الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع عشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ(62)﴾
[ سورة النحل ]
انظر إلى هذا التناقض الصارخ :
بعض العلماء قالوا: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ أي: البنات ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ أي: الشرك.
هل يرضى أحدهم أن يشركه أحد في ماله؟ لا يرضى، فكيف تنسب لله -عز وجل- أن آلهة أخرى تشاركه في تسيير الأمور؟
لا تنسب إلى الله ما تكرهه نفسُك :
وبعضهم فهم هذه الآية على إطلاقها، فأيّ شيء تكرهه كيف تنسبه إلى الله -عز وجل-؟ أتعاقب أنت إنساناً يعمل معك من دون أن يقترف ذنباً؟ أتعاقبه بلا سبب؟ أتودي بأعمال طيبة قُدِّمت لك طوال عمرٍ مديد، تودي بها وتعاقب صاحبها؟
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ أتُكرِه أحدًا أمرته بأمر على مخالفته، ثم تعاقبه على ذلك؟
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(35)﴾
[ سورة النحل ]
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ مِن أنهم نسبوا الملائكة الذين هم عباد الله، نسبوهم إلى الله على أنهم بناته. أو أنهم
﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31) ﴾
[ سورة التوبة ]
أشركوهم في تدبير الأمور، كما أنهم يكرهون البنات، وكما أنهم يكرهون أن يشركهم أحد في أموالهم، أو أن الصفات التي يكرهونها بعُرْف عاداتهم وتقاليدهم، فكيف ينسبونها إلى الله -عز وجل-؟ ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ﴾ .
جعل الشريك لله نوع من الافتراء والكذب :
هذه الآية من الآيات البلاغية، بدل أن يقول الله -عز وجل-: ويقولون الكذب؛ أي كلامهم يصف نفسه بأنه كذب، كلامهم نفسه يصف أن مضمونه كذب.
ومع هذا فهم يدّعون أن لهم الحسنى في الآخرة :
﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى﴾ يدّعون أن لهم الحسنى في الآخرة، هذا الذي يشرك بالله عز وجل، ولا يعتدُّ بأمره، ولا يرجو ثوابه، ولا يخشى عقابه، يدّعي أيضاً أنه في الآخرة من أهل الجنة.
﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾
لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ
معنى : مُفْرَطونَ :
معنى ﴿مُفْرَطُونَ﴾ أي: إنهم يسارعون إليها، ومعنى: ﴿مُفْرَطُونَ﴾ أنهم منسيّون فيها، ومعنى: ﴿مُفْرَطُونَ﴾ أي أنهم مهملون، أفرط بمعنى أسرف، فرَّط بمعنى غفل، أو قصّر، والعامة تقول: لا إفراط ولا تفريط، أي لا إسراف ولا تقصير.
أما: ﴿مُفْرَطُونَ﴾ هنا في هذه الآية فتعني أنهم يسارعون إلى النار، أو أنهم منسيون فيها، أو أنهم تجاوزوا الحد المعقول، أو أنهم قصروا في واجباتهم، فالمعاني كلها تُستَفاد من هذه الكلمة.
لا تنسب لله صفة لا تليق بجلاله :
إذاً: أية صفة لا تليق بك فلا تنسبها إلى الله -عز وجل-، وأيّة صفة تأبى أن تُنسب إليك فلا تنسبها إلى الله -عز وجل-.
بعضهم يقول: إن الله -عز وجل- يُدخل النار من أفنى حياته في طاعته، يقول لك:
﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23) ﴾
[ سورة الأنبياء ]
أترضى لله عز وجل أن يأتي عبد من عباده يعبده طوال حياته، أن يفني عمره في طاعته وفي التقرب إليه، وفي خدمة عباده، وفي الدعوة له، أيعقل أن يضعه في النار؟! أترضى لنفسك هذه الأخلاق، أين قوله تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾
[ سورة الزلزلة ]
ألا تكره أن يُنسَب إليك الظلم؟ أتقبل أن تكون ظالماً؟ فكيف تنسب الظلم إلى الله -عز وجل-؟ كيف تعتقد أن الإنسان منذ أن خُلقَ خُلِق شقياً؟ وأن كل ما يفعله في الدنيا مكتوب عليه؟ وأن كل المعاصي مقدّرة عليه؟ ولا سبيل إلى تلافيها، وأن الله -سبحانه وتعالى- سيعاقبه على تقصيره، وعلى معصيته؟
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إِيّاك إيّاك أن تبتل بالماء
***
هل ترضى هذا لنفسك؟ هل ترضى أن يُنسب لك، وأنت تعلّم الطلاب أن أحد الطلاب قبل أن يدخل المدرسة اتخذت قراراً بترسيبه؟ فمهما بذل من جهد، ومهما عمل من وظائف، ومهما درس فلابد من أن يرسب، هذه عقيدة الجبر، أي إن الإنسان مجبور على أعماله، ولا اختيار له فيها، فإذا اعتقدنا بهذه العقيدة فكأنما نسبنا الظلم إلى الله -سبحانه وتعالى-، لابد من أن يكون في الحياة اختيار، لأن الله -سبحانه وتعالى- لو كان كذلك لكان إرسال الأنبياء عبثاً، وإنزال الكتب لعباً، وإن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، وإذا ألزم الله عباده بطاعته لبطل الثواب، وإذا ألزمهم بمعصيته فقد بطل العقاب.
أحد الخلفاء حينما جيء إليه برجل شارب للخمر، قال له: يا أمير المؤمنين، إن الله قدّر علي ذلك، فقال رَضِي اللَّه عَنْه: أقيموا الحد عليه مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأن افترى على الله.
لذلك قال تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ إما أن نفهمها على أن الملائكة بنات الله، يكرهون البنات، فنسبوا البنات إلى الله، أو أن تفهمها على أن الإنسان كما يكره الشرك، فكيف ينسبه إلى الله -عز وجل-؟ أو نفهمها بشكل مطلق، هذه الصفة التي تكرهها، والتي تتبرأ منها، والتي تترفع عنها، كيف تسمح لنفسك أن تصف الله بها؟
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ﴾ كلامهم يصف أنه كذب.
﴿أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى﴾ في الآخرة.
مثل هؤلاء مصيرهم النار :
﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ﴾ والله -سبحانه وتعالى- نفى مقولتهم، وأثبت مقولة أخرى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ يسارعون إليها، أو منسيّون فيها، أو تجاوزوا الحد المعقول في العدوان والطغيان، أو قصّروا عن واجباتهم، فاستحقوا دخول النار.
﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)﴾
[ سورة النحل ]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ
الشيطان يزيّن أعمال الناس :
حينما يسمح الله للشيطان أن يزيّن للإنسان عمله السيّئ، يكون هذا العمل السيئ تعبيراً عن شهوة استحكمت فيه، وأن إخراج الشهوة خيرٌ من بقائها، فالإنسان يشتهي، ولكن شهوته هذه لها مستويات، فإذا بلغت مستوى الإصرار كانت هذه الشهوة حجاباً بين الإنسان وبين الله، بين الإنسان والحق، بين الإنسان والهدى، لذلك أحكم شيءٍ، وأنسب شيءٍ أن تخرج هذه الشهوة، من يتولى إخراجها؟ يأتي الشيطان فيزين لمن استحكمت فيه شهوته، يزين له هذه الشهوة حتى تخرج منه عملاً يرى بشاعته، ويرى دناءته، ويعاقبه الله عليه، فلعل نفسه بعد هذا العقاب الأليم تصفو وتُقبِل، وكم من إنسان أصرَّ على شهوة، واستحكمت في قلبه، فجاء الشيطان فزين له شهوته، فانقلبت إلى عمل استحق عليه العقاب، ثم شفيت نفسه وطهُرت، وأقبلت، وتابت، وصحت توبته. يعني مشروع إلهي لهداية الإنسان، لمن كان مريضاً بشهوة ما.
﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ﴾ .
تفسير هذه الآية :
هناك تفسيران لهذه الآية:
التفسير الأول :
التفسير الأول: هم يزعمون أن الشيطان وليهم في الدنيا، وكل إنسان بعيد عن الله عز وجل يتكئ على جهة في الأرض، ويقول لك: فلان بإمكانه أن يرفع شأني، وفلان بإمكانه أن يعطيني، وفلان يستطيع أن يضرني، فيتولاه، ويطيعه من دون الله، يواليه من دون الله.
﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ﴾ فاليوم يا محمد هؤلاء الأمم التي تزعم، والتي زين لها الشيطان أعمالها تظن أن الشيطان وليها في الدنيا.
التفسير الثاني :
وبعضهم قال: ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ﴾ أي: معهم في النار، إما أن تكون هذه الولاية في الدنيا، يظنون أنه وليهم، في حين أنه لا ينفعهم ولا يضرهم، أو إن الشيطان معهم في جهنم.
كل شهوة محرمة يزينّها الشيطان :
﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ملخص هذه الآية أن الإنسان إذا أصر على شهوة محرمة، إذا اشتهاها إلى درجة الإصرار، يأتي الشيطان -رحمة بالإنسان- فيزين له عمله كي يفعله، كي تخرج هذه الشهوة إلى عمل، عندئذ تطهر نفسه منها بعد العقاب، وقد يتوب إلى الله عز وجل.
﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(64)﴾
[ سورة النحل ]
وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ
القرآن يرفع الخلاف الذي وقع فيه الناس :
وهناك من اختلف على السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، جاء القرآن الكريم ليبين الحقيقة، والموضوعات المختلَف عليها في الديانات السماوية قبل الإسلام، الموضوعات التي اختلف الناس عليها قبل بعثة النبي العدنان، هذه الموضوعات جاء بيانها في القرآن حداً فاصلاً لكل خلاف.
القرآن هدى ورحمة للمؤمنين :
﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ الرحمة بمعنى التجلي الإلهي، فإذا قرأت القرآن تجلى الله عليك، وإذا أردت أن تحدث ربك فصلِّ، وإذا أردت أن يحدثك ربك فاقرأ القرآن. وقد ورد في بعض الكتب السماوية:
يا موسى، أتحب أن أكون جليسك؟ فقال: يا رب، وكيف يكون ذلك؟ قال: أما علمت أني جليس من ذكرني، وحيثما التمسني عبدي وجدني.
﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ وإذا وقعت خلافات لاحقة بين الأمم والشعوب، وبين الملل والنِّحل، وبين الفرق والمذاهب، وبين كل فئة تدعي أنها على حق، وتتهم أختها بأنها على باطل، هذه الخلافات يفصل الله سبحانه وتعالى بينها يوم القيامة، والقرآن الكريم فضلاً عن أنه يبين الذي اختلفوا فيه فهو هدى.
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾
[ سورة البقرة ]
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾
[ سورة طه ]
مَن اتبع الهدى سعِد في الدنيا والآخرة :
﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ الهدى استنارة عقلية، أما الرحمة فراحة نفسية، فهذا الإنسان المؤمن عقله مستنير، ونفسه سعيدة، وطيبة، هذه صفات المؤمن.﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ ﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ فلذلك، من أوصاف الله سبحانه وتعالى الجامعة المانعة لهذا الكتاب أنه هدى ورحمة، يهديك سواء السبيل، ويفسر لك ما في الكون، ويفسر لك التاريخ، ويفسر لك المستقبل، ويفسر لك الحوادث، ويعطيك لكل شيء محيرٍ تفسيراً، ويعرفك بالهدف من خلقك، ويعرفك بالمصير، ويعرفك بأثمن شيء تفعله في الدنيا، ويبين لك طريق السلام، طريق السعادة، طريق الطمأنينة، يبين لك وسائل الصحة النفسية، يبين لك التي هي أقوم هذا هدى، يبين لك كيف تكون علاقتك مع زوجتك، ومع أولادك، ومع أمك وأبيك، و مع إخوتك، و مع بناتك، و مع أصهارك، و مع جيرانك، مع زبائنك، مع من هم فوقك، ومن هم دونك، مع من هم أضعف منك، ومع من هم أقوى منك.
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(9)﴾
[ سورة الإسراء ]
إعجازه في إيجازه.
﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ لو قرأت القرآن تعرف كيف تعامل زوجتك، أما هذا الذي يطلقها لأتفه سبب، أو يحلف يمين الطلاق لأتفه سبب، فهذا لم يقرأ القرآن، والذي يُخرج زوجته من بيته عقاباً لها ما قرأ القرآن، وهذا الذي يبغي ويظلم ما قرأ القرآن، وهذا الذي يكذب، ويغش، ويحتال، ويكسب مالاً حراماً ما قرأ القرآن. ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
والآن تتوالى الآيات البينات التي توضح، وتذكرنا ببعض النعم الجليلة التي أنعم الله بها علينا، قال تعالى:
﴿ وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(65) ﴾
[ سورة النحل ]
إبراز أهمية الماء بتقديم لفظ الجلالة إشعارا بالمنعِم :
﴿وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً﴾ فكلمة: واللهُ، لو قال الله عز وجل: وأنزل الله من السماء ماء ماذا تفيد؟ تفيد أن الله أنزل من السماء ماء، ولكن تقديم لفظ الجلالة على الفعل هذا ليبرز أهمية النعمة، فهذا المطر الذي تتنعمون به، أنبت لكم الزرع والزيتون، وأنبت لكم من كل الثمرات، وجعل الأرض مزدهرة بعد أن كانت هامدة: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ .
الماء حياة للأرض بعد موتها :
هذا الغيث ليس مُنخَفضاً جوياً متمركزاً فوق قبرص، وهو يتجه نحو سوريا، لا، ﴿وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً﴾ هل رأيت هذه الحقيقة؟ تقديم لفظ الجلالة ليفيد التركيز على أن هذا الفعل من قِبَل الله عز وجل، من قِبَل الله وحده، تقديم الفاعل (الله) على الفعل (أنزل) ، وَاللَّهُ أَنزَلَ وليس هناك جهة أخرى تستطيع أن تفعل هذا الفعل.
﴿وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ الأرض اليابسة، والأرض القاحلة، والأرض المقفرة، والنبات على وشك اليَباس، على وشك أن يموت، والحيوان محتاج إلى علف، والعلف متعلق بماء السماء، فكل الحياة متوقفة على هطول المطر، والمطر ينبت الكلأ، والكلأ طعام للماشية، والماشية طعام للإنسان، فحياتك متعلقة بالمطر، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الرزق كله في المطر.
﴿وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ ولذلك الفلاح حينما تنزل أمطار من السماء تنزل معها دموعه فرحاً، لأنه ـ كما يقولون ـ حصّل على موسم طيب، والتاجر حينما تنزل أمطار السماء يفرح، لأن هناك قوة شرائية سوف تعود عليه بالنفع العميم.
بعضهم قال: إلا المرابي، هذا الذي له ربح ثابت يظن نفسه مستغنياً عن رحمة السماء، لذلك هو مقطوع عن رحمة السماء.
السماع طريق من طرق الهداية :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ فهي إشارة إلى أن السماع طريق من طرق الهداية، إما أن تفكر، وإما أن تعقل، وإما أن تسمع.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ(37)﴾
[ سورة ق ]
فأحد مظانّ المعرفة أن تحضر مجالس العلم، وأحد الطرائق إلى قلبك أن تلقي السمع، فالسماع باب واسع من أبواب الهدى، وهناك التأمل، وهناك التفكر، وأن تعقل، وأن تدرس، ولكن السماع باب واسع من أبواب الهدى، لذلك قال الله تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) ﴾
[ سورة النحل ]
إنزال الماء من السماء غاية في الإبداع :
﴿وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ لو فكرت بأن هذا المطر الذي ينزله الله من السماء هو إبداع، فكيف نسقي قطراً بأكمله؟ قد يأتي منخفض جوي يغطي سماء القطر كله، وتنقلب هذه السحب إلى أمطار غزيرة كأفواه القُرَب، قد تسافر من أقصى البلاد إلى أقصاها، والأمطار تنهمر انهماراً، ما هذا الإبداع في الخلق؟ إن أرضاً يابسةً جافةً يأتي فوقها سحاب ينقلب إلى ماء غزير يحيي هذا العشب وهذا الزرع وهذه الأشجار المثمرة، واللهِ هذا من تصميم الله عز وجل، هذا من تخطيط الله -عز وجل-.
﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ(66)﴾
[ سورة النحل ]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ
نعمة الأنعام :
الأنعام المقصود بها الجمال، والأغنام، والشياه، والأبقار، هذه الأنعام الله سبحانه وتعالى سخرها لنا، نستفيد من كل شيء فيها، هذه من نعم الله، الجلود، واللحم، والعظم، والشحم، والدهن، والأمعاء، والجمجمة وما فيها، والأحشاء وما إليها، والأصواف والأوبار، كل هذا نستفيد منه ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ .
الأنعام مسخَّرة مذلَّلة مطواعة :
شيء آخر، أن هذه الأنعام كيف هي مسخرة لكم، مذللة لكم، مطواعة لكم، تقدم لكم كل ما عندها، وأن هذا الإنسان الذي سُخِّرت له هذه الأنعام يعصي الله، ويأبى أن ينفذ أمره، ويستنكف أن يطيعه، ما هذه المفارقة الحادة ؟! ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ .
لماذا لا يكون الإنسان مطواعا وهذه صفة البهائم ؟!
أي: كونوا كالأنعام، طيِّعين لله عز وجل، كونوا في مستواها، بانقيادها إلى الله عز وجل، فتأبى نفسه أن يطيع الله، تأخذه العزة بالإثم، هذه الغنمة أشرف منك أيها المُعرض، أيها الكافر، أيها الفاجر، أيها المنافق، أيها العاصي: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ هناك آيات أخرى تتحدث عن الأنعام، قال تعالى:
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)﴾
[ سورة يس ]
أخلاق الأنعام محببة، تبعث الأنس في البيت، لا تخيف، لو أن أخلاق الضبع رُكِّبت في الغنمة، فكيف تأكلها؟ وكيف تذبحها، وأنت تخاف منها؟ عندئذ تهرب منها، بدل أن تمسكها لتذبحها وتأكلها تولِّي هارباً منها، لو أنها اقتربت منك، لو أن أخلاق الوحوش الضارية رُكِّبت في هذه الأنعام كيف تأكل لحمها؟ وكيف تسخرها؟ وكيف تنتفع منها؟
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ هذا عطاء الله، لو أن لكل خمسة آلاف إنسان رأسًا من الغنم كل يوم، وهناك في الأرض ما يزيد عن ستة آلاف مليون من البشر، لكان هناك أعداد من الغنم تفوق حد التصور، هذه كلها تُذبَح كل يوم، من سخرها؟ من جعلها تتوالد بهذه الطريقة العجيبة؟ من جعل كل ما فيها خيراً لنا، أصوافها وأوبارها وجلودها، وعظامها ولحومها وألبانها، وأحشاؤها، وجمجمتها، وكل شيء فيها، حتى ما تطرحه من فضلات يعد أسمدة من الطراز الأول.
نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ
بهذه الطريقة يخرج اللبن من الضرع !!!
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ﴾ وهذه من آيات الله المعجزة، وهذا الطعام الذي يأكله الخروف مثلاً، يأكل هذا الحشيش، أنت تعلم أن هذا الحشيش يُهضَم في المعدة، أو في الأحشاء، وهناك نظام الاجترار، لأنه يهضم، وينقلب إلى سائل، والأشعار الماصة التي في الأمعاء الدقيقة تمتصه فيصبح دماً، هل تستطيع أن تأكل الدم؟ حاش لله، والذي يبقى يصبح فرثاً. الذي يخرج منه، من أين جاء اللبن؟ ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ﴾ لا تستطيع أن تأكل الدم، ولا أن تنظر إلى الفرث، ويسقيك الله سبحانه وتعالى.
اللبن خالص لا يشوبه فرث ولا دم :
﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا﴾ ناصعاً في بياضه، لم يأخذ حمرة الدم، ولا دكنة الروث، ناصعاً في بياضه، طيباً مذاقه ، عظيماً نفعه، إما أن تشربه حليباً، وإما أن تجعله لبناً، وإما أن تجعله جبناً، أو زبداً، أو تجعله سمناً، أو تجعل منه ألواناً منوعة من الأطعمة والأشربة من هذا اللبن الخالص، خلص من حمرة الدم، ومن دُكْنة الروث، هذا اللبن الخالص نعمة عظمى أنعم الله بها علينا، هل تستطيع جهة في الأرض أن تأخذ الحشيش، وتصنع منه الحليب؟ القضية واضحة كالشمس، هذه البقرة التي أمامك، تأكل الحشيش، وتعطي الحليب، إنها معمل صامت، يعمل بصمت، لا يزعجك، لا يثقل عليك، ولا يحتاج إلى عمال، أو إلى أي شيء من هذا القبيل، تأكل الحشيش فتعطي الحليب، وبعض الأبقار تعطي في اليوم ما يزيد عن أربعين كيلو غرامًا من الحليب، أما وليدتها فلا تحتاج إلى أكثر من اثنين كيلو من الحليب.
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾
الحليب غذاء كامل ففكِّر فيه حين تشربه :
يعد الحليب الغذاء الأكمل للإنسان، فالإنسان يستطيع أن يبقى على شرب الحليب طوال حياته، فيه من كل المعادن، ومن كل المواد الأساسية، البروتينية، والدهنية، والفيتامينات، والمعادن، وأشباه المعادن، كله في الحليب الذي يخرج: ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ فلما يشرب الإنسان كأس حليب، أو يتناول لبناً، أو جبناً، أو سمناً، أو زبدهً، أو قشدةً، يجب عليه أن يفكر فيه، لا أن يأكله كالبهيمة .
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12) ﴾
[ سورة محمد ]
﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(67)﴾
[ سورة النحل ]
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا
ثم تأتي الآيات الأخرى لتحدثنا عن ثمرات النخيل، والأعناب، وما في النخيل من بلح وتمر، وما شاكل ذلك، والأعناب وأنواعها المنوعة التي تزيد عن ثلاثمئة نوع .
التدرّج في تحريم الخمر :
﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ أما كلمة سَكَر، أولاً: هذه الآية تعد أول آية فيها إشارة إلى أن الخمرة شراب ليس حسناً، أول إشارة، بعدئذ قال الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) ﴾
[ سورة النساء ]
ثم قال الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)﴾
[ سورة المائدة ]
لذلك جاء تحريم الخمر تدريجياً .
هل آية النحل هذه منسوخة ؟!
أول آية فيها إشارة إلى أن السَّكر، كأن تقول: رشد، السُّكر والسَّكر، الرُّشد والرَّشَد، رُشْدٌ ورَشَد، سكرٌ وسَكر، فالسَّكر هو السُّكر، والسُّكر هو الخمرُ، أي أن الناس يتخذون من الأعناب ومن ثمرات النخيل خمراً يشربونها، بعض العلماء قال: إن هذه الآية منسوخة بآية: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ وبعضهم قال: لا، هناك من عدّها آية محكمة ليست منسوخة، حينما قال: السَكر يعني الشراب الحلو، فأنت إذا وضعت حبات التمر في وعاء فيه ماء، وشربته صباحاً فهذا شراب سُكَّري، حتى إنه في بعض التفاسير ورد الخشافات، قد تصنع من هذه الثمرات الحلوة طبخاً لذيذاً طيب الطعم، حلو المذاق، فإذا عددت هذه الآية محكمة، فالسَّكر هو الطعام الطيب، وهو شراب طيب، أصله من ثمرات النخيل والأعناب، بعضهم قال: السَّكر على لغة أهل الحبشة هو الخل، والخل له فوائد جمة، وبعض الأطباء قالوا : يجب ألا تخلو حياة الإنسان يومياً من الخل، ومن البصل، ومن التفاح، لأن هذه المواد تذيب كل ترسبات دهنية في شرايين الإنسان، وبعضهم يقول: عمر الإنسان من عمر شرايينه، فهناك من يفسر السَكر هو الخل، وهناك من يفسر السَكر هو الشراب الطيب الطعم، الحلو المذاق، أو الطبخ، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يضع بعض حبات التمر في وعاء ماء، ويشربه صباحاً، وكان عليه الصلاة والسلام يشرب العسل شربة لا لعقة، إذ يذيب ملعقة عسل في كأس ماء، ويشربه صباحاً، يأتي ممدَّدًا لطيفاً، هيناً هضمه، ووقعه على المعدة خفيف، فكان عليه الصلاة والسلام يحب شربة العسل، فشربة العسل إن لم يكن شربة عسل فشربة من نقيع التمر، أو نقيع العنب، فالشراب المصنوع من العنب، أو من التمر، أو الطبخ الحلو المذاق، أو الخل، هذه المعاني كلها مُستنبَطة من كلمة (سَكراً) على أن الآية مُحكمَة، فإذا كانت إشارة إلى الخمرة فالآية منسوخة بالآيتين الأخريين، وهي قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ هذه المرحلة الثانية، المرحلة الثالثة: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ وبعضهم قال: الآية موجهة إلى المشركين، أنتم أيها المشركون تتخذون من ثمرات النخيل والأعناب سَكراً، شراباً تشربونه يُذهِب عقولكم.
والقرآن كما يقول الإمام علي كرم الله وجهه حمَّالُ أوجُهٍ، أي كل هذه المعاني مستفادة من كلمة "سَكَراً"، لكن أوجه التفسيرات: ﴿سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ معنى ذلك أن السَكر ليس رزقا حسناً، مما يرجح أن تكون الآية تعني بالسَكر الخمرة أنها ليست رزقاً حسناً.
إذاً: أيها المؤمنون، كلوا من ثمرات النخيل والأعناب، ولا تتخذوا منها سَكراً، طبعاً في الآيات اللاحقة يتضح هذا المعنى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ثم قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69) ﴾
[ سورة النحل ]
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
مملكة النحل آية تأخذ بألباب ذوي الألباب :
الحقيقة أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقني في الدرس القادم إلى توضيح مملكة النحل، وما فيها من عجائب، فمملكة النحل يصح أن نسميها مملكة، لأن فيها نظاماً عجيباً يعجز عنه البشر، ويعجز البشر أن يطبقوه على أنفسهم، إنه نظام عجيب، وآيات محكمة، ودلائل باهرة على عظمة الله سبحانه وتعالى، فهذه النحلة أين تعلمت؟ قالوا هناك عشرة أشكالاً، منها شكل المربع، والمخمس، والمسدس، والسباعي والثماني، والتساعي، كل هذه الأشكال إذا ضممتها إلى بعضها يبقى فيما بينها فراغات بينية، إلا الشكل المسدس، فإذا ضممته إلى بعضه صار قطعة واحدة، فالشكل المسدس هو الشكل الهندسي الوحيد الذي إذا جمعته إلى بعضه بعضاً لا يبقى فيما بينه أي فراغ بيني، فمن علم النحلة أن تصنع بيوت عسلها على شكل مسدس؟ من؟ الحديث عن الشمع، وعن الخلية وعن الملكة، وعن الذكور، وعن النحلات العاملات، والنحلات الحارسات، والنحلات الوصيفات، والنحلات اللاتي يأخذن كلمة السر، وعن النحلات المنظفات، وعن رحلة النحلة، وعن طريقة مصها لرحيق الأزهار، وعن رقص النحل، وعن نوع العسل، وعن اختلاف ألوانه، وعن أنواع شفائه، فإنه موضوع شيق جداً، وفيه أدلة واضحة على عظمة الله عز وجل، يكفي أن أذكر لكم أن الكيلو غرام من العسل هو حصيلة طيران طوله أربعمئة ألف كيلومتراً، فلو أننا كلفنا نحلة واحدة أن تصنع لنا كيلو غرامًا من العسل لوجب أن تطير حول الأرض في خط الاستواء عشر دورات.
العسل دواء :
أيها الإخوة الأكارم، العسل إلى أن يكون دواء أقرب منه إلى أن يكون غذاء، بل إن العسل كما وصفه بعض العلماء صيدلية كاملة، ألم يقل الله -عز وجل-: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ إن شاء الله هناك تفصيلات، وإشارات، وتوضيحات أسمعكم إياها في الدرس القادم فيما يتعلق بموضوع النحل والعسل، وليست العبرة أن نشتري العسل ونأكله، بل إن تفكرك في النحل، وفي طريقة صنع العسل هو وحده يقدم لك أكبر برهان على عظمة الله، وإذا فكرت في النحل، فقد حققت الهدف من خلقه من دون أن تأكله، فإذا أكلته كان نعمة يلزمك أن تشكر الله عليها، فأكل العسل شيء، والتفكر في عظمة خلق الله عز وجل شيء آخر.
الموضوع العلمي : الكرية الحمراء :
كما عودتكم في الدرس الماضي، هناك إخوة أكارم اقترحوا علي أن أعود إلى طريقتي السابقة في معالجة موضوع علمي في نهاية الدرس، فألزمت نفسي أن أعالج إن شاء الله تعالى في كل درس موضوعاً علمياً أذكره بشكل موجز في نهاية الخطبة في جامع النابلسي.
ماذا تعرف عن الدم ومكوِّناته ؟
موضوع اليوم كان عن الكرية الحمراء، من منا لم يرَ الدم، الدم معروف، وكل الحاضرين فيهم دم طبعاً، هذا الدم مؤلف من كريات، ففي الإنسان خمسة وعشرون مليون مليُون كرية حمراء،
وفي الميليمتر المكعب ما يزيد عن خمسة ملايين كرية حمراء، وقطر الكرية الحمراء سبع ميكرونات،
وهذه الخلية الحمراء تُصنَّع في مجموعة معامل، أبرزها نقي العظام،
فحينما تشتري لحماً بعظمه، وتطبخ هذا العظم مع اللحم، ويأتي ابنك الصغير ليأكل لُباب العظم، هذه الأسطوانة السوداء التي ينعم بها ابنك حينما يأكلها هي نقي العظام، هنا تُصنَع كريات الدم الحمر، وهذا المصنع يصنع في الثانية الواحدة اثنين ونصف مليون كرية،
وهذه الكرية الحمراء تعمِّر مئة وعشرين يوماً، وبعدها تموت، وتجري مراسم الدفن في الطحال،
فالطحال مقبرة للكريات الحمراء، وفي كل يوم تجول ألفاً وخمسمئة جولة في الدم، تقطع في عمرها ألفاً ومئة وخمسين كيلو متراً،
فالكرية الحمراء التي قطرها سبع ميكرونات، والتي تعيش مئة وعشرين يوماً، تقطع في حياتها طريقاً طوله ألف ومئة وخمسون كيلومتراً، وتنقل للأنسجة ستمئة لتر من الأوكسجين،
أحياناً الإنسان يشعر أن يده نمّلت، أو تخدّرت، يكون الدم قد قلّ وروده إلى الأنسجة، فلذلك الدم يحمل إلى الأنسجة والخلايا والأعضاء والأجهزة، وكل مكان في الجسم الدم الذي يحمل الأوكسجين، وتأخذ هذه الكرية من ناتج الاحتراق غاز الفحم، وتعيده إلى الرئة لينفث في الزفير،
هذه العملية نقل الأوكسجين، وأخذ غاز الفحم، ولذلك سمّى العلماء كرية الدم الحمراء حمّالاً لا يعرف التعب أبداً، منذ أن تولد إلى أن تموت.
الشيء الذي يلفت النظر أنه يتم صنعها في أيام خمسة، من ثلاثة إلى خمسة أيام يجري تصنيع الكرية الحمراء،
وكما قلت قبل قليل: مصانع الكريات الحمراء في نقي العظام تنتج في كل ثانية واحدة اثنين ونصف مليون كُرية، وأنشط المراكز العمود الفقري، وبعدها ريَش الصدر، وبعدها عظم القص، وبعدها تأتي عظام الأطراف، لكن الله سبحانه وتعالى لحكمة بالغة جعل لهذه المعامل معامل احتياطية، فلو أنها توقفت عن العمل يعود الطحال والكبد ليصنع كريات الدم الحمراء، وفي أثناء عمل نقي العظام يصبح الطحال والكبد مستودعاً لكريات الدم الحمراء، فإذا تلقى الكبد أمراً من الكظر بطرح كميات من الكريات في الدم،
يأخذ من مخزونه، ويطرح في الدم، أما إذا توقفت المعامل عن العمل فينقلب الكبد والطحال إلى معملين يصنّعان كريات الدم الحمراء.
والشيء الذي يلفت النظر أن الإنسان فيه كمية دم محددة، فلو فرضنا أنه احتجم في هذه الأيام، أو أنه تبرع بالدم لنبك الدم، خلال أربع وعشرين ساعة يعود الدم إلى حجمه الطبيعي،
فأيّ آلية حصلت؟ قال هناك مركز بالغ الحساسية يعمل على مراقبة الدم باستمرار، وهذا المركز موجود في الكليتين، فإذا نقصت كمية الدم عن حجمها الدقيق أرسل هذا المركز أمراً هرمونياً إلى معامل كريات الدم الحمراء يحثها فيه على مضاعفة الإنتاج،
وإذا زادت كمية الدم عن حدها الطبيعي، وارتفع الضغط، وكان الإنسان في حالة خطرة يصدر هذا المركز أمراً إلى معامل كريات الدم الحمراء بتقليل الإنتاج، ولذلك أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نحتجم، لماذا؟ هناك أسباب كثيرة تحدثت عنها في خطبة سابقة .
موضوع الشقيقة، وموضوع آلام الرأس، وموضوع تبيّغ الدم، وازدياد حجم الدم، وفي الحديث :
(( مَنْ أَرَادَ الحِجَامَةَ فَلْيَتَحَرَّ سَبْعَةَ عَشَرَ، أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ، أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلاَ يَتَبَيَّغْ بِأَحَدِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَهُ ))
الحجامة و فقر الدم اللامصنع :
التبيّغ ثوران الدم، لكن السبب الرئيسي هو أنه كلما قلَّت كمية الدم في الشرايين تنشّطت المعامل، معامل الكريات الحمراء تنشط حينما تقل كمية الدم، لذلك هناك مرض خطير اسمه فقر الدم اللامصنِّع،
وكيف أن الكليتين تتوقفان كلياً عن العمل، ويسمى هبوطًا مفاجئًا في وظائف الكليتين، كذلك يتوقف نقي العظام فجأة عن تصنيع الكريات من دون سبب، والعلماء إلى الآن لا يعرفون السبب، يقولون: هذا المرض مجهول السبب، فقر الدم اللامصنع، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، أمرنا أن نحجتم في كل عام مرة أو مرتين، لأن نقص الدم في الشرايين يدعو مركز تعيير الدم في الكليتين إلى تنبيه المعامل لزيادة إنتاجها، وفي هذا تنشيط لها، وصيانة لها من الموت المفاجئ، ففي الحجامة صيانة لمعامل كريات الدم في نقي العظام،
وهذا الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام:
(مَنْ أَرَادَ الحِجَامَةَ فَلْيَتَحَرَّ سَبْعَةَ عَشَرَ، أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ، أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلاَ يَتَبَيَّغْ بِأَحَدِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَهُ) .
والشيء الأساسي هو أن العلاقة واضحة بين الكلية وبين ضغط الدم، يُقال: ارتفع معه الضغط فجأة، لأنه معه التهاب كلوي، فما علاقة التهاب الكلية بارتفاع ضغط الدم؟ لأن مركز تعيير الدم موجود في الكليتين.
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(11) ﴾
ماذا فعلوا.
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾
والله سبحانه وتعالى أمرنا أن ننظر في هذه الآيات فقال سبحانه:
﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(21) ﴾
مرة وقفت أمام مكتبة فوجدت كتاباً يزيد حجمه عن ألف صفحة، مكتوب عليه: أمراض الدم، قلت: سبحان الله! اختصاص كامل، يُعطى الإنسان أعلى درجة علمية، لأنه عرف طرفاً من أمراض الدم.
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
والآن يقول العلماء: كرية الدم الحمراء حينما تُصنَّع تفقد نواتها،
وهي الخلية الوحيدة التي تفقد نواتها، بينما أيّ خلية لا تعمل إلا بالنوية والنواة، والحكمة إلى الآن غير معروفة، والله سبحانه وتعالى دعانا إلى التفكر.
﴿ فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)﴾
والحمد لله رب العالمين.