الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

قصة سيدنا شعيب مع أصحاب الأيكة :

 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني عشر من سورة الشعراء.

لا زلنا في هذه السورة وفي القصص التي أوردها الله فيها، ونحن اليوم مع قصة سيدنا شعيب، وهي آخر قصة في سورة الشعراء.

ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ﴾ الأيكة؛ الشجرة الملتفة، يبدو أن هؤلاء القوم كانوا في أرضٍ خصبةٍ، وفيها أشجارٌ كثيفة، لكن المفسرين يقولون: إن سيدنا شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام أُرسِل إلى قومين اثنين، أُرسِل إلى قومه أهل مدين، وأرسل إلى أصحاب الأيكة، والدليل أن الله سبحانه وتعالى حينما حدثنا عن أهل مدين قال:

﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)﴾

[ سورة الأعراف ]

بينما هنا يقول الله عز وجل: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ حينما حدثنا عن أهل مدين: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ إذاً أهل مدين قوم سيدنا شعيب، بينما أصحاب الأيكة قوم آخرون أرسله الله إليهم، والأيكة هي الشجرة الملتفة، أما الأيك فجمع أيكة، أي الغابة، يبدو أن هؤلاء يعيشون في بحبوحة، وفي ظلّ ظليل، وماء فرات، وحياة رخيّة، لكنهم كفروا بالله عز وجل، فأهلكهم الله عز وجل كما أهلك الأقوام السابقة ﴿قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)﴾ هذه الآيات تتكرر مع كل قصة بالتمام والكمال.

الأمر باستيفاء الوزن وعدم بخس الناس أشياءهم:

الآن الخطاب الخاص لأصحاب الأيكة: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ﴾ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا. ))

[ صحيح ابن ماجة  ]

فأن تزن بالقسطاس المستقيم هذا من لوازم الإيمان، وَالله سبحانه وتعالى يقول في سورة أخرى:

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)﴾

[ سورة المطففين ]

الويل والهلاك والشقاء لمن يبخس الناس أشياءهم، وإذا ذكر الله الوزن فالمقصود  أشياء أخرى، أي إذا أنت أقنعت البائع أن بضاعته سيئة، ولم يستطع أن يبيعها، وأنه تورط في شرائها، فانهارت معنوياته، وباعك إياها بثمن بخس، فهذا من قبيل أنك بخست الناس أشياءهم، أنت إذا كلفت أن تقيّم داراً، أو تقيّم مركبة، أو تقيّم أرضاً، فإذا كان لك مصلحة في أن يهبط السعر، لا تعطي الرقم الصحيح، أنت ممن ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ فهذا التطفيف يكون في الكيل، والمساحة، والعدد، والتخمين، حتى يدخل فيها تقييم الرجال، يجب ألا يخرجك رضاك عن الحق، وألا يخرجك غضبك عن الحق، فيبدو أن هؤلاء أصحاب الأيكة كانوا يبخسون الناس أشياءهم. والآن جرب أن تبيع حاجةً، أن تعرضها على الناس، يعطونك أقل الأسعار، فإذا أردت أن تشتري هذه الحاجات يطلب منك أعلى الأسعار، ما معنى ذلك؟ أن الذي عرض عليك سعر الشراء بخسك قيمتها، قيمة هذه البضاعة، ومما تعلمون أن الذي يطفف بتمرة واحدة تجرح عدالته، وليس المقصود الوزن فقط، الوزن، و الكيل، والمساحة، والعدد، الذي يقيس القماش، إذا قاسه مشترياً يرخى القماش ليشكل خطاً منحنياً، فإذا قاسه بائعاً شدّ القماش، هذا يفرق بالثوب الواحد نصف متر، أو متراً، هذا من قبيل: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ إذا بعت سلعة غالية تضع لها العبوة من ورق، أو من كرتون بنفس الثمن، بينما السلف الصالح يضعون في الكفة الثانية ورقة تماثل ورقة العبوة، لئلا يكون ثمن الورق بثمن الشاي، أو البن، فهذا كله من قبيل ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم﴾ .

النهي عن الفساد والإفساد:

﴿إذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ بيع المضطر الذي يشتري بثمن بخس من إنسان مضطرٍ ليبيع هذه السلعة، فقد بخس الناس أشياءهم، فقد أكل مالاً حراماً، ابنه في المستشفى، ومضطر أن يبيع هذه الخزانة فيأخذها المشتري منه بربع ثمنها، هذا من قبيل أنه بخس الناس أشياءهم ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ الإفساد كلمة واسعة جداً، من صفات المنافقين أنهم مفسدون، يفسدون العقائد، ويفسدون الأخلاق، والعلاقات، الأخلاق تفسد، والعلاقات تفسد، والعقائد تفسد، وهذا كله من عمل المنافقين، والكافرين.

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)﴾

[ سورة البقرة ]

الإنسان يعصي ربه إذا لم يتيقن من علمه ومن قدرته:

﴿وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185)﴾   الحقيقة سألت نفسي سؤالاً وأنا أقرأ هذه الآيات، الإنسان متى يعصي؟ لمَ لم يستقم هؤلاء على أمر الله؟ لمَ بخسوا الناس أشياءهم لما طفّفوا في الميزان؟ لم باعوا بيعاً حراماً؟ لمَ لم ينضبطوا؟ عندنا سؤال كبير، هذا سؤال دائم، الآن الناس القرآن بين أيديهم، والخطب الرنانة ملْءَ أسماعهم، والأشرطة يسمعونها في البيت، وفي السيارة، والحق محيط بهم من كل جانب، والسؤال الخطير، لماذا يعصي الإنسان ربه بينما يستمع إلى الحق بشكل مستمر؟ الحقيقة الإنسان يعصي ربه إذا لم يتيقن من علمه ومن قدرته، ربنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[ سورة الطلاق  ]

ربنا عز وجل اختار من أسمائه الحسنى الكثيرة، ومن صفاته الفضلى الكثيرة، اختار اسمين؛ العليم، والقدير، أي إنك لن تطيع جهة إذا لم توقن أن علمها بالمخالفة يطولك، وإنك لن تطيع جهة إذا لم توقن أن قدرتها تطولك، دعوا هذا البحث المهم، وتعالوا إلى الواقع، إنسان يصدر أمراً متى ينفذ بحذافيره؟ ومتى لا ينفذ؟ إذا كان الذي أصدر هذا الأمر قوياً، ويعني ما يقول، ويفعل ما يقول، وأنت موقن بذلك، تعصيه في حالة واحدة، إذا كان علمه بالمخالفة ناقصاً، أنت في مكان ناءٍ، وهناك قانون للسير شديد جداً، لكن لا يوجد شرطي، مادام علم الذي أصدر هذا القانون لا يطولك تعصيه، وإذا كان يطولك علمه لكن الكتف ملآن بالنسور والنجوم والسيوف وهذا الذي سيخالفك شرطي، قدرته لا تطوله إذاً تعصيه. 

الإنسان يعصي في حالتين؛ إذا كان علم الآمر لا يطوله، أو إذا كانت قدرته لا تطوله، أما إذا تيقنت أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك، بشكل طبيعي أكيد حتمي قطعي تطبق الأمر، لذلك إذا علمت من قدرة الله ما علمت، أنك في قبضته، أن كل شيء في حياتك بأمره، مبدئياً صحتك، أجهزتك، عقلك، أعصابك، أوردتك، قلبك، رئتاك، الجهاز الهضمي، الكليتان، العضلات، العظام، كل خلية في جسمك إنما هي بأمره، وأهلك، وأولادك، ومن فوقك، ومن تحتك، وما حولك، والجراثيم، والعصيات، والفيروسات، كلها بأمره، وكلها جنوده، إذا علمت أن قدرته تطولك، وأن علمه يطولك:

﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾

[ سورة طه ]

يعلم الذي أسررت، والذي أعلنت، يعلم خواطرك، يعلم مشاعرك، يعلم طموحاتك، يعلم نواياك، إذا تحققت من علمه، وتحققت من قدرته، فالنتيجة الحتمية، الطبيعية، القطعية أنك تستقيم على أمره، وأي إنسان لا يستقيم على أمر الله ففي يقينه بعلم الله خلل أو يقينه بقدرة الله خلل، أما لو تحقق من علم الله، ومن قدرته، التحقق الكافي، واليقين الكافي لرأى نفسه بشكل لا شعوري قد استقام على أمر الله. 

الاعتقاد الفاسد والتصور الخاطئ سبب المعصية:

مثل آخر؛ ما الذي يحكم حركة الإنسان اليومية؟ لماذا فلان يسرق؟ لماذا فلان يطلق بصره في الحرام؟ لماذا فلان يغض بصره عن محارم الله؟ لماذا قال سيدنا يوسف:

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

[ سورة يوسف ]

لماذا آلاف الآلاف إذا سمحت لهم فرصة كفرصة سيدنا يوسف يرونها مغنماً؟ لماذا هذا أقدم وهذا أحجم؟ لماذا هذا أكل مالاً حراماً وهذا قال: معاذ الله، أموت جوعاً، ولا أقبض هذا المبلغ؟ لماذا؟ سؤال آخر، ما الذي يحكم تصرفات الإنسان؟ ما الذي يسيره؟ ما الذي يوجهه؟ إنها تصوراته، فالسارق يتصور أن السرقة مغنم، وأنها جهد يسير، ودخل كبير، ولم يقبض عليه، فالذي يدفعك نحو هذا العمل، أو يحملك على أن تحجم عنه تصورات، هذه التصورات تُعدّ تقليداً إذا افتقرت إلى الدليل، أخي هكذا الناس يفعلون، نحن مع الناس، هذا كلام عامي، مادام عملك ينطلق من فكرة تفتقر إلى الدليل فهذا الموقف فيه تقليد أعمى، ولا تنسوا أيها الإخوة أنه لا يقبل التقليد في العقيدة، لو قُبِل التقليد في العقيدة لكان كل الضالين وجدوا آباءهم على هذا الضلال فاتبعوهم، ولهم العذر عند الله عز وجل، لكن ربنا عز وجل ما قبِل من هؤلاء الناس أن يقولوا إنهم وجدوا آباءهم هكذا ففعلوا مثلهم، فالتقليد في العقيدة مرفوض، كل الرفض، وأشد الرفض، إذاً الذي يحكم هذه التصرفات، هذه الحركة، هذا الإقدام، هذا الإحجام، هذا الوصل، هذا الفصل، هذا العطاء، هذا المنع، هذا الغضب، هذا الرضا، هذه المسايرة، هذا الانسجام، هذا الاشمئزاز، هذا التقزز، الذي يحكم كلماتك، مواقفك، مشاعرك، تصرفاتك، سلوكك هو التصورات، فإذا خلت تصوراتك من الدليل فهو التقليد الأعمى، والتقليد لا يليق بالمؤمن، والتقليد مرفوض في عالم العقيدة. 

الآن إذا افتقرت هذه التصورات إلى القطعية، أي أنت لست متأكداً، أنت في شك، فهذا يسمى: شك، أو وهم، أو ظن، سبعون بالمئة ظن، ثلاثون بالمئة وهم، خمسون بالمئة شك، فأنت بين الشك والوهم والظن، ولا يقبل في العقيدة لا شك، ولا وهم، ولا ظن، لأنه ما دام هناك ظن يجوز ألا أحاسب، أعصي إذاً، مادام هناك وهم أو شك أو ظن أنك لن تحاسب، أو أن الذي أمرك لا يراك، أو أنه إذا رآك فلن يعاقبك، مادام دخل الشك، والوهم، والظن، فهذا التصور لن يحملك على طاعة الله عز وجل، إذاً يجب أن تنتفي من أفكارك، وعقيدتك التقاليد العمياء، والتقليد هو الفكرة التي لا دليل عليها، ويجب أن تكون عقيدتك التي تسيرك قطعية، فإذا لم تكن مقطوعاً بصحتها كانت شكاً، أو وهماً، أو ظناً، فإن الشك والوهم والظن لن يحملك على طاعة الله عز وجل، هذا تحليل علمي، لماذا الناس يستمعون إلى الخطب؟ تجد الجوامع مليئة، يقول لك: هذا الجامع فيه خمسة آلاف، هذا ثمانية آلاف، هذا عشرون ألفاً، لا يوجد أماكن، والمعاصي على قدم وساق، والكلام واضح، كلام الخطيب واضح، والآيات واضحة، والأحاديث واضحة، والأحكام واضحة، ومع ذلك هناك من يعصي، إذاً لأنَّ في عقيدته، أو في تصوراته، أو في أفكاره يوجد تقليد بلا دليل، أو يوجد عدم قطع أي يوجد شك، أو وهم، أو ظن.

أما إذا كانت أفكارك، وتصوراتك، لا علاقة لها بالواقع، أو لم تطابق الواقع فهي عين الجهل، الخلاف الزوجي سببه أن امرأة ألقت ماء مع ملح في طريق الزوج، هذا جهل، هو زوج سيئ، أحمق في تصوراته، فيعزى هذا الشقاء الزوجي إلى شيء لا علاقة له بالشقاء الزوجي، فكل شيء لا يطابق الواقع يعد جهلاً. 

مرتبة العلم واليقين تبعد الإنسان عن المعصية:

يجب أن تنفي من عقيدتك كل جهلٍ، أي كل فكرة لا تطابق الواقع، ويجب أن تنفي كل تقليد أي فكرة ليس عليها دليل، ويجب أن تنفي كل ظن، أو شك، أو وهم، إذا نفيت الشك، والظن، والوهم، ونفيت التقليد، ونفيت الجهل، فأنت مع العلم. 

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[ سورة فاطر ]

إذا كانت أفكارك تنطلق من علاقة ثابتةٍ، مقطوع بصحتها يؤكدها الواقع، توافق المنطق، عليها دليل، إذا كانت أفكارك كلها هكذا فأنت إذاً في طريق الإيمان، وأنت في اتجاه الحق، وأنت مع الحق، وأنت محفوف برعاية الله عز وجل، فالقضية قضية علم، أخطر عدو للإنسان هو الجهل، هذا الجواب مثلاً قوم شعيب، قوم ثمود، قوم عاد، لماذا فعلوا ما فعلوا؟ لماذا عصوا؟ ليس لديهم يقين أن الله سبحانه وتعالى يعلم سرهم ونجواهم، ولا يقين عندهم أن الله سيحاسبهم على أفعالهم حساباً عسيراً، فأنت لو ارتقت معرفتك إلى درجة اليقين أن علم الله يطولك أينما كنت، وأن قدرته تطولك أينما كنت، تجد نفسك بشكل عفوي طبيعي تستقيم على أمر الله من دون تردد، فهذا هو السر، لذلك العلماء أفردوا أبواباً طويلة في كتب التصوف لليقين، مرتبة اليقين عبر عنها النبي عليه الصلاة والسلام بالإحسان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: 

(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِحْسَانُ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ. ))

[ صحيح البخاري ]

لذلك قال العلماء: اليقين من الإيمان كالروح من الجسد، اليقين من الإيمان، أي هذا الذي يأكل مالاً حراماً، لابد من أن يتلف ماله، إذا كان لابد من أن يتلف المال الحرام لن تأكل هذا المال أنت إطلاقاً، لن تستطيع أن تفعل هذا، عندك يقين قطعي، ما الذي يجعل المؤمن يستقيم على أمر الله؟ يقينه أن هذه معصية، وأن لكل معصية عقاباً، لماذا يفعل الخيرات؟ لأن الله عز وجل سيثيبه على أفعاله كل خير.

علاقة الحقائق بالقلب:

موضوع اليقين موضوع دقيق جداً، اليقين أن تستقر الحقائق في قلبك، وأن تنتقل من فكرك إلى قلبك لقول الله عز وجل:  

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾

[  سورة الحج  ]

قال العلماء: علاقة الحقائق بالنسبة إلى القلب، العلاقة اليقينية بين القلب والحقائق كعلاقة المرئي بالعين، كيف أني أرى أن هذا مصحف وأني متيقن من أن هذا مصحف مئة في المئة، كذلك المؤمن إذا بلغ درجة متقدمة في الإيمان تنتقل هذه الحقائق من أفكار إلى أشياء يراها.

أنواع اليقين :

 من هنا العلماء قسموا بين علم اليقين، وبين عين اليقين، وبين حق اليقين.

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)﴾

[ سورة التكاثر ]

نحن عندنا يقين حسي، هذا ماء، أمسكت هذه الكأس بيدي، وأحسست بأعصابي، تذوقته بأعصاب الذوق، هذا يقين حسي، هذا الإنسان وغير الإنسان مشتركان فيه، اليقين الحسي، الإنسان أرقى من ذلك، الإنسان أودع الله فيه هذا الفكر، أو ذلك العقل، بالفكر أو بالعقل ينتقل إلى يقين استدلالي، أنا موقن بشكل قطعي، ومئة بالمئة أن في أسلاك الكهرباء كهرباء، والدليل الآثار، هذه المصابيح المتألقة، فيقيني أن التيار الكهربائي يصل إلى هذا المسجد يقينٌ قطعي لأنني أرى الأثر، الأثر يدل على المؤثر، والخلق يدل على الخالق، والنظام يدل على المنظم، والتسيير يدل على المسير، أفسماء ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، ألا تدلان على الحكيم الخبير؟ فاليقين الحسي يقين سهل ترى بعينك، تسمع بأذنك، تحس بأعصابك، ولكن اليقين الاستدلالي هو يقين أيضاً، الإنسان أحياناً بحسب المهنة والحرفة عنده أدلة مقطوع بها مثلاً لو أنَّ أنبوب الوقود السائل مقطوع، يقول لك: هذه المركبة لن تسير، طبعاً لن تسير يقيناً، لأن المحرك يحتاج إلى وقود، والوقود مقطوع عن المحرك، فلن تسير، اليقين الحسي سهل، اليقين الاستدلالي أن ترى الله من خلال خلقه، أن ترى المؤثر من الأثر، أن ترى الخالق من الخلق، أن ترى المنظم من النظام، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، هذا اسمه: علم اليقين، علم قطعي الثبوت، علم يقيني، استدلال يقيني، من خلال هذا العلم نتعرف إلى الله عز وجل، لذلك ربنا عز وجل قال: 

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[  سورة آل عمران ]

اليقين والصبر والسماحة :

سؤال ثانٍ؛ النبي عليه الصلاة والسلام جاءه سيدنا الصديق مع سيدنا حنظلة، قال له الصديق: عندما نكون معك في المجلس نشعر أننا نحن وأنت في الجنة كهاتين فإذا عافسنا الأهل ننسى، أي الإنسان حينما تأتيه بعض الأفكار بشكل نوبي في ساعة الدرس مسرور جداً، يذهب إلى البيت هذه الحقائق تغيب عنه، أما إذا بلغ مرتبة اليقين، هذه الحقائق تبقى أمامه ماثلة انتقلت من عقله إلى قلبه، أصبح يعيشها، وشتان بين من يفهم فكرة وبين من يعيشها، نأتي بمثل، ربنا عز وجل لما قال:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

الآية واضحة لا تحتاج إلى تفسير، لكن أنت كمؤمن إذا كنت مؤمناً مستقيماً على أمر الله عز وجل، ولك صديق منحرف، ضال، فاجر، فاسق، لا يبالي من أين يكسب المال، وله ثروة طائلة، ويعيش حياة فيها رخاء وبحبوحة، إذا شعرت بالحرمان أمام هذا الصديق المترف، إذا شعرت أن الله قد حرمك وقد أعطاه فأنت لم تدرك معنى هذه الآية، الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ فهمُها سهل، ولكن أن تعيشها شيء آخر، أن تفهمها شيء سهل، أما أن تعيشها شيء آخر، لذلك إذا استقرت هذه الحقيقة في القلب تصبح يقيناً، وإذا بقيت في الذهن كفكرة فهذه الفكرة تغيب وتحضر، ففي ساعات الغضب، أو ساعات الشدة تغيب عنك هذه الفكرة، ترى أنك محروم، وأن هذا الفاسق الفاجر هو سعيد في حياته، أن الله قد حرمك وأعطاه، لكن في ساعات التذكر تشعر أنك مؤمن، لكن إذا انتقلت هذه الفكرة من عقلك إلى قلبك أصبحت تعيشها، وإذا عشت هذه الفكرة هذا شيء ثمين جداً في حياتنا، العلماء قالوا: إذا تزوج الصبر باليقين ولد الإمامة في الدين، والدليل:

﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)﴾

[ سورة السجدة ]

الصبر واليقين عنصران أساسيان في الإمامة في الدين، أي إذا أردت أن تكون للمتقين إماماً فعليك بالصبر، وعليك باليقين، وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع الإيمان كله في الصبر، قال: الإيمان هو الصبر .

وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: عن معقل بن يسار :

(( أفضلُ الإيمانِ الصبرُ والسماحةُ. ))

[ السلسلة الصحيحة: خلاصة حكم المحدث : صحيح المتن ]

قال له: الدين كله إما أن الله أمرك بالبذل، أو نهاك عن أشياء، فإذا انتهيت عما نهاك عنه فهذا هو الصبر، وإذا بذلت ما أمرت به فهذه هي السماحة، فالدين كله صبر وسماحة.

 من صفات الكافرين يوم القيامة أنهم ليسوا بمستيقنين، قالوا: 

﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)﴾

[ سورة الجاثية ]

عدم اليقين هو الذي جعلهم يعصون خالقهم، نحن الآن مشكلتنا مشكلة اليقين، أما الأفكار سهلة، كل واحد منا حضر محاضرات دينية، ومحاضراتٍ، وقرأ كتباً، عنده أفكار جيدة جداً، لكنها لم ترقَ إلى مرتبة اليقين، فإذا ارتقت إلى مرتبة اليقين انقلبت إلى فعل حقيقي، ترجمت الأفكار إلى أعمال، وهذه مشكلة المشكلات في العالم الإسلامي، أفكار كثيرة، تعاطف مع الدين شديد، لكن لا يوجد التزام، لأن اليقين ضعيف، اليقين بأن علم الله لا يطوله، أو أن قدرته لا تطوله، أو أن الحساب غير يقيني. 

  الابتعاد عن إرضاء الناس بسخط الله :

ورد: " لا ترض أحداً بسخط الله " ، إذا أرضيت إنساناً بسخط الله، معنى ذلك أن هذا الإنسان أكثر وجوداً في حياتك من الله عز وجل، لأنك أرضيته وعصيت الله عز وجل، من علامات ضعف اليقين، إنه من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، هذا الإنسان وجوده صارخ أمامك، وعده مخيف، وعده محبب، وعيده مخيف، أمرك بشيء فيه مخالفة للشرع، فأنت انصعت إلى أمره، أين الله عز وجل؟ قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها؟ قال: ليست لي، قال له: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب؟ قال: ليست لي، قال: خذ ثمنها؟ قال: والله إني بأشد الحاجة إلى ثمنها - هذا الأعرابي، هذا البدوي - ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ لا حل لها، أنت تقدر أن تلعب على الناس كلهم، لكن على الله لا يمكنك ذلك، ولكن أين الله؟ هذه الكلمة لو قالها الإنسان مستيقناً لحلت كل مشكلاته. 

ملخص أسباب المعصية:

أنا أريد بهذا الدرس أنَّ سبب المعاصي والمخالفات والتقصيرات عدمُ اليقين بعلم الله، أو بقدرته، أو بمحاسبته، إنه من ضعف اليقين كما قال سيد الأنبياء والمرسلين أن ترضي الناس بسخط الله، أي هم أغلى عندك من الله عز وجل، استحييت أن تظهر بمظهر التخلف، صافحتك امرأة فخجلت وصافحتها، كأن الله عز وجل أمْره أخفُّ عندك من نظرة هذه المرأة لك، إنه من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على فضل الله، فالفضل فضله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، لا حرص حريص ولا كراهية كاره، وإن الله تعالى جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. 

  أخطر شيء بالحياة معرفة الحقيقة بعد فوات الأوان:

درسنا اليوم اليقين، لابدَّ من أن تعمل جرداً لكل معلوماتك، يجب أن تنقلها من مرتبة التصديق إلى مرتبة اليقين، إذا نقلتها إلى مرتبة اليقين انقلبت إلى عمل قطعي، لو أخذت هذا المال حراماً، لابد من أن يتلف المال ويتلف صاحبه، كفكرة مخيفة مؤقتاً، لي قريب كان يدخن بشكل كبير، إلا أن الأمر انتهى به إلى مرض خبيث في رئتيه، على فراش الموت قال: والله إذا شفاني الله عز وجل لها عندي حساب عسير - أي هذه السيجارة - لكن الموت جاء في وقت يظنه بعيداً وتوفي، لكن هو بعد أن أيقن كان يسمع أنها تعمل سرطان بالرئة، فيقول: كله كلام بكلام، ويقول لك: مبالغات، أما حينما أصيب بهذا المرض انتقل إلى مرتبة اليقين، فعقد العزم الأكيد على ترك التدخين، لكن متى؟ بعد أن تيقن، ولكن هذا اليقين لم ينفعه، جاءه بعد فوات الأوان. 

أخطر شيء بالحياة أن تعرف الحقيقة بعد فوات الأوان، ما من إنسان على وجه الأرض إلا وسيعرف الحقيقة لكن بعد فوات الأوان:

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق ]

وقال سبحانه: 

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)﴾

[ سورة يونس ]

مادام القلب ينبض، وفي الأجل فسحة فهذا هو الوقت المناسب للاستقامة على أمر الله، ولعقد الصلح مع الله، وللتوبة النصوح، أما إذا تمهل الإنسان، وسوّف، وقال غداً أو بعد غدٍ، فقد يأتيه الموت في وقت يفاجئه، في وقت ليس مستعداً فيه للقاء الله عز وجل. 

علامات اليقين :

1 - قلة مخالطة الناس: 

قال العلماء: من علامات اليقين قلّة مخالطة الناس، أي علاقته كلها مع الله عز وجل، يوجد إنسان علاقاته الاجتماعية إلى درجة أنه صار بها نفاق، وفيها أكل مال حرام، وفيها اختلاط، هذا يقينه بالله ضعيف، فمن علامة اليقين قلة الاختلاط بالناس، أيّ لقاءٍ فيه شبهة، فيه معصية، فيه خلل، فيه ممالأة للباطل، فيه تكلم بغير حق مثلاً، فيه غيبةٌ، فيه نميمةٌ، فيه نساء، فيه كذا، يقينه أن الله عز وجل ليس إلا الله. 

ألا كل شيئا ما خلا الله باطل               وكـل نعـيم لا محالة زائـل 

 * * *  

2 ـ ترك المدح :

من علامات اليقين ترك المدح لهم في العطية، تمدحهم بحسب أمر النبي، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ. ))

[  صحيح أبو داود ]

لكن أن ترى لهم فضلاً عليك، الفضل لله عز وجل. 

3 ـ أن الله صاحب الفضل :

من علامات اليقين أن الله هو صاحب الفضل، وأن تذمهم عند المنع، هذا من ضعف اليقين، أما إذا تنزهت عن ذمهم عند المنع عرفت أن هذا الشيء ليس لك، قال تعالى: 

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

هذا هو اليقين. 

4 ـ النظر إلى الله في كل شيء:

من علامات اليقين النظر إلى الله في كل شيء، كل قصة، كل مشهد، وراءه يدٌ رحيمة، يد حكيمة، يد عادلة، إذا رأيت الله في كل شيء فأنت من الموقنين، أما إذا انغمست في حديث طويل، تقول: زيد قال، وعبيد قال، فلان تدخَّل، وفلان توسط، وفلان منع، وأين الله، من علامات اليقين أن ترى الله في كل شيء، أن ترى ما من ناطق، ما من ساكت، ما من متصرف، إلا والله عز وجل هو الذي دفعه، أو ألهمه، أو منعه، أو كبّله، يقول لك: الطبيب والله شفى لي ابني، هذا من ضعف اليقين، قل: الله عز وجل تفضل عليّ بشفاء ابني على يد هذا الطبيب، هذا كلام صحيح، أما أن تقول: الطبيب شفى لي ابني، وفلان أنقذني، هذا كله من ضعف اليقين، فأنت لا ترى الله بل ترى زيداً أو عبيداً، أنت مع الناس ولست مع الله عز وجل، لكن كلما ارتقى مستوى الإيمان فلن ترى إلا الله، هو المانع، هو المعطي، هو القابض، هو الباسط، هو المعز، هو المذل، هو المعطي، هو كل شيء. 

قال: والرجوع إليه في كل أمر، والاستعانة به على كل حال، هذا كله من علامات اليقين. 

هؤلاء القوم، قوم سيدنا شعيب: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)﴾ عندما يغش الإنسان، أو يبخس الناس أشياءهم، يظن نفسه ذكياً، أي تمكن أن يجلب لنفسه النفع، لو تيقن أن الله عز وجل بالمرصاد، وأن هذا المال سيتلفه، وأنه سيحاسبه عليه، وأنه سيكيل له الصاع صاعين، ما فعل ذلك، إذاً لن تجد إنساناً يعصي ربه إلا وهو جاهل، إذاً أكبر عدو للإنسان هو الجهل. 

الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين:

العلماء فرقوا بين علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. علم اليقين: أن يقول لك إنسان صادق: أنا عندي عسل، تقول له: صدقت، أنت عندي صادق، فإذا زرته في البيت، وأراك العسل فهذا عين اليقين، فإذا أكلته فهذا حق اليقين، إن صدقته وهو الصادق هذا علم اليقين، فإن رأيته فهو عين اليقين، فإذا أكلته فهذا حق اليقين، إن صدقته وهو الصادق هذا علم اليقين، فإن رأيته فهو عين اليقين، فإن ذقته فهو حق اليقين، والإنسان يبدأ بعلم اليقين، يوقن بالجنة والنار، فإذا شارفهما فقد انتقل إلى عين اليقين، فإذا دخل الجنة فقد صار في حق اليقين. 

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)﴾

[ سورة الزمر ]

هناك قول منسوب إلى بعض العلماء، وهو منسوب خطأ إلى سيدنا علي، يقول: << لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً>> أي هو متيقن مما في القرآن الكريم قبل كشف الغطاء كيقينه بعد كشف الغطاء، إذاً هذه أعلى مرتبة في اليقين، بل إن أحد العلماء يقول: الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، متيقن برحمته، متيقن بعلمه، متيقن بحكمته، متيقن بعدالته، أصابك ما أصابك، يا رب لك الحمد، هذا أمرك، وهذا فعلك، وهذه حكمتك، وهذا عدلك، وهذا لطفك، هكذا المؤمن، لهذا عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له. ))

[ صحيح مسلم ]

ينتقل المؤمن لحالةٍ من اليقين عجيبة، لا أحد إلا الله عز وجل، كل هؤلاء الناس بيد الله، الأمور كلها بيده، هذا الذي وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، كل شيء وقع أراده الله، وإرادة الله عز وجل إرادة متعلقة بالحكمة البالغة، وحكمته البالغة متعلقة بالخير المطلق، تجد الأمور تأتيك برداً وسلاماً، أنت عبد لله مستسلم، والله هو الحكيم، لكن لما يقصِّر الإنسان في عمله، أو يقصر في الاحتياطات، والأخذ بالأسباب، إذا كان هناك تقصير وصار شيء مؤلماً، هذا الشيء المؤلم ما عاد كما يظن، صار هذا عقاباً، هذا صار جزاء التقصير، أنت متى تقول: هذا أمر الله، وهذه حكمته، وهذه عدالته؟ حينما تأخذ بالأسباب، وبعدها تدع الأمر لله عز وجل. 

درجات اليقين:

قال بعضهم: اليقين ثلاث درجات، تصديق الخبر من الصادق، والمشاهدة، والاستدلال، جاءك الخبر صدقته، جاءك الدليل العقلي زادك هذا يقيناً، رأيته، أنت قلت: رأيت دخاناً، قلت: لا دخان بلا نار، هذا استدلال، ذهبت إلى خلف الجدار فإذا النار تراها بعينك، هذا صار عين اليقين.

عادة الكفار رميُ الأنبياء بالسحر والجنون:

﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ(184)﴾ الجبلَّة؛ الخلق، أي المخلوقات التي جاءت من قديم، هو الخالق لكم ولأسلافكم، ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ أنت إنسان مثلنا، تأكل وتشرب، المسَحّر هنا يأكل ويشرب، طبعاً النبي رسول، إنسان، فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( يا أُمَّ سُلَيْمٍ ! أَمَا تَعْلَمِينَ إني اشتَرَطْتُ على ربي فقلتُ : إنما أنا بَشَرٌ أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ ، وأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ [ البَشَرُ ] ، فأَيُّما أحدٍ دَعَوْتُ عليه من أُمَّتِي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ أن تَجْعَلَها له طَهورًا ، وزكاةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُه بها منكَ يومَ القيامةِ ))

[  صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث : صحيح  : أخرجه مسلم ]

صلى الظهر ركعتين صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: 

(( صلَّى لَنا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ صلاةَ العَصرِ، فسلَّمَ مِن رَكْعتينِ، فقامَ ذو اليَدينِ، فقالَ: أقَصُرتِ الصَّلاةُ أم نَسيتَ يا رسولَ اللَّهِ؟ فأقبلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: على النَّاسِ، فقالَ: أصدَقَ ذو اليدينِ؟ فَقالوا: نعَم، فأتَمَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما بقيَ منَ الصَّلاةِ ، ثمَّ سجدَ سَجدَتينِ وَهوَ جالِسٌ بعدَ التَّسليمِ.))

[ الإمام الشافعي : اختلاف الحديث : خلاصة حكم المحدث : ثابت : التخريج : أخرجه البخاري ، ومسلم ]

قال تعالى :

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)﴾

[ سورة الأعلى ]

استعجال الكفار العذاب أكبرُ أنواع التحدي:

﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ﴾ هذا أشد أنواع التكذيب والتحدي، أين العذاب؟ أنت يا شعيب تقول: إن ربك يعذبنا، هات العذاب، هذا أعلى درجة من التحدي والتكذيب ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)﴾ ، ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ إنّ أشد أنواع التكذيب أن تطالب باستهزاء وعيد خصمك.

عذاب يوم الظُّلة:

﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)﴾ تذهب كتب التفسير مذاهب شتى في تفسير ﴿عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّة﴾  بعضهم قال: أصابهم حر شديد فانتقلوا إلى البساتين، وفي البساتين أمطر عليهم الله صواعق من السماء فأحرقتهم.

وبعضهم قالوا: جاءتهم سحابة فاستظلوا بظلها في أيام حر شديد، السحابة نفسها  بعد أن تجمعوا تحتها أيضاً أحرقتهم، على كل يكفينا قول الله عز وجل: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي:

﴿  فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)﴾

[ سورة الدخان ]

وقال سبحانه:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)﴾

[ سورة الحج ]

المؤمن آمِن من عذاب الله :

لكن المؤمن قول ربنا عز وجل قال: 

﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)﴾

[ سورة الزمر ]

وربنا عز وجل لما قال عن سيدنا يونس قال:

﴿  وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء ]

المؤمن وعده الله عز وجل بالنجاة، إذا أصاب الناس مكروه شديد، يوم عظيم، عذاب عظيم، ضائقة عظيمة، وعد الله المؤمن بالنجاة، وهذا وعد محقق.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)﴾ .

هذه الآيات إن شاء الله تعالى أتركها للدرس القادم، ولكن هناك آيات تقع في العالم، هذه الزلازل، الفيضانات، هذا الخسف أحياناً، هذه البراكين حينما تثور، هذه الأمراض الوبيلة مرض الإيدز، هذه كلها آيات مستمرة، أي الله عز وجل جعل في هذا القرآن آيات، وجعل آيات نراها كل يوم بأعيننا: 

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)﴾

[ سورة الطلاق ]

 وقال عز وجل:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ (112)﴾

[  سورة النحل  ]

 جيران.

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل ]

هي أيضاً آيات.

والحمد لله رب العالمين