- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16) ﴾
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
حرص الله على هداية العباد لمنافع الدنيا والآخرة :
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9) ﴾
هو أخذ على نفسه أن يكون في الأرض طريق سالك إليه، موصل، مستقيم، هنا:
إذاً: هو حريص على أن يهدينا إلى الأشياء، كما هو حريص على أن يهدينا إلى ذاته.
﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(17)﴾
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
ليس هناك مجال للموازنة بين الخالق والمخلوق :
هناك معنى دقيق أتمنى أن يكون واضحاً لديكم، الإنسانُ اليومَ يوازن بين فرعين في الجامعة، أيهما أولى؟ أن أكون طبيباً أم مهندساً، أم مختصاً بالتاريخ، كلها فروع علمية، ربنا -عز وجل- يقول:
التشبيه المعكوس في الآية :
مَن كان مع الله كان في الركن القوي :
أنتم الآن مدعوون إلى الخالق، وهناك من يدعوكم إلى مخلوق، إذا دُعيت إلى إرضاء زوجتك ومعصية ربك فأنت آثرت المخلوق على الخالق.
إذا دُعيت إلى طاعة شريكك من أجل كسب المال الحرام فأنت قد آثرت مخلوقاً على خالق.
هذه الآية يجب أن تقفوا عندها:
هذا هو الخالق فكيف تعصيه ؟
أيوازَى؟ أتزهد بالذي يخلق؟ أتُهمل أمره؟ أتُعرض عنه؟ أتستخف بدينه؟ ماذا قال الغزالي رحمه الله؟ قال كلمة مخاطباً بها نفسه: " يا نفس، لو أن طبيباً منعك من أكلة لذيذة، ووعدك إن أكلتها بالمرض الشديد -وما من واحد منا يذهب إلى طبيب، ويقول له: هذا الطعام دعه، من أجل قلبك، من أجل شرايينك، من أجل الضغط يقول الطبيب: دع الملح كلياً، والطعام بلا ملح لا يؤكل، لا طعم له، لكن من أجل الحفاظ على صحتك، وعلى شرايينك، وعلى قلبك، وعلى ضغطك، تدع الملح كلياً! طبيب يقول لك: دع الملح وإلا فالوضع خطير، خالق الكون يقول لك: غضّ بصرك وإلا فالحساب عسير، أتصدق طبيباً وتكذب خالقاً؟!- هكذا أقنع الغزالي نفسه حين قال: " يا نفس، أيكون الطبيب عندك أصدق من الله -عز وجل-؟ إن كان كذلك فما أكفرك!! أم أن المرض أخوف عندك من نار جهنم؟ إن كان كذلك فما أجهلك!! بالمنطق، أيكون الطبيب أصدق من الله -عز وجل-؟ أيكون إنسان يمنع شيئاً فيُنفَّذ أمره بحذافيره، أيكون هذا الإنسان الذي منع شيئاً أصدق عندك من رب العالمين؟ من رافع السماوات بغير عمد؟! إن كنت كذلك، إن كانت النفس كذلك فما أكفرها!! أو أن يكون المرض أخوف عندك من جهنم؟ وإن كان الأمر كذلك، هذه النفس التي تؤثر صحتها على حياتها الأبدية فما أجهلها!!
﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18)﴾
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
هل الإنسان يحب ربه أولاً ، أم أن الله يحب العبد أولاً ؟
هنا نقطة دقيقة؛ يا ترى أيهما يبدأ بالمحبة؟ الإنسان يحب ربه أولاً؟ أم أن الله -سبحانه وتعالى- يحب العبد أولاً؟ بعضهم استنبط من قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
أن محبة الله سبقت محبة العبد لربه.
بعضهم يقول: الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان، أعطاه الحواس الخمس، أعطاه الأجهزة الكاملة، أعطاه أماً وأباً يحنوان عليه، أعطاه الهواء، أعطاه الماء، أعطاه الغذاء، أعطاه الطعام، أعطاه الفكر، أعطاه الذاكرة، أعطاه التخيل، هذه النِّعم التي لا تعد ولا تحصى، بل إن النعمة الواحدة لا تحصى، وإذا كنت عاجزاً عن إحصائها، فأنت عن شكرها أعجز!! ألا يقتضي أن تحب خالق هذه النعم؟ فهناك ألف سببٍ وسبب، مليون سبب وسبب يدعوك لمحبة الله -سبحانه وتعالى-، ولكن الله متى يحبك؟ إذا رأى منك عفةً، إذا رأى منك استقامةً، إذا رأى منك انضباطاً، إذا رأى منك طاعةً، إذا رأى منك تقرُّباً، إذا رأى منك عملاً طيباً؛ فالمحبة مَيلٌ مبني على المجانسة.
محبة الله للعبد شيء عظيم :
قد يكون عند الأب أولاد عديدون، يعطف عليهم جميعاً، يطعمهم جميعاً، يكسوهم جميعاً؛ ولكن أحدهم لأخلاقه العالية، ولبرّه، وطاعته، وأدبه، يميل قلب الأب له، فمحبة الله شيءٌ ثمين جداً، لا يناله العبد إلا إذا دفع الثمن، ثمن محبة الله أن تكون كاملاً، وهذا الكمال لا يكون إلا باتصالك بصاحب الكمال، ولن تتصل بصاحب الكمال إلا إذا كنت مستقيماً على أمره، ولن تستقيم على أمره إلا إذا عرفته، تعرفه، تستقيم على أمره، تقبل عليه، تشتق من كمالاته؛ عندئذ يحبك. النبي عليه الصلاة والسلام رأى سيدنا معاذاً رضي الله عنه:
(( أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي لأحِبُّكَ يَا مُعَاذُ، فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلاةٍ : رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ))
هل تعرفون معنى هذه الكلمة؟ والله الذي لا إله إلا هو لو حاز سيدنا معاذ على أعلى شهادات في العالم، لو أن الدنيا كلها بملكه، لا يرقى إلى هذه المرتبة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ:
(( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ))
دين بلا محبة دين ميت :
أيها الإخوة الأكارم، دين من دون محبة جسدٌ ميت، ثقافة، طقوس، عبادات، كهنوت، ولكن المؤمن يخفق قلبه بمحبة الله -سبحانه وتعالى-، كل إنسان لا بد له من أن يحب، هذا يحب الدرهم والدينار هو عبد له، وهذا يحب النساء إن كان منحرفاً، أو زوجته إن كان مستقيماً، فهو عبد لها، وهذا يحب العلو في الأرض، وهذا يحب المظهر الحسن، وهذا يحب الأثاث الفاخر، وهذا يحب التحف، وهذا يحب الرحلات، وهذا يحب الطوابع مثلاً، وهذا هوايته الرياضة، وهذا يلعب التنس، والمؤمن يحب الله -سبحانه وتعالى-
فمـا مـقصودهم جنـات عــدن ولا الحور الحسان ولا الخياما
ســوى نظر الحبيب فذا مناهـم وهذا مــطلب القوم الكـراما
***
الإنسان يحاسب نفسه، هل نزلت من عينيك دمعة في يوم ما؟ شوقاً لله -عز وجل-، هل بكت عينك من خشية الله؟ هل اقشعرّ جلدك من تعظيم الله؟ هل تُليت عليك آية فازددت إيماناً؟ هل وضعت رأسك على الوسادة فتفكرت في ملكوت السماوات والأرض؟ هل استيقظت صباحاً والآخرة أكبر همك؟ هل أنت قلق في الحياة الدنيا، تخاف ألا تكون مَرضياً عند الله -عز وجل-؟ أين أنت؟
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154) ﴾
﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26) ﴾
ما الذي يشغلكم عن الله سبحانه وتعالى؟
إلى متى أنت باللذات مشــغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
تعـصي الإله وأنت تظهر حبـه ذاك لعـمري في المـقال بديع
لو كان حبـك صادقاً لأطـعـته إن المحب لمن يحب يطيــع
لن تحصي نعمة واحدة عدًّا لفوائدها وشكرا للمنعم بها :
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
هذه الآية:
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(19)﴾
واضحة كالشمس، لكن هناك معانٍ خلف السطور، هناك استنباطات دقيقة:
الله يعلم ما تخفيه وتنويه فإياك وظلم الناس وخداعهم :
الله -سبحانه وتعالى- يعلم الذي تعلنه للناس، ويعلم الذي تخفيه في نفسك، وإذا كان الله يعلم فمن باب أولى أنه يحاسب، الذي يعلم يحاسب، الإله إذا علم شيئاً حاسب عليه، فأنت مُحاسَبٌ على ما تُسِرُّ، وعلى ما تعلن، فإذا أعلنت لهذا الصانع أنك سوف تدخله في شركة هذا المحل، فذهب هذا الصانع امتلأ قلبه فرحاً، وحضوراً، واطمأن إلى مستقبله، أنت أعلنت ذلك، هل تعلم أن هذا الإعلان صار دَيناً عليك؟ الله يعلم أنك أعلنت ذلك، فكيف لا تفي بعهدك؟
أنت أعلنت حينما كنت في العمرة أنك لن تعصي الله -عز وجل-، إذاً سوف يحاسبك على إعلانك؛ هل كنت عند هذا العهد؟ أم خنت هذا العهد؟
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾
الله -سبحانه وتعالى- ناظر دائماً إلى قلبك، هل فيه احتيال؟ فيه مخادعة؟ فيه غش؟ فيه نيات سيئة؟ هل هناك موقف يُعلَن عنه، وموقف خاص ضمني؟ هل هناك ازدواجية في المواقف؟ أيوجد تملُّق؟ نفاق؟ تدليس؟ مخاتلة؟ على الوجه ابتسامة صفراء، وفي القلب حقد دفين؟ كل هذا يعلمه الله -عز وجل، وسيحاسب عليه، فافعل ما بدا لك، قال تعالى:
﴿
البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، لذلك قال بعضهم:
زار رجل بستانين على ضفة نهر واحد، والذي زرع البستانين رجل واحد، والخبرات واحدة، والماء واحد، وكل شيء فيه مشترك، بستان يكاد القمح يزيد ارتفاعه عن ارتفاع الإنسان، والثاني لا يزيد طول سوق القمح عن أربعين سنتيمتراً، فسأل هذا الرجل الزائر: ما السر في هذين البستانين؟ بعد بحث وتدقيق، وبعد اطلاعٍ واستحلافٍ، وجد أن البستان الأول يملكه رجل له أولاد أخ أيتام، في نيته أن يعطيهم نصف المحصول، فأنبت الله له القمح مضاعفاً -الله رب النوايا- والبستان الثاني لرجل مرابٍ، يقرض الناس، ويبتز أموالهم، فأتلف الله له المحصول، الله رب النوايا، أخطر شيء في الدين هذا القلب.
عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فمَن كانت هجرتُه إلى اللهِ و رسولِه ، فهِجرتُه إلى اللهِ و رسولِه، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))
هذه الآية فيها تهديد:
﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20)﴾
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
كلُّ جهة تُعبَد من دون الله تشملها هذه الآية :
هؤلاء الأصنام إن كانوا أحجاراً، وهؤلاء الأصنام إن كانوا من نوع آخر، كل جهة تعبدها من دون الله هي مما تنطوي تحت هذه الآية، فإذا اتكأ الإنسان على إنسان له مكانته، وظن أن هذا الإنسان يحميه من كل مكروه، وأنه يرفعه إلى الأوج، وأنه يجلب له المنافع، وأنه يبعد عنه المضار، هو ممن ينضوي تحت هذه الآية:
لا يكون الخالق مخلوقا ولا المخلوق خالقا :
أيعقل أن يكون الإله مخلوقاً، من أُولى لوازم الإله أن يكون خالقاً، أتعبد مخلوقاً؟ وتدع الخالق؟!
﴿
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
لهذه الآية معنيان:
المعنى الأول :
المعنى الثاني :
المعرضون عن الله أموات القلوب وإن كانوا أحياء الأبدان :
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنـما المـيـت ميـت الأحيـاء
فالموت والحياة يأخذان معنى آخر، حياة القلب بمعرفة الرب، وموته بجهله، غذاء الروح الاتصال بخالق الكون، وموتها انقطاعها عنه، لذلك ربنا -سبحانه وتعالى- قال:
الموت بيد الله وليس بيد غيره :
هذه آية دقيقة، زمام المبادرة ليس بأيديهم، أنت تقول: أنا بعد عشر سنوات سأفعل كذا وكذا، هذا كلام فيه غباء، ليست الأمور بيدك، من يضمن لك بعد هذه السنوات أن تبقى حياً؟
إن الطـبيب له عـلم يدل به إن كـان للنـاس فـي الآجـال تأخـير
حتى إذا ما انتهت أيام رحلتــه حــار الطبيب وخــانته العقاقيـر
***
هذه الزوجة التي عقد قِرانه عليها هل يُزَفَّ إليها؟ لا أحد يعرف، كم من إنسان مات قبل عرسه، هذه الشهادة "الدكتوراه" التي حصّلها في بلد أجنبي، هل يُتاح له أن يعود إلى بلده بعدها، وينادى باسم دكتور؟ قد يموت في الطائرة، قد يموت هناك، قد يموت قبل إعلان النتائج.
لا أحد يعلم زمان ومكان وطريقة موته :
﴿
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
مسيِّر الكون هو الله وحده :
هذه الآية أيضاً دقيقة جداً، الإله هو المسيِّر، مسيِّر الأرض واحد.
أردت أن أوْضِّح هذه الآية بمثل: أنت حينما تركب هذه السيارات العامة، كان هناك جابٍ يقطع للركاب، ثم حلت الآلة محل الجُباة، لو سافرت إلى محافظة نائية، ووجدت النظام نفسه مُطبّقاً هناك، معنى ذلك أن كل هذه الشركات؛ شركات النقل، تُدار من العاصمة، فهذا الذي وجدته في هذه المحافظة يشبه ما وجدته في دمشق، إذاً: هناك إدارة عامة مركزية تعمم هذه الأوامر.
أحياناً يشعر الإنسان أن هذا الإجراء على مستوى القطر، وأن الذي أمر به واحد، فيجب أن تعلم علم اليقين أن كل شيء في الأرض، في بلدنا وفي غير بلدنا؛ الرياح، الأمطار، الثلوج، الزلازل، البراكين، غزارة الأمطار، غزارة النبات، عوامل المرض، الفيروسات، كل شيء يُدار بيد واحدة، وإلهكم أيها البشر، ومسيِّركم، حركة الأرض حول نفسها، حول الشمس، الليل والنهار، الشمس والقمر، الصيف والشتاء، والخريف، والربيع، الأمطار، الرياح، العواصف، الزلازل، الصواعق، إنبات النبات، علاقتنا ببعضنا؛ هذا أقوى من هذا، هذا قويٌّ على هذا، هذا قهرَ هذا.
﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
ألوهية الخالق تبعث الطمأنينة في النفوس :
هذه الآية تبث في النفس الطمأنينة، أمور الكون كلها، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها بيد واحدة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
﴿
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ
﴿
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
(( كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ،
الأمر كله لله.
﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ
﴿
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ
كلّ أمورك بيد الله الرازق وحده :
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)﴾
الرزق، والصحة، والمرض، والحياة، والموت، والسعادة، والشقاء، والانشراح الداخلي، والانقباض، والقوة، والضعف، والسعادة الزوجية، والشقاء الزوجي، أولاد أبرار، أولاد مشاكسون، جيران متعبون، جيران مريحون.
لذلك إذا قلت: فلان؛ فهذا شرك! عِلاّن؛ شرك! أعطاني؛ شرك! منعني؛ شرك! قهرني؛ شرك! ظلمني؛ شرك!
(( لا يخافنَّ العبد إلا ذنبه، ولا يرجونَّ إلا ربه ))
إذا سقطت ورقة زيتون من على الشجرة، سِرْ في حقل زيتون في أيام الخريف، وافتح ورقة، واكتب كم ورقة زيتون تسقط؟ ربنا -عز وجل- قال:
﴿
فإذا كان سقوط ورقة يعلمها، فمن باب أولى أنك إذا ضُيِّق عليك هذا بعلمه، وبتقديره، وبرحمته.
فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ
غير المؤمن بالآخرة منكر بأسماء الله وكتبه ورسله :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ﴾
من لوازم الإيمان بالله -عز وجل- الإيمان باليوم الآخر، كيف تؤمن بالله، ولا تؤمن باليوم الآخر؟ إنك تلحد بأسمائه، تلحد بعدالته، تلحد بأنه سيجمع الناس ليوم لا ريب فيه، تلحد بيوم الفصل، بيوم الدين، بيوم يقوم الناس لرب العالمين.
﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا(17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا(18)﴾
فإذا أنكرت اليوم الآخر فقد أنكرت اسماً من أسماء الله، فلذلك:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(24)﴾
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
كلمة قديمة متجدِّدة : أساطير الأولين :
هذه غيبيات، الآن يعبِّرون عن الدين بالغيبيات؛ غيبيات، خرافات، خزعبلات، أوهام، مظاهر ضعف الإنسان.
أحد أكبر علماء الذرة اكتشف نظرية لا يزال معظم العلماء يجهلونها، يقول هذا العالم: كل إنسان لا يرى من هذا الكون قوة هي أقوى ما تكون، رحيمة هي أرحم ما تكون، عليمة هي أعلم ما تكون، حكيمة هي أحكم ما تكون فهو إنسان حي، ولكنه ميت.
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(25)﴾
المضلُّون يحملون أوزار من أضلوهم :
إذاً: إذا قلت فكرة مغلوطة، إذا قلت الباطل، وسمعك إنسان وصدقك، كل أعماله التي يعملها وفق هذه المقولة يُسجَّل وزرها في صحيفتك، كل ضلالة تُكتَب على شخصين؛ على قائلها، وعلى سامعها، فإياك أن تقول ضلالاً، لأنك إذا فعلت ذلك سُجِّل إثمه عليك
لماذا لا يحب الله المستكبرين ؟
لماذا لا يحب الله -سبحانه وتعالى- المستكبرين؟ لأن هذا المستكبر يعطي نفسه حجماً غير حجمه، من ادعى أنه يحمل دكتوراه وهو لا يقرأ ولا يكتب، أليس هذا جريمة؟ لأنه لو كان يحمل هذه الشهادة، وقال: إنه يحمل هذه الشهادة، فلا مانع، أما إذا ادّعى أنه يحمل هذه الشهادة وهو لا يقرأ ولا يكتب فقد أجرم !!
إذاً: الاستكبار ادّعاء، هذا الادّعاء حجاب له عن الله -عز وجل-، المستكبر محجوب، حجبه كِبره واستكباره، فلذلك من علامات المؤمن التواضع، ومن علامات غير المؤمن التكبر، فربنا -عز وجل- لا يحب المستكبرين.
وأتمنى عليكم إذا قرأتم كتاب الله أن تستخرجوا منه الآيات التي تنتهي بقوله تعالى: إن الله يحب، وإن الله لا يحب.
﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ
فإذا أردت أن يحبك الله فافعل ما يحب، ودع ما لا يحب، بطريقة سريعة جداً احصِ الآيات التي يحبها:
﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ
﴿ بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ
اجمع الآيات التي فيها: يحب، والتي فيها: لا يحب، افعل ما يحب، ودع ما لا يحب.
امرأة مؤمنة لما تزوجت قالت:
عليكم بالأشياء التي يحبها الله واجتنبوا ما يبغضه :
ربنا -عز وجل- قال لكم وانتهى، قال لكم ماذا يحب، وما الذي لا يحب، فإذا أردتهم حبه، أن يحبكم، فافعلوا ما يحب، محبته مقننة، لها قوانين، لها قواعد، ليست مزاجية اعتباطية فوضوية، إن الله يحب القوم الصادقين.
﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ
﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ
يحب الأمانة لا الخيانة، يحب الصدق، لا يحب الكذب، يحب الإخلاص، لا يحب النفاق، يحب الإحسان.
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ
يحب العلم، وهكذا.
إذاً :
﴿ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ(23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(25)﴾
أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ
أيّ حِمل يطيقه المضلون يوم القيامة :
هذا الذي يضل بغير علم، لو علم لما أضل أحداً، لهدى الناس، فالعلم من لوازمه الهدى، والجهل من لوازمه الإضلال.
الملف مدقق