وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 13 - سورة النحل - تفسير الآيات 45 – 61 ، عن الإيمان الصحيح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث عشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: 

﴿  وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ(52)  ﴾

[ سورة النحل ]


وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ


لله الكون خلقا ومُلكا وتصرفا ومصيرا :

 أما أن ما في السماوات والأرض له، فهذا معناه أن ما في السماوات والأرض ملكه، وتصرفه، ومصيره.

﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مُلكاً، وتصرفاً ومصيراً، قد تملك ولا تحكم، وقد تحكم ولا تملك، قد تملك بيتاً، وليس في إمكانك الانتفاع به، وقد تنتفع ببيت وليس ملكك، أما أن يكون الشيء تابعاً لك ملكاً، وتصرفاً، ومصيراً فهذا أوسع معاني الملكية.

 هذه اللام للاختصاص، أو لام الملكية، نحن في ملكه، وكل شؤوننا بيده، ومصيرنا إليه. ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لكن هذه كلمة، لو تفكَّر الإنسان في خلق السماوات والأرض لتحقق منها، شتان بين أن تكون فاهماً لآية، وبين أن تكون معتقداً بها، وبين أن تكون في مستواها، فمن تفكر في خلق السماوات والأرض عرف أن هذا الكون عائدٌ له، ملكاً، وتصرفاً، ومصيراً، فبعض الناس يعتقدون أن الله -عز وجل- خلق، وانتهى الأمر، وأعطى كل إنسان طاقة أو قوة يتحرك بها، ولكن هذه العقيدة فاسدة .

﴿  اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62) ﴾

[ سورة الزمر  ]

﴿  قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)  ﴾

[  سورة الكهف ]

 فلذلك: ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾


كيف تتجه إلى مَن لا يخلق ولا يملك ولا يتصرف وليس المصير بيده: 


 فكيف يسوغ لك أن تتجه إلى إنسان لا يملك نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة، ولا نشوراً؟ عليك أن تعبد الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وعليك أن تعبد الذي إليه يرجع الأمر كله، وعليك أن تعبد الذي بيده حياتك، وبيده صحتك، وبيده أمر عدوك، وبيده أمر صديقك، وبيده كل من حولك، عليك أن تعبده.

﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾ الدين بمعنى الخضوع، دان ديناً ودينونة، بمعنى خضع، لا ينبغي للإنسان أن يخضع لغير الله، لأنه لا يليق به، وقد أكرمه الله بالحرية، وأكرمه الله بالعقل أن يخضع لغير الله، إذا خضع لغير الله فقد ضل ضلالاً مبيناً، وإذا خضع لغير الله فقد خسر خسراناً مبيناً، مادام ما في السماوات والأرض له ملكاً، تصرفاً ومصيراً، وله الدين، فالخضوع له وحده، لذلك عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : 

((  لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ  ))

[ أحمد في مسنده ]

 هذا الذي تطيعه وتعصي الله، هل يمنعك من الله؟ هل يجلب لك نفعاً؟ هل يدفع عنك ضراً؟هل يسعدك إذا أقبلت عليه؟ هل يسمعك إذا استجرت به؟ هل يتدخل ليحول بينك وبين مصيبة واقعة؟ سبحان الله أين عقل الإنسان! 

﴿  إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)  ﴾

[  سورة المدثر  ]

 كيف قدّر أن هذه الجهة تصلح أن تُعبَد من دون الله، مع أن هذه الجهة فقيرة، ضعيفة، عاجزة، فانية؟ ربنا -عز وجل- يذكرنا: ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لذلك : 


وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا


معنى : واصبًا :

 ﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾ معنى واصبا أي: دائماً، ومعنى واصباً أي واجباً، فيجب أن تخضع له على الدوام، أن تدين إليه، أن تستسلم لأمره. فكلمة: ﴿وَلَهُ الدِّينُ﴾ تعني شيئين: 

 الشيء الأول: أن الله -عز وجل- هو الحق، وقد خلق السماوات والأرض بالحق، ودينه هو الحق، وقرآنه هو الحق. 

﴿  لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)  ﴾

[  سورة فصلت ]

 فبحكم أن الله وهبك العقل المميز يجب أن تخضع له، فلو أن إنساناً عرض عليك مقولتين، الأولى صحيحة، والثانية مغلوطة، إلى أيّ مقولة تخضع؟ إلى الصحيحة، فلأن دعوة الله بالحق، ولأن دينه هو الحق، ولأن كتابه هو الحق، ولأن رسوله هو الحق، إذاً يجب أن تخضع له على الدوام، ليس في وقت دون آخر، وليس في وقت الرخاء دون الشدة، وليس في وقت الشدة دون الرخاء، فالمؤمن خاضع لله -عز وجل-. 

﴿  وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا(36) ﴾

[  سورة الأحزاب ]

 إذا قضى الله ورسوله في موضوع ما حكماً، قضى أمراً في موضوع ما: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ إذا قضى الله ورسوله أمراً، فمن عرف معنى الدين خضع لله، فالدين هو الخضوع، الخضوع لمن يستحق الخضوع، لكن الناس أحياناً يخضعون لجهة لا تستحق أن يُخضَع لها، قد يخضعون لشهواتهم، قد يخضعون لمصالحهم، قد يضعون معتقداتهم تحت أقدامهم من أجل مصالحهم، لا ينبغي للرجل ذي العقل الصحيح أن يكون خضوعه لغير الله، ﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾ لو أن الله -عز وجل- قال: الدين له، يعنى الدين له ولغيره، أما: له الدين فعلى سبيل القصر والحصر، له وحده: ﴿الدِّينُ وَاصِبًا﴾ واصباً؛ أي واجباً، واصباً؛ أي دائماً، يجب أن تخضع لله وحده على الدوام، لأن: ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ شيء منطقي، مثلاً: هل يطالب الإنسان إنساناً لا يملك؟ إذا أردت أن تشتري بيتاً، هل تفاوض رجلاً لا يملك بيتاً؟ أليس هذا من الغباء؟ إذا أردت أن تشتري بيتاً يجب أن تذهب إلى مالكه الحقيقي، وتفاوضه، لأنك إذا فاوضت غيره، وعقدت معه عقداً، ونقدته الثمن، يقول لك الأول: أنا لم أبعك، هذا الذي دفعت له لا يملك البيت، أليس من الحمق والغباء والضعف والضلال أن تتجه لجهة لا تملك شيئاً؟ ليس لها ما في السماوات والأرض، لا ملكاً، ولا تصرفاً، ولا مصيراً، المصير إليه.

﴿  إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾  

[ سورة الغاشية ]

﴿  صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) ﴾

[ سورة الشورى ]


الدين خضوع لله :


﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾ الدين أن تخضع خضوعاً عن قناعة، فلو أن الخضوع عن غير قناعة لكان هذا الخضوع قهراً لا ديناً، والفرق بين القهر والدين أنك بالقهر تخضع، لا عن قناعة، ولا عن رضا، ولكنك بالدين تخضع وأنت قانع، وأنت راضٍ، وأن هذا الذي تخضع له يستحق أن تخضع له، وأن هذا الذي تعبده يستحق أن تعبده، وأن هذا الذي تستسلم إليه يستحق أن تستسلم إليه، فهو حق، ودينه حق، وقرآنه حق، وشرعه حق، والحلال ما أحلَّ، والحرام ما حرَّم. 

﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾ واصباً له معنيان متكاملان: واجباً، ودائماً، هناك أناس يخضعون لله في الرخاء، وأما في الشدة فيشكّون في أنه هو الإله، يقولون: أين الله ؟! كيف تخلى عنا؟ كيف تركنا؟ هؤلاء هم ضعاف المؤمنين، فهناك أناس يخضعون لله في الشدة، ويعصونه في الرخاء، وهؤلاء هم المنتفعون، ولكن المؤمن يطيعه ويحبه في الرخاء، وفي الشدة.

 حتى إن من قواعد علم التوحيد أن الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين. 

﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ السماوات والأرض تعبير قرآني يشابه أو يقابل مفهوم الكون، والكون ما سوى الله، فكل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى كون، في القرآن السماوات والأرض. 


ينبغي أن تتقي وتطيع الله وحده 


﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ أتتقي غضب إنسان لا ينفعك ولا يضرك؟ أترجو رضاه؟ أتتقي غضبه؟ أتطيعه وتعصي الله؟ 

﴿  مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)  ﴾

[  سورة الصافات  ]

 إن من يطيع إنساناً ويعصي الله فقد سقط سقوطاً لا حدود له، فقد ضل سواء السبيل، وكان ضلاله مبيناً، وكان ضلاله بعيداً، وكانت خسارته كبيرة، كيف لا وقد خسر نفسه؟ ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء.

 ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني فقد وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء. يا رب ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك؟

 هذا الذي عرف الله، وعرف شرعه، واستقام على أمره، وتقرب إليه، ماذا فاته من الدنيا؟ وَاللَّهِ ما فاته شيء، بل أصاب كل شيء، وهذا الذي جاءته الدنيا من كل أطرافها، وغفل عن ربه، وجاءه الموت ماذا أصاب؟ 

﴿  فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ(45)  ﴾

[  سورة الطور ]

﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) ﴾

[  سورة إبراهيم  ]

﴿  وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)  ﴾

[  سورة البقرة ]

 فالبطولة أن تلقى الله وأنت على طاعته، فإذا كان هناك مبرر مُسوِّغ أن تعبده فلأن له ما في السماوات والأرض.

 تدخل أحياناً إلى دائرة، فما الذي يجعلك تطرق باب مديرها العام؟ لأن الأمر كله بيده، سواء أحببت ذلك أم لم تحب، ليس في كل هذه الدائرة إنسان يستطيع أن يقول لك: مع الموافقة، إلا هذا المدير العام، فأنت إذا وقفت على بابه، وطرقته لأنك مضطر، إذ لا يستطيع أن يمنحك الموافقة إلا هذا الموظف، فهل تتجه إلى مستخدَمٍ ترجوه أن يوقِّع لك هذه المعاملة؟ عندئذٍ تستحق أن تذهب إلى مشفى الأمراض العقلية.

 فالله له كل شيء، فإذا كان هناك مسوغ أن تعبده فلأن له ما في السماوات والأرض، هذا مسوغ الاضطرار.

 أما هنا مسوغ آخر: 

﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ﴾

[ سورة النحل ]


وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ


كل نعمة مَسَّتْكَ فمن الله وحده :

وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ هذا سبب آخر أرقى من ذلك السبب، إن كل ما أنت عليه من نعم فمن نعم الله، خذ نعمة العقل مثلاً .

 حدثني أخ صديق كان يركب مركبة عامة، فإذا أحد الركاب يخلع ثيابه كلها، ويبقى كيوم ولدته أمه، أين عقله ؟ 

﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ نعمة العقل هذه نعمة لا تعدلها نعمة، نعمة الصحة، القلب يعمل بانتظام، والجهاز الهضمي يعمل بانتظام، وجهاز تصفية البول يعمل بانتظام، والعضلات، والحواس، والأجهزة، والغدد الصماء، وغير الصماء، وذات الإفراز الداخلي، والخارجي، والأعصاب، والشرايين، كلها تعمل بانتظام، 

أتحسب أنك جرم صغير   وفيك انطوى العالم الأكبر

[ علي بن أبي طالب ]

 أنت وحدك أعقد مخلوق على وجه الأرض.

 فلذلك: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ وهذه الزوجة التي في البيت من نعم الله -عز وجل-، هدية الله لك إنسان، وهذا الطفل الصغير الذي يملأ البيت مرحاً وفرحاً وحبوراً، هو من نعم الله -عز وجل-، وهذه الصنعة التي تتقنها هي من نعم الله -عز وجل-، وهذه الذاكرة التي تستخدمها في عملك من نعم الله -عز وجل-، وهذه الشخصية القوية التي جعلتك رفيع المكانة بين الناس، إنها من نعمة الله -عز وجل-. 

﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ فالمرأة التي تُخطَب من أهلها، يخطبها إنسان مرموق، قد تظن هذه المرأة جهلاً أنها مطلوبة، لكن الله -سبحانه وتعالى- لو أذهب عنها مسحة الجمال لمَا طرق بابها أحد.

﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ إذا كنت في البيت مرهوبَ الجانب فبنعمة هذا العقل، لو أن الله -عز وجل- سلبك إياه لما أبقاك أهلك في البيت ولا ليلة واحدة.

﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ الحركة نعمة، الوقوف نعمة، النوم نعمة، تناول الطعام نعمة، طرح الفضلات نعمة، شرب الماء نعمة، توافر الماء نعمة، توافر الهواء نعمة، أن يكون لك عمل نعمة، أن يكون لك دخل نعمة، أن تأوي إلى بيت نعمة، أن يكون لك زوجة نعمة. 

﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ نعمة الإيجاد قبل كل النعم، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد، هذه هي النعم الكبرى، وتمام هذه النعم الهدى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ فإذا كان منطقك لا يسمح لك أن تخضع له من باب الاضطرار أفلا تخضع له من باب العرفان والشكر؟ ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ من أي نوع أنت؟ إن كنت عاقلاً فاخضع له من باب الاضطرار، لأن الأمر كله بيد الله. 

﴿  وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾

[  سورة هود ]

 إذا كنت كريم النفس فاخضع له من باب العرفان والشكر، لأن كل النعم التي أنت فيها إنما هي من نعم الله عز وجل، ولأنه: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ آية أخرى تشابهها: 

﴿  وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34) ﴾

[  سورة إبراهيم ]

 نعمة واحدة لو أمضيت مدة حياتك في إحصاء فوائدها لما انتهيت، فإذا كنت عاجزاً عن إحصاء فوائد نعمة واحدة، فأنت عن شكر هذه الفوائد أعجز، وعن شكر النعم كلها أشد عجزاً. 

﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ* وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾


ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ


 فهذا الذي يلحد في آيات الله، هذا الذي ينكر، هذا الذي يُعرِض، هذا الذي يسخر، إذا جاءته المصيبة الكبيرة يقول: يا الله!

 قد حدثتكم عن رجل جلس في طائرة إلى جنب رجل، يتناقشان، فإذا بالثاني ينكر وجود الله -سبحانه وتعالى-، فلما توقف أحد محركات الطائرة، ومرت فوق جيب هوائي، وانخفضت فجأة، قال صاحبنا: رأيت هذا الذي كان ينكر وجود الله قبل قليل يقول: يا الله، يا الله، يا الله. 

﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ معنى تجأرون: ترفعون صوتكم في الدعاء. 

﴿  ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54) ﴾

[ سورة النحل  ]


ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ


بلغ اللؤم عند بعض الناس منتهاه :

 ما أشد لؤم الإنسان، وهو في أثناء المصيبة يدعو الله -عز وجل-، ويرفع يديه، ويرفع صوته بالدعاء، فإذا تولى الله -عز وجل- شفاء ابنه، أو إنقاذه من ورطته، أو مرت هذه المصيبة بسلام، أو زال شبح المصيبة، أو انخفضت الحرارة، أو جاء التحليل سلبياً، لا إيجابياً، أو كان هذا الورم غير خبيث، عاد هذا الإنسان إلى ما كان عليه، من فسق وفجور، وزَيغ، وضلال، واستخفاف.

﴿ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(55)  ﴾

[ سورة النحل ]

 ﴿فَرِيقٌ مِنْكُمْ ﴾ لكن بعض الناس إذا جاءتهم المصيبة، ودعوا الله مخلصين فرفعها الله عنهم، إذا هم بربهم يؤمنون.

 حدثني أخ كريم قال: كنت في محنة شديدة، فدعوت الله من كل جوارحي، إنْ أنقذتني يا رب منها فلن أعصي لك أمرًا، وقد أنقذه الله منها، وها هو ذا فيما أعلم لا يعصي لله أمراً، أناس كثيرون، ربنا عز وجل يقول: 

﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ﴾ ليس كل الناس، إذا أصابتهم المصيبة، ثم رفُعت عنهم كفروا، بعضهم يستجيبون، وبعضهم يتوبون، وبعضهم يخضعون، وبعضهم يذوبون حباً لله، وبعضهم لا ينسون فضل الله، ابن آدم اعرفني في الرخاء أعرفك في الشدة، أذكرك وتنساني؟ 

﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾


لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ


كفرُ النِّعم :

 وقد تكون هذه النعمة، نعمة الشفاء، أو نعمة السلامة، أو نعمة البحبوحة التي جاءت بعد عسر، قد تكون هذه النعمة سبباً لكفرهم، فهذه اللام لام العاقبة، أو لام التعليل، أي إن هذه النعم التي ساقها الله لهم من بعد شدة، من بعد دعاء عريض، كانت هذه النعم سبباً في كفرهم وإعراضهم عن الله -عز وجل-.

 فمن كان ينطوي على نفس راقية أخلاقية، إذا دعا الله متلهفاً فكشف الله عنه المصيبة، فهذا الإنسان يستحيي أن يعصي الله بعدها.

أطــع أمرنا نرفع لأجلـك حجبنا  فإنا منحنا بالرضى من أحـبنـــا

ولــذ بحمانا و احتـم بجنابنــا    لنحميك مما فيه أشرار خـلقنـــا

وعن ذكــرنا لا يشغلنك شاغـل  وأخلص لنا تلقَ المسرة و الهنـــا

وسلم إليــنا الأمر في كل ما يكن  فما القرب والإبعاد إلا بأمـرنـــا

[ علي بن محمد بن وفا ]


تهديد ووعيد إلهي : فَتَمَتَّعُوا


﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ هذا فعل أمر معناه التهديد، أي: افعلوا ما بدا لكم، افعلوا كل شيء، اعملوا ما شئتم، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. 

﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ انغمِسوا في الملذات، فهناك من تستهويه الشهوات، فيؤثِرها على القربات، وهناك من تستهويه وحول الدنيا، فيؤثِرها على جنات عرضها السماوات والأرض.


في آخر المطاف سوف يعلم الخاسر الحقيقة :


﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ سوف تعلمون من هو الفائز، ومن هو الخاسر، من هو الذكي، ومن هو الغبي، من هو الشقي، ومن هو السعيد، من هو العاقل، ومن هو الأحمق، من هو المفلح، ومن هو المخفق، سوف تعلمون هذا عند الموت، عندما تواجهون ملَك الموت، عندما يقول الإنسان:

﴿  يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)  ﴾

[  سورة الفجر  ]

 عندما يقول الإنسان: 

﴿  يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ(56)  ﴾

[  سورة الزمر ]

 عندما يقول الإنسان: ولات ساعة مندم.

 عندما يقول الله عز وجل: 

﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِي(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِي(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِي(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ(35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ(36)  ﴾

[  سورة الحاقة  ]

﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ كل مُتوقَّع آت، وكل آت قريب، ولا بد من ساعة تعرف الحقيقة، حينما أدرك فرعونَ الغرقُ قال: 

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) ﴾

[   سورة يونس  ]

 قال الله عز وجل: 

﴿  أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(91)﴾

[  سورة يونس  ]

 ماذا ينفع هذا الإيمان عند ساعة الموت؟ 

﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) ﴾

[ سورة الأنعام ]

البطولة أن تؤمن في الوقت المناسب، لا أن تؤمن بعد فوات الأوان، البطولة أن تعرف جواب الامتحان قبيل الامتحان، لا بعد الامتحان. 

﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ لذلك فالمؤمن: 

﴿  تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)﴾

[  سورة السجدة ]

 لا يستمتع بالدنيا، يخاف أن يركن إليها، يخاف أن تصبح مبلغ علمهم، ومنتهى أملهم.

 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

((  مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ  ))

[ أخرجه الترمذي  ]

 فكلمة ( تمتعوا ) كما قال بعض المفسرين: فعل أمر يفيد التهديد ﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ لا تركنَنّ إلى الدنيا، وانظر يوم توضع في رمسك، انظر إلى أنه لا بد من أن يكتب على ورقة النعوة: وسيشيع فلان إلى مثواه الأخير، هذا هو المثوى الأخير، لا تصل إلى هذا المأزق الصعب، لا تصل إلى هذه الساعة التي لا تنفع فيها الندامة . 

﴿  وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ(56)﴾

[ سورة النحل ]


وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ


العبادة عن جهل وتقليد خسارة لصاحبها :

 ﴿لِمَا لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي: لآلهة عبدوها من دون الله، لا يعلمون أنها تنفع، ولا يعلمون أنها تضر، ولا يعلمون أنها لا تنفع، ولا يعلمون أنها لا تضر، لا يعلمون عنها شيئاً، إلا أنهم وجدوا آباءهم يعبدونها فعبدوها. 

﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا﴾ "لا يعلمون" مطلقة، لا يعلمون أنها تنفع أو لا تنفع، ولا يعلمون أنها تضر أو لا تضر، هذه الأصنام إن كانت من حجارة، أو إن كانت من لحم ودم، كلها أصنام. 

﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ يقدمون لهذه الأصنام القرابين، والأموال، ويعتقدون أن هذه الأصنام تمنعهم من الله -عز وجل-، أو تحميهم. 

﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ .


تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ


 هذا افتراء، هذا كذب، هذه خرافة، كيف اعتقدت بها، لمِ لمْ تمحِّصها؟ لمَ لمْ تقف عندها؟ لمَ لمْ تتفحصها؟ ﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ .

 ثم قال عزوجل : 

﴿  وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ(57)  ﴾

[ سورة النحل ]


وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ


الله منَزَّهٌ عن الولد :

 يدَّعي المشركون أن الملائكة بنات الله، لذلك:  ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ﴾ أي: ما أعظم شأنه. 

﴿  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا(43)  ﴾

[ سورة الإسراء  ]

 هل هو بحاجة إلى ولد؟! هل هو بحاجة إلى بنات؟! 

﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ الذكور لهم، والبنات لله -عز وجل-. 

﴿  وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58) ﴾

[ سورة النحل  ]


وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ


لا علاقة للزوجة بنوع الولد فكيف تلام على إنجاب البنات ؟!!

 فاسوداد الوجه كناية عن الغم الذي أصابه، عن الغم الشديد، والحزن الكبير، ولو علم الزوج أن المولود ذكراً كان أم أنثى شيء تابع له فقط، ولا علاقة لزوجته به لاختلف الأمر.

﴿  وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (46)  ﴾

[  سورة النجم  ]

 من نطفة لا من بويضة، فالنطفة في نواتها تحمل مجموعة عُرا، العروة الأخيرة إما على شكل(X) أو على شكل(Y)، النطفة وحدها تحدد نوع المولود ذكراً كان أم أنثى، لذلك امرأة بدوية غضب منها زوجها لأنها تنجب البنات، فقالت : 

ما لأبي حمزة لا يـأتينا  يظل في البيت الذي يلينا

غضبان أن لا نلد البنينا  تالله مـا ذلك في أيـدينا 

وإنما نأخذ ما أعطيـنا  ونحن كالأرض لزارعينا

[ ننبت ما قد زرعوه فينا ]

***

 فهذا الذي يغضب إذا جاءته فتاة أو بنت أولاً هو أحمق، لأن تحديد نوع المولود جعله الله في الحيوان المنوي الذي منه.


البنات هبة من الله :


 الشيء الآخر، الله -سبحانه وتعالى- يقول: 

﴿  لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)  ﴾

[  سورة الشورى ]

﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ مخلوق وديع أكرمك الله به، تتأفف منه؟ يسودُّ وجهك؟ تتميز من الغيظ؟ ما ذنب هذه الزوجة؟ لا ذنب لها، ولا حيلة لها في ذلك.


قد تكون البنت أعظم بركة من الابن :


 الآن في هذه الأيام إذا ولدت المرأة بنتاً لا أحد يتكلم مع هذه الزوجة، يعدُّون مَقْدَمَها شؤماً على زوجها، هذه جاهلية، وهذا جهل، وهذا بعدٌ عن الله -عز وجل-، ومن يدريك أن الخير كله في هذه الفتاة؟ من يدريك؟

 قال تعالى : 

﴿  فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36)  ﴾

[  سورة آل عمران ]

 من أنجبت مريم؟ سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، ما يدريك أن الخير كله من هذه الفتاة؟ من هذه البنت؟ لذلك عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

((  لَا تُكْرِهُوا الْبَنَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ  ))

[ أحمد وهو ضعيف ]

 وقد قيل: ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم، ويغلبهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً، من أن أكون لئيماً غالباً. 

﴿  وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(59)  ﴾

[ سورة النحل ]


هذا هو ردُّ فعل الرجل الجاهل الذي يولد له بنت :


 يستحي من هذه البشارة ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ لمَ لمْ يقل الله عز وجل: أيمسكها، لأن هذه الهاء تعود على "ما": ﴿يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾ من سوء الذي بُشِّر به، فهذا الذي بُشِّر به ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾؟ على مضض، أم يدسه في التراب؟ 


ما ذنب البنت حتى تدفَن حية ؟


 تصور كيف كان العرب في الجاهلية، كيف كان أحدهم يقود فتاة كعمر الزهور كريحانة، يقودها إلى أطراف المدينة، ويحفر لها حفرة، ثم يرديها فيها، ويهيل عليها التراب، أي قلب هذا ؟! 

﴿  وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9)  ﴾

[  سورة التكوير  ]

 ما الذنب الذي ارتكبته هذه الصغيرة حتى يئدها أبوها؟ 

﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ كان أحدهم يروي للنبي عليه الصلاة والسلام كيف وأد ابنته، فظل النبي يبكي حتى اخضلّت لحيته الشريفة، كانت هذه الفتاة الصغيرة تداعب ذقن أبيها، وتدغدغها له، فما كان منه إلا أن حفر لها حفرة، وأرداها فيها.


تحريم قتل الولد للفقر أو خشية الفقر :


﴿  وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(31) ﴾

[  سورة الإسراء  ]

﴿  قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)  ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 من إملاق، أي : بسبب الفقر الواقع، فجاءت الآية: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ الآية الأولى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ أي بسبب فقر متوقع، فجاءت الآية: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾

﴿  أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(60)  ﴾

[ سورة النحل ]


أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ


 هذا حكمهم، كيف هداهم النبي عليه الصلاة والسلام؟ قلوب أقسى من الصخر، كيف تعامل معها النبي؟ كيف نقلهم من الشقاوة إلى السعادة، من قسوة القلب إلى الرحمة؟ 

﴿  لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(61)  ﴾

[ سورة النحل ]


لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ


الكافر بالآخرة له السوء من كل جوانبه :

 فهذا الذي لا يؤمن بالآخرة لا يحسب حساباً ليوم الدين، ليوم الفصل، ليوم القيامة، ليوم الحق، ليوم الجزاء، عمله سيئ، أخلاقه سيئة، صفاته سيئة، عقيدته فاسدة. 

﴿مَثَلُ السَّوْءِ﴾ المطلق على إطلاقه، سَوء في كل شيء، هذا الذي لا يقيم للآخرة وزناً، ولا يحسب لها حساباً، ولا يؤمن بها، ولا يرجو لقاء الله واليوم الآخرة، له: ﴿مَثَلُ السَّوْءِ﴾

 كله سوء؛ عقله، وعقيدته، ومشاعره، وتصرفاته، وأعماله، وأقواله، وعلاقاته وشركته، وزواجه، وجيرته، له فيها كلها: ﴿مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ .


وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى


 أما إذا كنت مع الله فأنت تسعد به، وترقى نفسك، ويرقى عقلك، ويصلح عملك، وتصح عقيدتك، ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ بعض العارفين بالله ناجى الحضرة الإلهية فقال:

يا من تقاصر شكري عن أياديه   وكلَّ كلُّ لسان عن معانيــه

وجوده لم يزل فرداً بلا شبهـاً  علا عن الوقت ماضيه و آتيه

لا دهر يخلفه لا قهر يلحقــه   لا كشف يظهره لا ستر يخفيه

لا عد يجمعه لا ضد يمنعــه     لا حد يقطعه لا قطر يحويـه

لا كون يحصره لا عين تبصره  وليس في الوهم معلوم يضاهيه

جلاله أزلي لا زوال لــــه        وملكه دائم لا شيء يضنيــه

[ عبد الغني النابلسي ]


الله لا يشبهه شيء :


﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك، ليس كمثله شيء، 

لا دهر يخلفه لا قهر يلحقــه  لا كشف يظهره لا ستر يخفيه

لا عد يجمعه لا ضد يمنعــه     لا حد يقطعه لا قطر يحويـه 

لا كون يحصره لا عين تبصره  وليس في الوهم معلوم يضاهيه

﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ قل: سبحان الله تنزيهاً، وسبحان الله تمجيداً.

﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(62) ﴾

[ سورة النحل ]


لو يؤاخذ الله عباده بما يفعلون ما بقي في الأرض حيّ :


 خلقهم ليرحمهم، لو أنه أخذهم بذنوبهم، لو أنه حاسبهم على معاصيهم ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ أي: لو أن الله -عز وجل- عجّل للناس بالعقاب لأهلكهم جميعاً، ولكنه يمد لهم في العمر، وفي الأجل لعلهم يتوبون، لعلهم يرجعون، لعلهم يستيقظون، لعلهم يصحون، هذه كلها من باب إعطاء مهلة للتوبة. 

﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ قال تعالى: 

﴿  وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129)  ﴾

[ سورة طه  ]

 ما هذه الكلمة؟ أنه خلق الخلق ليسعدهم، فإذا عجل عليهم العقاب، أو أخذهم بذنبهم، تناقض هذا مع خلقهم، ولكنه خلقهم ليسعدهم، لذلك يحلم عليهم، ويمدُّ لهم، يعطيهم فسحة من الأجل، ومهلة في العمر، يدعوهم، ويضيق عليهم، يسمعهم الحق لعلهم يرجعون.

 قال تعالى: 

﴿  وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)  ﴾  

[ سورة السجدة ]

﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ إذا جاء الأجل انتهى كل شيء.

إن الطبيب له علم يدل بـــه     إن كان للناس في الآجال تأخيرُ

حتى إذا ما انقضت أيام رحلته    حار الطبيب وخانته العقاقيــرُ

***


الموضوع العلمي : المُخيخ آية من آيات الله العظيمة :


 أيها الإخوة المؤمنون، من آيات الله الدالة على عظمته أن الله -عز وجل- زودنا بجهاز تابع للدماغ اسمه المخيخ، فهناك المخ، وهناك المخيخ، وهناك البصلة السيسائية. 

الوقفة اليوم عن المخيخ؛ من منكم يصدق أن كتلة من الخيوط العصبية لا يزيد وزنها على 143 غراماً تقوم بدور خطيرٍ جداً، بحيث أنه لو تخرّب جزء من المخيخ لأصبحت حياة الإنسان مستحيلة، ماذا يفعل هذا المخيخ؟ قال العلماء: إنه مركز توافق وانسجام لحركات البدن، فلو أننا خربنا مخيخ طائر لمَا أمكن الطيران، ولسقط فوراً، ولو تخرب مخيخ الإنسان لمَا أمكن أن يقف على قدميه، ولما أمكن أن يرى بعينيه، أو يحرك يديه، ولمَا أمكن أن ينطق بلسانه. 

إصابة المخيخ بمرض خطر على الإنسان :

 توافق حركات اليدين: قد يقول الطبيب لمن يشك أنه مريض في مخيخه: ضع إصبعك على أنفك، تأتي على خده، أو تأتي على وجنته، فلا يستطيع المريض أن يضع أصبعه على أرنبة أنفه، ولا يستطيع المريض أن يقرأ سطراً واحداً، عيناه تزيغان، وتتأرجحان، وتتذبذبان، لا تستقران على الكلمة.


التوازن في المخيخ :


 أما أخطر شيء يقوم به المخيخ فهو التوازن، ففي أذن الإنسان الباطنية جهاز خطير اسمه جهاز التوازن، يتألف من ثلاث قنوات نصف دائرية، موضوعة بحيث تغطي اتجاهات الفراغ كله؛ الاتجاه الأفقي، والعمودي، والمائل، هذه القنوات فيها سائل، هذا السائل يتحرك مع حركة الإنسان، فإذا كان الإنسان نائماً فالسائل يملأ هذا الفراغ، وإذا كان الإنسان واقفاً فالسائل يملأ الجذعين، فجهاز التوازن في الأذن الباطنية يعرِّف المخيخ بوضع الإنسان أهو نائم؟ أهو مستلقٍ على ظهره، أم مستلقٍ على بطنه، أم مستلقٍ على جنبه، أم هو قاعد، أم هو مضطجع أم هو واقف، لذلك المخيخ يعطي أمراً للعضلات بتعديل الوضع بحيث يبقى التوازن صحيحاً، ولا يمكن لمن تخرّب مخيخه أن يركب دراجة، لأنه إذا مال ليس هناك من يصحح هذا الميل، المخيخ هو الذي يصحح هذا الميل، يأخذ المعلومات من جهاز التوازن في الأذن، وإن كان هناك مَيلٌ أعطى أمراً للعضلات، فتعدل هذا الميل بشكل صحيح.

 يأتي الأمر من الدماغ مثلاً بإدارة قرص الهاتف، فالدماغ يقول لك: أدر هذا القرص، هذا هو الأمر من الدماغ، لكن المخيخ يقدِّر أن إدارة هذا القرص يحتاج إلى طاقة عضلية كذا، فتجد أن الإصبع تبذل جهداً يتناسب مع تحريك قرص الهاتف، لكن الدماغ إذا أمر بفتح باب سيارة، فالعلماء قالوا: إن فتح باب السيارة يحتاج إلى جهد يزيد أربعمئة مرة عن جهد إدارة قرص الهاتف، وإذا أردت أن تقلب صفحة تبذل جهداً يتناسب مع وزن الورقة، ومع حجمها، لكنك إذا أردت أن تزيح كيساً من القمح فتحتاج إلى جهد كبير.

قمْ بمثل هذا العمل حتى تعرف عمل المخيخ :

 ومن أجل أن تعرف عمل المخيخ بشكل دقيق أمسكْ دلواً، وضعه تحت صنبور ماء، وافتح الصنبور، تشعر كيف أن العضلة تزداد قوتها مع ازدياد الماء في الدلو، فكلما ارتفع الماء بذلت العضلة جهداً أكبر في حمل الدلو، فمَن الذي يحدد هذا الجهد؟ إنه المخيخ، وكأن المخ مهندس معماري، أعطى الأمر الكلي، وكأن المخيخ مهندس مدني، ومهندس حسابات، هذا الأمر يحتاج إلى هذا الجهد، فلو تخرب جزء من المخيخ لا يزيد على حبة العدس لأُصيبت العينان بالرجفان، هذا المرض اسمه الرقرقة، ولأصيبت الأطراف بالزيغان، فلا يستطيع المصاب أن يضع يده في المكان الذي يريده، ولأُصيب النطق بالحبسة، والفافأة، والثأثأة، هذا كله من أعراض تخرّب المخيخ، فهل نعلم ذلك؟!

 العلماء قالوا: إن انتصاب الرجل قائماً على قدميه حركة بهلوانية عجيبة، تسهم أجهزة كثيرة في تأمينها، أن يقف الرجل على قدميه، هل تستطيع أن توقف ميتاً على قدميه؟ لأن هذا الأجهزة تعطلت، فالإنسان في جسمه آيات لا يعلمها إلا الله، من هذه الآيات المخيخ.

 معلومات كثيرة لا يتسع الوقت لذكرها، ولا يكون المقام مناسبًا لشرحها، ولكن أخْذ القليل خير من ترك الكثير، هذه بعض آيات الله في هذا الجزء، فلو نظرتم إليه لرأيتم خيوطاً بعضها فوق بعض، وزنها مئة وأربعون غراماً تقريباً، إنه أخطر جهازٍ في الإنسان يحقق التنسيق بين العضلات، والحركات والسكنات، أن تقف على قدميك، وأن تصيب بيدك أي هدف تشاء، وأن تمسك كأس ماء دون أن ترجف اليد، هذا بفضل الله عز وجل، وما زودنا به من أجهزة حساسة فينا.

والحمد لله رب العالمين.

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور