- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس من سورة النحل وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(25) ﴾
هذا هو ظن الكفار بالدين :
هؤلاء الكفار يظنون أن الدين خرافة، وأن الدين سلوك الأقدمين، وأنه تعبير عن ضعف الإنسان أمام قوى الطبيعة، وأنه طقوس لا معنى لها، وأنه غيبيات، وأنه حجر عثرة في سبيل تقدم الإنسان، والكفار هم الكفار، في كل زمان ومكان، لذلك قال الله -سبحانه وتعالى-:
هؤلاء:
الإثم وتحمل الوزر ملازمان للكفر :
فصار ارتكاب الإثم وتحمّل الوِزْر شيئاً ملازماً للكفر.
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾
﴿
هناك تلازم عجيب بين الذي ينكر الدين كنظام إلهيٍ أنزله الله -سبحانه وتعالى- ليسعد الناس جميعاً في الدنيا والآخرة، بين من ينكر هذا النظام الإلهي وبين من يسيء إلى الناس، ولن تجد إنساناً واحداً أعرض عن الله -سبحانه وتعالى- وله عمل طيب، بل له عمل سيئ؛ يفرق بين الناس، يقيم العداوة فيما بينهم، يستعلي عليهم، يأخذ ما ليس له، يعتدي على أموالهم، يعتدي على أعراضهم، هذه صفات الكافر؛ بل إنها من لوازم الكفر.
تقسيمات البشر لا أساس لها من الصحة :
هذا الكلام كلام الله -سبحانه وتعالى-، أينما ذهبت، حيثما حللت، أينما اتجهت، الناس رجلان؛ بَرٌّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيّن على الله، كل تقسيمات البشر تقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان، أبناء الريف، وأبناء المدينة، تقسيم باطل، أيّ مخلوق تعرّف إلى الله -سبحانه وتعالى- تشرّف قلبه بهذه المعرفة، الأغنياء والفقراء، تقسيم باطل، الأقوياء والضعفاء، تقسيم باطل، العِرق الآري والعِرق السامي، تقسيم باطل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ،
(( أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، ))
(( أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً ))
(( سلمان منا آل البيت ))
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) ﴾
من قريش! هذا كله يؤكد قوله تعالى:
﴿
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ،
هذا هو الإسلام، الناس سواسية كأسنان المشط أحد أصحاب رسول الله في ساعة غضب توجه إلى سيدنا بلال، فغلبته نفسه فقال له يابن السوداء فمازال النبي صلى الله عليه وسلم معرضاً عنه قائلاً له: إنك امرؤ فيك جاهلية.
(( فعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ))
(( ليسَ منَّا من دعا إلى عصبيَّةٍ وليسَ منَّا من قاتلَ على عصبيَّةٍ وليسَ منَّا من ماتَ على عصبيَّةٍ. ))
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ذهب ليشتري بلالاً، وينقذه من تعذيب سيده أمية بن خلف، قال سيده لأبي بكر -رضي الله عنه-: والله لو دفعت فيه درهماً واحداً لبعتكه! لهوانه على سيده، فما كان من أبي بكر رضي الله عنه إلا أن قال لأمية بن خلف: والله لو طلبت به مئة ألف درهم لأعطيتكها، فلما أخذه وضع يده في يد تحت إبطه تأكيداً للإخوة في الإسلام، لذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا أبو بكر رضي الله عنه قالوا:
(( أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا، يَعْنِي بِلَالًا ))
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج إلى ظاهر المدينة لاستقبال بلال، خليفة المسلمين يخرج إلى ظاهر المدينة ليكون في استقبال سيدنا بلال! بلال وصهيب يدخلان ويخرجان بلا استئذان على سيدنا عمر؛ جاء أبو سفيان فوقف على بابه ساعات طويلة فلم يُؤذَن له، فلما دخل عليه عاتبه فقال: أبو سفيان سيد قريش يقف ببابك ساعات طويلة؟! وصهيب وبلال يدخلان ويخرجان بلا استئذان؟! قال: يا أبا سفيان أنت مثلهما؟! أين الثرى من الثريا؟! أين أنت، وأين هم؟! هذا هو الإسلام.
إذا شعرت أنك فوق الناس فلست مسلماً! إذا شعرت أنك خير من فلان أو علان فلست مسلماً! قال لي أحدهم، وأعجبني قوله: حج البيت الحرام فشعر بسعادة ما بعدها سعادة، قال لي: ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني، هذا هو الدين.
فهؤلاء الكفار هم الكفار، في كل زمان وفي كل مكان، حينما كفروا انقطعوا، وحينما انقطعوا حرّكتهم شهواتهم، وحينما حرّكتهم شهواتهم أخذوا ما ليس لهم، طغوا، وبغوا، واعتدوا على الأموال والأعراض؛ فلذلك ربنا -سبحانه وتعالى- يقول:
هناك كتاب لكل إنسان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ
كل أعمالك، كل حركاتك، كل سكناتك، كل تصرفاتك، كل مواقفك، كل طموحاتك، هذا كله مُسجَّل في كتاب
ما هو الوزر عموما ؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
الغيبة وزر، النميمة وزر، الكذب وزر، التنابز بالألقاب وزر
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))
عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( ... ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ))
ما تقول؟ بقي أمرُ العين.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى، وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُكَذِّبُهُ ))
هل تعلم أنك تأخذ وزر غيرك ؟
لكن الآية فيها ما يقصم الظهر:
قاصمة الظهر : بِغَيرِ عِلمٍ :
تأخذ بالألباب، هذا الذي يضل بغير علم، يظن أن هذا حضارة، هذا شيءٌ عصري، لا ينبغي أن نُحرَم منه، يُضِل الناس، وهو يحسب أنه ينفعهم، يؤذيهم في أخلاقهم، وهو يظن أنه ينفعهم، يحبّب إليهم الدنيا، وهو يظن أنه يخدمهم بغير علم، هذا الذي! يُضِل بغير علم، وهذا الذي يُضَل بغير علم، ولا جهل في القانون، مبدأ عام في القضاء، "لا جهل بالقانون"، كذلك لا جهل عند الله، فالإنسان إذا جهل يُحاسَب على جهله، لِمَ لم تتقصَّ الحقائق؟ لِمَ لم تتبع سبيل من أناب إلي؟ لمَ أتبعت سبيل أهل الدنيا؟ لمَ صدقتهم؟ لمَ عطلت فكرك؟ لِمَ لم تقرأ القرآن؟ لِمَ لم تحضر مجالس العلم؟ لماذا بقيت جاهلاً؟ لماذا اتبعت هواك؟ لماذا استمعت إلى وسواس الشيطان؟
(( مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا، وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا ))
مبدأ المسؤولية:
﴿
آثارهم؛ هذا الذي فعلت، سننت في أسرتك، وأنت عميد هذه الأسرة لقاء أسبوعياً مختلطاً، شيء جميل! سننت هذا اللقاء، واستمر هذا اللقاء بعد وفاتك، وتابعه الأهل، كان جدُّنا يفعل هذا، هذا الاختلاط إلى يوم القيامة، ما الذي نتج منه من اشتهاء، من زنى النظر، من طلاق زوجة، هذا الاختلاط الذي سننته في أسرتك سوف تتحمل تبعاته إلى يوم القيامة:
من الناس من يدري ويدري أنه يدري فهذا عالم فاتبعوه، ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهل فعلّموه، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فهذا شيطان فاحذروه، هذا الذي يُضِل بغير علم، ويُضَل بغير علم يظن هذا حضارة، يظن هذا رقياً، يظن هذا رقةً، يظن هذا ذكاءً، يظن هذا عقلاً متفتحاً، نفساً مرنةً، هذا كله ضلال في ضلال.
﴿
لا خيار لك، أنت عبد، العبد عبد، والرب رب، هذا هو الشرع، هذا هو القرآن، هذا هو الدستور، هذا هو الكتاب، فالذي حرمه حرام إلى يوم القيامة، والذي أحله حلال إلى يوم القيامة، الحرام ما حرمتَ، والحلال ما أحللتَ، والدين دينك، والشرع شرعك يا رب.
أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِه
﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ(26) ﴾
مكر الماكرين مكشوف :
أيُّ مكر عند الله مكشوف، هذا الذي يمكر، ويمكر، ويظن بأنه بهذا المكر يفلح، ويفوق، ويتفوق؛ هذا الذي يمكر الله -سبحانه وتعالى- أرخى له الحبل، فإذا جاء أجله:
إذا اهتز الأساس تداعى البناء :
فإذا اهتز الأساس تداعى البناء؛ هذا مكر الكفار، ولو أن إنساناً بنى بناء شامخاً بلا أساس، واعتنى بجدرانه، واعتنى بغرفه، واعتنى بطوابقه، ثم زينه، وبالغ في تزيينه، وأنفق عليه ما لا يحصى، ثم انهار الأساس، فتداعى البناء، كم هي الصورة مؤسفة، وكم هي مضحكة، وكم يعد هذا الإنسان غبياً، وساذجا!! هكذا الكافر:
يؤتى الحذِر من مأمنه :
ولحكمة بالغة لا يُؤتَى الكافر إلا من جهة أمنه، مطمئنٌ إلى صحته، يعتني بها أشد العناية؛ فلا يأتيه الألم إلا من جهة صحته، مطمئنٌ من جهة ماله، فلا يأتيه العذاب إلا من جهة ماله، مطمئنٌ لمكانته، إذا هي تُزلزَل من تحت قدميه، يؤتى الحذر من مأمنه.
عَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ ))
يؤتى الحذر من مأمنه، قد يختص الطبيب باختصاص دقيق دقيق، ويذهب إلى بلاد الغرب ليأخذ أعلى الشهادات في هذا الاختصاص، ويعود، ويعتني بصحته إلى أقصى الحدود، فإذا كان غافلاً عن الله -سبحانه وتعالى- لا يُصاب إلا بمرض من اختصاصه، عندئذ تنهار قواه! يُؤتى الحذِر من مأمنه، وأيّ جهة أنت مطمئنٌ لها، مستغنٍ بها عن الله -سبحانه وتعالى-، تتكل عليها، تراها قوة لك، لا يأتيك الدمار إلا من هذه الجهة
فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ
﴿
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ
عذاب الخزي شيء لا يحتمَل :
عذاب الخزي شيء لا يحتمل، هناك عذاب عظيم، وهناك عذاب أليم، وهناك عذاب مُهين، قد يُخزَى الإنسان، قد يقف في موقفٍ يتمنى أن تُشق الأرض وتبتلعه، قد يقف في موقف يتمنى لو كان هباء منثوراً، قد يقف في موقف يتمنى أن لم تلده أمه قط، هو العذاب المهين عذاب الخِزي.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ(83) ﴾
﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ(45) ﴾
إذا توقفت المركبة العامة فجأة، وصعد المفتش، وطالب الركاب ببطاقاتهم، وأحد الركاب لم يقطع بطاقة، انظر إلى وجهه، انظر إلى لون وجهه، انظر إلى ارتباكه، انظر إلى خجله، انظر إلى موقفه إن كان أنيقاً، إن كان ذا مكانة، ماذا يفعل؟ هذا من أجل مخالفة لا تزيد عن عشر ليرات سورية، فكيف لو وقف الإنسان أمام الخلائق كلها يوم القيامة، وعُرِضت عليه أعماله مصورة، ورأى فضل الله -سبحانه وتعالى- عليه، وكيف واجه هذا الفضل بالجحود والنكران، وقد أكل مال هذا، وشتم هذا، وآذى هذا، وخَوَّفَ هذا؛ يحاسبه الله -سبحانه وتعالى-، أهكذا فعلت بعبادي؟ أهذا جزاء الإحسان؟ ألهذا خلقتُك؟ ألهذا بعثت بك إلى الدنيا؟
وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ
إياكم والشريك فإنه سيعاديكم يوم القيامة :
كفار مكة لماذا عادَوا النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لماذا أخرجوا أصحابه؟ لماذا قاطعوهم؟ لماذا مكروا لهم؟ لماذا أخرجوهم؟ لأنهم سبوا آلهتهم، وعابوا دينهم، أتمتلئ غيظاً من أجل شريك ما أنزل الله به من سلطان، أهكذا يكون؟
قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ
﴿
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ
لأنهم ظلموا أنفسهم :
هؤلاء الذين:
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر :
هذا العالم الجليل الذي كان يركب فرساً في العهود الغابرة، وعليه ثياب جميلة جداً، وحوله بعض تلامذته يحفّون به، ويكرمونه، نظر إليه يهوديٌ فقيرٌ، في حالة قميئةٍ بائسةٍ، وكان قد سمع هذا اليهودي بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ))
فحار في هذا الحديث، فلما لقي هذا العالم في موكب في الطريق قال: يا سيدي: يقول نبيكم:
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
يا بني، ما خَيْرٌ بعده النار بخير، وما شَرُّ بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية، يا بني العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، ألا يا رُبَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا ربَّ نفس جائعة عارية في الدنيا، طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا ربَّ مُكرِم لنفسه وهو لها مُهين، ألا يا ربَّ مُهين لنفسه وهو لها مُكرِم، ألا يا ربَّ مُتخوِّض ومُتنعِّم في الدنيا ما له عند الله من خلاق، ألا يا ربَّ شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً:
(( أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، ثَلَاثًا، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ ))
فَأَلْقَوْا السَّلَمَ
عند الهزيمة النكراء تُرفَع الراية البيضاء :
هؤلاء الكفار ظالمي أنفسهم، حينما تأخذهم الملائكة عند الموت ألقوا السَلَم، ألقوا سلاحهم، ورفعوا أيديهم، هم ينتظرون عقابهم الأليم، هم ينتظرون ما يُفعل بهم، النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن انتهت موقعة بدر بالفوز والنصر توجه إلى قتلى المشركين، خاطبهم بأسمائهم واحداً واحداً، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ، فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا؟ وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ ))
هذه ساعةٌ عصيبة، ساعةٌ لو نسمع صياح من جاءته لصُعِقنا جميعاً، يصيح الكافر يوم تأتيه الملائكة لتقبض روحه يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصُعقوا جميعاً.
انظروا إلى الكلام الفارغ :
لا يُظلَم عند الله أحد :
ربنا -سبحانه وتعالى- يكذبهم:
﴿ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(29) ﴾
المصير المحتَّم للكفار : جهنّم :
هؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، خُلق الإنسان ضعيفاً، يتكبرون فيها بغير الحق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ ))
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقِّ الله البطل
إذا كنت بطلاً حقاً تأتي يوم القيامة ناصع الجبين، أبيض الوجه، صادق القول، طيب القلب، سليم القلب، هذه هي البطولة، أما حصّلتُ المال الفلاني، عمّرت هذا البيت، أنشأت هذا المعمل، أقمت هذه المزرعة، أملك كذا وكذا، عندي من المال ما لا تأكله النيران، فعلت كذا وكذا، سافرت إلى كذا وكذا، أكلت كذا وكذا، هذا لا ينفعك عند الموت، إلا من أتى الله بقلب سليم.
بئس مثوى الكافرين جهنم :
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ. ))
لو أن الإنسان سها ولها عن الله -سبحانه وتعالى-، غفل عنه، وانكب على الدنيا، فلا بد من يوم يستيقظ فيه على خبر مؤلم، إن في صحته، أو في ماله، أو في أولاده، أو في زوجته، أو في حريته، لا بد من خبر مؤلم، أما إذا عرفت الله -سبحانه وتعالى-:
﴿
من خير إلى آخر، ومن رقي إلى رقي، ومن سعادة إلى أعلى، ومن عقل إلى أوسع، لا بد من التطور نحو الأعلى، في عقلك ومعرفتك، وحالك النفسي، ومكانتك، وحبك، وإقبالك، وصلاتك، وعبادتك، كلما زدت في العمر يوماً زدت قرباً، وزدت مكانة، وزدت حصافة، وزدت عقلاً، يقابل هذا أن أهل الدنيا لا بد من أن تأتيهم الأخبار المُفجعة، لا بد من أن يُصْعَقُوا قبل أن يموتوا، لا بد من أن يقصمهم الله -سبحانه وتعالى-، لا بد من أن يُفْجعهم، هؤلاء:
إذا كنت تحب نفسك، إذا كنت مفرطاً في حب نفسك، فانتبه لهذه الحقائق، القرآن يحذرك مما سيكون. أما القسم الآخر من الآيات :
﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ(31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33). ﴾
ستُشرح هذه الآيات في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين.
دعاء:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأفضل التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
الملف مدقق