- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36) ﴾
هذه الآية اصل من أصول العقيدة :
أيها الإخوة المؤمنون، هذه الآية تمَسُّ العقيدة، بل إنها أصلٌ من أصول العقيدة، فربنا -سبحانه وتعالى- يقول:
لا يقول هذا الكلام إلا مشرك :
وقفة متأنية عند قوله : لَوْ شَاءَ اللهُ :
أولاً من الآيات الموضحة لمشيئة الله قوله تعالى:
﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا(19) ﴾
﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29) ﴾
المعنى الأول للمشيئة :
في هذه الآية مشيئة العبد ومشيئة الرب، مشيئة العبد مشيئة اختيار، الإنسان مُخيَّر، في دائرة كبيرة من حياته هو مخير، ربما قال قائل: إنه ليس مُخيَّراً في أشياء، وهذا صحيح، لماذا وُلد من هذا الأب ومن هذه الأم؟ وفي هذا الزمان وفي هذه المدينة؟ المكان والزمان والأب والأم هذا لا علاقة له به، لا دخل لاختياره فيه، لكن علماء التوحيد يؤكدون أنّ القدر والقضاء الذي يقع عليك، والذي لا دخل لإرادتك فيه هو لصالحك، الإيمان بالقدر يُذهِب الهَمّ والحَزَن، كل شيءٍ وقع على العبد من دون أن تكون له جريرةٌ به أو اختيار بتحقيقه هو لمصلحته، لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿
العطاء خير، والمنع خير، والعز خير، والذل خير
﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ
فالقضاء هو الحُكم، والقدر هو التقدير، فالطبيب إذا حكم على هذا المريض أنّ في معدته التهاباً، يمنع عنه الطعام المُخرِّش، فالقضاء حكم، والقدر تقدير، القضاء حكم، والقدر إجراء، معالجة، وتشجيع مبنيٌ على هذا القضاء، فربنا -سبحانه وتعالى- ناظرٌ إلينا، فمَن وجد فيه خيراً شجّعه، ومن وجد في نفسه سوءًا حذّره، ونبّهه، وعالجه، وقدّر عليه بعض المصائب لترده إليه.
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾
آية واضحة وضوح الشمس: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى﴾ كلّ عذاب الدنيا، العذاب المادي، الأمراض، الفقر، القهر، كل أنواع العذابات في الدنيا، عذابات سماها الله -عز وجل-:
﴿
فالقضاء هو الحكم، والقدر هو التقدير، نظر الطبيب إلى حالة المريض، فرأى في المعدة التهاباً حاداً، هذا هو القضاء، أما القدر: أمَرَ الطبيب مَن في المستشفى أن يمنعوا عنه كل طعامٍ مُخرِّش، وأعطى تعليمات للممرضة أن تطعمه الطعام الفلاني، فالقضاء حُكمٌ، والقدر معالجةٌ، فالذي يقول: لو شاء الله ما عبدنا، لله مشيئة، وللعبد مشيئة ، مشيئة العبد مشيئة اختيار، ومشيئة الحق -جل وعلا- مشيئة فحص واختبار.
بأبسط مثل؛ لو أنّ طالباً نالَ علاماتٍ دنيا، وقدّم طلباً إلى رئاسة الجامعة كي يدخل إلى كلية الطب، هذا الطالب اختار هذه الكلية، شاء أن يكون طبيباً، ولكن إدارة الجامعة عندها أُسس، لا بد لكلية الطب من مجموع عالٍ، لأن الذي يتنَطَّح لهذه المهنة يجب أن يكون ذا قدرات عالية في الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وذا مجموع مرتفع، فإرادة الجامعة لها مشيئة، لكنها ليست مشيئة اعتباطية، ليست مشيئة مِزاجية، إنما هي مشيئة العلم، ومشيئة الحكمة، فهذا الطالب المُقصِّر لا تشاء له إدارة الجامعة أن يدخل كلية الطب.
مشيئة الإنسان مشيئة حريةٍ واختيارٍ، ومشيئة الحق -جل وعلا- مشيئة فحصٍ واختبارٍ.
﴿ إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ
﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29) ﴾
الله -عز وجل- ينظر، هذا الذي يطلب الجنة هل استقام على أمر الله؟ إن استقام على أمر الله يشاء له الجنة، هذا الذي طلب الجنة هل حرّر دخله من الحرام؟ إن فعل ذلك شاء له الجنة، هذا المعنى الأول، فمشيئة العبد مشيئة مختارة، ومشيئة الرب مشيئةٌ فاحصة، من أجل أن تعطي كل ذي حق حقه، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني للمشيئة :
المعنى الثالث للمشيئة :
أبٌ عالمٌ كلّ آماله في الحياة أن يكون ابنه مثله، فبمجرد أن يتفوّه ابنه بكلمة واحدة تعبر عن رغبته في طلب العلم، الأب بكل إمكاناته، وبكل طاقاته، وبكل ما يملك، يضع كل هذه الإمكانات في خدمة الابن ليحقق هذا الطلب، بمجرد أن تشاء الهدى، يشاؤه الله لك، لأنه خلقك لتعرفه.
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) ﴾
إذاً المشيئة الإلهية مشيئة تنفيذية، بينما مشيئة العبد مشيئة طلبية، اطلب تُعطَ، لله رجالٌ إذا أرادوا أراد، هذا هو المعنى الثالث.
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ
اللهُ بيَّن طريق الحق فمن ضلَّ فقد حقت عليه الضلالة :
شيء آخر، الله -سبحانه وتعالى- رسم للهدى طريقاً، فأيّ عبدٍ سار في هذا الطريق شاء له الهدى، وأيّ عبد حادَ عن هذا الطريق حقت عليه الضلالة.
المعنى دقيق جداً، الطريق أن تكون طبيباً معروف، أيّ مواطنٍ سلك هذا الطريق من الشهادة الثانوية إلى كلية الطب، تابع السنوات كلها إلى أنْ تخرّج، يُمنَح شهادة في الطب، وترخيص بمُزاوَلة مهنة الطب، لماذا شاءت الجهات المعنيّة لهذا المواطن أن يكون طبيباً؟ لأنه سلك الطريق التي رسمتها الجهات المعنيّة لمهنة الطب، فإذا خرج الإنسان عن هذا الطريق، ترك الجامعة، وبدأ يطالع بعض المجلات، فهل تشاء الجهات المعنيّة لهذا الطالب أن يكون طبيباً؟ هل يُمنَح الشهادة؟ لا والله، هل يُعطى ترخيص؟ لا و الله.
إذاً: هناك طريق للهدى، مَن سلكه شاء الله له الهدى، مَن حازَ عنه حقّت عليه الضلالة، أيْ وجبت عليه الضلالة، فمن قرأ الكتاب عرف ما فيه، ومن لم يقرأه لا بد من أن يكون جاهلاً، نقول: حقت عليه الجهالة، ليس الموضوع موضوع قهر، لا والله، وليس الموضوع موضوع جبر، لا، الموضوع أبسط من ذلك، من قرأ الكتاب عرف ما فيه، ومَن لم يقرأه حقّ عليه الجهل، فكان الجهل ملازماً له، كان الجهل نتيجة حتمية لفعله، بعض الآيات التي تؤكد هذه الحقيقة
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ
الذين حقّت عليهم الضلالة لماذا حقّت عليهم الضلالة؟ لأنهم ظالمون، والذين حقّت عليهم الضلالة لماذا حقّت عليهم الضلالة؟ لأنهم فاسقون
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ
والذين حقّت عليهم الضلالة لمَ حقّت عليهم الضلالة؟ لأنهم عصاة، والذين هداهم الله، لماذا هداهم الله؟ لأنهم محسنون.
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
والذين هداهم الله، لماذا هداهم الله؟ لأنهم جاهدوا فينا
إذاً:
قلت لكم سابقاً: إن قوله تعالى:
علة الخلق العبادة لله وحده :
استمعوا أيها الإخوة، سيدنا الحسن بن علي رَضِي اللَّه عَنْهما يقول: "من حمل ذنبه على ربّه فقد فجر، إن الله تعالى لا يُطاع استكراهاً، ولا يُعصَى بِغَلَبة، فإن عمل الناس بالطاعة لم يَحُل بينهم وبين ما عملوا، وإن عملوا بالمعصية فليس هو الذي أجبرهم، ولو أجبرهم على الطاعة لسَقط الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لسقط العقاب، ولو أهملَهم لكان عجزاً في القدرة، فإن عملوا بالطاعة فله المِنَّة عليهم، وإن عملوا بالمعصية فله الحُجَّة عليهم"، هذا كلام أهل التوحيد، هذا كلام نابع من توجيه النبي -عليه الصلاة والسلام-.
إذاً:
لا تعلِّل ضلالك بضلال آبائك :
فهذا الذي يقول لك: ترتيبه، أقام العباد فيما أراد، كلمة حقٍّ يُرادُ بها الباطل أحياناً، يقول: إن الله قدّر عليه شرب الخمر، والزاني قدّر الله عليه ذلك، وما هو أقبح من القبح؟ سؤال، ما هو أقبح من القبح؟ أن تريد القبح، قد يقع منك فعل قبيح، والفعل قبيح، لكن أقبح من هذا الفعل القبيح أن تريده، وأن تخطط له، أو أن تُجبِر الناس عليه، فهل يليق بحضرة الله -سبحانه وتعالى-، وهل يليق بأسمائه الحسنى أن يريد لعباده الفحشاء، وأن يحملهم على الزنى، وأن يحملهم على شرب الخمر؟
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
لا يقول: إن الله أجبر العصاة على المعصية إلاّ مشرك، بنص هذه الآية:
في سورة الأنعام آية مشابهة، قال تعالى:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾
والخَرَصُ أشدُّ أنواع الكذب، وأقبح أنواع الكذب.
الإنسان خلقه الله وفيه استعداد للهدى واستعداد للضلال :
شيءٌ آخر، المعنى الإيجابي أن الله -سبحانه وتعالى- شاء أن يخلق الإنسان وفيه استعدادٌ للهدى، واستعدادٌ للضّلال، كهذه السكّين يمكن أن تقطع بها الخضار والفواكه، ويمكن أن تجرح بها إصبعك، ففي السكين استعداد للخير، واستعداد للشر، فالله -سبحانه وتعالى- شاء أن يخلق إنساناً فيه استعداد للهدى واستعداد للضلال، منحه بادئ ذي بدء حرية الاختيار:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3) ﴾
﴿
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)﴾
أوجهُ تفسيرٍ لهذه الآية: ألهمها أنّ هذا الطريق التي هي فيه طريق الفجور، جاء المَلَك، فألهمها الملك أن هذا العمل لا يرضاه الله -عز وجل-، هذا العمل يُشقي، ألهمَ النفس الفاجرة أنها فاجرة، كأن تجد ابناً لك مُقصّراً في الدراسة، يقول له الأب: كل يوم يا بني أنت مقصر، وهذا التقصير سوف يجرّ عليك متاعب كبرى في حياتك المستقبلية، هذا معنى ألهمها، فالله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان، وخلق فيه استعداداً للهدى والضلال، وأعطاه حرية الاختيار.
﴿
الإنسان حمل الأمانة، أيْ حمل حرية الاختيار، لا المَلَك مُخيّر، ولا الحيوان مُخيّر، لكنّ الإنس والجن وحدهما مخيَّران، ولكن هذا الخِيار كيف يستخدمه؟ مِن كرمِه جلّ وعلا أنه زودنا بعقل نعرف به الخير من الشر، والحق من الباطل، والحسَن من القبيح، والنافع من الضار، ولكن هذا العقل، بالإضافة إلى أنه جهاز يُعدّ أثمن ما في الكون بثّ الله -سبحانه وتعالى- في الأرض آياتٍ دالةً على عظمته، ودالةً على أسمائه الحسنى، فإذا فكّر الإنسان بعقله في آيات الله التي بثّها في السماوات والأرض عرف الله -عز وجل-، فإذا عرفه استقام على أمره، وعبده، وسعِد بقربه، وخشية أن يضلّ هذا العقل تكرَّم الله -عز وجل- مرة رابعة فأنزل الكتب من السماء.
يعطي المدرّس مسألةً للطلاب، ويقول لهم: هذا الرقم الفلاني هو الجواب، هذا الرقم، حلّوا المسألة، فإذا انتهيتم من حلكم لها إلى هذا الرقم فحلُّكم صحيح، العقل جَالَ في هذه المسألة، فإذا وصل إلى هذا الرقم فحلُّه صحيح.
فالله -سبحانه وتعالى- خَلق في الإنسان استعدادًا للهدى والضلال، وأعطاه حرية الاختيار، ومنحه العقل الذي يميّز به الحق من الباطل، والخير من الشر، والصالح من الطّالح، والقُبح من الحُسْن، وفضلاً عن ذلك أنزلَ إليه الكتب التشريع ليكون التشريع مقياساً للعقل، وفضلاً عن ذلك أرسلَ رسلاً هداةً مبشرين، طبّقوا الحق، جعلهم نماذج تُغري كل إنسان بالهدى، فأنت مُخيّر، ولك عقل، ويوجد كون، وكتاب، وإنسان عظيم طبّق هذا الكتاب، فكان إنساناً كاملاً، جعله الله قدوة لك، جعل لك قدوة، وجعل لك منهجاً، وجعل لك عقلاً، وجعل لك كوناً، وجعلك مختاراً، وبعد هذا وذاك تقول: لم يشأ الله لي الهدى؟! ما هذا الكلام؟! هذا كلام لا يقوله إلا مشرك
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
ليس على النبي هداية الناس :
يا محمد -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
﴿
الإنسان مخير، لذلك أبو جهل، وأبو لهب، عمّ النبي عليه الصلاة والسلام:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5) ﴾
أما سلمان:
(( سلمان منا آل البيت ))
وصهيب.
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى ))
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( اسْمَعُوا، وَأَطِيعُوا، وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ ))
الناس سواسية كالمشط.
(( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ))
مقياس واحد.
لا تقلْ أصلي وفصلي أبدا إنما أصلُ الفتى ما قدْ حصلْ
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ... ))
حينما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- على مشارف مكة قُبيل فتحها، ورأى أبو سفيان الذي وقف مناوئاً لهذه الدعوة عشرين سنة أو تزيد، حارب النبي -عليه الصلاة والسلام- في بدر، وحاربه في أحد، وحاربه في الخندق، وحاربه في مواقف أخرى، حينما رأى المسلمين يزحفون إلى مكة المكرمة فاتحين، وحينما رأى أن الأصنام لم تنفعهم من الله شيئاً، وحينما سمع أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
(( مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ. ))
تفاعلت في نفس أبي سفيان هذه الكمالات النبوية، فقال لسيدنا محمد -عليه أتم الصلاة والسلام- يا محمد ما أعقلك، وما أحكمك، وما أرحمك، وما أوصلك، النبي رحمة مهداة، قد يحملك على الهدى، أن ترى مؤمناً مستقيماً، عفيفاً، وَرِعاً، متواضعاً، حليماً، كريماً، سخيّاً، رؤوفاً، رحيماً، هذا من متممات الهدى، وشاء الله أنْ يخلقنا ليرحمنا، هذه نعمة الإيجاد.
في بعض الخطب أقول: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، يعني الحمد لله على نعمة الإيجاد، ثم الحمد لله رب العالمين، هذه نعمة الإمداد، ثم
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1) ﴾
هذه نعمة الإرشاد، أنتم في نعم ثلاث، نعمة الإيجاد:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1) ﴾
مَن أنت قبل مئة عام؟ هل لك اسم في السجلات؟ هل لك هوية في النفوس؟ من أنت؟ لا شيء، أوجدَك الله من العدم، وأمدّك بهذا الطعام والشراب، والهواء، والماء، جعل لك أمّاً رؤُوماً، وأباً رحيماً، أمدّك بكل شيء، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ثم دعاك إليه، ثم شرّفك بمعرفته، فيا رب كفاني عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفاني فخراً أن تكون لي رباً.
لماذا يحتجّ الإنسان بالقدر ؟
الآن لدينا موضوع صغير جداً، لماذا يحتجُّ الإنسان بالقدَر، الناس إذا أمرتهم بالطاعة، أو نهيتهم عن معصية يحتجّون بالقدر، فلو أنهم فعلوا شيئاً وَفق مصالحهم يقول لك أحدهم: أنا فعلت كذا وكذا، أنا بحسب خبرتي وجدت من المناسب أن أفعل كذا وكذا، لماذا إذا فعلت شيئاً لمصلحتك لا تعزُوه إلى الله -عز وجل-؟ وتقول: أنا فعلت كذا وكذا، وإذا اجتنبت خطراً تقول: أنا أعلم أنّ هذا خطر فابتعدت عنه، فإذا كنت غارقاً في شهوة ، ودُعيت إلى طاعة الله تقول: إن الله قدّر عليّ ذلك؟ هذا من التناقضات البشِعة، إذا فعلت شيئاً لمصلحتك تقول: أنا فعلت كذا وكذا، وإذا ابتعدت عن شيء لمصلحتك تقول: أنا ابتعدت عن كذا وكذا، فإذا دُعِيت إلى طاعة الله، إذا دُعِيت إلى عمل صالح، إذا دُعِيت لمجلس علم، إذا دُعِيت إلى جنة عرضها السماوات والأرض تقول: الله -عز وجل- لم يشأ لي ذلك؟ لم يهدِني بعد، من قال لك ذلك؟
سيق لأحد الولاة رجل شارب للخمر، فقال هذا الرجل قُبيل أن ينفذ فيه الحد: "واللهِ إن الله قدّر عليّ ذلك، فقال: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال له: ويحك يا هذا، إن قضاء الله، لم يخرِجْك من الاختيار إلى الاضطرار"، الله -عز وجل- جلّ وعلا عن أن يلزمك بمعصية، عن أن يجبرك على معصية.
بعض المشككين في عهد أبي حنيفة النعمان -رَضِي اللَّه عَنْه- سألوه أسئلة ثلاثة، وكان فطِناً ذكياً، قيل له: يا إمام، كيف يقدّر الله علينا المعصية، ويحاسبنا عليها؟ وكيف نعبده، ونحن لا نراه؟ وكيف يُعذَّب الجنّ بالنار، وهم من النار؟ أسئلة ثلاثة، رأَوها حجّةً قاطعة، هكذا تروي بعض الكتب، ولست في صدد التثبُّت من هذه القصة، لكنّ لهذه القصة مغزى، قالوا: أخذ الإمام أبو حنيفة حجراً، أو كدْرَةً من طينٍ يابس، ورمى بها أحدهم، فشَجَّ جبينه، هذا الرجل ذهب إلى القاضي، ورفع أمامه قضية، طبعاً قال أبو حنيفة للقاضي: يزعم أننا نعبد الله، ولا نراه، فالألم الذي تألمت منه، وحمَلَك إلى أن تذهب إلى القاضي، هل رأيته؟ قال: لا، ثم إنك إنْ كنت تعلم أنّ الله قدّر عليك ذلك، لماذا اشتكيت عليّ، ألست من طين؟ وهذه من طين، فكيف تألّمت بها؟ أعطاه ثلاث حُجَج، إنك مِن طين، وهذه مِن طين، فكيف آلمتك؟ والألم كيف حمَلك على أنْ تشتكي عليّ، وأنت لا ترى الألم؟ وإذا كنت مقتنعاً أن الله قدّر عليك ذلك لمَ شكوتني؟
بصرف النظر عن مدى صحة هذه القصة فإنّ لها مغزى، الذي يحتجّ بالقدَر هو العاصي، هو الذي يريد الدنيا، ويرفض الآخرة، يقول لك: لم يشأ الله لي أن أصلّي، لم يهدِني الله بعد، الاحتجاج بالقدر حجّةٌ باطلةٌ داحضةٌ باتفاق كل ذي عقلٍ ودينٍ في العالمين، والمُحتَجّ بالقدر لا يقبل هذه الحُجّة من غيره، هذا الذي يقول لك: الله الذي قدّر عليّ هذه المعصية، اضربه، يثور عليك، لماذا تثور عليّ؟ الله قدّر عليك هذا، لا يرضى بهذه الحجة، الذي يحتجّ بالقدر لا يرضى بهذه الحجة، إذاً هو كاذب بحجته .
قال بعض العلماء: لو كان القدَر حُجّة لم يحصل فرق بين العالم والجاهل، والعادل والظالم، والصادق والكاذب، والبَرّ والفاجر، هذا قدّر الله عليه أن يكون بارّاً، وهذا قدّر عليه أن يكون فاجراً، لا البر لهذا ميّزة، ولا الفِجْر لهذا سيئة.
إذا كان عندك طالبان، فأعطيت للطالب الأول السؤال والجواب، فأخذ علامة تامة، وأعطيت للطالب الثاني سؤالاً فوق مستوى المنهاج، من غير كتاب، من غير صف، فما عرف الجواب، فأعطيت الأول علامة تامة، وأعطيت الثاني علامة الصفر، فلا هذه العلامة التامة مَفخرةٌ لهذا، ولا هذا الصفر تُهمةٌ لهذا، فالمدرس أعطى الطالب سؤالاً مع الجواب، فأخذ عليه علامة تامة، وأعطى الآخر سؤالاً فوق مستوى الطالب فأخذ صفراً .
لو كان القدر حجة لم يكن هناك فرقٌ إطلاقاً بين العالم والجاهل، هذا علَّمه، وهذا لم يعلِّمه، ولا بين العادل والظالم، هذا أجبره أن يكون عادلاً فكان عادلاً، وهذا أجبره أن يكون ظالماً فكان ظالماً، ولا بين الصادق والكاذب، ولا بين البَرّ والفاجر، فإذا آمنت بأن الله -عز وجل- يفعل هذا ألغيت الدين كله، وألغيت الرسل كلهم، وألغيت الكتب كلها.
أحدهم سأل الإمام عليّاً كرم الله وجهه: " أكان مَسيرُنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟ وكأنه يعني أن القضاء لازم، قال له : ويحك يا هذا، لو كان قضاءً لازماً وقدراً حاتماً، إذاً لبطلَ الوعد والوعيد"، لماذا الوعد؟ يَعد الله المؤمنين بالجنة؟ علامَ يعدهم؟ هو قدّر عليهم أن يكونوا من أهل الجنة.
"لبطل الوعد والوعيد، ولانتفى الثواب والعقاب، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطَع مُكرَهاً، ولم يُنزل الكتب عبثاً، ولم يبعث الأنبياء لعباً".
لو أنك آمنت بعقيدة أهل الشرك هؤلاء:
المشركون يقاتلون مَن يأخذ لهم حقاً، وعندئذ لا يحتجّون بالقدر، والمشركون إذا أُخِذ حقٌّ لهم يقاتلون، ولا يحتجّون بالقدر، إذاً هم حينما يحتجون بالقدر كاذبون، الاحتجاج بالقدر في ترك حق ربهم، لا في ترك حق أنفسهم، لو كان لك حقٌّ عند فلان لاشتكيت عليه، ولطالبته به، ولا تقول: الله قدّر عليّ ذلك، إذا تركوا حق ربهم احتجوا بالقدر، فإذا تُرِك حقهم طالبوا به، ولم يحتجوا بالقدر.
ملخص القول: إنه لا يحتج بالقدر إلا الجَهَلة، ولو كان عندهم علم أو هدى لم يحتجوا بالقدر، والاحتجاج بالقدر تعطيلٌ لرسالات الأنبياء، وللكتب السماوية كلها.
الآيات المتشابهة مهما كثرت تحمل كلها على الآيات المحكمات :
آخر فكرة في الموضوع، أنّ علماء الأصول، علماء أصول العقائد قالوا: إن الآيات المتشابهة مهما كثرت تُحمَل كلها على الآيات المُحكَمة، لو أنّ في القرآن الكريم آية واحدة مُحكّمة تُحمَل عليها كل الآيات المتشابهة، فإذا كان هناك آية يُشتَبَه أن فيها جبرًا، وهناك آية مُحكمة تنفي الجبر، فالآية المتشابهة تُحمَل على الآية المحكمة.
أوضح لكم ذلك بمثل: إذا قلت: إنّ القمح مادةٌ خطِرة في حياة الإنسان، أو خطيرة في حياة الإنسان، فكلمة (خطيرة) تعني أنها مادة مؤذية، وتعني أنها مادة أساسية، فكلمة خطيرة كلمة متشابهة، تشبه أن تكون خيّرة، وتشبه أن تكون ضارّة، قال أحدهم: القمح مادة خطيرة في حياة الإنسان، يا تُرى مادة مؤذية؟ سامة؟ مادة متفجرة؟ أو أنها مادة مهمة جداً في حياته، غذاء أساسي، بعد سطرين جاء قول آخر للقائل نفسه: القمح مادة أساسية في حياة الإنسان، ولا يستطيع أن يستغني عنها، إذاً كلمة خطيرة نحملها على القول الثاني.
فالآيات المتشابهة، مهما كثرت -هكذا قال علماء الأصول- تُحمَل على الآية المُحكَمة، فهذه الآية مُحكمةٌ في نفي الجبر، ولو أنّ في القرآن مئة آية يُستَشَمّ منها معنى الجبر فإنّ كل هذه الآيات بحسب علم الأصول يجب أن تُحمَل على هذه الآية، فالله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية ينفي الجبر كلياً، ويصف المشركين بأنهم يعتقدون عقيدة الجبر.
أمّا الإنسان مُخيّر، والله -سبحانه وتعالى- يعلم ما سيكون بلا كيف، والإنسان مُخيّر، وعلم الله -سبحانه وتعالى- لا يؤثر في اختيار الإنسان، إذا كنت في مكان مُشرِف، ورأيت إنساناً في مفترق طُرق، وعلمت أين هو؟ وإلى أين سيتجه؟ إنّ علمك باتجاهه لا علاقة له باتجاهه، لن يؤثّر في اتجاهه.
لا تخوضوا في القضاء والقدر ، بل سلِّموا تسلَموا :
علم الله لا يؤثر في اختيار الإنسان، الإنسان مُخيّر، والله -عز وجل- يعلم ما سيكون بلا كيف، وأما الغوص في هذا الموضوع فقد نُهِينا عنه في أحاديث صحيحة متواترة في المعنى، والذي أعتقده أن الله -سبحانه وتعالى- يوم القيامة يكشف للخلائق سرّ القضاء والقدر:
لخّص الإمام الغزالي -رَضِي اللَّه عَنْه- هذا كله في كلمات فقال: " ليس في الإمكان أبدع مما كان"، أي ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وأيّة عقيدة غير هذه العقيدة فإما أن تخرج إلى القدريّة، أو إلى الجبريّة، أو إلى المعتزلة، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، المعتزلة يقولون: الإنسان خالق أفعاله، حاشَ لله، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قولاً واحدا،ً هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، والتي يجب أن نعتقد بها.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.