- الفقه الإسلامي / ٠6العبادات التعاملية
- /
- ٠3الحلال والحرام
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون الذكر فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المسكن والبيت :
أيها الأخوة الكرام: نحن في الدرس السادس من سلسلة دروس: "الحلال والحرام في الإسلام"، وقد قلت كثيراً: إن أخطر موضوع بعد معرفة الله عز وجل الحلال والحرام، لأنك إذا عرفته تشعر باندفاع قوي إلى أن تبحث عن أمره، وتطبق أمره، وطلب الفقه حتم واجب على كل مسلم، انطلاقاً من معرفته بالله عز وجل، وانطلاقاً من حبه له، وانصياعاً لأمره، عليه أن يعرف أمره, كيف تأتمر بأمره إذا لم تعرف أمره؟ كلام عام ائتمروا بأمر الله، أطيعوا الله، كلمة أطيعوا الله من لوازمها أن تعرف أمر الله، أن تعرفوا حكم الله، أن تعرفوا الحلال، والحرام، والمكروه، والمندوب، والمباح، والواجب، في الدروس السابقة تحدثنا عن الحلال والحرام في المطعم والمشرب، وانتقلنا إلى الملبس، وإلى الزينة، واليوم ننتقل إلى المسكن والبيت.
فمن حق المؤمن أن يكون له مكان يؤويه من عوامل الطبيعة، ويشعره بالخصوصية، والحرية، والاستقلال، الإنسان لو سكن مع إنسان آخر لا يشعر بالخصوصية أبداً، أحياناً يكون الإنسان في سفر مع شخص هذا الشخص يقيد حريته، المنزل والمأوى للمؤمن كما ورد: جنة المؤمن داره، داره يقيه من عوامل الطبيعة، من الحر، والقر، والرياح، والمطر، ويشعره بالخصوصية، ويشعره بالاستقلال والحرية، والعوام لهم أقوال كثيرة في البيت: البيت مأوى.
ومرة ملك سأل وزيره فقال له من الملك؟ قال: أنت، قال: لست أنا، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيت يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزق يكفيه.
المسكن من نعم الله عز وجل على العبد :
الإنسان في البيت يستريح، وتسكن النفس في البيت، لذلك سمي البيت سكناً، لكن ضجيج المدينة ألغى هذه الصفة في
البيت، لا تستطيع أن تنام، ضجيج مستمر، لكن لا يسمى السكن سكناً إلا إذا خيم عليه السكون
لذلك الإنسان إذا ذهب إلى الريف، ونام في بيت بعيد عن الضوضاء، والضجيج، يشعر بخدر في أعصابه، بسبب السكون، والأذكياء والعقلاء يسكنون في أماكن هادئة، وهناك أخوة كرام يسكنون خارج دمشق ينعمون بنعمة السكون والهدوء ولا يعرفها إلا من فقدها، والمؤمن دائماً يعرف ما عنده، الهواء النقي، والماء النقي، هذا من نعم الله على العبد، الله جلّ جلاله يقول:
﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين*﴾
كيف أن الزوجة سكن، والبيت سكن، إذا اجتمع البيت مع الزوجة صار سكناً وسكناً، وهذه نعم كبرى ينبغي أن نشكرها، الذي يملك مفتاح بيت؛ ملك، أجرة، صغير، كبير، عال، منخفض، قريب، بعيد، معك مفتاح مأوى مساءً تأوي إليه، ولا يعرف قيمة المأوى إلا من فقد المأوى.
مرة حدثني أخ قال: كنت في بلد في أيام الصيف، ازدحام سياحي شديد، قال: منذ الظهيرة وحتى الساعة الواحدة في الليل وأنا أبحث عن مكان أنام فيه، لا فندق خمس نجوم ولا أربع ولا ثلاث ولا اثنين ولا واحد، ولا غرفة، ولا مكان، ولا أي مكان، ما عرفت قيمة المأوى إلا في هذه الساعة، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيته يقول: "الحمد لله الذي آواني وكم من لا مأوى له"
أية نعمة أنت فيها عليك أن تشكرها لا أن تذمها :
نحن في نعم كبرى، أيها الأخوة! اذهبوا إلى آسيا نصف الشعب يسكن في الطرقات، وفي الطرقات ينجبون الأولاد على الأرصفة، في الساحات العامة، على قوارب في الأنهار، تحت ظلال الأشجار، في الغابات، في الكهوف، وفي بعض الدول الفقيرة يسكنون في المقابر، ويحملون شهادات عليا، فلذلك نحن في نعمة كبرى، الذي يملك مفتاح بيت، الحمد لله الذي آواني وكم من لا مأوى له .
والإنسان لا يذم بيته، لو فقده يبكي عليه، أية نعمة أنت فيها عليك أن تشكرها لا أن تذمها، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما يتحدث عن سعادة الدنيا يقول:
((أربع من السعادة : المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء))
مركب هنيء، وزوجة صالحة، وجار صالح، ومسكن واسع، وهناك أقوال أخرى: "من سعادة المرء في الدنيا أن تكون زوجته صالحة، وأولاده أبراراً، ومنزله واسعاً، ومركبه وطيئاً، ورزقه في بلده".
المؤمن دائماً يعرف ما عنده، ما لا ينقصه، والمنافق يبحث عن الذي ينقصه، دائماً ساخط على ربه، دائماً يتطلع إلى ما عند الآخرين، دائماً يندب حظه يشعرك أنه محروم، لكن المؤمن الصادق يضع يده على النعم التي هو فيها، كان عليه الصلاة والسلام تعظم عنده النعمة مهما دقت.
إذا شرب كأس ماء هذا الطريق سالك، وإخراجه سالك، لا يوجد حصر بول ولا يحتاج إلى تمييل، ولا إلى عملية في المثانة، والكلية تعمل.
قال لي أخ: له قريب توقفت كليتاه عن العمل ذهب لغسل كليتيه، قالت له الممرضة بعنف وقسوة: إياك أن تشرب الماء هذا الأسبوع الآلة معطلة، الذي يشرب الماء الفرات براحة وبلا حساب هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها:
((أربع من السعادة : المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء))
وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي، فقيل له: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟ فقال عليه الصلاة والسلام: وهل ترك هذا الدعاء شيئاً"
النظافة من صفات المؤمن :
إلا أنه المؤمن من صفات إيمانه أن النظافة تتعلق ببدنه، وتتعلق بثوبه، وتتعلق ببيته وأثاث بيته، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ))
المؤمن إذا دخلت إلى بيته تفوح من بيته رائحة النظافة، النظافة لها رائحة، التنظيف المستمر للبيت يشعر براحة، مرة دخلت إلى بيت مهمل يسكنه شباب غير متزوجين، هناك رائحة مستمرة في هذا البيت، رائحة القذارة، القذارة لها رائحة مستمرة في البيت، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((...فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ))
الأفنية جمع فناء وهو بهو البيت أو ساحته.
تنظيف البيت جزء من دينك، تنظيف أثاث البيت جزء من دينك، تنظيف الجدران، النوافذ، الأبواب، مدخل البيت، هذا جزء من دينك-المؤمن بيتوتي بالتعبير اليومي، وغير المؤمن زقاقاتي- تجده بالفنادق والمقاهي والنوادي خارج البيت، البيت للنوم فقط، أما المؤمن فبيته جنته، يعتني به، وحينما أتحدث عن نظافة البيت، وعن ترتيبه، وعن أناقته، لا أقصد أبداً البذخ والإسراف، النظافة وحدها، والترتيب، والانسجام في ألوان البيت، أحياناً ترى لون الإسمنت مزعجاً، مؤذياً، يخرش العين، طلاء رخيص أبيض اللون أو لون دافئ إذا كان البيت تحت الأرض، إذا كان البيت مشرق، الألوان الباردة مريحة، إذا كان البيت رطباً أو بارداً يوجد ألوان دافئة مريحة، لون الكريم لون دافئ، الألماس لون بارد، البيوت الواسعة يناسبها لون بارد، والبيوت الباردة يناسبها لون دافئ، والبيوت الواسعة يلزمها لون يصغرها، والبيوت الصغيرة يلزمها لون يكبرها، الأزرق يوسع البيت، تشعر بأنه أوسع مما هو على حقيقته.
البيت مملكة الإنسان عليه العناية به مع الابتعاد عن الزهو و التكبر :
القضية ليست قضية بذخ وإسراف وترف، لكن هذا البيت جنتك، ولا حرج على المسلم أن يعتني ببيته، إذا اعتنى
بالنباتات في بيته
يمكن أجمل هواية على الإطلاق النباتات، ببيته مخلوق يسبح الله عز وجل، ولا تنسوا أن الله عز وجل خلق للإنسان آلاف النباتات لا تعيش إلا في الغرف، عند المختصين بالأزهار قسم كبير جداً اسمه نباتات الصالونات هذه تعيش وتنمو في أعلى درجات النمو وهي في الغرفة، هذه النباتات خلقت لكي تمتع عينك بها، لذلك ترى بيتاً صغيراً ورخيصاً، أثاثه رخيص جداً لكن فيه ذوق، فيه نظافة، فيه ترتيب، ترتيب في الأثاث والذوق، في الألوان والنظافة، و هذا هو الأصل لقوله تعالى:
﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون﴾
لمن خلقت الأزهار المنوعة بالمئات؟ أحياناً ياسمينة في البيت، أو بعض النباتات ذات الرائحة الفواحة، أخواننا الكرام يدخلون المسجد في الصيف يشعرون برائحة عطرة، هناك نباتات لها رائحة عطرة خلقها الله لنا، الإنسان إذا اعتنى بأثاث بيته، نظافة بيته، ترتيب بيته، النباتات تسبح الله عز وجل، من منا يكره رائحة الياسمين؟ من منا يكره رائحة الفل؟ يقولون: فلان مثل الفلة، إذا أردنا أن نرفع الإنسان إلى أعلى مستوى قلنا له: فلة، بياض ورائحة طيبة، المشكلة في الموضوع أن يأخذك الزهو في البيت، الآن وقعت في المعصية، قال عليه الصلاة والسلام:
((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر، وَلا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ إِيمَانٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))
النظافة والتعطر والتأنق جزء من الدين :
أحياناً ترى الكافر - وهذا شيء يؤسف له- أنيقاً إلى أعلى درجة، قطعة فنية شكله، وشعره، وثيابه، وقمصانه، الكافر قطعة فنية والمؤمن وسخاً لدرجة غير معقولة:
(( أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة بين الناس ))
النظافة والتعطر والتأنق هذا جزء من الدين، قال عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))
أي أقرّه على فعله، وإقرار النبي تشريع، وفي رواية أخرى:
((أن رجلا جميلا أتى النبي ( ص ) فقال : إني أحب الجمال وقد أعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعل أفمن الكبر ذلك يا رسول الله قال : لا ولكن الكبر بطر الحق وغمص الناس))
أي إذا كان الإنسان ثيابه نظيفة، ونعله جميل، ومتعطر، ونظيف، وشعره مرجل، أصبح قطعة فنية.
الكِبر أن ترد الحق، أن ترفضه، الكبر أن تتكبر عليه، الكبر أن تستعلي على الحق، ألا تنصاع لأمر الله، هذا هو الكبر، وأن تغمص الناس، تظلمهم، تجحدهم، تنتقص مكانتهم، تطعن في علمهم، تطعن في إخلاصهم، الطعن في الناس ورد الحق هو الكبر في عينه، أما أن يكون ثوبك حسناً، ونعلك حسناً، فهذا ليس من الكبر في شيء.
الله عز وجل نهى عن الإسراف في المباحات و التبذير في المعاصي :
لكن ما هو المحرم في اللباس والبيت؟ الغلو، ومحرم الإسراف والترف والزهو والاستعلاء، اقرؤوا إن شئتم القرآن الكريم، أو ابحثوا في مادة الترف عن آيات ثمان حصراً، قرن الله سبحانه وتعالى المترفين بالكفر، المترف كافر، أولاً: الله جلّ جلاله نهانا عن الإسراف في كل شيء، والكفار -وهذا شيء يؤسف له- كل شيء عندهم له حساب، أحياناً هذه العبوات الذي يستهلكها الناس ثمنها أغلى من الشراب، تسع ليرات ثمن عبوة المياه الغازية، وأربع أو ثلاث ليرات ثمن المياه التي فيها، نشربها ونلقيها هذا إسراف.
حدثني أخ قال لي: كنت في أوربا، أفخر فندق قدم له زجاجات من المياه الغازية، عمر الزجاجة سنوات كثيرة، مستهلكة استهلاكاً كبيراً، الحفاظ على المال جزء من الدين، استهلاك المواد، أحياناً ترى موظفاً يمسك ورقة ثمنها نصف ليرة ومطوعة بثلاثين قرشاً يجفف بها يديه بعد أن يغسل، أحياناً يكتب رقم هاتف على ورقة أكبر قياس، يقولون: إن بعض الدول المتخلفة من أشد الدول استهلاكاً للورق في العالم، المواد ليس لها قيمة عندهم، هم فقراء مع ذلك مسرفون، الله عز وجل نهى عن الإسراف في المباحات، ونهى عن التبذير في المعاصي، لا إسراف ولا تبذير، قال الله تعالى:
﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ﴾
المحرم في البيت :
الآن: ما المحرم في البيت؟ آنية الذهب والفضة هذه محرمة، أناس كثيرون يريد مسكات ذهب، حنفيات ذهب، هذا محرم في الدين، روى الإمام مسلم في صحيحه:
((إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في نار جهنم على بطنه ))
الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، ولكن أيها الأخوة قبل أن تتساءلوا الآنية الذهبية شيء و المذهبة شيء آخر، وآنية الفضة شيء والمفضضة شيء آخر، التحريم أن تكون الآنية من الذهب الخالص أو من الفضة الخالصة، أما الآن فعن طريق الترسيب الكهربائي - التلبيس - قد تلبس الحاجات من معادن رخيصة بطبقة رقيقة جداً لا جرم لها، هذا شيء ليس محرماً في الدين، المحرم أن تستخدم الآنية وهي من الذهب الخالص، أو من الفضة الخالصة، ففي الحديث الشريف:
((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه، وقال: هو لهم - للكفار - في الدنيا ولنا في الآخرة))
علة التحريم :
قد يسأل سائل ما علة التحريم؟ المؤمن الورع ينصاع لأمر الله لمجرد أن هذا أمر الله، وأمر رسوله، علة أي أمر أنه أمر الله، أسرع طريق لفهم الأوامر هذا أمر الله وكفى، لكن لو أردنا التحليل، هناك علة اجتماعية، وهناك علة اقتصادية، الذهب والفضة جعلهم الله معادن ثمينة، وجعلهم معادن ليكونوا تقديراً للقيم في الأرض أي نقداً، مرة قرأت في مجلة مقالة عن باخرة غرقت قبل ثمانين عاماً، وفيها عدد كبير من سبائك الذهب، طبعاً صار الآن هواة للتنقيب عن السفن الغارقة، باخرة عام 1912 غرقت، الآن وصلوا إليها، وأخذوا محتوياتها، لكن ما كنت أعرف قيمة الذهب حتى قرأت هذا الموضوع في هذه المجلة، هذا الذهب الذي استخرج من البحر، والذي بقي في البحر ثمانين عاماً غسل كأنه صب الآن، بريقه ولمعانه هو هو، لذلك المؤمن كالذهب لا يتغير، والمنافق كالمعادن الخسيسة سريع التغير، والأصح من ذلك: للذهب - في البحر مياه مالحة ومع ذلك و بعد ثمانين سنة كأن هذه السبائك صبت الآن- بريق ما بعده بريق، قلت: سبحان الله! هذا هو الذهب، لذلك الذهب لا يتأثر بالبيئة، أما المعدن الخسيس فيتأثر بالبيئة، إذا قال إنسان: ماذا أفعل بيئتي عاطلة؟ معنى هذا أنت خسيس أيضاً، كل إنسان يتأثر بالبيئة معدنه خسيس، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:
((الناس معادن))
المعدن الثمين لا يتأثر بالبيئة، والمعدن الخسيس يتأثر بالبيئة، فهذه السبائك بقيت في البحر ثمانين عاماً، وحينما استخرجت وغسلت كأنها صبت لتوها، العلة الاقتصادية بتحريم الذهب والفضة أن هذين المعدنين جعلهم الله عز وجل نقدين، إذا كان الإنسان يملك ليرة ذهبية حتى لو ألغيت قيمتها فيها، أما إذا كان يملك خمسين جنيهاً مصرياً و قد ألغي هذا بقرار ما قيمته؟ صفر، العملة الورقية عبارة عن سندات على المعادن الثمينة الذهب والفضة، إيصالات فقط، وليس فيها قيمة ذاتية، أما الذهب والفضة ففيها قيمة ذاتية.
مثلاً: لو أحضرنا خمسة مليارات ليرة سورية، ووضعناهم بشكل هرم، بشكل جميل، ووضعت بساحة عامة، ماذا فعلنا؟ هذه المليارات كم مشروع تؤسس؟ وكم عامل يعمل بهذا المبلغ؟ وكم معمل نؤسس؟ وكم يد عاملة نشغل؟ وكم إنسان يتزوج؟ وكم مرفق ينشأ؟ وكم حاجة تلبى؟ وكم أسرة تسعد؟ لو أحضرنا خمسة مليارات ليرة على شكل هرم، وعملناهم بشكل تزييني في ساحة عامة، هل نكون أفلحنا؟
هذا مثل صارخ، توضحت الفكرة؟ أنت عندما تجمد المعادن الثمينة التي جعلها الله قوام الحياة، تصور أنه لا يوجد عملة ورقية، الذي صنع إبريقاً من ذهب هذا تجمد، هل من المعقول أن تحضر حاسوباً ثمنه ثلاثون مليوناً وتجعله في البيت كطاولة؟ ليس معقولاً، هل من الممكن أن تحضر حاسوباً معقداً جداً وحينما تستخدم الذهب والفضة الذين جعلهما الله نقداً ثابتاً لينتفع الناس بهما تجعله آنية مجمدة؟ الناحية الاقتصادية تجميد النقد، ومنع تداوله والانتفاع به، لو فرضنا أنت علّمْت خمسمائة ليرة وتتبعتها، تنتقل في اليوم إلى خمسين يد، ففي اليوم الواحد من إنسان إلى إنسان باع واشترى وربح.
قيمة المال بالتداول بين الناس :
هذا المال جعله الله متداولاً، فإذا حصر جمد، أخطر شيء يصيبه أن يجمد، الله عز وجل قال:
﴿كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم﴾
يجب أن يتداول بين الناس، فالمال قيمته بالتداول، لماذا فرض الله الزكاة على النقد وهو غير نام، الأنعام تنمو، والنبات ينمو، والبقر تلد، لماذا فرض الله الزكاة على النقدين الذهب والفضة؟ لئلا يكنز، فإذا كنز أكلته الزكاة، الزكاة تأكل المال بأربعين سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:
((اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة))
المال إن لم يستثمر - وكم يوظف في مشاريع حيوية، في البناء، في الزراعة، في الصناعة، في التجارة- يجمد، إذا جمد كأنك سحبته من الأيدي، وإذا سحبته من أيدي الناس افتقروا إليه، يقولون: لا يوجد سيولة، كل الناس يشكون عدم السيولة، هناك مشاريع امتصت السيولة، الكتلة النقدية يجب أن تبقى بين أيدي الناس، لذلك أيها الأخوة على الإنسان ألا يجمد الذهب بآنية، أو بمسكة، أو بصنبور، أو بملعقة، أو بصحن، أو بإبريق.
ما الفرق بين من يكنز الذهب والفضة في صناديق ولا يستخدمها ولا يتداولها وبين من يجمدها في أوان؟ التحصيل واحد، العلة الاقتصادية هي أن هذين المعدنين هما نقد ينبغي أن ينتفع الناس به، فإذا جمد عطلت قيمته.
السبب الاجتماعي لتحريم الذهب و الفضة :
أما السبب الاجتماعي فقالوا: هذا فيه إسراف، وفيه خيلاء، وفيه زهو، وفيه استعلاء، وفيه كسر لقلب الفقير.
لهذا قال سيدنا عمر: "من دخل على الأغنياء خرج من عندهم وهو على الله ساخط".
هو عنده طقم معالق، ثمنه ثلاثون ليرة، مئة ليرة، جيد ولطيف، يرى معالق ذهبية، يشعر أنه محروم، أواني فضية:
((يا عائشة! إِن كنتِ تريدين الإِسراعَ واللُّحوقَ بي فَلْيَكْفِكِ من الدنيا كزاد الرَّاكب، وإِيَّاك ومُجالسةَ الأغنياء، ولا تَسْتَخْلِقي ثَوبا حتى تُرَقِّعيهِ ))
لذلك استخدام الذهب والفضة كأوانٍ وملاعق وحاجات في البيت هذا محرم، طبعاً هذا التحريم ينسحب على الرجال والنساء معاً، الذهب لعلة، لحكمة خاصة، هذه الحكمة متعلقة بجبلة المرأة، وبحرصها على أن تبدو جميلة أمام زوجها، والتزين بالمناسبة للزوج لكن هذا التزين انحراف، الله سمح للمرأة أن تستخدم الذهب والفضة، الآن النساء يستخدمن الذهب والفضة في الأعراس للتفاخر والتباهي، لذلك التزين للزوج لا لكسر قلب الفقراء، لا للاستعلاء على نظيراتها، أساساً الاتجاه نحو الكبر دليل ضعف الإيمان، فالذهب والفضة محرمان في البيت، هذا المؤمن.
وفي حديث ذكرته قبل قليل:
((إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في نار جهنم على بطنه ))
تحريم النبي التماثيل والصور في البيوت :
الآن أكثر البيوت فيها تماثيل، أحياناً طير من برونز، أو من رخام، أو من معدن مفضض، هذه التماثيل أيضاً قال عليه الصلاة والسلام عنها:
(( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تماثيل أو صورة))
خرج من عندهم وهو على الله ساخط، السبب لأن العرب في الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام، لذلك سداً لكل ذريعة توصل إلى أن يعبد شيء من دون الله حرم النبي عليه الصلاة والسلام - وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى- التماثيل والصور في البيوت، فقال:
(( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تماثيل أو صورة))
وحرم الإسلام على المسلم أن يشتغل بصناعة التماثيل ولو صنعها للكفار، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
((يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى..... ومِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّورَةَ))
طبعاً إذا رسمت شجرة ليس هناك مخالفة، أما الحيوانات فهذه ينبغي أن تبتعد عنها، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من صوّر صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً.
العلة الكبيرة في تحريم التماثيل :
العلة الكبيرة في تحريم التماثيل كي لا تتخذ أصناماً تعبد من دون الله، قال: وهذا الذي يصنع التماثيل يأخذه الزهو كأنه صنع شيء نادر، بل إن بعض النحاتين بعد أن صنع تمثالاً قال له: تكلم، وكأنه أراد أن ينفخ فيه الروح من شدة إعجابه بصنعته أمره أن يتكلم.
قال عليه الصلاة والسلام:
((الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ))
وفي الحديث القدسي:
(( ومن أظلم من ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبّة او ليخلقوا شعيرة))
من لوازم هذا الفن أن أكثر النحاتين ينحتون الصور العارية للنساء، تماثيل عارية يمثلونها، والتماثيل كما قلت لكم هي من خصائص أهل الترف والفجور.
قصة تحريم التماثيل :
النبي عليه الصلاة والسلام -سأذكر لكم شيئاً من تواضعه- ما كان يحب أن يعظم هذا التعظيم الذي فعله بعض أصحابه مرة، قال عليه الصلاة والسلام:
((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ))
ومرة قال:
(( لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً ))
الأعاجم يعظمون ملوكهم لذاتهم كإشراك بالله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام دعا الله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد".
أنا أعجبني أن المسؤولين في الديار الحجازية منعوا الطواف حول قبر النبي، عندما ينتهي القبر تجد حاجزاً ينقلك إلى خارج المسجد، أما أن تطوف حوله كأنه كعبة فهذا لا يجوز، قف وسلم عليه وقل له: اللهم إنك بلغت الأمانة.
أما أن تطوف حول القبر فهذا لا يجوز، لو درسنا بتأن تاريخ عبادة الأصنام لفوجئنا أن بعض هذه الأصنام هي رموز لرجال صالحين أحبهم الناس، كانوا صالحين فعلاً، أحبوهم، أرادوا أن يذكروهم دائماً، فصنعوا لهم تماثيل، فعبدوا من دون الله عز وجل، هذه قصة التماثيل.
النبي الكريم كان متواضعاً و لم يرد أن يعظم تعظيماً يفوق مقامه :
شيء آخر: بعضهم لا يستغرب أن يكون بوذا نبياً من قبل، هو الآن إله، له تماثيل في شرق آسيا، وتقدم له أفخر أنواع الفواكه ليأكلها في الليل، ويأكلها الكهنة في الليل، حجر يأكل؟ هكذا يرون أنهم إذا وضعوا هذه الفاكهة أمام هذا التمثال يأكلها ليلاً وهذا من إكرامهم، ولكنهم يتسللون خفية ويأكلونها، ويطعمونها أهليهم وأولادهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ))
أذكر لكم كثيراً أن السيدة عائشة حينما برأها الوحي كان أبوها أمامها فقال لها: يا بنيتي قومي إلى النبي فاشكريه، فقالت: والله لا أقوم إلا لله، على مسمع من النبي فابتسم عليه الصلاة والسلام وقال: "عرفت الحق لأهله".
النبي كان متواضعاً، وما كان يريد أن يعظم تعظيماً يفوق مقامه، فوق مقامه مقام الألوهية، هو أعلى مقام لكن هو عبد.
لعب الأطفال لا علاقة لها بتعظيم التماثيل والمجسمات :
أيها الأخوة في نهاية هذا الدرس أذكر لكم أن لعب الأطفال لا علاقة لها بهذا الدرس، هذه اللعب لا يقصد منها التعظيم، ولا الزهو، ولا الاستعلاء إنما هي تحقق رغبة في الصغار، لذلك الإسلام لم يضق بها ذرعاً، لعب الأطفال لا علاقة لها بتعظيم التماثيل والمجسمات.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
((كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه و سلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل يتقمعن منه، فيسربهن إلي فيلعبن معي))
إذا أخذ الإنسان زوجة صغيرة، لا يتحملها أن تبدو صغيرة - عقلها صغير- يريدها أن تتصرف و كأن عمرها ثلاثون سنة، وهي عمرها خمسة عشر عاماً، هذا موقف غير واقعي، هذا السن له خصائص، أنت اخترتها صغيرة، النبي عليه الصلاة والسلام كان يراعي سن السيدة عائشة فقال عليه الصلاة والسلام:
((ما هذا؟ قالت: بناتي))
الطفلة الصغيرة وهي في أصغر سن تمسك بالوسادة وتجعلها ابنتها، وتربت على طرفها، وترضعها، هكذا الطفل، هذه الفطرة، الفطرة شيء والبنية شيء:
((قالت بناتي قال فما هذا الذي أرى في وسطهن قالت فرس قال ما هذا الذي عليه قالت جناحان قال فرس له جناحان قالت أو ما سمعت أنه كان لسليمان بن داود عليه السلام خيل لها أجنحة قالت فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه))
ابتسامته ومداعبته وهو نبي مرسل، وهو مشرع، لو أنها محرمة لما ابتسم، ولا ضحك، ولا أقرها، العلماء استنبطوا أن لعب الأطفال لا علاقة له بهذا الموضوع، وقد تأتي بلعبة لطفل تملأ حياته سروراً.
قال الشوكاني: "في هذا الحديث دليل على أنه يجوز تمكين الصغار من اللعب بالتماثيل".
قال القاضي عياض: "إن اللعب بالبنات للبنات الصغار رخصة"، هناك رخصة أن يلعب الطفل الصغير أو البنت الصغيرة بلعبة صغيرة، هذا مستثنى من درس التماثيل والاستعلاء بالتماثيل، ولهذا الدرس تتمة إن شاء الله تعالى.