- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9) ﴾
ثلاث نِعم عامة مذكورة في سورة النحل :
في هذه السورة بين الله لنا -سبحانه وتعالى- ثلاث نِعَمٍ كبرى امتنّ بها علينا.
1 ـ نعمة الإيجاد :
النعمة الأولى هي نعمة الإيجاد:
﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(4) ﴾
2 ـ نعمة الإمداد :
والنعمة الثانية هي الإمداد:
﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8) ﴾
نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد.
3 ـ نعمة الإرشاد :
والنعمة الكبرى الثالثة نعمة الإرشاد:
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
هذا أول شيءٍ في هذه الآية، أنها جاءت بعد نعمتين؛ نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، وفي هذه الآية بيانٌ لنعمة الإرشاد.
الانتقال من المحسوسات إلى المعنويات :
شيءٌ آخر، هو أن الله- سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم حينما يذكر الأشياء المادية يعقب عليها بالأشياء المعنوية، فحينما قال الله -عز وجل-:
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ
انتقلنا من الزاد المادي إلى الزاد المعنوي.
﴿
الانتقال من المحسوسات إلى المُجرَّدات، من الماديات إلى المعنويات، من الحقيقة إلى المجاز، والآن هذه الخيل والبغال والحمير تركبوها وزينة، وهذه تسلك طرائق لحاجاتكم وأهدافكم.
السبيل هي الطريق :
سيدنا الصديق رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الهجرة، وكانا متخفِّيَيْن خشية المطاردين، فإذا رجل في الطريق يسأل سيدنا الصديق، يقول له: من هذا الرجل؟ ويشير إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقال هذا الصديق الكريم الفطِن: هو رجل يهديني السبيل، أي يرشدني إلى الطريق، فتوهم السائل أنه دليل طريق، وهو عنى به أنه يهديه السبيل إلى الله -سبحانه وتعالى-، فالسبيل في اللغة هي الطريق، والسبيل تُذكَّر وتُؤنَّث.
معنى : قصد السبيل :
إلزام الله نفسه ببيان السبيل القويم وإمداد الناس بالرزق :
﴿
ما من دابة، الدابة نكرة تفيد الشمول، من دابة، ﴿مِنْ﴾ لاستغراق أفراد كل نوع، "ما من إلا" تفيد القصر، لكن لو أن الله -عز وجل- قال: ما من دابة إلا الله يرزقها، ما الفرق الدقيق بين قوله تعالى:
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56) ﴾
ربنا -سبحانه وتعالى- ألزم نفسه أن يكون على صراط مستقيم، وربنا -سبحانه وتعالى- ألزم نفسه أن يرزق العباد.
آيات الكون هي مِن السبيل التي بيّنها الله للعباد :
العلماء قالوا: خلق في الإنسان هذا العقل، وقالوا: نصب في الكون هذه الآيات، أي شيءٍ تقع عينك عليه آية دلالة على الله -عز وجل-، النجوم، الشمس والقمر، الليل والنهار، الجبال والسهول، الوديان والأنهار والبحار، أنواع النباتات، أنواع الأطيار، أنواع الحيوانات، أنواع المخلوقات، أنواع الأسماك، السبيل إلى الله، هذه الآيات التي بثها الله في الكون، وبثها الله في السماوات والأرض، وبثها الله في الأرض بالذات.
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) ﴾
هذه الآيات التي بثها الله في جسمك، كيف خُلِقتَ؟ كما تكلمنا في الدرس الماضي، الحيوان المنوي الواحد عبارة عن خلية لها غلاف، ولها سائل اسمه الهيولّى، ولها نوية، وعليها الجينات، وعلى الجينات خمسة آلاف مليون أمر، هذه تُكتَب في ألف مجلد، أو في مليون صحيفة، سمعك، بصرك، عضلاتك، شرايينك، أوردتك، هذه العين ترى بها الصور دقيقة واضحة، لأن خلاياها شفافة، من أين تستمد الغذاء؟ العين وحدها تستمد الغذاء عن طريق الحلول، أول خلية في القرنية تأخذ غذاءها وغذاء جارتها، وينتقل الغذاء عبر الخلايا القرنية لشيء واحد لكي تكون الرؤية صافية، هذا الشعر الذي جعله الله في رأسك، مئتان وخمسون ألف شعرة، لكل شعرة شريان ووريد وعصب، وغدة دهنية، وغدة صبغية، وعضلة، السبيل التي جعلها الله إليه أنه أعطاك الفكر، والسبيل التي جعلها الله إليه أنه بث في الكون هذه الآيات، والسبيل التي جعلها الله إليه أنه أنزل الكتب السماوية، وأنه أرسل الرسل، وأنه ساق الحجج، وضيق على عباده، وأبرز شيءٍ في الكون أن السبيل إلى الله واضحة، وسالكة، وهي أهم ما في الكون.
بيت قصد السبيل والسبيل القاصدة :
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
تبيان الطريق، وتوضيحه، ونصب الآيات، هذه من اختصاص الله -سبحانه وتعالى=، كيف أن الجهات المعنية تشق الطريق، وتضع عليه الإشارات، هناك منعطف خطر، هناك جسر ضيق، هناك طريق فرعية، هناك صعود شديد، هناك خطر الانزلاق، كلها إشارات رحمة بالسائقين، رحمة بالطارقين.
إذاً:
(( إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ))
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
معنى : وَمِنْهَا جَائِرٌ
مثلاً: طريق كسب المال؛ من ظن أن الدنيا هي المال، وكسب المال أذكى عمل، والغني هو الفالح، والناجح، والفائز، هذا الطريق يفاجَأ عندما يأتي ملك الموت أن المال كله لا قيمة له في هذه الساعة الحرجة، وأن كل الذي حصّله في الدنيا تركه في البيت، وأنه أمام حفرة سيبقى فيها إلى يوم القيامة، وبعد يوم القيامة إما أن يكون إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفذ عذابها، عندئذ يقول:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24) ﴾
﴿ يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28) ﴾
عندئذ يفزع، عندئذ يكتشف أن هذه السبيل التي سلكها كانت جائرة، يعني كانت منحرفة، ومسدودة، انتهت عند الموت، فإذا توهم الإنسان أن طريق جمع المال، وجمع الثروات، والانغماس في الدنيا ليصبح غنياً، هذا الطريق جائر، أول شيء منحرف عن طريق الحق، والشيء الثاني أنه مسدود، ليس نافذاً، ليس مفضياً إلى السعادة، عندئذ حينما يوضع الإنسان في النعش، وتمشي جنازته، يقول: يا أهلي يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم، فأنفقته في حله، وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة علي
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)﴾
في الآية إشارة دقيقة، هناك طريقٌ لله واحد، طريق الحق واحد لا يتكرر، ولا يتعدد، ولا يختلف، بين نقطتين لا يمر إلا خط مستقيم واحد.
﴿
لكل عصر واحد يسمو به وأنا لباقي العصر ذاك الواحد
ربنا -عز وجل- قال:
﴿
لا بد من رجل لكل زمان، ينطق بالحق، وينقل لك الحق الصُّراح مشهوراً كان أو مغموراً، لا بد من رجل على حق.
﴿ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32) ﴾
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ
انتهى الأمر.
لا يُنسَب الشر إلى الله :
لكن ليس على الله أن ينصب طريقاً جائرة، الطريق الصحيحة على الله نصبها، وعلى الله جعْلها، وعلى الله شقّها، أما الطريق الجائرة لن تُنسَب إليه تعالى، إذًا ما السبب؟ هناك سبب وجيه جداً، بعض المفسرين قال: تأدباً مع الله -عز وجل-، فربنا -عز وجل- جعل طريقاً مهلكة، لكن تأدباً مع ذاته العلية لم تُنسَب إلى ذاته، والحقيقة أن الطريق المفضية إليه، السالكة إليه، الموصلة إليه من خلَقه، هو خلقها.
وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
بيان الطريق الصحيح للناس جميعا ، والهداية لمن شاء الله :
تعلقت مشيئته بنصب هذا الطريق، ولم تتعلق مشيئته بهدايتنا أجمعين، فلماذا؟ أكثر المفسرون قالوا كلاماً طيباً، وكلاماً مقنعاً، وكلاماً عميقاً، قالوا: لو أن الحكمة تقتضي أن يهدينا جميعاً لهدانا إليه، ولكن الله يفعل ما يشاء.
لا انتفاع بالهدى القسري :
لو هدانا إليه جميعاً هداية قسرية لأُلغِيَتْ الأمانة التي كلفنا بها، ولأُلغِيَتْ هويتنا كَبَشر، ويُلغى عندئذ التكليف، ويلغى الاختيار، ويلغى الثواب، ويلغى العقاب، حيثما أُجبر الإنسان على طاعة الله -عز وجل- بطل الثواب، وحيثما أُجبر على معصيته بطل العقاب، وحيثما أُجبر على طريق معينة بطلت حرية الاختيار، وحيثما بطلت حرية الاختيار بطل التكليف، وإذا بطل التكليف بطل الابتلاء، فلا ثواب، ولا عقاب، ولا اختيار، ولا تكليف، ولا ابتلاء.
حينما توزع الجامعة على طلابها وهم في الامتحان أوراق الأسئلة مع أوراق الإجابة، مطبوعة بالإجابات الكاملة التامة، ويُكلَّف الطالب عندئذ بكتابة اسمه ورقمه فقط، وينال العلامة التامة، إذا فعلت الجامعة هذا ألغي الامتحان، لا معنى لهذا الامتحان، لا معنى للدراسة عندئذ، لا معنى للتنافس، لا معنى لحرية الاختيار، لا معنى للتكليف، إذا أيقن الطالب أنه في نهاية العام حينما يدخل إلى قاعة الامتحان سيوزَّع عليه ورقة السؤال، وورقة الإجابة مطبوعة كاملة، وما عليه إلا أن يكتب اسمه ورقمه، هل لهذا النجاح قيمة؟ لا والله، هل لهذا النجاح قيمة عند الطلاب؟ لا والله، هل لهذا النجاح قيمة عند الأساتذة؟ لا والله، هل لهذا النجاح قيمة عند الأهل؟ لا والله، فالجامعة طبعاً لو تشاء مثلاً لوزعت مع أوراق الأسئلة أوراق الإجابة، فنجح جميع الطلاب، ولكن هذا العمل ليس حكيماً، وليس مُجدياً، وليس له معنى، ولا جدوى منه، بل هو عمل غير حكيم، عمل يعطّل في الطلاب حرية التنافس، يعطل فيهم الدافع إلى الدراسة، يعطل فيهم الدافع إلى طلب العلم، يعطل فيهم التنافس، يعطل فيهم تأكيد ذواتهم، كل هذه المعاني الدقيقة، تأكيد الذات، حرية الاختيار، التنافس، قيمة تحصيل العلم بدافع شخصي، هذا كله يُعطَّل لو شاءت إدارة الجامعة أن تنجّح جميع الطلاب عن طريق توزيع أوراق الإجابة مع أوراق الأسئلة، هذا المعنى، ليس كما يتوهم بعض الناس سيّئي الظن بالله عز وجل، ويقولون: لو شاء الله هداكم، لكن لا يريد أن يهدينا، كلا ليس هذا المعنى، ليس من الحكمة أن يهدينا جميعاً هداية قسرية من عنده.
لو أن أباً يعمل في تدريس الرياضيات، وله ابن عنده في الصف، ألا يستطيع هذا الأب أن يعطيه قبل الامتحان بيوم الأسئلة، ويأخذ في اليوم التالي علامة كاملة ؟ يستطيع، ضمن إمكانه، لو فعل ذلك لحطم ابنه، لو قال له في أول العام: لا تقلق يا بني، أنت ابني، وأنا أحبك، وسوف أعطيك السؤال قبل بداية الامتحان بساعة، عطّل فيه الدافع نحو الدراسة، فالإنسان أولاً مخير، فلو هدانا أجمعين لتعطّل اختيارنا، الإنسان مكلف، لو هدانا أجمعين لتعطل التكليف، الإنسان مُبتلى، لو هدانا أجمعين لتعطّل الابتلاء، الإنسان حمل الأمانة، لو تعطّل التكليف لأُلغيت هويته، مَن الإنسان؟ مخلوق.
حينما قال الله عز وجل :
﴿
للإنسان حرية الاختيار :
هذا هو الإنسان، حمل الأمانة، وجُعِلت نفسه أمانة بين يديه.
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) ﴾
جُعل مخيراً، جُعل مريداً، أُودعت فيه شهوات، دُعي إلى الحق، فلا قيمة للهدى إلا إذا كان بدافع شخصي، بدافع من حرية الاختيار، أما لو أُلزِم الإنسان على الهدى لفقد الهدى قيمته، هذا معنى قوله تعالى:
تفسير يضل عنه أكثر الناس :
هذا الموضوع ينقلنا إلى موضوع كثيراً ما يبحث عنه بعض الإخوة المؤمنين، كيف نفسر قوله تعالى؟
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
المعنى الأول :
بعضهم قال: إن الله عز وجل إذا أضل عباده فإنه يضلهم عن شركائهم، كما لو أن الإنسان رأى أن ابنه يتلهى بلعبة، وأخفاها عنه، أضله عنها، يتلهّى بها عن نجاح مهمّ يتعلق به مستقبله، حينما يُضِل الله عبده يضله عن شركائه، لا عن ذاته، يهدي إلى ذاته، ويُضل عن شركائه، هذا المعنى الأول الذي يليق بالله -سبحانه وتعالى-:
﴿
المعنى الثاني :
وبعضهم قال: إذا أضل الله عبده، فمعنى ذلك أن هناك إضلالا جزائيًّا، وليس ابتدائيًّا، كيف؟ الإنسان اختار الضلال، فجازاه الله -عز وجل- بالإضلال.
﴿ إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ
﴿
المعنى الثالث :
الضلال بمعنى آخر، أن الإنسان حينما يرفض طريق الحق يضلّ، فلو أن إنساناً ماشياً في طريق، ووصل إلى مفترق طرق، وعلى المفرق شخص دليل واقف، حريص على رواد الطريق، وقال هذا الدليل: الطريق من هنا، فقال له سائق المركبة: أنت إنسان كذاب، أنت إنسان جاهل، هل يعقل أن يضيف إليه معلومات جديدة، رفض دعوته كلياً، قال له: اذهبْ أينما تريد، فالإنسان حينما يرفض هداية الله -عز وجل- وقع في الضلال وقوعاً حُكمياً، إذا رفضتَ طريق النجاة وقعت في طريق الهلاك، إذا رفضت طريق الحق سرتَ في طريق الباطل، فهذا هو المعنى الذي يستفاد من قوله تعالى:
قيمة الهداية ما كانت على قناعة واختيار :
الهداية لا قيمة لها إلا إذا انطلقت من إنسان مختار، بدافع من حرية الاختيار، هذه الآية آية أساسية في العقيدة، ودائماً الله -سبحانه وتعالى- تكفل لعباده على مدى الأيام والحقب، والسنوات، والدهور، أن يجعل طريقاً مستقيمة موصلة إليه، وهذه الطريق قد تكون بالكتب، وبالأنبياء، وبالآيات، وبالمصائب، وبالدعاة.
﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ(10)﴾
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
هل شعرت يوما أن الله هو الذي أنزل هذا الماء الذي تشربون ؟!
أعَرَفْتَه؟ هذا الذي أنزل من السماء ماء، فإذا قرأت في الصحيفة اليومية نِسَب الأمطار في المحافظات هل تشعر أن الله هو الذي منَّ علينا بهذه الأمطار؟ يقول لك: في المكان الفلاني سبعون ميليمتراً، والمكان الفلاني أربعة عشر، المجموع ألف ومئة، هناك أماكن المجموع فوق الألف، هل تحس حينما تقرأ هذه النشرة الجوية أن هذا من الله -عز وجل-، ومن فضل الله، وأن هذه الأمطار التي هطلت لا تقدر بثمن، وأنها تحيي الأرض بعد موتها، وأن رزقنا معلق بها.
﴿
إن رأيت الأنهار قد ارتفعت نسب الماء فيها بماذا تشعر؟ هل تحس أن هذا فضل من الله عز وجل؟
الماء لصالح الإنسان بطريق مباشر وغير مباشر :
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
كيف قال:
﴿
كيف قال:
﴿
﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وهذه مثلها:
تفكَّروا في هذا الماء العذب الزلال وما فيه من معادن :
نشرب منه، بكم تشتري هذا الكأس إذا مُنِع عنك، سؤال سُئل عنه بعض الملوك، قال : بنصف ملكي، قال: فإذا مُنِع إخراجه، قال: بنصف ملكي الآخر، هذا هو الماء، لو أن الماء نزل ملحاً أجاجاً، كل لتر منه يكلف في بعض البلاد النفطية من أجل التحلية ما يعادل أربعاً وعشرين ليرة سورية، فهذه الأمتار المكعبة في كل ثانية عشرون متراً مكعباً بالثانية، كم يكلف تحليتها؟ لو أنك كُلفت أن تحليها عن طريق التكنولوجيا، كيف؟
وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
الشجر هنا هو مطلق النبات :
معنى : تسيمون :
إذاً:
الآن الأعلاف من أخطر المواد الأساسية في حياتنا، لأن طعامنا مبني على الأعلاف، العلف ليس لنا، بل للحيوانات، ولولا الأعلاف لما نما الدجاج والخراف، والأنعام، إذاً:
﴿
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
الزرع المقصود به المحاصيل، القمح، الشعير، العدس، والحمص، والبازلاء، والفول:
هذه كلها آيات للتفكر والتذكّر :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)﴾
وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ
الكواكب من أعظم الآيات لمن يعقل :
أيضاً الليل والنهار، والشمس والقمر آيات دالة على عظمته سبحانه وتعالى، الليل سكن.
﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا(10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا(11) ﴾
في الليل ننام، وفي النهار نعمل، صار هناك نظام، صار هناك زمان، أين الزمان لولا الليل والنهار؟
﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16) ﴾
﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8) ﴾
﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ(10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(11) وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)﴾
الإنسان إذا أكرمك، قدم لك شيئاً، أول مرة تقول له: شكراً، المرة الثانية تخجل، كلما تتالت النعم فلا بد من أن تشعر بالفضل، وأن يلهج لسانك بالشكر، فهذه الآيات ألا تؤثر فيك؟
﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(13) ﴾
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
ما خلق لكم في الأرض، من مخلوقات، من حيوانات، من نباتات، من أشجار، من أطيار، من أسماك، من جبال، من رخام، من معادن، من أشباه معادن.
﴿ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66) ﴾
﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(144)﴾
﴿
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا
عالَم الأسماك من أعجب العوالِم :
هذه الأسماك التي خلقها الله في البحر كم نوع؟ بعضهم قال: مليون نوع، تبدأ من سمك تراه في بعض الأحواض صغيرة جداً، وجميلة، بعضها فسفوري، بعضها شفاف، بعضها أسود فاحم، بعضها مُزيّن مُلوّن مزخرف، بعضها لها ذيل طويل، لها زعانف ملونة، وتنتهي بالحيتان، وزنه مئة وثلاثون طناً، هل مئة وثلاثون طناً قليل؟ فيه من الدهن خمسون طناً، لحمه خمسون طناً، أحشاؤه ثلاثون طناً، يخرج منه تسعون برميلاً زيتاً، رضعته الواحدة ثلاثمئة كيلو، الحيتان ترضع طبعاً أولادها، كل رضعه ثلاثمئة كيلو، ثلاث رضعات بالنهار الف كيلو، تحدث أزمة حليب، هذا هو الحوت .
هناك سمك عريض، هناك سمك متوحش، هناك سمك صغير، وسمك لا يكبر كالسردين، وسمك ذو طعم طيب، مليون نوع من السمك في البحر.
تفسير : يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
من أبسط التفسيرات لقوله تعالى:
ولها تفسير آخر:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ(52)﴾
ربنا عز وجل بإيجاز قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ
﴿
حتى اسم الضال هذا من أسماء الله الحسنى، إذا تأمله الإنسان، وتتبعه من خلال الآيات، وأراد أن يحمله على المعاني الصحيحة التي تليق بالله -سبحانه وتعالى-، وتتناسب مع كمالاته فإنه حينما يقرأ كلمة ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ تقع هذه الآية على قلبه برداً وسلاماً، أما بعض المشككين فيقولون: فلان ضال، الله أضله .. هكذا من دون تعليل، من دون تفسير، من دون توجيه، من دون فهم عميق. .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ ))
وربنا -عز وجل- يضل ليهدي، في اسم الضار النافع، المانع الجامع، الخافض الرافع، المُعِز المُذِل، وعلماء التوحيد يلزموننا أن نذكر المُعِز مع المُذِل، والمعطي مع المانع، والرافع مع الخافض، والضار مع النافع، والمُضل مع الهادي، لأنه يضلك عن شهواتك ليهديك إليه، ويضرك لينفعك: إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.