- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث عشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ(52) ﴾
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ
لله الكون خلقا ومُلكا وتصرفا ومصيرا :
أما أن ما في السماوات والأرض له، فهذا معناه أن ما في السماوات والأرض ملكه، وتصرفه، ومصيره.
هذه اللام للاختصاص، أو لام الملكية، نحن في ملكه، وكل شؤوننا بيده، ومصيرنا إليه.
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62) ﴾
﴿ قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ
فلذلك:
كيف تتجه إلى مَن لا يخلق ولا يملك ولا يتصرف وليس المصير بيده:
فكيف يسوغ لك أن تتجه إلى إنسان لا يملك نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة، ولا نشوراً؟ عليك أن تعبد الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وعليك أن تعبد الذي إليه يرجع الأمر كله، وعليك أن تعبد الذي بيده حياتك، وبيده صحتك، وبيده أمر عدوك، وبيده أمر صديقك، وبيده كل من حولك، عليك أن تعبده.
(( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
هذا الذي تطيعه وتعصي الله، هل يمنعك من الله؟ هل يجلب لك نفعاً؟ هل يدفع عنك ضراً؟هل يسعدك إذا أقبلت عليه؟ هل يسمعك إذا استجرت به؟ هل يتدخل ليحول بينك وبين مصيبة واقعة؟ سبحان الله أين عقل الإنسان!
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ﴾
كيف قدّر أن هذه الجهة تصلح أن تُعبَد من دون الله، مع أن هذه الجهة فقيرة، ضعيفة، عاجزة، فانية؟ ربنا -عز وجل- يذكرنا:
وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا
معنى : واصبًا :
﴿
فبحكم أن الله وهبك العقل المميز يجب أن تخضع له، فلو أن إنساناً عرض عليك مقولتين، الأولى صحيحة، والثانية مغلوطة، إلى أيّ مقولة تخضع؟ إلى الصحيحة، فلأن دعوة الله بالحق، ولأن دينه هو الحق، ولأن كتابه هو الحق، ولأن رسوله هو الحق، إذاً يجب أن تخضع له على الدوام، ليس في وقت دون آخر، وليس في وقت الرخاء دون الشدة، وليس في وقت الشدة دون الرخاء، فالمؤمن خاضع لله -عز وجل-.
﴿
إذا قضى الله ورسوله في موضوع ما حكماً، قضى أمراً في موضوع ما:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ
الدين خضوع لله :
حتى إن من قواعد علم التوحيد أن الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين.
ينبغي أن تتقي وتطيع الله وحده
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154) ﴾
إن من يطيع إنساناً ويعصي الله فقد سقط سقوطاً لا حدود له، فقد ضل سواء السبيل، وكان ضلاله مبيناً، وكان ضلاله بعيداً، وكانت خسارته كبيرة، كيف لا وقد خسر نفسه؟ ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء.
ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني فقد وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء. يا رب ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك؟
هذا الذي عرف الله، وعرف شرعه، واستقام على أمره، وتقرب إليه، ماذا فاته من الدنيا؟ وَاللَّهِ ما فاته شيء، بل أصاب كل شيء، وهذا الذي جاءته الدنيا من كل أطرافها، وغفل عن ربه، وجاءه الموت ماذا أصاب؟
﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ(45) ﴾
﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ ۗ
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126) ﴾
فالبطولة أن تلقى الله وأنت على طاعته، فإذا كان هناك مبرر مُسوِّغ أن تعبده فلأن له ما في السماوات والأرض.
تدخل أحياناً إلى دائرة، فما الذي يجعلك تطرق باب مديرها العام؟ لأن الأمر كله بيده، سواء أحببت ذلك أم لم تحب، ليس في كل هذه الدائرة إنسان يستطيع أن يقول لك: مع الموافقة، إلا هذا المدير العام، فأنت إذا وقفت على بابه، وطرقته لأنك مضطر، إذ لا يستطيع أن يمنحك الموافقة إلا هذا الموظف، فهل تتجه إلى مستخدَمٍ ترجوه أن يوقِّع لك هذه المعاملة؟ عندئذٍ تستحق أن تذهب إلى مشفى الأمراض العقلية.
فالله له كل شيء، فإذا كان هناك مسوغ أن تعبده فلأن له ما في السماوات والأرض، هذا مسوغ الاضطرار.
أما هنا مسوغ آخر:
﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ﴾
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ
كل نعمة مَسَّتْكَ فمن الله وحده :
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ هذا سبب آخر أرقى من ذلك السبب، إن كل ما أنت عليه من نعم فمن نعم الله، خذ نعمة العقل مثلاً .
حدثني أخ صديق كان يركب مركبة عامة، فإذا أحد الركاب يخلع ثيابه كلها، ويبقى كيوم ولدته أمه، أين عقله ؟
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
أنت وحدك أعقد مخلوق على وجه الأرض.
فلذلك:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
إذا كنت كريم النفس فاخضع له من باب العرفان والشكر، لأن كل النعم التي أنت فيها إنما هي من نعم الله عز وجل، ولأنه:
﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ
نعمة واحدة لو أمضيت مدة حياتك في إحصاء فوائدها لما انتهيت، فإذا كنت عاجزاً عن إحصاء فوائد نعمة واحدة، فأنت عن شكر هذه الفوائد أعجز، وعن شكر النعم كلها أشد عجزاً.
ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
فهذا الذي يلحد في آيات الله، هذا الذي ينكر، هذا الذي يُعرِض، هذا الذي يسخر، إذا جاءته المصيبة الكبيرة يقول: يا الله!
قد حدثتكم عن رجل جلس في طائرة إلى جنب رجل، يتناقشان، فإذا بالثاني ينكر وجود الله -سبحانه وتعالى-، فلما توقف أحد محركات الطائرة، ومرت فوق جيب هوائي، وانخفضت فجأة، قال صاحبنا: رأيت هذا الذي كان ينكر وجود الله قبل قليل يقول: يا الله، يا الله، يا الله.
﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54) ﴾
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
بلغ اللؤم عند بعض الناس منتهاه :
ما أشد لؤم الإنسان، وهو في أثناء المصيبة يدعو الله -عز وجل-، ويرفع يديه، ويرفع صوته بالدعاء، فإذا تولى الله -عز وجل- شفاء ابنه، أو إنقاذه من ورطته، أو مرت هذه المصيبة بسلام، أو زال شبح المصيبة، أو انخفضت الحرارة، أو جاء التحليل سلبياً، لا إيجابياً، أو كان هذا الورم غير خبيث، عاد هذا الإنسان إلى ما كان عليه، من فسق وفجور، وزَيغ، وضلال، واستخفاف.
﴿ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(55) ﴾
حدثني أخ كريم قال: كنت في محنة شديدة، فدعوت الله من كل جوارحي، إنْ أنقذتني يا رب منها فلن أعصي لك أمرًا، وقد أنقذه الله منها، وها هو ذا فيما أعلم لا يعصي لله أمراً، أناس كثيرون، ربنا عز وجل يقول:
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
كفرُ النِّعم :
وقد تكون هذه النعمة، نعمة الشفاء، أو نعمة السلامة، أو نعمة البحبوحة التي جاءت بعد عسر، قد تكون هذه النعمة سبباً لكفرهم، فهذه اللام لام العاقبة، أو لام التعليل، أي إن هذه النعم التي ساقها الله لهم من بعد شدة، من بعد دعاء عريض، كانت هذه النعم سبباً في كفرهم وإعراضهم عن الله -عز وجل-.
فمن كان ينطوي على نفس راقية أخلاقية، إذا دعا الله متلهفاً فكشف الله عنه المصيبة، فهذا الإنسان يستحيي أن يعصي الله بعدها.
أطــع أمرنا نرفع لأجلـك حجبنا فإنا منحنا بالرضى من أحـبنـــا
ولــذ بحمانا و احتـم بجنابنــا لنحميك مما فيه أشرار خـلقنـــا
وعن ذكــرنا لا يشغلنك شاغـل وأخلص لنا تلقَ المسرة و الهنـــا
وسلم إليــنا الأمر في كل ما يكن فما القرب والإبعاد إلا بأمـرنـــا
تهديد ووعيد إلهي : فَتَمَتَّعُوا
في آخر المطاف سوف يعلم الخاسر الحقيقة :
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24) ﴾
عندما يقول الإنسان:
﴿ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ(56) ﴾
عندما يقول الإنسان: ولات ساعة مندم.
عندما يقول الله عز وجل:
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِي(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِي(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِي(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ(35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ(36) ﴾
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ
قال الله عز وجل:
﴿
ماذا ينفع هذا الإيمان عند ساعة الموت؟
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ
البطولة أن تؤمن في الوقت المناسب، لا أن تؤمن بعد فوات الأوان، البطولة أن تعرف جواب الامتحان قبيل الامتحان، لا بعد الامتحان.
﴿
لا يستمتع بالدنيا، يخاف أن يركن إليها، يخاف أن تصبح مبلغ علمهم، ومنتهى أملهم.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ ))
فكلمة ( تمتعوا ) كما قال بعض المفسرين: فعل أمر يفيد التهديد
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ(56)﴾
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
العبادة عن جهل وتقليد خسارة لصاحبها :
تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
هذا افتراء، هذا كذب، هذه خرافة، كيف اعتقدت بها، لمِ لمْ تمحِّصها؟ لمَ لمْ تقف عندها؟ لمَ لمْ تتفحصها؟
ثم قال عزوجل :
﴿
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ
الله منَزَّهٌ عن الولد :
يدَّعي المشركون أن الملائكة بنات الله، لذلك:
﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا(43) ﴾
هل هو بحاجة إلى ولد؟! هل هو بحاجة إلى بنات؟!
﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58) ﴾
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ
لا علاقة للزوجة بنوع الولد فكيف تلام على إنجاب البنات ؟!!
فاسوداد الوجه كناية عن الغم الذي أصابه، عن الغم الشديد، والحزن الكبير، ولو علم الزوج أن المولود ذكراً كان أم أنثى شيء تابع له فقط، ولا علاقة لزوجته به لاختلف الأمر.
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (46) ﴾
من نطفة لا من بويضة، فالنطفة في نواتها تحمل مجموعة عُرا، العروة الأخيرة إما على شكل(X) أو على شكل(Y)، النطفة وحدها تحدد نوع المولود ذكراً كان أم أنثى، لذلك امرأة بدوية غضب منها زوجها لأنها تنجب البنات، فقالت :
ما لأبي حمزة لا يـأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا تالله مـا ذلك في أيـدينا
وإنما نأخذ ما أعطيـنا ونحن كالأرض لزارعينا
***
فهذا الذي يغضب إذا جاءته فتاة أو بنت أولاً هو أحمق، لأن تحديد نوع المولود جعله الله في الحيوان المنوي الذي منه.
البنات هبة من الله :
الشيء الآخر، الله -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
قد تكون البنت أعظم بركة من الابن :
الآن في هذه الأيام إذا ولدت المرأة بنتاً لا أحد يتكلم مع هذه الزوجة، يعدُّون مَقْدَمَها شؤماً على زوجها، هذه جاهلية، وهذا جهل، وهذا بعدٌ عن الله -عز وجل-، ومن يدريك أن الخير كله في هذه الفتاة؟ من يدريك؟
قال تعالى :
﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36) ﴾
من أنجبت مريم؟ سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، ما يدريك أن الخير كله من هذه الفتاة؟ من هذه البنت؟ لذلك عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَا تُكْرِهُوا الْبَنَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ ))
وقد قيل: ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم، ويغلبهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً، من أن أكون لئيماً غالباً.
﴿
هذا هو ردُّ فعل الرجل الجاهل الذي يولد له بنت :
يستحي من هذه البشارة ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ لمَ لمْ يقل الله عز وجل: أيمسكها، لأن هذه الهاء تعود على "ما":
ما ذنب البنت حتى تدفَن حية ؟
تصور كيف كان العرب في الجاهلية، كيف كان أحدهم يقود فتاة كعمر الزهور كريحانة، يقودها إلى أطراف المدينة، ويحفر لها حفرة، ثم يرديها فيها، ويهيل عليها التراب، أي قلب هذا ؟!
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9) ﴾
ما الذنب الذي ارتكبته هذه الصغيرة حتى يئدها أبوها؟
تحريم قتل الولد للفقر أو خشية الفقر :
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(31) ﴾
﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ
من إملاق، أي : بسبب الفقر الواقع، فجاءت الآية:
﴿ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(60) ﴾
أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
هذا حكمهم، كيف هداهم النبي عليه الصلاة والسلام؟ قلوب أقسى من الصخر، كيف تعامل معها النبي؟ كيف نقلهم من الشقاوة إلى السعادة، من قسوة القلب إلى الرحمة؟
﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(61) ﴾
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
الكافر بالآخرة له السوء من كل جوانبه :
فهذا الذي لا يؤمن بالآخرة لا يحسب حساباً ليوم الدين، ليوم الفصل، ليوم القيامة، ليوم الحق، ليوم الجزاء، عمله سيئ، أخلاقه سيئة، صفاته سيئة، عقيدته فاسدة.
كله سوء؛ عقله، وعقيدته، ومشاعره، وتصرفاته، وأعماله، وأقواله، وعلاقاته وشركته، وزواجه، وجيرته، له فيها كلها:
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى
أما إذا كنت مع الله فأنت تسعد به، وترقى نفسك، ويرقى عقلك، ويصلح عملك، وتصح عقيدتك،
يا من تقاصر شكري عن أياديه وكلَّ كلُّ لسان عن معانيــه
وجوده لم يزل فرداً بلا شبهـاً علا عن الوقت ماضيه و آتيه
لا دهر يخلفه لا قهر يلحقــه لا كشف يظهره لا ستر يخفيه
لا عد يجمعه لا ضد يمنعــه لا حد يقطعه لا قطر يحويـه
لا كون يحصره لا عين تبصره وليس في الوهم معلوم يضاهيه
جلاله أزلي لا زوال لــــه وملكه دائم لا شيء يضنيــه
الله لا يشبهه شيء :
لا دهر يخلفه لا قهر يلحقــه لا كشف يظهره لا ستر يخفيه
لا عد يجمعه لا ضد يمنعــه لا حد يقطعه لا قطر يحويـه
لا كون يحصره لا عين تبصره وليس في الوهم معلوم يضاهيه
﴿
لو يؤاخذ الله عباده بما يفعلون ما بقي في الأرض حيّ :
خلقهم ليرحمهم، لو أنه أخذهم بذنوبهم، لو أنه حاسبهم على معاصيهم
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129) ﴾
ما هذه الكلمة؟ أنه خلق الخلق ليسعدهم، فإذا عجل عليهم العقاب، أو أخذهم بذنبهم، تناقض هذا مع خلقهم، ولكنه خلقهم ليسعدهم، لذلك يحلم عليهم، ويمدُّ لهم، يعطيهم فسحة من الأجل، ومهلة في العمر، يدعوهم، ويضيق عليهم، يسمعهم الحق لعلهم يرجعون.
قال تعالى:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾
إن الطبيب له علم يدل بـــه إن كان للناس في الآجال تأخيرُ
حتى إذا ما انقضت أيام رحلته حار الطبيب وخانته العقاقيــرُ
***
الموضوع العلمي : المُخيخ آية من آيات الله العظيمة :
أيها الإخوة المؤمنون، من آيات الله الدالة على عظمته أن الله -عز وجل- زودنا بجهاز تابع للدماغ اسمه المخيخ، فهناك المخ، وهناك المخيخ، وهناك البصلة السيسائية.
الوقفة اليوم عن المخيخ؛ من منكم يصدق أن كتلة من الخيوط العصبية لا يزيد وزنها على 143 غراماً تقوم بدور خطيرٍ جداً، بحيث أنه لو تخرّب جزء من المخيخ لأصبحت حياة الإنسان مستحيلة، ماذا يفعل هذا المخيخ؟ قال العلماء: إنه مركز توافق وانسجام لحركات البدن، فلو أننا خربنا مخيخ طائر لمَا أمكن الطيران، ولسقط فوراً، ولو تخرب مخيخ الإنسان لمَا أمكن أن يقف على قدميه، ولما أمكن أن يرى بعينيه، أو يحرك يديه، ولمَا أمكن أن ينطق بلسانه.
إصابة المخيخ بمرض خطر على الإنسان :
توافق حركات اليدين: قد يقول الطبيب لمن يشك أنه مريض في مخيخه: ضع إصبعك على أنفك، تأتي على خده، أو تأتي على وجنته، فلا يستطيع المريض أن يضع أصبعه على أرنبة أنفه، ولا يستطيع المريض أن يقرأ سطراً واحداً، عيناه تزيغان، وتتأرجحان، وتتذبذبان، لا تستقران على الكلمة.
التوازن في المخيخ :
أما أخطر شيء يقوم به المخيخ فهو التوازن، ففي أذن الإنسان الباطنية جهاز خطير اسمه جهاز التوازن، يتألف من ثلاث قنوات نصف دائرية، موضوعة بحيث تغطي اتجاهات الفراغ كله؛ الاتجاه الأفقي، والعمودي، والمائل، هذه القنوات فيها سائل، هذا السائل يتحرك مع حركة الإنسان، فإذا كان الإنسان نائماً فالسائل يملأ هذا الفراغ، وإذا كان الإنسان واقفاً فالسائل يملأ الجذعين، فجهاز التوازن في الأذن الباطنية يعرِّف المخيخ بوضع الإنسان أهو نائم؟ أهو مستلقٍ على ظهره، أم مستلقٍ على بطنه، أم مستلقٍ على جنبه، أم هو قاعد، أم هو مضطجع أم هو واقف، لذلك المخيخ يعطي أمراً للعضلات بتعديل الوضع بحيث يبقى التوازن صحيحاً، ولا يمكن لمن تخرّب مخيخه أن يركب دراجة، لأنه إذا مال ليس هناك من يصحح هذا الميل، المخيخ هو الذي يصحح هذا الميل، يأخذ المعلومات من جهاز التوازن في الأذن، وإن كان هناك مَيلٌ أعطى أمراً للعضلات، فتعدل هذا الميل بشكل صحيح.
يأتي الأمر من الدماغ مثلاً بإدارة قرص الهاتف، فالدماغ يقول لك: أدر هذا القرص، هذا هو الأمر من الدماغ، لكن المخيخ يقدِّر أن إدارة هذا القرص يحتاج إلى طاقة عضلية كذا، فتجد أن الإصبع تبذل جهداً يتناسب مع تحريك قرص الهاتف، لكن الدماغ إذا أمر بفتح باب سيارة، فالعلماء قالوا: إن فتح باب السيارة يحتاج إلى جهد يزيد أربعمئة مرة عن جهد إدارة قرص الهاتف، وإذا أردت أن تقلب صفحة تبذل جهداً يتناسب مع وزن الورقة، ومع حجمها، لكنك إذا أردت أن تزيح كيساً من القمح فتحتاج إلى جهد كبير.
قمْ بمثل هذا العمل حتى تعرف عمل المخيخ :
ومن أجل أن تعرف عمل المخيخ بشكل دقيق أمسكْ دلواً، وضعه تحت صنبور ماء، وافتح الصنبور، تشعر كيف أن العضلة تزداد قوتها مع ازدياد الماء في الدلو، فكلما ارتفع الماء بذلت العضلة جهداً أكبر في حمل الدلو، فمَن الذي يحدد هذا الجهد؟ إنه المخيخ، وكأن المخ مهندس معماري، أعطى الأمر الكلي، وكأن المخيخ مهندس مدني، ومهندس حسابات، هذا الأمر يحتاج إلى هذا الجهد، فلو تخرب جزء من المخيخ لا يزيد على حبة العدس لأُصيبت العينان بالرجفان، هذا المرض اسمه الرقرقة، ولأصيبت الأطراف بالزيغان، فلا يستطيع المصاب أن يضع يده في المكان الذي يريده، ولأُصيب النطق بالحبسة، والفافأة، والثأثأة، هذا كله من أعراض تخرّب المخيخ، فهل نعلم ذلك؟!
العلماء قالوا: إن انتصاب الرجل قائماً على قدميه حركة بهلوانية عجيبة، تسهم أجهزة كثيرة في تأمينها، أن يقف الرجل على قدميه، هل تستطيع أن توقف ميتاً على قدميه؟ لأن هذا الأجهزة تعطلت، فالإنسان في جسمه آيات لا يعلمها إلا الله، من هذه الآيات المخيخ.
معلومات كثيرة لا يتسع الوقت لذكرها، ولا يكون المقام مناسبًا لشرحها، ولكن أخْذ القليل خير من ترك الكثير، هذه بعض آيات الله في هذا الجزء، فلو نظرتم إليه لرأيتم خيوطاً بعضها فوق بعض، وزنها مئة وأربعون غراماً تقريباً، إنه أخطر جهازٍ في الإنسان يحقق التنسيق بين العضلات، والحركات والسكنات، أن تقف على قدميك، وأن تصيب بيدك أي هدف تشاء، وأن تمسك كأس ماء دون أن ترجف اليد، هذا بفضل الله عز وجل، وما زودنا به من أجهزة حساسة فينا.
والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.