- الفقه الإسلامي / ٠6العبادات التعاملية
- /
- ٠3الحلال والحرام
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون الذكر فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
معرفة منهج الله أخطر موضوع على الإطلاق بعد الإيمان بالله :
أيها الأخوة المؤمنون: مع الدرس الرابع من دروس: "الحلال والحرام في الإسلام"، وقد بينت لكم في دروس سابقة أن أخطر موضوع على الإطلاق بعد الإيمان بالله أن تعرف منهجه، وأن تحمل نفسك على سلوك ذلك المنهج، بل إن الإنسان إذا عرف الله عز وجل لا يشغله شيء إلا أن يبحث عن أمره ونهيه، والله سبحانه وتعالى يبين أن المرجح الوحيد بين الخلق هي الطاعة والتقوى، حين قال:
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
وليس الولي الذي يطير في الهواء، وليس الولي الذي يمشي على وجه الماء، الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، الولي كل الولي أن يراك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك.
يوجد سلوك أبحث عن اسم له -سلوك استعراضي- أن تضع المصحف في جيبك، أن تعلقه في مركبتك، أن تضعه في بيتك، إن هذا سلوك استعراضي، إذا لم يكن هناك طاعة حقيقية لله عز وجل فهذا السلوك الاستعراضي لا يقدم ولا يؤخر.
سبيل تعظيم الله تعظيم أمره ودليل محبتك له طاعته :
كن عميقاً، تعلق بجوهر الدين، اقتدِ بأصحاب رسول الله الذين -رضي الله عنهم- لأنهم كانوا عند الأمر والنهي، ومن صفات سيدنا الفاروق -عملاق الإسلام- أنه كان وقافاً عند كتاب الله.
فلذلك موضوع الحلال والحرام، هذا الموضوع قد لا يلفت نظر الذين قصروا في معرفة الله، لأن شرف الأمر من شرف الآمر، فكلما عَظُم الله عندك عظم أمره، وكلما جلَّ ربك في عينك جلَّ أمره أيضاً، فسبيل تعظيم الله تعظيم أمره، ودليل محبتك له طاعته، بل إن الله تعالى جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقياساً لمحبته، فقال:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾
من هذا المنطلق بدأنا هذه السلسلة من الدروس، نتحدث فيها عن الحلال والحرام، كان موضوع الدرس الماضي الحلال والحرام في الأطعمة، وبينت كيف أن الله سبحانه تعالى حرم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَ به لغير الله.
الملبس والزينة في حياة المسلم :
واليوم ننتقل إلى جانب آخر من جوانب حياة المسلم، ألا وهو الملبس والزينة، فالإسلام أباحها للمسلم، بأن يكون ذا هيئةٍ حسنة، لا أدري لماذا استقر في عقول الناس في العصور الوسطى أو عصور الانحطاط إن من علامات المسلم الولي أن تكون هيئته مزرية، من قال لك ذلك؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا شامة بين الناس ))
إصلاح حال ثيابك، إصلاح شأنك، وإصلاح ثيابك، والتجمل من الدين، فلذلك أباح الإسلام للمسلم أن يكون ذا هيئة حسنة، وأن يكون كريم المظهر، أنت سفير -سفير أي دولة - سفير الإسلام، أنت عند الناس مسلم، والمسلم يجب أن يكون حسن المظهر، جميل الهندام، متمتعاً بما خلق الله له من زينةٍ، وثيابٍ، وريش، من دون إسراف، ولا مخيلةٍ، ولا عُلُوٍ على الناس، إلا أن المظهر جزءٌ من شخصيتك، بل إن علماء النفس يقولون: "الإنسان إذا اعتنى بمظهره فهذا يظهر في قوة شخصيته".
إذا وجد خطأ في ثيابك، أو خطأ في هندامك، أو خطأ بشكلك العام، أي لست مهتماً بشعرك، ولست مهتماً برائحتك، و لست مهتماً بنظافتك، هذا مما يضعف شخصيتك، وقد يربكك في الكلام، أحد أسباب الحبسة في الكلام ضعف الثقة بالذات، وأحد أسباب قوة الشخصية الهندام الحسن، فلذلك ليس غريباً أن يكون المؤمن ذا هندام حسن، و ذا مظهر طيب ومقبول.
الغرض من الثياب :
أيها الأخوة الكرام: الغرض من الثياب بشكل بديهي أمران؛ ستر العورة والتزين به، والله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بما هيأ له من لباس ورياش. من خلق القطن؟ الله جلّ جلاله، من خلق الصوف لننتفع به؟ الله جلّ جلاله، إنّ ما ننعم به من ثياب إنما هي من خلق الله عز و جل، لكنه أكرمنا بأن ألهمنا أن نغزلها، وأن ننسجها، وأن نخيطها، وأن نصبغها، كي نتزين بها.
الحقيقة يوجد في الإنسان شيء عجيب، الإنسان خلق عارياً لكن الله أعطاه هذا الفكر فصنع به أجمل الثياب، خلق بلا مأوى أعطاه الله هذا الفكر فسكن أجمل البيوت، الله عز و جل عندما أعطى الفكر للإنسان أعطاه كل شيء على الإطلاق، فبه لبس أحسن الثياب، و به سكن أجمل البيوت، وبه انتقل بسرعة عن طريق مركبات اخترعها، هذا الفكر كرم الله به الإنسان، وهو أثمن عطاءٍ على الإطلاق، إلا أنه ينبغي أن تعمله لما خُلق له، هذا الفكر خلق من أجل أن تعرف الله عز و جل من خلاله.
إذاً التستر والتزين، والإنسان إذا انحرف عن هذين الشرطين فقد استجاب لنداء الشيطان قال تعالى:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾
صار التعري من لوازم الكفر.
ارتباط ثياب المرأة بدينها
ارتباطاً وثيقاً
:
موضوع الثياب متعلق بالدين ولاسيما المرأة، فالمرأة كل سنتمتر من ثيابها يقابله زيادة في إيمانها، فالمرأة بالدرجة الأولى ثيابها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدينها وإيمانها، فكلما تسترت ارتقت عند الله، وكلما تبذلت سقطت من عين الله، لأنه حينما تتبذل تصبح مؤذيةً لخلق الله لا إيذاء سلبياً بل إيذاء إيجابياً، تغريهم به- في الطريق شاب أعزب، في الطريق رجل متزوج أو امرأته مريضة - فهذه التي تبدو في أجمل زينة في الطريق هذه تؤذي عباد الله عز وجل.
فيمكن أن نقول: إن دين المرأة مرتبط بثيابها، طبعاً مرتبط بثيابها بعض الارتباط، لو رأيت طالباً في الطريق يرتدي ثياب الفتوة، أقل ما يشير إلى أنه طالب علم هذه الثياب، قد يكون فاشلاً في دراسته، قد يكون راسباً، قد يكون مفصولاً، لكن أقل ما يشير إلى أن هذا الطالب طالب هو الثياب، والمرأة أقل ما يؤكد انتمائها للدين حجابها. هل يكفي الحجاب وحده؟ لا يكفي.
لكن أقل أشارة إلى أنها مسلمة ثيابها، أما أعلى إشارة حبها لله، طلبها للعلم، رعايتها لزوجها، عنايتها بأولادها، معرفتها بربها، إخلاصها لزوجها، لكن أقل دليل على أنها امرأة مسلمة حجابها.
فموضوع الحجاب -الحجاب للمرأة- وموضوع التستر للرجل هذا مرتبط بدينه، فالكافر دوماً يميل إلى التعري، إلى كشف العورات، إلى التبذل، إلى إثارة الشهوات، لذلك ليس غريباً أن أقول لكم: إن الانحرافات الخطيرة في العلاقات بين البشر أساسها التبذل. فالزنا أساسه تبذل المرأة، والخلوة، والاختلاط.
الانحرافات الخطيرة في العلاقات بين البشر أساسها التبذل :
حتى إن الانحرافات الخطيرة في الجنس أساسها التبذل - تبذل امرأةٍ أمام امرأةٍ ربما قادهما إلى الانحراف، وتبذل شابٍ أمام شابٍ ربما قادهما إلى الانحراف - لهذا قال عليه الصلاة والسلام:
((الفخذ عورة ))
دقق الانحرافات الخطيرة، رجل يحمل دكتوراه في بلد عربي، أرسل ابنه إلى بلد غربي -إلى أمريكا- بقي سنوات عدة، ثم فوجئ الأب بأن ابنه يعلمه أنه تزوج، وأنه ينتظره في أمريكا ليهنئه بهذا الزواج، ذهب الأب، طرق باب ابنه، ففتح الباب، فصعق، ابنه تزوج ولكن ليس هو الزوج، إنه الزوجة، زواج شاذ، أصيب بجلطة مباشرة، لو سألتني الانحرافات الخطيرة بين الشباب والفتيات بعد الزنا، الزنا معروف بين رجل وامرأة، الانحرافات الخطيرة بين الشباب والفتيات أساسها كشف العورات والتبذل، فيجب أن نعتقد أن الثياب جزء من الدين.
المؤمن الصادق يحصن نفسه من خطرين شديدين؛ المرأة والمال :
الآن: الإنسان يرتدي أقل الثياب لا يبالي بنظر الناس له، هذا أيضاً لا يجوز، فلذلك قال الله تعالى:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾
إن هذه الشهوة الجنسية التي أودعها الله في الإنسان من أجل أن يكوّن أسرة، تثمر ولداً صالحاً، أو فتاة صالحةً، أن يكون الوئام بين الزوجين، هذه الشهوة بإمكان أي إنسان حقير أن يفجرها بالعري، والصور المكشوفة، والأعمال الفنية الساقطة، والتقاط المحطات الفضائية.
فهذا الذي يفجر الإنسان تفجيراً إنه كاللغم، إنسان حقير يعطيه عود ثقاب ينفجر.
لذلك نرى في الإسلام أحكاماً كثيرة جداً متعلقة بالمرأة، وأحكاماً كثيرة جداً متعلقة بكسب المال؛ منطقتان خطيرتان يؤخذ منهما الإنسان؛ المرأة والمال، والمؤمن الصادق يحصن نفسه من هذين اللغمين الذين ربما أوديا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( استوصوا بالنساء خيراً ))
(( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ))
لذلك سماها النبي عليه الصلاة والسلام :
(( حبائل الشيطان ))
والمال أيضاً يعتبر مادة الشهوات، فلذلك المؤمن يحصن نفسه من هذين الخطرين الشديدين؛ المرأة والمال.
للثياب وظيفتان؛ الستر و التزين :
إن قول الله عز و جل:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾
وقوله عز و جل:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾
يوضح الله عز و جل في هاتين الآيتين أن للثياب وظيفتين؛ وظيفة الستر و وظيفة التزين. فإذا انتقى الإنسان لوناً جيداً لا مانع من ذلك، وإذا ارتدى ألواناً متناسبة لا مانع أيضاً، و إن اختار ألواناً هادئة لا مانع أيضاً، فضلاً عن أن هذا الثوب يستر عورته، إذا اجتهد في حسن اختيار اللون فهذا شيء غير محرم، إنه يحقق هدف الزينة.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد أصحابه سأله.
((قلت: يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض، قال: "إن استطعت ألا يراها أحد فلا يرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا، قال: "فالله أحق أن يستحيا منه))
التستر جزءٌ من الدين :
إذاً كما قدمت لكم: التستر جزءٌ من الدين، والفسق والمعصية تميلان إلى التعري، وإذا بلغ الفجور أقصى حده تنشأ نوادي العُراة حيث يكون الإنسان فيها كالبهيمة.
سبحان الله! قضية ذوقية، الإنسان جميل بالثياب، وبشع بلا ثياب، ولكن الأذواق سقطت في وحُولِ الشهوات، حتى المرأة جمالها في حشمتها، وفي ثيابها السابغة، فإذا تبذلت سقطت من عين الناس.
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل، ثم رجع، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:
(( أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟ ))
وكأنه الآن يوجد اتجاه للشعر الثائر والمبعثر - أحدث صرعة في تصفيف الشعر - الأذواق هبطت، الأذواق الثابتة أصبحت ساقطة.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( تنظفوا فإن الإسلام نظيف))
هذه كلمة مطلقة – يقولون: فلان نظيف - قد تعني أكثر من أنه نظيف البدن، واضح، علاقاته واضحة، سره كعلانيته، لا يوجد عنده خبث ولا خداع، مبادئه صريحة، ووسائل مبادئه أوضح من مبادئه.
النظافة تدعو إلى الإيمان والإيمان مع صاحبه في الجنة :
على كلٍٍّ: تنظفوا فإن الإسلام نظيف، والنظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة، ويبدو أن المؤمن إذا تنظف كأنه تقرب إلى الله عز و جل، كيف؟ لأن الله عز و جل يقول:
﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾
الله يحب الطاهر، إذا نظف الإنسان جسمه وبالغ في الاستحمام، تعطر وارتدى ثياباً نظيفة، تأنق فيها، اعتنى بها، فهذا من الدين، أليس عاراً أن يكون الفاسق الفاجر الكافر أشد نظافة وأناقة من المؤمن؟ أليس هذا عاراً على المؤمنين، أليس عاراً أن يكون متجر الكافر مرتباً نظيفاً منظماً ومتجر الإنسان المسلم مضطرباً فيه الفوضى والغبار أيليق هذا بالمسلم.
على كلٍّ: النظافة عامة، النبي عليه الصلاة والسلام حث على نظافة الثياب ونظافة الأبدان ونظافة البيوت ونظافة الطرق وعني خاصة بنظافة الأسنان ونظافة الأيدي ونظافة الرأس وهناك أحاديث كثيرة.
الوضوء وطهارة البدن والثياب والمكان أول فريضةٍ تعبديةٍ شرطها النظافة :
هل تصدقون أنه في العالم الآن ثلاثمئة مليون إنسان مريض بسبب القذارة، ثلاثمئة مليون إحصاء منظمة الصحة العالمية مصابون بأمراض القذارة، التهابات الأمعاء وما إلى ذلك. وهل تعجبون أن النظافة جعلها الله مفتاحاً وشرطاً لأول فريضة تعبدية في الإسلام وهي الصلاة، الصلاة عماد الدين شرطها الطهارة، الوضوء، وطهارة البدن، وطهارة الثوب، وطهارة المكان، هذه هي الصلاة، هل تستطيع الصلاة على مكان نجس؟ هل تستطيع الصلاة في ثياب نجسة؟ في بدن نجس؟ لا تستطيع.
الوضوء، وطهارة البدن، والثياب، والمكان، أول فريضةٍ تعبديةٍ على الإطلاق، شرطها النظافة.
رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلاً شعثاً قد تفرق شعره فقال:
(( أما كان يجد ما يسكن به شعره؟ ))
ورأى رجلا آخر وعليه ثياب وسخة فقال:
(( أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه؟ ))
يتحدث النبي عليه الصلاة والسلام بلطف.
أول انطباع للإنسان يكون عن الشكل ثم المنطق ثم المعاملة :
الذي أريده أنت مؤمن، و أنت محسوب على المؤمنين، مظنة إيمان عند أهلك، عند أخوتك، عند أصحابك، عند جيرانك، عند زملائك في حيكَ - هذا مسلم يحضر دروس علم - فهذا الإنسان بالذات ينبغي أن يكون في أعلى درجة من النظافة والأناقة، أنا لا أقول أن تلبس ثياباً فخمة غالية أبداً، يمكن أن ترتدي أرخص ثوبٍ لكنه نظيف. يمكن أن تختار ألواناً متناسبة - أيليق بإنسان يؤم الناس في المساجد أن يركب دراجة وحذاء بلا جوارب وبلا رباطات، ويرفع ثوبه مظهراً ملابسه الداخلية، هل يليق بالإنسان هكذا - أهكذا المؤمن؟ يقول لك درويش، ليس هذا هو الدين:
(( أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة بين الناس ))
أساساً الشخص إذا التقى بشخص آخر أول مرة يتفحصه من هيئته فقط، أول انطباع الشكل، الأناقة، النظافة، الشعر، الثوب، الترتيب، أول انطباع، عندما يتكلم الإنسان ينسى الناس ثيابه وينتبهون لكلامه، وعندما يعاملهم ينسون كلامه.
أولاً: الشكل ثم المنطق ثم المعاملة.
قال: أتعرفه؟ قال: نعم أعرفه، قال: هل جاورته؟ قال: لا، قال: هل عاملته بالدرهم والدينار؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: أنت لا تعرفه، يا هذا إني لا أعرفك لكن سيدنا عمر كان أديباً، فقال له: ولا يضرك أني لا أعرفك.
على الإنسان ألا يصغر نفسه أمام إنسان لا يعرف الله :
هناك نقطة أريد لفت النظر إليها: المسلم لا يصغر نفسه أبداً، فكلمة واحدة يصغر بها الإنسان، أو إلحاح يصغر فيه، أو يطمع بشيء ما فيسقط، فالطمع أذل رقاب الرجال.
وسعنا الدائرة الآن نتجاوز الثياب، والهندام، والأناقة، والنظافة، فالإلحاح على طلب الشيء بعض الأحيان يصغرك - قال له يا هذا: لقد ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع منك - اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير، لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))
ونوسع الموضوع فنقول: إياك أن تصغر نفسك أمام إنسان لا يعرف الله، أحياناً الابتسامة الزائدة تضعف مركزك، أحياناً الانحناء، ولم الانحناء؟ ارفع رأسك، فكلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرب أجلاً.
الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده :
((أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَوْبٍ دُونٍ فَقَالَ : أَلَكَ مَالٌ؟ قَالَ : نَعَم؟ قَالَ: مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ قَالَ : قَدْ أَتَانِيَ اللَّهُ مِنَ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ. قَالَ : فَإِذَا أَتَاكَ اللَّهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ))
إنه ميسور الحال، لمَ هذا المظهر الذي لا يليق بك؟ لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليك، للعوام مثل لطيف: الذي لا يمتلك القديم لا يمتلك الجديد. فالنبي الكريم قال:
((ما على أحدكم إن وجد سَعَة أن يتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته))
عندك ثياب لعملك اليومي، وثياب ليوم الجمعة، فيوم الجمعة عيد - دعيت إلى عقد قران، إلى احتفال، إلى لقاء، إلى سهرة - يكون هذا الثوب جديداً خاصاً للقاءات، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعل هذا، له ثياب يرتديها يوم الجمعة، وعند لقاء الوفود، وكان عليةَ قومه يفعلون كذلك. بل إن القرآن الكريم يقول:
﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾
من حرم هذه؟
تحريم الذهب و الحرير على الرجال :
وما نزال في موضوع الثياب فهناك شيئان محرمان على الإنسان في موضوع الملبس والزينة، أولاهما: التحلي بالذهب، وثانيهما: لبس الحرير، فعن علي كرم الله وجهه قال:
((إن نبي الله صلى الله عليه و سلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي))
سمعت مرةً مقالة علمية موثقة عن ضرر الذهب للرجال بالذات، وعن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
((لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ))
وقال صلى الله عليه وسلم في حلة الحرير:
(( إنما هذه لباس من لا خلاق له ))
ورأى النبي خاتماً من ذهبٍ في يد رجل فنزعه وطرحه في الأرض وقال:
((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده))
فقيل للرجل بعدما ذهب النبي: خذ خاتمك انتفع به، بعه، قال: لا والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرى الآن الخاتم، والقلم، والقداحة، والساعة، كلها ذهب تعتبر هذه للرجل العصري.
إباحة النبي الكريم التختم بالفضة :
أما التختم بالفضة فقد أباحه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام البخاري عن ابن عمر قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من وَرِق، و الوَرِق هو الفضة، وكان في يده، ثم كان بعد في يد أبي بكر رضي الله عنه، ثم كان في يد عمر رضي الله عنه، ثم كان بعد في يد عثمان، ثم وقع بعد في بئر أريس، أما المعادن كالحديد فلم يرد نص صحيح في تحريمها، لكنه ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أراد الزواج من امرأة وهبت نفسها له:
((التمس ولو خاتماً من حديد))
لكن إذا كان هناك أمراض جلدية وعلاجها الحرير فلا مانع، لبس الحرير لعلة علاجية من مرض جلدي لا مانع من ذلك.
الحكمة من تحريم الذهب والحرير :
قد يسأل أحدكم: ما حكمة تحريم الذهب والحرير؟
هناك أهداف كثيرة، أحد هذه الأهداف أن هذا الدين العظيم دين القوة والجهاد، ولبس الحرير والذهب من قبل الرجال يضعضع مكانتهم القوية، اقتربوا إلى النعومة، إلى التخنث، إلى الاسترخاء، إلى التجمل، فالذهب والحرير يضعفان في الرجل قوته وجهاده و عزيمته، أو كأنه بالذهب والحرير ينافس النساء، ويتقرب إليهن، ويتشبه بهن.
وهناك شيء آخر لي صديق تقدم لنَيل شهادة عليا في جامعة غربية، قال لي: كان يوجد مادة تسمى التربية والمستقبل، واستقدموا لهذه المادة أستاذاً من بلاد بعيدة، هذه المادة حينما درسها في هذه السنة لفت نظره شيء، ملخص هذه المادة أن المجتمع البشري يجب أن يرشِّد الاستهلاك وإلا يدفع الثمن باهظاً، كيف؟ افتح خزانة ثياب امرأة كم ثوب لا تلبسه؟ ما العلة؟ لبسته في حفلة سابقة، هذه الثياب لها ثمن باهظ، مدفوع ثمنها، مخيطة فيها كلف، استهلكت جهداً بشرياً كبيراً، تلبس مرة أو مرتين وتلقى في الخزانة، هذا إسراف في استهلاك خيرات الأرض، هذا الاستهلاك الشديد سببا الآن الفقر الشديد، أي أحد أسباب اختلال التوازن في الموارد هذا الاستهلاك غير المرشد، وأساساً كل إنسان يستهلك المواد استهلاكاً غير مرشد هذا سفيه، يحكم عليه بالسفاهة، ولا أكتم أن الأقوياء نظروا إلى هؤلاء الأغنياء أصحاب الثروات النفطية، فرأوا أنهم لا ينفقون أموالهم إنفاقاً حكيماً، إنفاقاً فيه التبذير والإسراف، شيء غير معقول، لذلك أرادوا أن يأخذوا هذه الأموال بطريقةٍ أو بأُخرى، إنفاق المال بشكل غير مرشّد دليل سفاهة الإنسان، سماه الله عز وجل سفيهاً فقال:
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾
الإسراف والتبذير موضوع يجب أن يعالج معالجة دقيقة :
كل إنسان يبالغ في الإنفاق بشكل يستهلك هذه المواد التي أكرمنا الله بها استهلاكاً غير مرشدٍ هذا يحكم عليه بالسفاهة.
ولقوله تعالى:
﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا﴾
ولقوله تعالى:
﴿ وما أرسلنا في قريةٍ من نذيرٍ إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ﴾
أقول لكم هذا كثيراً، ثماني آيات حصراً في كتاب الله قُرن الكفر بالترف، وذكرت ذلك سابقاً، أنت دخلك هكذا، وحاجتك الأساسية هكذا، طعام وشراب ولباس وبيت ومركبة، وهناك فائضٌ كبير، هذا الفائض يمكن أن تصل به في الجنة إلى أعلى عليين، استهلكته بأشياء تافهة لا تقدم ولا تؤخر في الحياة الدنيا، لو يعلم الغني كم يرقى إلى الله بماله، كم يحل آلاف المشكلات بماله، كم يسعد بإنفاق ماله، لأخذ حاجته، وأنفق الباقي في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى يعده وعداً أكيداً أن يخلف عليه ما أنفقه.
إن موضوع الإسراف والتبذير موضوع يجب أن يعالج معالجة دقيقة.
كنت في بعض البلاد قبل أسابيع، لفت نظري أن رقم السيارة إذا كان دون الخمسين سعره مئة ألف درهم أي مليون ليرة - رقمك سبعة وخمسون - ما هذه القيمة العظيمة؟ رقم سيارته سبعة وخمسون يدفع سعرها مليون ليرة، كم إنسان تحل مشكلته بهذه المليون ليرة؟ فالإنسان عندما يبتعد عن الله عز وجل يتعلق بقيم مضحكة - فليكن رقم سيارتك خمسة عشر ألفاً ماذا يحدث؟ ألا تسير إلا على السبعة والخمسين- شيء ليس له معنى، وعندنا في هذه البلاد أصبحت ليلة الزفاف تكلف عشرين مليوناً، زفاف بعشرين مليوناً؟ كم إنسان تحل مشكلته بهذه الملايين؟ يجب أن نعتقد اعتقاداً يقينياً بقوله تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ﴾
إذاً: الكفار كانوا إخوان الشياطين هذا قياس منطقي، كل إنسان فان، سقراط إنسان، سقراط فان. تعلمناها بالمنطق الصوري.
الله تعالى حرم التبذير و نهانا عن الإسراف :
إذاً قول الله تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ﴾
يؤكد بأن المبذرين كفار، فلذلك ينفق الإنسان كما أمره الله حين قال:
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾
في كل شيء، اسكن في بيت، وارتدِ الثياب، وتناول الطعام، وربِّ أولادك، وألبسهم، وأطعمهم، لكن بالمعقول، بالاعتدال، من دون أن تفسدهم، من دون أن تجعلهم يتكبرون على الناس، فالإسراف يجب أن يعالج، الإسراف في المباحات، والتبذير في المعاصي، فكما أن الله تعالى حرم التبذير نهانا عن الإسراف، يقولون: غني! وإذا كان معك أموال طائلة! هل يجب أن تستهلكها بأهداف خسيسة؟
المسلم وقاف عند كلام الله يحل ما أحلّ الله ويحرم ما حرم الله :
على كلٍّ في درس آخر إن شاء الله ننتقل إلى موضوع: إباحة الذهب والحرير للنساء فيه حكمة بالغة، هذان محرمان على الرجال، محللان للنساء، ولازلنا في موضوعات متعلقةٍ بلباس المرأة المسلمة، و موضوعات أخرى متعلقة باللباس والزينة، وهذه كما قلت لكم من صلب الدين، الحلال والحرام من صلب الدين، وعلامة إيمانك بالله سعيك الحثيث لمعرفة حكم الله في كل شيء، وعلامة صدقك في طلب الحق تطبيقك لما عليك من حكم الله، مشروع أُطبق، غير مشروع لا أُطَبق.
في الحقيقة العصر الحالي عصر زينة، عصر زخرف، قال الله تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) ﴾
فكلوا واشربوا ولا تسرفوا، والمسلم وقاف عند كلام الله، يحل ما أحلّ الله ويحرم ما حرم الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ويركل بقدمه كل التقاليد والعادات التي تتناقض مع دينه، له إلهٌ واحد لا يعبد غيره، لا يعبد التقاليد، ولا المظاهر، ولا العادات.