وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة النحل - تفسير الآيات 4 – 8 ، عن خلق الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


علاقة الآية بما سبقها من الآيات :


 أيها الإخوة، مع الدرس الثاني من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿  خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(3) ﴾

[ سورة النحل  ]

 بعد أن بيّن الله لنا -سبحانه وتعالى- أنّ أمر الله قد أتى، بمعنى أنه قد دنا واقترب، وأنه سيُحاسَب الإنسان عن أعماله كلها، والله -سبحانه وتعالى- أنزل على نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كتاباً بمثابة الروح لنا، حياتنا من دون هذا المنهج لا معنى لها، هذا الكتاب روح النفس، وروح العقل، وروح المجتمع، وروح الأمة، وروح الأسرة. 

﴿  يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ(2)﴾

[ سورة النحل  ]

 والعلماء قالوا: نهاية العلم التوحيد، ونهاية العمل التقوى، يعني فحوى كتاب الله -سبحانه وتعالى-: ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ طريق معرفة الله، الطريق الموصلة إلى أن تؤمن أنه لا إله إلا الله، ما دامت كلمة التوحيد نهاية العلم، وما دامت التقوى نهاية العمل، فما الطريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا إله إلا هو؟ الطريق التي إذا سلكناها وصلنا إلى الإيمان بأنه لا إله إلا الله، وأنه لا مُسيِّر لهذا الكون إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله، ولا رافع ولا خافض، ولا معز، ولا مذل، ولا معطيَ ولا مانع إلا الله طريق الإيمان بـ (لا إله إلا الله) ، ما دامت كما قال المفسرون: نهاية العلم التفكر في هذه الآيات التي سوف يوردها الله -سبحانه وتعالى-: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾


خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ


الحق نقيض الباطل واللعب والعبث :

 وقد بينت لكم في الدرس الماضي والذي قبله أيضاً كيف أن الحق تعني نقيض الباطل، وكيف أن الحق يعني نقيض اللعب، فاللعب هو العمل غير الهادف، والباطل هو الشيء الزائل، فالحق هو الشيء الثابت المستقر الهادف، الحكمة الثابتة، فالله -سبحانه وتعالى- خلق السماوات والأرض، والسماوات والأرض لفظ يرد في القرآن كثيراً، ويعني الكون.

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أي لحكمة ثابتة، ولهدف كبير، من أجل أن تعرفه، فإذا عرفته عبدته، وإذا عبدته سعدت بقربه إلى الأبد.

إذاً: العلة الأولى والأخيرة أن يسعدك بهذا الخَلق، خلقك ليسعدك، طريق السعادة العبادة، طريق العبادة المعرفة، طريق المعرفة خلق السماوات والأرض.

الشرك نقيض التوحيد :

 ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ما الذي يناقض التوحيد؟ الشرك، إما أن تكون مُوحِّداً، وإما أن تكون مشركاً، إذا قلت: فلان وعلان، فلان بيده أمري، فلان بيده نفعي، فلان بيده ضري، فهذا هو الشرك.

﴿  وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)  ﴾

[  سورة يوسف ]

 أكثر الذين يدَّعون الإيمان واقعون في الشرك وهم لا يدرون، فلذلك: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ لهدف كبِيرٍ كبيرٍ، هو أن تعرفه، فتعبده، فتسعد به، إذاً لم يخلق السماوات والأرض عبثاً، بلا هدف، ولم يخلق السماوات والأرض لعباً، ولم يخلق السماوات والأرض باطلاً، لا باطلاً، ولا لعباً، بل خلقها إلى الأبد، وخلقها لهدف كبير، فيا أيها الإنسان الكريم، أنت مُكرَّمٌ عند الله.

﴿  وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)﴾

[  سورة الإسراء ]


حياة الإنسان تبدأ بالموت :


 لا تظن كما يظن معظم الناس أن حياتك تنتهي بالموت، لا والله، إنها تبدأ بالموت.

﴿  يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)  ﴾

[  سورة الفجر  ]

 لو أن حياة الإنسان تنتهي بالموت لكانت هذه الفكرة مبعث ألمٍ شديدٍ جداً، ومَبعَث قلق شديد، ومبعث حيرة، كل هذا الكون من أجل سنوات محدودة معدودة، مشحونة بالمتاعب، والضيق، والأخطار، والمُقلقات، والفقر أحياناً، والخوف أحياناً، أهكذا خَلْقُ الله عز وجل؟ أليس الذي خلق السماوات والأرض بقادرٍ على أن يخلقنا من دون أن يزعجنا؟ من دون أن يخيفنا؟ من دون أن يفقرنا؟ من دون أن يتخذ بعضنا بعضاً سخريًّا؟ لولا الإيمان باليوم الآخر لكان خلق السماوات والأرض عبثاً، ولعباً، وباطلاً.

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ مخلوقة لهدف نبيل، أتظن أن إنشاء مَخبرٍ ضخمٍ للتسلية، أم لهدف نبيل؟ أن يحلل ما يَرِدُ إليه من حالات مَرَضية، هذا يحتاج إلى تحليل، إنشاء المنصات، إنشاء القوارير، تأمين الأجهزة، أليس هناك هدف نبيل؟ ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾


خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ


﴿  خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(4)﴾

[ سورة النحل ]

 يا الله لهذه الآية!

الإنسان مخلوق من نطفة ثم هو يخاصم ويجادل ربَّه :

 ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ هذه البداية، أما النهاية فهو شخصية مهمة، متبحِّرة في العلوم، تثبت عن طريق المحاضرات، أو عن طريق التَأَليف أنه ليس هناك خالق.

﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ يخاصم الذي خلقه ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ .

﴿  أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)﴾

[  سورة المرسلات ]

 بعد أن صار إنساناً سوياً، له فكر، وله حواس، وله أجهزة ، وله إدراك، وله مكانة، وله شأن، صار يخاصم الله -سبحانه وتعالى-، مفارقة عجيبة ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ .

﴿  أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37)﴾

[  سورة القيامة  ]

 نطفة، الله -سبحانه وتعالى- سماه ماءً مهيناً، أيْ محتقرًا، فإذا ظهر على ثوب الإنسان يستحي منه.


الحيوانات المنوية :


 ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ الإنسان في اللقاء الزوجي يخرج منه أكثر من ثلاثمئة مليون حيوان منوي، بعض الكتب تقول: يخرج منه مئتان وخمسون مليون حيوان منوي، بعضها ثلاثمئة مليون حيوان منوي، والشيء الثابت أن النطفة شيء، والمني شيء آخر.


ما هي الخلية ؟


 ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ حيوان، يعني من خلية.

 ما هذه الخلية؟ والله الذي لا إله إلا هو هناك حقائق اكتشفها العلماء لولا أن هناك أدلة قاطعة عليها، ولولا أن هناك صوراً التقطتها مجاهر إلكترونية لكانت هذه الحقائق فوق حد التصور.

 يقولون: إن الإنسان يتألف جسمه من مئة مليون خلية، ما الخلية؟ قالوا: كرةٌ مُحاطةٌ بغشاء رقيق، وهذا الغشاء الرقيق يحتوي سائلاً لزجاً، وسط هذا السائل كُريَّة، أي كرة صغيرة أصغر من الأولى وأكثر كثافة، أبعاد هذه الخلية 2% من الميليمتر، الميليمتر قسمه إلى مئة جزء، أبعاد الخلية 2% من الميليمتر، كائن حي، بعضهم قال: الخلية ليست أصغر جزءٍ في الإنسان، بل هي أصغر وحدةٍ وظيفية، بمعنى أن الخلية أيضاً مُقسّمةٌ إلى أجزاء، وعالم الخلية عالم قائم بذاته، والعلماء في أرقى الجامعات لم يصلوا إلى نهاية البحث في الخلية.


ممّ تتألف الخلية ؟


 إذاً: هذه الخلية هي غشاء وسائل وكُريّة، الكرية اسمها النواة، الكُريّة تحتوي على أشياء اسمها كرموسومات، هذه الكروموسومات عبارة عن خيوط على شكل مِسبحة، عليها شيءٌ اسمه الجينات، على كل كروموسوم ثلاثة وعشرون زوجًا من الجينات، الجينات هي المورّثات، قالوا: هذه المورثات، هنا السؤال، كنت قد سمعت هذا الرقم شفهياً، وكنت أتهيّب أن ألقيه في درس، إلى أن وصلت إلى بحث علمي يؤكد هذا الرقم، هذه الجينات المورّثات تحتوي على معلومات، أو أوامر، أو تعليمات مبرمجة، لو أردنا كتابتها في كتاب لاحتجنا إلى مليون صفحة، يعني إلى ألف مجلد، من مساحة دوائر المعارف، مجلدات دوائر المعارف بحجم كبير، على هذه الجينة أوامر، أو تعليمات مبرمجة، لو أردنا أن نفرّغها في مجلد لاحتجنا إلى مليون صفحة، الرقم الذي سمعته من سنوات طويلة، سمعته من محاضر يقول: خمسة آلاف مليون معلومة، يعني خمسة آلاف مليون أمر في هذه الخلية، التي لا تزيد أبعادها على 2% من الميليمتر، وقد تكون أصغر من ذلك، والمحاطة بغشاء رقيق، وبعد الغشاء هناك سائل لزج، الهيولّى هي داخل هذا السائل، كرية صغيرة أكثف وأصغر وأشد صلابة اسمها النواة، فيها كرموزومات على أحد هذه الجينات، في الجينة الواحدة ألف مجلد معلومات أو أوامر، أو تعليمات على شكل شفرات مبرمجة، يزيد حجمها لو كُتبت على ألف مجلد، أو مليون مَليون صفحة، أو خمسة آلاف مليون معلومة، لولا أن هناك صورًا عندي في البيت التقطتها مجاهر إلكترونية تكبّر آلاف المرات لهذه الجينات لكان الشيء أبعد من الخيال.

﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ بحوث النطفة لا تنتهي في ساعة أو ساعتين، تُدرَّس في سنوات، بحوث البويضة، بحوث النطفة، بحوث الحيوان المنوي، بحوث الخلية.


البويضة تختار حيوانا منويا واحدا :


 ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ الحيوان المنوي ثلاثمئة مليون خيوان منوي في كل لقاء، يصل من هذه الحيوانات إلى عنق الرحم بضع مئات، من ثلاثمائة مليون إلى بضع مئات، معنى ذلك أنه لا يصل إلا الأقوى، والأجدر، والبويضة تختار حيواناً منوياً واحداً، لكن كيف تختاره؟

 هذا الحيوان المنوي له رأس مُدبَّب، وله عنق، وله ذيل، إذا وصل إلى البويضة ارتطامه بها يمزّق غشاءً رقيقاً جداً في قِمّة رأسه، هذا الغشاء يحتوي على سائل، هذا السائل يذيب جدار البويضة، فيدخل هذا الحيوان إلى البويضة، ويتم التلقيح، هذا السائل قال لي بعض الأطباء: إنه يتغذى من الزبيب، ليس من العنب، ومن اللفت.

﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ هذه بعض المعلومات، لو أردت أن أعرض عليكم معلومات الأطباء العاديين لما اكتفينا بجلسات.

﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ خمسة آلاف مليون أمر على الجينة الواحدة، المؤلَّف منها الكروموسوم في النواة، في الهيولى، في الخلية، وتقول من الخالق! من خَلقنا! 

﴿  إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)﴾

[  سورة المؤمنون ]

 ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ .


هذا عن الرجل فماذا عن المرأة ؟


 هذا عن الرجل، فماذا عن المرأة؟ العلماء قالوا: إن الطفلة وهي في بطن أمها يوجد في مبيضها ستة ملايين بويضة، إذا ولدت هذه الطفلة، وبلغت سن الحيض يبقى في مبيضها ثلاثون ألف بويضة، فإذا اكتمل نضجها لا يبقى في مبيضها إلا أربعمئة بويضة فقط، هذه البويضات تخرج كل شهر، حكمة بالغة، الله -سبحانه وتعالى- ينضج ثلاثةً أو أربعةً في كل شهر، ويرسل واحدة إلى الرحم، فإذا التقت بالحيوان المنوي في الطريق كان التلقيح، وكان الحمل، وإلا ستذهب هذه البويضة إلى الرحم فتصبح دورة شهرية، قال عليه الصلاة والسلام:

((  إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله مَلكاً فقال: يا رب: مُخَلَّقة؟ أم غيرُ مُخَلَّقة؟ فإذا قال: غيرُ مخلَّقة مجَّتها الأرحامُ دَماً  ))

[  تفسير الطبري عن ابن مسعود، وانظر فتح الباري ]

 هكذا قال عليه الصلاة والسلام .

 ويتفق كلامه مع أحدث النظريات الطبية في شأن الحمل والتلقيح، 87% من حالات التلقيح يتم سقوطها من دون أن تدري المرأة في ذلك، قد يكون السقوط من دون أن تشعر المرأة في ذلك، لذلك قال تعالى:

﴿  هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6)﴾

[  سورة آل عمران ]

 ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن .

﴿  لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)﴾

[  سورة الشورى  ]


هذا هو الماء المهين :


 المُقدَّر كائن لا محالة، هذه الحيوانات المنوية، أو هذه النطفة يتم تصنيعها في الخصيتين، من منكم يصدق أن هذا الماء الذي خرج في اللقاء الزوجي مضى على تصنيعه أربعة أشهر؟ أربعة أشهر  تعمل الأنابيب، والخلايا، والأجهزة الدقيقة في الخصيتين على تخليق هذا الحيوان المنوي، فإذا تمّ خلقه يوضع في التخزين، وقد قال لي طبيب: وفي أثناء التخزين تجري عليه تحسينات كثيرة، إلى أن يخرج مع سائل تفرزه البروستات على شكل مني.

﴿  أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58( أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59)﴾

[ سورة الواقعة ]

 الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ هذا الكافر، هذا الملحد، هذا الفاجر، هذا العاصي، هذا المتكبر، هذا الذي يقول: ليس هناك إله مثلاً، أو يقول: الدين لا قيمة له في الحياة، أو هذا القرآن ليس كلام الله، إنه كلام هذا العبقري محمد -صلى الله عليه وسلم- كما يقول هو: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ .


مَن يحدد نوع الجنين ؟


 شيء آخر، العلماء انتهوا من أنَّ الذي يحدد نوع الجنين ذكراً أو أنثى هو الحيوان المنوي، وليس البويضة، فهذا الذي يغضب من زوجته إن أنجبت بنتاً أنثى إنه كتلة من الجهل.

﴿  وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46)  ﴾

[  سورة النجم  ]

 الزوجان الذكر والأنثى مُخلَّقان من نطفة، لا من بويضة، من نطفة إذا تُمنى، رجل في الجاهلية ولدت له زوجته بنتاً فغضب عليها وهجرها، وكانت شاعرة فقالت:

ما لأبي حمزة لا يـأتينا   يظل في البيت الذي يلينا

غضبان أن لا نلد البنينا    تالله مـا ذلك في أيـدينا

وإنما نأخذ ما أعطيـنا    ونحن كالأرض لزارعينا

***

 إذاً: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ .

ألا تعرف مَن شكّلك طفلا ؟

 ألا يكفي خَلقُ الإنسان؟ لو أن الله -سبحانه وتعالى- خلق الناس كلهم دفعة واحدة ما عرفنا كيف خَلقنا؟ لكن الله -عز وجل- لحكمة بالغة عرَّفك بخَلقك عن طريق ابنك، قد تقول أنت: أنا لا أعرف كيف خُلقت، أنا حينما أدركت الحياة كنت شاباً، أو كنت طفلاً، والله لا أعرف كيف خَلّقني الله في بطن أمي؟ شيء جميل، ألا تعرف ابنك وما أصله؟ هذا الذي أمامك، هذا الذي هو أطول منك الآن، ألم يكن نطفة من ماء مهين؟ مَن خَلقه في بطن أمه؟ ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ من شَكَّله؟ من جعل له السمع والأبصار والأفئدة؟ من جعل له الدماغ؟ والجمجمة؟ والعمود الفقري؟ والنخاع الشوكي؟ والعظام والعضلات، والأوردة، والشرايين، والغدد الصماء، والكبد، والبنكرياس، والكظر، والنخامية، والدرقية، من؟ جهاز التناسل، جهاز التنفس، وجهاز الدوران، وجهاز طرح الفضلات، وجهاز البول، والمثانة، والكليتين، من؟

﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ إذا تعامى الإنسان عن هذه الآية الكبرى .

﴿  وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5)  ﴾

[ سورة النحل ]


وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ


ما هي الأنعام ؟

 الأنعام كما قال العلماء: هي الجِمال، الإبل، والبقر، والغنم، والمعز، هذه هي الأنعام، كلها خيرات.

ماذا لو تكن الأنعام مذلّلة ؟!

﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ لكم يعني خُلِقت لكم خصيصى، لو تتبعت كلمة (لكم) في كلام الله:

﴿  وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72) ﴾

[  سورة يس  ]

 لو أن الله -سبحانه وتعالى- ركَّب في الأنعام أخلاق الضباع، أو أخلاق الوحوش، أو أخلاق السباع، أو ركب بها سمًّا قاتلاً كالأفاعي أو كالعقارب، أو جعلها متوحشة، كيف نستخدمها؟ كيف نعتني بها؟ كيف نذبحها؟ كيف نأكلها؟

﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ خُلِقتْ خصيصى لكم، لا يقل أحدكم: إن الله خلق هذه الحيوانات حتى نستأنس بعضها، لا، من يستطيع أن يستأنس بحيوان متوحش حتى الآن؟ المتوحش متوحش، والأليف أليف، شيء مهمٌ جداً، هذه الأغنام مثلاً لحمها طعامٌ طيب، سيد أنواع الطعام، جلدها له فوائد جمّةٌ، صوفها له فوائد جمّةٌ، شيءٌ لا يُرى بالعين، طباعها أن الغنم يعيش على شكل قطعان، والكلاب تعيش فُرادى، لو أن الله -عز وجل- ركّب طباع الكلاب في الغنم كيف ترعاها؟ كيف تستطيع أن تجمعها في قطيع؟ الكلاب متفرقة، من أعطى الغنم حب التجمع، إذا نظرت إلى قطيع غنم، ورأيته كتلة واحدة، رؤوس بعضه في داخل بعض، تفزع الغنمة إذا اكتشفت أنها وحيدة، تركض إلى قطيعها بشكل مخيف، من جعل بها هذه الصفة؟ وهذا الطبع؟ الله -سبحانه وتعالى-، من جعلها مُذلَّلة؟ الطفل يألفها، يلمسها، يداعبها، يمسكها، يحملها، لا يخاف منها، بينما عقرب صغير إن رآه رجل كبير لقفز على الأرض خوفاً منها، لماذا نقفز عن الأرض من عقربٍ أو من أفعى، ونألف هذه الغنمة، والإبل، والناقة، والبقر، والمعز، والغنم؟


فكِّروا في هذه الحيوانات :


 ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ هل فكرتم فيها؟ إذا تجاهلتم خَلقكم، إذا تجاهلتم أنكم خُلقتم من نطفة من ماء مهين، ألا تأكلون كل يوم؟ ألا يذهب أحدنا إلى القصّاب؟ ألا يرى هذا الغنم؛ عضلات، عظامًا، أوردة، شرايين، أحشاء، أمعاء، جمجمة، رأسًا، دماغًا، عينين، أنفًا، لسانًا، أذنين، قوائم، جهازًا هضميًّا، قلبًا، كُلْية، أمعاء دقيقة، أمعاء غليظة، ليّة؟ ألا يُرى هذا أمامنا جميعاً؟ ما الحكمة التي جعل الله بها بنية الحيوان الذي نأكله كبنية الإنسان تماماً؟ إذا ذهبت إلى أخ كريم يبيعك اللحم فأنت أمام درسٍ في التشريح، في تشريح جسمك، هكذا جسمك، عضلات، وأوردة، وشرايين، وعظام، لوح الكتف، والعمود الفقري، تقول: أخي أريد لحم متلة، أي العمود الفقري، اللحم المحيط بالعمود الفقري، هذا كله درس أمامنا ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ لك أن تقف عند كلمة "لكم".


لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ


هذا ما نأخذه من الأنعام للدفء :

 ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ السجادة التي تجلس عليها لا تُقدَّر بثمن، إنها تمنع عنك الرطوبة، وتمنع عنك البرد، هل بإمكانك أن تعيش في غرفة في الشتاء بلا سجادة؟ بلا بساط؟ بلا شيء صوفي؟ ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ وقد ترتدي ثياباً صوفية تحس أنك في دفء شديد، قد ترتدي ثياباً داخلية صوفية، هذه من وبر الجمل، غالية جداً، وهذا من نوع رقيق ناعم من الصوف، غالي الثمن، وقد ترتدي ثوباً أو معطفاً صوفياً، وقد ترتدي فروةً، في بعض أنحاء الريف، مهما كان البرد شديداً، إذا ارتديت هذه الفروة فكأنك في غرفة مُدفَّئَة.

﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ السجاد، الألبسة الخارجية والداخلية، الخِيام من وبر الجمل.

﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ المسابل التي نضعها علينا في النوم، الدُّثُر الصوفية ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ من نعيم الدنيا أن تنام في الشتاء وفوقك دِثَارٌ صوفي، هذا نعيم، تحس بالدفء مهما كانت الغرفة باردة، لو أنها غير مُدفَّئة، هذا الدثار الصوفي يبعث في جسمك الدفء ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ كلمة واسعة جداً، الآن الخيوط الصوفية لا تُقلَّد، هناك خيوط صناعية يحاول صانعوها أن ترقى إلى مستوى الخيوط الصوفية، الطريق مسدود، ثمن القطعة الصوفية عشرة أمثال، أو خمسة أمثال ثمن القطعة ذات الخيوط الصناعية، هذه إذا غسلتها تتسع، تتسع إلى مثلَي حجمها إذا غسلتها، أما الصوف الصحيح، الحقيقي ترتدي هذا المعطف أو هذه الكنزة سنوات طويلة وهي هي، من أعطى هذا الصوف خاصية أنها مفرغة من الهواء؟ كيف تحجز هذا الهواء الساخن، ما هذا السر؟ اجلسْ على الجلد في أبرد أيام الشتاء تحس أن هذا الجلد يبعث الدفء في قدميك.


هل شكرت الله على هذا الدفء ؟


 ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ هل تشكر الله عليها؟ إذا ارتدى أحدنا معطف صوف هل يخطر بباله أنه الحمد لله الذي خلقت لنا هذه المادة، ندفأ بها في الشتاء ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ وجدت في غرفتك سجادة صوف، في أثناء الصلاة مريحة، ترتاح في الصلاة عليها، تمشي عليها دون أن تحس بالبرد، تمنع عنك رطوبة الغرفة، هل تحس أن هذه النعمة من نِعَم الله -سبحانه وتعالى-؟ أم أنك اشتريتها بمالك، وحصّلتها بجهدك، وانتقيتها بذوقك؟


وَمَنَافِع


ما هي منافع الأنعام ؟

﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾ ما هي المنافع؟ المنافع أن هذه الدابة تأتيك بدابّة أخرى كل سنة، ما أحد سمع أنه اشترى سيارة، وبعد سنة وجد واحدة أصغر منها على الباب واقفة، نبيع الكبيرة وتبقى الصغيرة عندنا.

﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾ لها نسل، عندك بقرة لها نسل، عندك غنمة لها نسل، الغنم يلد مرتين في العام أحياناً، هذا عطاؤنا، فالمنافع هي النسل، والمنافع هي الركوب، والمنافع هي الحمل، والمنافع هي الألبان، والسَّمون، اللبن، الحليب، والقشدة، والجبن، السّمن، هذا كله من هذه الألبان المباركة، ألبان، وأجبان، وحليب، وركوب، وتحميل أثقال، ونسل.


وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ


﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾ فإذا ذبحتها تأكلها كلها ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ وصفُ ربِّنا دقيقٌ جداً، وصفٌ يأخذ بالألباب. ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾  

﴿  وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6)  ﴾

[ سورة النحل ]


وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ


 طبعاً هذه الصورة مُنتَزَعة من البيئة التي نزل فيها القرآن، الغنم والمعز، والبقر، والإبل، هي الأنعام، والأنعام المال الذي يرعى كما عرّفه بعض العلماء، المال الذي يرعى، هذه أنعام.

﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ منظرها يبعث في النفس السرور، الله -عز وجل- يحقق أهدافاً كثيرة في خلق واحد. 


كل شيء في الأنعام فيه فائدة في الاستعمال :


 الغنم: الصوف ثمين جداً، فالقماش الصوفي الخالص أغلى أنواع الأقمشة، لأن له ميزات لا تعدِلُها أيُّ ميزات أخرى، سواء كان القماش بالذات، وإن كان ألبسة داخلية، وإن كان ألبسة عادية، وإن كان كنزات، شيء ثمين جداً، والجلود؛ كي يعرف أحدنا قيمة الجلد الذي خلقه الله لنا، يشتري حذاء من البلاستيك لا ليلبسه، لكن ليعرف قيمة الجلد الذي خلقه الله لنا، فهناك أمراض تنتج عن استخدام هذه الأحذية، الجلد فيه مسام، فيه تنفس، فيه متانة، فيه مرونة، فيه راحة، إذاً: الجلد مفيد، واللحم مفيد، والعظام تصنع منها السُّمون الآن، كلها من عظام الحيوانات، ولها استخدامات كثيرة جداً، حتى الأمعاء لها استعمالات، كل شيء في الغنم يُستعمل، فهي خير كلها، حتى أن بَعر الغنم هو أغلى أنواع السماد، قال لي أحدُهم: إني سمَّدتُ بستاناً حوالي خمس دنمات، قال لي: كلفني عشرة آلاف ليرة، كيف؟! قال لي: والله جئت بالغنم، قلت: سبحان الله! كل شيء في الأنعام خير، كل شيء فيها من دون استثناء ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ الإنسان يجب أن يفكر إذا أكل قطعة جبن.

﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ شرب كأس الحليب صباحاً ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾ أكل زبدةً مع عسل ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ دُعي إلى وليمة، فوضعوا له عصافير ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ أكل الحلوى ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾ أكل لحماً مشوياً ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ اشترى علبة سمن ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ لبس معطف صوف ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ عنده سجادة في البيت ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ وضع غطاء صوف ونام تحته فشعر بالدفء ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ هكذا المؤمن، كيفما تحرك، لاحظ نفسك بالنهار، كم مرة يجب أن تتلو هذه الآية: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ .

معنى : تُريحون :

 أي حين تعودون بها إلى الإسطبل، أو إلى الحظيرة .

معنى : تسرحون :

﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ سرح بالغنم أخذُها ليرعاها، وأراحها أعادها إلى حظيرتها.

﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ هذه الأحاسيس لا نعرفها نحن، يعرفها أبناء الريف، حينما يرى غنمه قد عادت إلى حظيرتها، ولها صوت، ولها ضجيج، ولها حركة يحس أن قلبه قد أُفعِم سروراً بهذا المال، كل غنمة ثمنها ألفي ليرة ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ بها


الفائدة من تقديم ( تريحون )على ( تسرحون ):


 العلماء قالوا: لماذا قدّم الله تريحون على تسرحون؟ مع أن الترتيب المنطقي تسرحون وتريحون، قال: لأنك حينما تراها عائدة وقد امتلأت ضروعها حليباً، وامتلأت بطونها كلأً وعشباً، تفرح أكثر، يبعث هذا المنظر في نفسك سروراً، لذلك قُدِّمَ رواحها على سراحها ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ .

﴿  وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(7)﴾

[ سورة النحل ]


وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ


لولا أن الأنعام تحمل الثقيل لهلك الإنسان :

 الجمل يحمل حجرَ الطاحونة، يحمل حجري طاحونة، قطر الحجر متر، من أثقل أنواع الأحجار يحملها ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ الجمل عالٍ، لو أن الله -عز وجل- لم يجعل له هذه الثَّفِنات، لو أنه يستريح على شِقٍّ له، كيف تُحمّله ؟ مستحيل، إذا حمَّلته وهو واقف تحتاج إلى سُلّم، إذا انزلق هلكت أنت وهو، لكنه يجلس هذا الجمل جلسة نظامية، له ثفِنَة في بطنه، وثفنات على رجليه، تُحمِّله وأنت مستريح، تضع هنا شجرة وهنا شجرة، على الأرض، تربطها بحبلين، تدعوه للوقوف فيقف ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ﴾ طبعاً هذه المناظر الآن قلّت، قد كان في الشام منظر الجِمال مُحمّلة بالتِّبن، والحاجات والأشجار منظرًا مألوفًا، الآن هذه المناظر قَّلت جداً.

﴿  وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)  ﴾

[ سورة النحل ]


وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ


وظيفة الخيل والبغال والحمير :

 الخيل لها وظيفة، والبغل له وظيفة، هناك أماكن جبلية وعرة لا يصلح لها إلا البِغال، حتى إن بعض الجيوش إلى الآن تستخدم البغال، لو أن جيشاً مقيماً بمنطقة جبلية وعرة، لا سيارة، ولا مُدرّعة يستطيع استعمالها، لابد من بغال، يركبها الإنسان فتسير به عبر الأخاديد في الجبال، البغل له صفات خاصة، وله ميزات، والحمير صبورة، إذا أراد صاحب البستان أن يبيع محصوله، فالحمار صبور، يقف ساعات طويلة من دون أن يتشكّى، أو أن يتأفّف، وظهره منخفض، والتعامل معه سهل، لو كان على بغل عالٍ، يأتي الواحد يسأل البائع: ماذا عندك فاصولياء؟ الحمار مستواه منخفض، وصبور، وله ميزات كثيرة، يفتقر لها بعض الناس ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ﴾ والخيل: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((  الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ  ))

[  متفق عليه  ]


الفرس صديق حميم في معاملته لصاحبه :


 حدثني رجل قال: عنده خيل، وكانت ابنته على ظهر هذه الفرس، وكان قد أوقفها إلى جانب الطريق العام، وكانت هناك حافلات كهربائية، فلما جاءت حافلة اضطربت الخيل، وخافت، وأرادت أن تهرب، تذكرت أن على ظهرها ابنة صاحبها، ما كان منها إلا أن أناخت إلى الأرض، ودفعت بحركة هذه البنت عن ظهرها، وولّت هاربة، من عنده خيل أو فرس يتعامل معها وكأنها صديق، هناك أناس كثيرون يقولون: إذا نام صاحبها على ظهرها، ورأت رجلاً تنبّهه، ألم يقل عنترة يصف خيله:

فازورّ من وقع القنا بــلبانــه    وشـكا إلي بعبرة وتحمحم

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى  ولو كان علم الكـلام مكلِّمي

[ عنترة بن أبي شداد ]

 التعامل مع الخيل سهل، هو صديق، إذا ركب رجل سيارة ونام هل تقول له السيارة: انتبهْ نمت، بل يطيح، وكذلك هل تنبهه إذا رأت عدواً أو حدث خطر؟!

 أنا كنت ألمح على طريق درعا قوافل مُحمّلة بالتبن والمحاصيل، أصحابها نائمون على ظهر العربة، والبغال تمشي وحدها في الطريق، فالحيوان كائن حي له مشاعر، له إدراك، ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ إياكم أن تظنوا أنها رخيصة، بعض أنواع الخيل يزيد ثمنها عن ملايين الليرات، ولا سيما النوع العربي.  


هل يجوز أكل لحم الخيل والبغال والحمير ؟


 ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾ هذه اللام لام التعليل، خُلِقت لتركبوها، بعض علماء الفقه استنبط أنه لا يجوز أكل لحمها، لأن الله -عز وجل- لم يذكرها مع الأنعام، بل ذكرها مع صنف آخر لتركبوها، وهو موضوع خلافي على كُلِّ، وهناك أحاديث أخرى تجيز أكلها، طبعاً ليس لحم البغال، لحم الخيل.


الإنسان عنده هدفٌ جمالي :


 ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ أما هنا الإشارة دقيقة جداً، الإنسان عنده هدف جمالي، لو فرضنا في غرفة الضيوف قد يأتي بألواح خشبية يضع عليها بعض الفُرُش، وهو مكان للجلوس جيد، لكن الجمال مُبتَغى، واللهُ -عز وجل- هكذا فطرنا، الإنسان يحب إلى جانب تحقيق الوظيفة أن يكون الشيء منظره جميلاً، فربنا -عز وجل- جعل للخيل منظرًا جميلاً جداً، الآن في كثير من اللوحات الزيتية صورة خيل، منظر الخيل، تناسق الخطوط، لون الجلد أحياناً، هناك الخيل المُحجَّلة، لها أساور بيضاء في أرجلها، وفي رقبتها، لها غُرّة بيضاء، لها عيون كبيرة، لها منظر جميل، فربنا -عز وجل- توخّى شيئين من خلق الفَرَس، الخيل، توخّى غاية وظيفية، وتوخّى غاية جمالية ﴿لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ أحياناً إنسان يركب سيارة من دون طلاء يخجل فيها، ينزعج، يقول: ليست جميلة، طبعاً الهدف أن يكون هناك شيء جميل، وفي الحديث:

(( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ  ))

[  مسلم عن ابن مسعود  ]

 إذاً: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ هناك هدف وظيفي، وهناك هدف جمالي، وهذه فطرة الإنسان، وقد يتبادر إلى الذهن أم هناك الآن سيارات فاخرة، وطائرات، وبواخر، وحوّامات، وقطارات مريحة، سريعة، على كلٍّ ربنا -عز وجل- يعلم ما سيكون، لذلك قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .


وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ


 فلِئَلّا يظن الإنسان المعاصر أن هناك وسائل مواصلات تفوق في سرعتها، وفي إمكاناتها، وفي اتساعها، وفي توافر الراحة فيها تلك الوسائل البدائية، قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .

الله خلَق أمورا لا نعلمها :

 لكن الشيء الدقيق في هذه الآية أن خَلْق ما لا تعلمون من طائرات، وسيارات، وقطارات، وبواخر، وحوامات، هذا الخلْق عُزِيَ إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن الله -عز وجل- لولا هذه المواد التي أودعها في الأرض، لولا المعادن التي أودعها في الأرض، لولا أنه أودعها على شكل فِلْزات يسهل استخراجها، ولولا أنه يسَّر لنا إيقاد النار، لولا الأفران العالية، هل يمكن تحويل هذه الفلزات إلى معادن؟ هناك معادن على شكل فلزات، وهناك أفران عالية، وهناك وسائل للتصفيح، والسحب، والتطريق، وما إلى ذلك، مواد هذه الوسائل المواصلات من خَلقِ الله، والإنسان لولا أن الله أعطاه هذا الفكر لمَا أمكن أن يخترع طائرة، ولا سيارة، ولا باخرة، ولا قطارًا، ولا حوّامة، ولولا أن الله ألهمه مبدأ المحرك الانفجاري، وألهمه مبدأ المحرك النفّاث، وألهمه مبدأ المحرك التوربيني لمَا أمكن أن يركب البحر، ولا أن يطير في الجو، ولا أن يسير على الأرض، إذاً المواد مِن خَلقِ الله، طريقة وجودها في الأرض، كيفية وجودها في الأرض، من خَلقِ الله، طريقة استخراجها من إلهام الله، الفكر من خَلق الله، الفكرة من إلهام الله، الوقود لهذه الوسائل من خَلق الله -عز وجل-، مَن الذي جعل هذه الحقول النفطية موجودة على أرض كتيمة؟ لو أن هذه الأرض غير كتيمة لغارت في أعماق الأرض، وانتهى الأمر، جعلها على طبقات كتيمة، وجعل فوق هذه الطبقات ماء مالحاً لحكمة بالغة، وجعل النفط فوق الماء المالح، وجعل بين النفطِ وبين الطبقةِ الكتيمة غازاً مضغوطاً إلى درجة كبيرة، بحيث لو وصلت إلى هذا الحقل لتفجّر النفط تفجُّراً، وخرج بلا مضخات، وبعد هذه الطبقة الكتيمة طبقة نَفوذة، طبقة كتيمة، طبقة من الماء المالح، طبقة من النفط الخام، طبقة من الغاز، طبقة كتيمة، طبقة نفوذة، ومن أعطاك وسائل استخراج النفط؟ الله -سبحانه وتعالى-، لذلك المعادن، وأشباه المعادن، وجميع المواد التي صُنِّعت منها السيارة، والطائرة، والباخرة، والقطار، مع الفكرة، والفكر، والوقود، واستخراج الوقود، كله من خلق الله -عز وجل-، لذلك قال -عز وجل-: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .


وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ


 ثم قال عز وجل:

﴿  وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9)  ﴾

[ سورة النحل ]

 هذه آية خطيرة جداً. 

﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾ هذه "مِنْهَا" على أيّ شيء تعود؟ على الخيل والبغال والحمير، أم على ﴿يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أما على السبل؟

﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لمَ لمْ يهدنا، هذه الأسئلة، وهذه الآية التي جرت بين العلماء حولها مناقشات كثيرة سوف نُرجِئ الحديث عنها إن شاء الله إلى الدرس القادم.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور