في أحد أسواق دمشق أريد أن أشتري حاجة من بائع يحتاجها البيت، طلبت هذه الحاجة من البائع فقال لي أحد الواقفين: هذه الحاجة لا تشتريها، يمكن أن تستغني عنها، البائع انزعج منه أشد الانزعاج، أدركت أن هذه الملاحظة التي وجهها لي أغاظت البائع:

((دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ))

[ مسلم عن جابر]

 ويوجد رواية: "دع الناس في غفلاتهم"، شخص يرغب بشراء هذه الحاجة، لا تشتريها، لست بحاجة إليها، ليس لها فائدة، أمام البائع تكون قد قطعت رزقه بهذه الطريقة، وهذا ليس من صفة المؤمن، على كلٍّ أن يبيع الحاضر للبادي نوع من أنواع الاحتكار، بضاعة مبذولة جاء الحاضر فخزنها ليبيعها بسعر مرتفع، لو أن صاحبها باعها وقبض ثمنها نقداً لتحرك بهذا المال، الآن أصبحت هذه الحاجة ديناً، وقد يكون هذا الحاضر متلاعباً، هو لم يستفد وأهل المدينة لم يستفيدوا.

 

الدين النصيحة :

 وكلمة النبي عليه الصلاة والسلام:

(( لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ))

[ مسلم عن جابر]

 هذه الكلمة تضع مبدأ هاماً في الميدان التجاري، أن تترك السوق لتتحرك حركة طبيعية عندئذ تستقر الأسعار على شيء معقول، وكلكم يعلم بعض السلع حينما كانت مفقودة كان ثمنها أربعة أمثال، وفي الحد الأدنى كان ثمنها مثلين، فلما بذلت وسمح باستيرادها وأوضح شيء مادة الموز مثلاً، كان الكيلو بمئة وست وسبعين ليرة والآن أصبح بخمس وعشرين، لما بذلت وسمح باستيرادها وجدت الحركة الطبيعية فهبط السعر، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يريد التدخل المفتعل عندئذ هذا التدخل يرفع السعر، يستفيد قلة قليلة ويتضرر كثرة كثيرة، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:

(( لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ))

[ مسلم عن جابر]

 فقال: لا يكون له سمساراً، طبعا السمسار له مصالح خاصة قد تتناقض مع مصالح أهل المدينة، ومع مصالح البائع، لكن لو أن الإنسان نصح الدين نصيحة، السمسار شيء والناصح شيء آخر، أحياناً السمسار يزين لك الشيء وهو من أسوأ الأشياء كي يبيعك إياه ويأخذ حصته، مصلحته في البيع أن يزين لك، وقد يتكلم كلاماً مناقضاً لكلام سابق، إذا أراد أن يبيع بيتاً يزينه للشاري، ويبخسه لصاحبه، حتى يقنع الشاري بأعلى ثمن، ويقنع البائع بأرخص ثمن، مرة دلال صلى باتجاه الشمال ليلاً، أراد أن يصلي والبيت له نوافذ كثيرة فلما صلى باتجاه النوافذ توهم الشاري أن جهة هذا البيت نحو القبلة.
 أحياناً الوسيط له مصلحة في البيع، يزين السلعة لجهة ويبخسها لجهة ثانية، أما لو أن الإنسان ليس له مصلحة ونصح فالدين النصيحة وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((إذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ ))

[ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ]

 وهذا من واجب الدين:

(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ))

[ مسلم عن تميم الداري ]

الوسطاء إذا قاموا بواجباتهم فأجرهم حلال :

 أقول لكم هذه الكلمة بصراحة: إذا استنصحك أحدهم لو تكلمت له بخلاف ما أنت قانع فقد هبط إيمانك إلى مستوى كبير جداً، الدين نصيحة المؤمن نصوح ولا يعبأ إطلاقاً بمكاسبه المادية التي قد تأتيه من عدم نصيحته.
لكن بالمناسبة الوسطاء إذا قاموا بواجباتهم فأجرهم حلال، أحياناً مستورد يأتي ببضاعة وهو لا يذهب للتجار الصغار ليعرضها عليهم، يأتي إنسان يأخذ هذه البضاعة ويجول بها في الأسواق، فإذا أعطيته أجراً مقطوعاً لا مانع، وإن أعطيته نسبة لا مانع، فأجر الوسيط حلال مادام هناك جهد كبير بذله، أنت استوردت وقبعت في مكتبك أما هذا الوسيط فدار في الأسواق كلها، وعرض البضاعة، وبيّن ميزاتها، فمن المعروف أن هذا الجهد يحتاج إلى أجر، مادام هناك جهد حقيقي ولا يوجد كذب، ولا تدليس، ولا إيهام، ولا إغراء، ولا تبخيس، الأجر الذي يتقاضاه الوسيط حلال بهذه الشروط.
 أيها الأخوة: المسلمون كما قال عليه الصلاة والسلام عند شروطهم، أحياناً يتوهم بعض الأشخاص أن الدلال أجره حرام، أو الوساطة، كما قلت قبل قليل: إذا بذل جهداً حقيقياً وكان هناك صدق ولم يكن هناك كذب، فهذا الجهد الحقيقي مع هذه الاستقامة لها أجرها، إما أجر مقطوع، أو أجر نسبي، بحسب المبيع، لكن أحياناً لا يفعل الوسيط شيئاً، ولا حركة، ولا سكنة، ولا كلمة، ويطلب مبلغاً يشعر البائع أنه مبلغ كبير جداً، وهناك إيهام، وهناك مشادة، مثل هذا العمل يشبه أكل المال الحرام.
 البخاري في صحيحه يقول: "لم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار شيئاً"، وقال ابن عباس: "لا بأس بأن يقول بع هذا الثوب فما زاد عن كذا وكذا فهو لك"، وقال ابن سيرين: "إذا قال بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا بأس".
 ممكن إنسان أن يستخدم وسيطاً في المبيع إما بأجر، أو بنسبة، أو بما زاد عن هذا الثمن فهو لك.

 

تلقي الركبان من الصور التي نهى عنها الشرع الحكيم في البيع والشراء :

 من الصور التي نهى عنها الشرع الحكيم في البيع والشراء تلقي الركبان، أي أناس يحملون بضاعة يتلقونهم خارج المدينة، صاحب البضاعة يجهل سعرها، يجهل سعر السوق، أي جاهل، فنأخذها منه قبل أن يعرف سعرها الحقيقي، أحيانا يوجد قرار منع استيراد ويوجد سلع متوافرة بكثرة، إنسان علم هذا الخبر سراً فاتجه ليشتري البضاعة بأرخص الأثمان، هذا هو تلقي الركبان، لو علم البائع أن هناك قرار منع والسلعة ارتفع ثمنها لا يبيعها طبعاً، تلقي الركبان استغلال جهل البائع، وشراء البضاعة بأرخص الأثمان، أيضا هذا النوع من البيع والشراء نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن صاحب البضاعة يأتي إلى السوق يسأل عن السعر، يبيع بضاعته بسعر السوق، أما إذا تلقيته قبل أن يصل فهو جاهل تستغل جهله لتأخذ أكبر ربح ممكن فهذا ما نهى عنه النبي الكريم.

من اشترى ولم يرَ فله الخيار إذا رأى :

 لذلك النبي عليه الصلاة والسلام جعل لمن يريد السوق خياراً، الخيار موضوع بالفقه دقيق جداً، مثلاً من اشترى ولم ير فله الخيار إذا رأى، أنا أشتري بيتاً على خيار شرط أنه ليس مرهوناً، وليس واقعاً في منطقة تنظيمية، ولا في منطقة استملاكية، فلو ظهر خلاف هذا يفسد العقد هذا اسمه خيار الشرط، أنا أشتري حاجة على أنها سليمة من العيوب، لو ظهر عيب هذا خيار العيب، أنا أشتري بضاعة على أن سعرها معتدل، فلو ظهر غبن فاحش هذا خيار الغبن، أنا أبيع بضاعة على أن سعرها هذا مناسب، فإذا وصلت إلى السوق وتبين السعر أعلى بكثير يحق لي أن أفسخ العقد، وأن أطالب المشتري برد البضاعة، وقبض الثمن، هذا خيار الغبن الفاحش، لذلك أنا لا أشتري بضاعة لا أراها، أحيانا يبيعون القماش على المساطر، الألوان مناسبة جداً تأتي البضاعة على خلاف المساطر، على خلاف النماذج، من اشترى ولم ير فله الخيار إذا رأى.

خيار المجلس :

 يوجد في الفقه الإسلامي عدة خيارات للبائع والشاري، ويوجد خيار المجلس، أنا عرضت عليك هذه البضاعة بهذا السعر، أنت لم تتكلم، لم تقل نعم، ولم تقل لا، وانفض المجلس، تأتيني بعد ساعة تقول لي: أنا اشتريت، أقول لك: لا، انتهى المجلس، هذا الخيار متعلق بالمجلس، والمجلس انتهى، لذلك يوجد خيار مجلس، معقول أن أسمع سعراً وألا أتكلم ولا كلمة؟ وجد العرض لكن القبول لم يكن مني، بعد حين وجدت العرض مناسباً جداً فذهبت إلى صاحب البضاعة أطالبه بتسليمها كلها، في المجلس الذي كنا فيه أنا عرضت لكنك لم تستجب، وانتهى المجلس، وانتهى العرض مع هذا المجلس.

أحكام البيع والشراء يجب أن يعرفها كل مسلم بالضرورة :

 أنا أكاد أقول: إن أحكام البيع والشراء يجب أن يعرفها كل مسلم، لا يوجد إنسان لا يشتري، النشاط الوحيد الذي يفعله كل مسلم البيع والشراء، مهما كنت فقيراً، لابد من أن تشتري قوت يومك، فأحكام البيع والشراء هذه من العلوم التي يجب أن تُعلم بالضرورة، إن هذا العلم دين لأنه إذا صحّ البيع صحت الاستقامة، صحت الصلاة، وإذا البيع فاسد أحياناً أرض مغتصبة، لا ينبغي أن تشجع على شراء بيت فيها أرض مغتصبة، مال مسروق، أنت لا تدري أغراك السعر المتدني، لو علمت أن شراء المال المسروق شراكة في السرقة شرعاً وقانوناً لما فعلت هذا، أي يجب أن تعلم المنهيات في البيع والشراء، لاتبع ما ليس عندك، إذا بعت ما ليس عندك فأنت مسؤول، أنت بعت والبيع إيجاب وقبول، أنت بعت ولا تملك، لا تبع شيئاً حتى تحوزه إلى رحلك.
 الرحل، الآن نشتري ألف طن من البن، يباعون ألف مرة وهم بمستودعاتهم، كل البيع فاسد، لا يجوز أن تباع البضاعة قبل أن تجلب إلى مستودعاتك، هذه تجارة حقيقية، ليس قصدك أن تجلب بضاعة لينتفع الناس بها، القصد أن تربح بطريقة تشبه القمار، لذلك الإنسان المسلم عليه أن يتعلم أحكام الفقه ولاسيما في البيوع، لأن ما من مسلم على وجه الأرض إلا وفي يومه الواحد نشاط كثير في البيع والشراء ، أما أخواننا الباعة التجار فموضوع الفقه الأول بالنسبة إليهم هو البيوع، الأول لأن عملك تاجر، عملك بائع، والمصنع يبيع، والمزارع يبيع، والتاجر يبيع، فكل إنسان يبيع ويشتري ينبغي أن يتعلم أحكام البيوع، هي من العلوم التي ينبغي أن تعلم بالضرورة.

الغش من لوازم الكفر والنفاق والبعد عن الله عز و جل :

 الحقيقة كما أقول لكم دائماً، ما من موضوع بعد الإيمان بالله أجدر أن يعرف كالحلال والحرام، لأنك إن آمنت بالله اندفعت إلى طاعته، أين أمره؟ أمره الأحكام الفقهية.
والإسلام أيضاً يحرم الغش والخداع بكل صورة من الصور في كل بيع وشراء، الحقيقة مع تقدم العلوم، مع تقدم الذكاء الشيطاني، وجدت أساليب في الغش لا تخطر على بال، معامل تقام في دول غنية عملها تغير لصاقات انتهاء الصلاحية، بضائع لا يعلمها إلا الله، أجبان، معلبات، لحم، كلها عليها انتهاء الصلاحية، معامل بأعلى مستوى تكنولوجي عملها أن تغير هذه الصلاحية لصلاحية بعدها، وتباع للدول الفقيرة على أنها بضاعة مهربة، ويقبل الناس عليها إقبالاً شديداً، هذا أحد أنواع الغش.
 سمعت عن تاجر كان يستورد لحوماً تعطى للكلاب، ويغير أغلفتها الخارجية ويبيعها للناس، فالغش مستشر، أكاد أقول لكم: إن أكبر ظاهرة في المجتمعات المتفلتة هي الغش، وأصبح الغش علماً، تشتري حاجة توقن أنها من صنع هذا البلد، يستوردون مثلاً قماشاً مصنوعاً في دولة من العالم الثالث توضع على حاشيته اسم دولة عريقة في صناعة هذا القماش، فالشاري يرى حاشية صنعت في الدولة الفلانية فيشتري، لذلك الغش من لوازم الكفر، والنفاق، والبعد عن الله عز و جل، لعلي بالغت في هذا، النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 هل هناك من كبيرة أكبر من أن يرفع انتماؤك لهذا الدين ولهذه الأمة؟ من غشنا فليس منا.

 

على الإنسان عدم كتمان العيب في البضاعة :

 ثم يقول عليه الصلاة والسلام:

(( البيِّعانِ بالخيار ما لم يَتَفَرَّقا – أو قال - حتى يتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا، بُورِك لهما في بيعهما، وإن كَتَما وكَذَبا، مُحِقَت بَرَكَةُ بَيْعِهِما ))

[ متفق عليه عن حكيم بن حزام]

 البيعان أي البائع والشاري على التغليب، لي صديق يبيع قطع للسيارات، قال لي: قطعة بقيت عندي ثلاث أو أربع سنوات وثمنها مرتفع، يقدر ثمنها من عشرين إلى ثلاثين ألفاً، وتنتقل من جرد لجرد، طلبها قليل، قال: جاء إنسان يطلبها، فصعدت السلم لأعطيه إياها في الرف العالي، قال لي: وأنا على السلم سألني أصلية؟ هي ليست كذالك، وقع في صراع ثم قال له: ليست أصلية، قال له: أعطني إياها، كلمة ليست أصلية أصبح البيع حلالاً.

(( البيِّعانِ بالخيار ما لم يَتَفَرَّقا – أو قال - حتى يتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا، بُورِك لهما في بيعهما، وإن كَتَما وكَذَبا، مُحِقَت بَرَكَةُ بَيْعِهِما ))

[ متفق عليه عن حكيم بن حزام]

 سمعت عن إنسان له درس دين ببعض قرى الغوطة، عليه إقبال شديد، السبب؟ هو بقال ولا يكذب أبداً، قال له أحدهم: عندك بيض؟ فقال له: نعم، قال: طازج؟ قال: لا والله، منذ أربعة أيام وجاري الآن جاءته وجبة، هذا هو الدين بكل بساطة، لا تكذب أبداً، لا يوجد رزق يأتيك بالحرام، أي إذا الله عز و جل أراد أن يرزقك هو أجلّ وأكرم من أن يجعل رزقك عن طريق غير مشروع، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، والله عندي آلاف القصص على أن كل مؤمن ترك شبهة في الرزق الله عز و جل تكريماً له أعطاه أضعافاً مضاعفة على ترفعه، البارحة قال لي أخ كريم تأثرت بكلامه: أنا أعمل في التدفئة، بناء لا يرضي الله، عرض عليّ أن أدفئه، فندق خمس نجوم، وصالات، ونواد ليلية، وصالات رقص، وخمور إلى آخره، أي كل الموبقات فيه، فيه نجوم الظهر وليس خمس نجوم، قال: عرض عليّ أن أدفئه، قال: والله أنا بلا عمل منذ سنة ونصف فرفضت، وأنا في أشد الحاجة لهذا العرض، قال: بعد أيام جاءني عمل لمسجد من أكبر مساجد دمشق، وببساطة بالغة وقع عليّ هذا العقد، من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، والله يا أخوان أنا لي كلمة أرددها كثيراً أشعر أنها ممكن أن تفي بالحاجة: زوال الكون أهون على الله أن يضيع مؤمناً استقام على أمره وخشي معصيته، آلاف القصص، دع شيئاً لا يرضي الله، والله أجلّ وأكرم من أن يجعلك خاسراً، سيجعلك رابحاً في المقدمة.

(( البيِّعانِ بالخيار ما لم يَتَفَرَّقا – أو قال - حتى يتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا، بُورِك لهما في بيعهما، وإن كَتَما وكَذَبا، مُحِقَت بَرَكَةُ بَيْعِهِما ))

[ متفق عليه عن حكيم بن حزام]

 أضرب أحياناً مثلاً هو جزئي، قال لك الشاري: أعطني بنطالاً يكون اللون دارجاً، عندك لون زيتي كاسد فقلت له: هذا أدرج لون، أنت الآن خنت هذا الشاري، الخيانة تكون بصور شتى، أحياناً يكون عندك قماش سيئ جداً تصنع منه بنطالاً، يسألونك: جيد؟ فتقول: أنا أرتدي منه، أنت خيطته خصيصاً، فكلما سألك الشاري عن جودته تقول له: انظر هذا أكبر دليل، هذا دليل معاكس، لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام:

((لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إِلَّا يُبَيِّنُ مَا فِيهِ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا يُبَيِّنُه ))

[ أحمد عن واثلة]

 قال لي أخ: بعنا سيارة فيها عيب بالمحرك، المحرك مشعور، الحمد لله بعناها و لبسناها للزبون، شعر بنشوة بأنه لبسها للزبون، والله بعد خمسة أيام ذهب إلى طرطوس لاستلام سيارة، وكان البيع سريعاً واختار لونها كحلي أحدث طراز، خمسة أيام حصل له حادث جعل السيارة مصفحة وجاءني يشكو، فقلت له: ألم تقل لي من أسبوع لبستها لزبون؟ الله كبير.
 يجب على الإنسان عدم كتمان العيب في البضاعة، لأنها و لو بيعت بسعر منخفض يكون البيع حلالاً.

 

من استقام على أمر الله يحفظه الله من كل سوء :

 أما كتم العيب غش ومن غشنا فليس منا، ويوجد حديث أشد تقريعاً:

(( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 لو غششت ملحداً، لو غششت عابد صنم، لو غششت مجوسياً، لست منا، يوجد أمثلة كثيرة جداً، ويوجد قصص والله عز وجل قال: "لقد عصيتك ولم تعاقبني؟ فقال: عبدي كم عاقبتك ولم تدر؟"، تجد أحدهم من مشكلة إلى مشكلة، من صادرة لصادرة، ومن ضبط لضبط، ومن مخالفة لمخالفة، ومن سجن لسجن، لماذا يحدث بنا هذا؟ من الغش.
 فالإنسان عندما يستقيم يحفظه الله، لا أعرف ماذا أقول لكم؟ يمكن أن يكون الدين كله استقامة؟ النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))

[ رواه الطبراني عن ابن عباس ]

 ما معنى أطب مطعمك؟ ضع سمناً بلدياً له؟ لا، إذا اشتريت طعامك بمال حلال فطعامك طيب، ومعنى مال حلال أي كسب حلال لا يوجد فيه كذب، ولا يوجد فيه احتكار، ولا يوجد فيه غش، ولا يوجد فيه تدليس، ولا يوجد فيه مبالغة، ولا يوجد فيه إيهام، ولا يوجد فيه اتفاق، لا يوجد فيه أية مخالفة للشرع، لا تلقي ركبان، ولا بيع حاضر لباد، ولا محتكر، ولا غش، ولا إيهام، ولا لعب بالوزن، ولا بالكيل، ولا بالمساحة، أحياناً أقل شيء يفعله بعض التجار إذا اشترى القماش يرخيه تراه يشكل مع المتر قوساً هذا إذا اشترى، أما إذا باع فيشده، قياس القماش في الشراء خط منحن وقياسه في البيع مثل وتر العود، تراه يشده هذا غش، أيضاً بالكيل يوجد غش، بالمساحة يوجد غش، بالعدد يوجد غش، مرّ عليه الصلاة والسلام برجل يبيع حبوباً فأعجبته الحبوب، أدخل يده فيها فرأى بللاً، أحياناً تشتري صندوق فاكهة تجد بداخله قطعة خشب ووزن الصندوق اثنان أو ثلاثة أو خمسة كيلو غرامات، تجده أحياناً يضع فيها قطعة حطب، قطع خشب كبيرة موضوعة في الصندوق، وأنت اشتريت الكيلو بخمس عشرة أو بعشرين ليرة هذا غش أيضاً، أو كلها منقوعة بالماء، تجد آثار الغش واضحة فنجد:

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ : يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ، مَا هَذَا؟ قَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟ ثُمَّ قَالَ : مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا ))

[ الترمذي عن أبي هريرة]

 ويوجد رواية أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بطعام وقد حسنه صاحبه، فوضع يده فيه فإذا هو طعام رديء فقال:

((بع هذا على حدة وهذا على حدة من غشنا فليس منا ))

[حسن عن عبد الله بن عمر ]

 الآن يقول: بالتجانس في التموين، التجانس بيع البضاعة الجيدة على حدة والسيئة على حدة، وكل شيء بسعر. أكثر شيء مؤلم كل أنواع الخضار والفواكه الطبقة الأولى من الصندوق من أروع ما يكون، وفي الأسفل قمامة، وجد الغش، أما لو قمنا بالتجانس درجة أولى، ثانية، ثالثة.
 باع ابن سيرين شاة فقال للمشتري: أبرأ لك من عيب فيها إنها تقلب العلف برجلها، لها عادة سيئة تقلب العلف برجلها.

 

كثرة الحلف مع البيع يزيد الحرمة فيه :

 الآن إذا كثر الحلف مع البيع تشتد الحرمة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم التجار عن كثرة الحلف بعامة، وعن الحلف الكاذب بخاصة، سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه كان إذا أقسم يميناً في البيع صادقاً دفع ديناراً صدقة، حتى لا يسمح لنفسه بالحلف:

﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾

[سورة المائدة:الآية 89]

 أما إذا كان كاذباً معنى هذا أن الإنسان خرج عن طريق الاستقامة، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 أولا: حلف بالله العظيم لأشياء خسيسة، وثانياً تغرير للشاري بأنه صادق.

 

تطفيف المكيال والميزان لون من ألوان الغش :

 من ألوان الغش تطفيف المكيال والميزان هذا من ألوان الغش. قال تعالى:

﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾

[سورة الأنعام: الآية 152]

حكى لي أخ قصة قال: أنا والدي من تجار الغنم، وأردت أن أنوب عنه بعد أن تقدم في السن، وأنا جاهل لا أعلم من الفقه شيئاً، قال له أحدهم: حلال أن تأخذ أموال البدو، فقال: ركبت سيارة وذهبت إلى البادية، واشتريت كمية من الصوف كبيرة، أردت أن أوهم صاحب الصوف أن الوزن دقيق فأقول له: هذه الجرزة ثلاثة وعشرون كيلو وخمسمئة غرام، سبع وعشرون وثلاثمئة غرام، هذا البدوي أول مرة في حياته يسمع الغرامات، فقال له: والله زين، لكن بعد أن انتهى من الوزن وجد الكمية مقدرة بثمانية أطنان، فكانت بعد الوزن خمسة أطنان، فقال له البدوي: إن شاء الله تجدها في صحتك، لم يقتنع بالكمية أما الغرامات فأحبها، فقال: ثم حملنا هذا الصوف ورجعنا، عندما قال البدوي: تجدها في صحتك خفت أنا أول مرة في حياتي، قال: دخلت في صراع مع نفسي، هذه في أعماق البادية، أعود وأعطيه الفرق، أتركه، أعطيه الفرق، دون أن يشعر أبلغه بأني لعبت عليه، قال: دخلت بصراع طويل، وانتهى الصراع عندما وصلت لمنطقة الضمير، قال: بالضبط أحاكي نفسي ضع في الخرج ماذا حدث؟ قال: والله لم أكمل هذا القرار الداخلي إلا وجدت نفسي في بركة من الدماء، السيارة انقلبت، والصوف تبعثر، والسمن ساح، والميزان انكسر، وأنا وسط بركة من الدماء، أسعفه الناس إلى خيمة قريبة، وانتقل إلى الشام بعدها، وسأل أحد العلماء في الشام فقال له: ارجع وأعطه الفرق، قال: والله رجعت وسامحني وأعطاني تنكة سمنة هدية، لكن متى حاسبه الله عز و جل؟ عندما اتخذ القرار.

﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴾

[سورة الزخرف:الآية 79]

 هذا ما قررته، ضع في الخرج، قف عندك.
 أحياناً الإنسان يقع في صراع فيتخذ قراراً فيعاقبه الله.

 

موضوع الوزن والكيل والمساحة والعددلا لعب فيه :

 لعب بعض الناس بالوزن والعدد والمكيال والمساحة يظنونها شطارة، لا يوجد شطارة، هذا حق، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( إذا وزنتم فأرجحوا))

[ ابن ماجه عن جابر]

 أحياناً يبيعك مثلاً مادة مرتفعة الثمن، الكيلو بأربعمئة ليرة، العلبة كرتون يبيع العلبة بأربعمئة ليرة، يبيعك أشياء ثمينة، كيس من النشاء فيه كميات كبيرة من الوزن، حتى أنه يوجد باعة يوجهون المروحة على الميزان، والمروحة تنشئ حركة في الميزان أحياناً إذا مالت إلى جهة الكفة ترجح، فموضوع الوزن والكيل والمساحة والعدد لا شطارة فيها يجب أن تؤدي الذي عليك وأنت صاغر و إلا تقع في الحرام، وإذا وزنتم فأرجحوا، وقال تعالى:

﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾

[سورة الأنعام: الآية 152]

﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾

[سورة الإسراء:الآية 35]

سورة المطففين جاءت في وسط الآيات المكية الدالة على عظمة الله :

 والله تعالى يقول:

﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾

[سورة المطففين: الآية 1]

 في وسط الآيات المكية الدالة على عظمة الله جاءت سورة المطففين، كأن الله أراد أن يقول: إذا طففت الكيل والميزان لا تنتفع بكل هذه الآيات، الإنسان عندما ينحرف يصبح على قلبه غشاوة، لكن يوجد أشياء من الصعب تلافيها، لو بعت زيت محرك ووضعته بالمحرك يبقى في المكيال شيء من الزيت لأن الزيت لزج، فوق طاقة الإنسان ألا يترك شيئاً، فيوجد أشياء معفو عنها لأنها فوق طاقة الإنسان:

﴿ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾

[سورة البقرة: الآية 233]

 العدل المطلق، المطلق لعله يصعب على بعض البشر، الشيء الذي لا تستطيع أن تفعله هذا معفو عنه، قوم سيدنا شعيب أهلكهم الله عز و جل لأنهم انحرفوا في الكيل والوزن،

﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾

[سورة الشعراء: الآية 181-182-183]

شراء المنهوب والمسروق من الأشياء المحرمة في البيع والشراء :

 الآن من الأشياء المحرمة في البيع والشراء شراء المنهوب والمسروق، وشراء المنهوب والمسروق مشاركة للناهب والسارق، يقول عليه الصلاة والسلام:

((من اشترى سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها ))

[أخرجه الحاكم في المستدرك وعنه البيهقي في السنن الكبرى وأبو القاسم الفضل بن جعفر المؤذن]

 كيف يعلم أنها سرقة؟ من سعرها، الآن إذا اشترى السلعة بأقل من ثمانين بالمئة من رأسمالها تعد مسروقة، يوجد في الشرع الإسلامي أن طول أمد المسروق والناهب لا يحله، لا يوجد عندنا في الإسلام تقادم، المسروق مسروق ولو بقي معك مئة عام، المسروق مسروق والمنهوب منهوب، فالإنسان يجب أن يتحرى أن يشتري شيئاً مسروقاً أو منهوباً أو مصادراً ظلماً.

 

أكل المال عن طريق الربا من المحرمات أيضاً في البيع والشراء :

 ثم إنه من المحرمات في البيع والشراء والتعامل أكل المال عن طريق الربا لقوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾

[سورة النساء: الآية 29]

 وأثنى الله جلّ جلاله على الضاربين في الأرض بالتجارة فقال:

﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾

[سورة المزمل: الآية 20]

 الحقيقة ومن أشد أنواع النهي هو النهي عن الربا قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ * وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة: الآية 278-279]

 لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((إذا ظهر الربا والزنى في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله))

[ الطبراني عن ابن عباس]

 من باب تمييع الموضوع في العهد القديم جاء: إذا افتقر أخوك فاحمله ولا تطلب منه ربحاً ولا منفعة، وفي الإنجيل: "افعلوا الخيرات وأقرضوا غير منتظرين عائدتها وإذن يكون ثوابكم جزيلاً"، ففي الأديان كلها الربا محرمة، لكن اليهود بعد أن حرفوا التوراة أباحوه لأنفسهم، أباحوا أكل الربا من غير اليهودي وحرموه على أنفسهم.

 

في الربا يلد المال المال وفي الكسب المشروع تلد الأعمال المال :

 أيها الأخوة: موضوع الربا تمت معالجته في هذا المسجد قبل أشهر أو قبل سنة فيما أعتقد، هناك ثمانية أشرطة، وهناك تفاصيل جميلة جداً وقتها قيلت، ولكن بشكل موجز، الآن نقول: الربا أكل المال بالباطل، أكل المال بلا عوض، المال ألصق شيء بالإنسان، المال قوام حياته، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه، والمال ينمو بالأعمال بالعوض، وينمو بالربا بلا عوض، والشيء الذي هو أصل في التحريم أنه لا يجوز أن تأخذ مالاً إلا بعوض، أما بلا عوض نما المال من المال، والذي سيحصل تجتمع الأموال بأيد قليلة، وتحرم منها الكثرة الكثيرة، وعندئذ كل أنواع الفساد الأخلاقي والاجتماعي والجرائم أساسها هذا الفرق الطبقي الكبير، في الربا يلد المال المال، وفي الكسب المشروع تلد الأعمال المال، الأعمال فيها منفعة، أنت صنعت أبواباً، صنعت ألبسة، زرعت أرضاً، أنشأت بناء، قدمت خدمات، قدمت حاجات، قدمت منافع، مقابل هذه المنافع ربحت، أصبح هذا المال الذي أخذته مقابل عوض أما في الربا فالمال ذاته يلد المال بهذه الطريقة من دون جهد، ومن دون إبداع، ومن دون تعب، ومن دون عوض، حينما ينمو المال نمواً ذاتياً عن طريق الربا تتجمع الأموال الطائلة في أيد قليلة وتحرم منها الكثرة الكثيرة، هنا محط الشاهد، أصل التحريم ألا يلد المال المال، وتحدثت عن هذا بالتفصيل في دروس سابقة، كيف أن المال إذا ولد المال فشت البطالة، شيء مريح جداً تضع مليون بالبنك تأخذ بالمئة ثمانية عشر، البنك أجنبي تأخذ في السنة مئة وثمانين ألفاً نقسمها على اثني عشر شهراً نجد أنه يأخذ خمسة عشر ألفاً في الشهر وهو مرتاح، لا مسؤولية، ولا وظيفة، ولا عمل، ولا دوام، لو كل إنسان ودع ماله في البنك، وأخذ الفائدة، لم يعمل، تشيع البطالة، أما الآن أفتح محلاً تجارياً إنك تشغل مئتي إنسان من أجل فتح المتجر بشكل غير مباشر، أنت بحاجة لفواتير، ولمن ينقل لك البضاعة، ومحاسب، وطباعة، وتغليف، وورق، وتنقلات، ومواصلات، وسفر، وفندق، لا يوجد إنسان يعمل بعمل إلا ويشغل معه المئات بل الألوف، أما إذا نما ماله عن طريق الربا فتشيع البطالة في المجتمع، والموضوع دقيق يحتاج إلى تفصيلات كثيرة جداً.

الربا يرفع الأسعار و يجمع الأموال بأيد قليلة ويحرم منها الكثرة الكثيرة :

 على كلٍّ أول شيء في هذا الموضوع الربا يرفع الأسعار، وعندنا قاعدة: السعر إذا ارتفع الشريحة المستفيدة تصغر، أوضح مثل لو أن فاكهة الكيلو منها بمئة ليرة كم إنسان بالشام يشترون منها؟ كم إنسان يشترون فاكهة بمئة؟ 

بـسبعين؟ بخمسين؟ بأربعين؟ بثلاثين؟ بعشرين؟ بعشرة؟ بخمسة؟

إذا الكيلو بخمسة ليرات معظم الناس يشترون، فكلما ارتفع السعر تضيق شريحة المستفيدين منه، إذا ارتفعت الأسعار والشريحة ضاقت وجد فرق طبقي كبير جداً، وجد كثرة كثيرة محرومة، وقلة قليلة منعمة، هذا الفرق الطبقي الكبير يسبب اضطرابات، وجرائم، وسرقات، وحرمان، إلى أن ينتهي بالثورات، أساسه الفرق الطبقي، لذلك عندما نهى الله عز وجل أشد النهي عن أكل الربا لأنه طريقة من طرق تجميع الأموال بأيد قليلة وحرمان الكثرة الكثيرة منها، مثلاً لو لم توجد الربا في الأرض يمكن أن نضع الأموال في مشروع تجاري نربح بالمئة عشرة، أما إذا كان أي مصرف يعطي بالمئة ثمانية عشر من دون جهد، من دون ضرائب، من دون مسؤولية، من دون أخطاء، من دون مغامرة، فأصبح إذا وضع إنسان أمواله من أجل أن يستثمرها في مشروع تجاري، أو صناعي، لا يرضى ربحاً بأقل من خمسين بالمئة، مادام يوجد ثمانية عشر مضمونين بلا جهد معنى هذا أنه لِيغامر برأسماله يريد أربعين بالمئة، أما لو لم توجد الربا بالأساس يمكن أن يقنع الإنسان بربح خمسة عشر بالمئة، معنى هذا أن الأسعار هبطت، وإذا هبطت الأسعار الشرائح المستفيدة توسعت، وعمّ الخير، قضية معقدة جداً، كلما ارتفع السعر ازداد الفرق الطبقي في المجتمع، معنى هذا أن الربا يسهم في رفع السعر، ويسهم في البطالة، لأن الأعمال تلد الأعمال، أما نمو الأموال ربوياً فيعطل الأعمال، عندما يكون القرض ربوياً لا يوجد مكان للقرض الحسن، ينقطع الخير، إذا كل قرض ربوي أصبح القرض الحسن فيه خسارة كبيرة، ينعدم الخير في المجتمع، هذه قضية أخلاقية.
 يوجد شيء آخر: دائماً المقرض غني والمقترض فقير، فالفقير على فقره عليه أن يرد القرض مع الفائدة المركبة، فأرهقناه، وسحقناه، هذه قضية أخلاقية أيضاً، وهذا التحريم لا يتجه إلى آكل الربا بل إلى موكله الذي ساهم في إشاعة الربا، لذلك لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه.
 طبعاً البحث مختصر لأننا مررنا عليه بشكل مفصل جداً في ثمانية دروس متعلقة بموضوع الربا مع التفاصيل والأدلة القوية، والآن مرورنا على الموضوع كان مروراً سريعاً.
 وفي درس آخر إن شاء الله ننتقل لموضوع الدين الذي هو بديل الربا، القرض الحسن.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور