الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 

من كان مع الله فهو الرابح :

في القرآن الكريم قواعد نظرية، وفيه تطبيقات عملية، القواعد النظرية كثيرة جداً، والقصص تطبيقات عملية للقواعد النظرية، فربنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾

[ سورة القصص ]

والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في القرآن الكريم إلا هذه الآية لكفت: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ تدور الأيام، يصعد أناس، يهبط آخرون، الأحوال لا تستقر إلا على هذه القاعدة: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ، وقد يكون الخصمان المتصارعان لا تناسب بين قوتيهما، فرعون ورجل مستضعف من بني إسرائيل ومع ذلك: 

﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)﴾

[ سورة القصص ]

لذلك إذا كنت مع الله فأنت الرابح دائماً، والنهاية لك، والعاقبة لك، والسعادة لك، والتوفيق لك، وأن تظهر على خصومك لك، وإذا كنت مع غير الله مهما علا شأن الإنسان فلابدّ من أن يدمر، لأنه اعتز بغير الله، لذلك ورد في الأثر القدسي: " ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه " .

من كان مع الله لم يخف من شيء :

فيا أيها الأخ الكريم ؛ اعتصم بالله، اتّكل على الله، قل له في مناجاتك له: يا رب ليس لي إلا أنت، ليس لي أحد، لكنك إذا كنت معي فلا أحد يستطيع أن ينالني بسوء، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فإن أقرب الناس يتخلى عنك، لو أن الأمة اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو أن الأمة اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف:

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

علاقتك كلها مع الله، علاقتك جملة، وعلاقتك تفصيلاً، أي أجهزتك لو أن الكلية توقفت عن العمل لابدَّ من ثلاثين ساعة غسيل، وستين كيس سيروم، مبلغ ضخم كل أسبوع تغسل مرتين، تصبح الحياة جحيماً، بيد من هذه الكلية؟ بيد الله عز وجل، صمام القلب بيد الله، الأوردة ؛ مرونتها، تصلبها، المواد المتعلقة بجدرانها من الكولسترول بيد الله عز وجل، الدماغ ؛ نمو عشوائي في الدماغ تصبح حياة الإنسان جحيماً، فالإنسان مفتقر إلى الله في مليونِ مليون جزيء في جسمه، وأهله، وأولاده، لو جاءه ابن معتوه يجعل هذه الأسرة في جحيم مستمر، لو أن ابنه فيه عاهة دائمة، لو أن مرضاً عضالاً أصاب أهله، الإنسان تحت ألطاف الله عز وجل، فإذا قال: أنا، يكون جاهلاً، يا رب ليس لي إلا أنت، هذا فضلك وكرمك. 

هذه القصة تبين لو أنك أقوى أقوياء الأرض، وأراد الله أن يسلبك هذه القوة لسلبها منك، وأنت لا تدري، لو كنت أغنى أغنياء الأرض، وأراد الله أن يفقرك لا بدّ من أن تفتقر.

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

لذلك هذه القصة لو أنها وقعت وانتهت لكنها درس لا ينقضي، ملخص هذا الدرس: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ، إذا كان الله معك فمن عليك؟ إذا كنت معتصماً بالله، إذا كنت مستقيماً على أمره، إذا كنت تسعى لرضاه، إذا كنت تقيم أمر الله عند الحلال والحرام، إذا كنت تعظّم أمر الله عز وجل، إذا كان الله عظيماً في نظرك، أما إذا هان الله عليك هنت عليه، إذا هان أمره عليك، هانت معصيته عليه، هان غضبه عليك، هان سخطه عليك، هان إبعاده لك عليك، عندئذ تهون عليه، عندئذ يعيش الإنسان حياة لا يحسد عليها أبداً. 

فيا أيها الإخوة الأكارم... القصة معروفة فيها تفصيلات دقيقة، لكن أتمنى عليكم أن تقفوا عند كل دقيقة من دقائقها، عند كل جزئية من جزئياتها، عند كل موقف، كن مع الله ولا تبالي. 

كن مع الله تر الله معك          واترك الكل و حاذر طمعـــــك

وإذا أعطاك من يمنعـــــه          ثم من يعطي إذا مـا منعك؟

إنما أنت له عبد فكــــــن          جاعلًا في القرب منه ولعــك

* * *

مواجهة موسى لفرعون بحقيقة ربوبية الله :

فرعون حينما قال له موسى، سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ لم يقل: ومَن رب العالمين، قال: وما رب العالمين، هو لا ينكر وجوده، ولكن ينكر شأنه، وقال فرعون في آيات أخرى:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[  سورة النازعات  ]

هو يدّعي أنه رب قومه، رب مصر، فلما قال له: رب العالمين، قال: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فقال سيدنا موسى: رب السماوات والأرض، أي أقرب نجم ملتهب لو أردت أن تصل إليه بسيارة لاحتجت إلى ما يقارب خمسين مليون سنة، أقرب نجم يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، تحتاج إلى أن تصل إليه إلى ما يقارب من خمسين مليون سنة، وأنت تقود هذه السيارة، لو عشت مئة سنة، أي الإنسان وابنه وابن ابنه، خمسون مليوناً تقسيم مئة، خمسة وأربعة أصفار، خمسون ألف جيل من أجل أن تصل إلى أقرب نجم ملتهب إلى الأرض، قال له: وما رب العالمين، نجم القطب أربع آلاف سنوات ضوئية، والمرأة المسلسلة مليونا سنة ضوئية، وأحدث مجرة اكتشفت ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية، قال: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ . 

الله ربّ الكون جميعاً :

هذا الذي عرفه العلماء عن الكون شيء محدود جداً، وكلما عرفوا شيئاً تبدى لهم أشياء، لذلك الإمام الشافعي يقول: كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي. 

أحد كبار العلماء يقول: لم تبتل بعد أقدامنا ببحر المعرفة، وكلما تعمق الإنسان رأى جهله، ورأى ضآلة علمه، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾  

[ سورة البقرة ]

﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هذه الشمس الملتهبة حرارتها في مركزها عشرون مليون درجة، في السطح ستة آلاف درجة، ستة آلاف على ثمان وخمسين على تسع وأربعين درجة قبل أسبوعين أو ثلاثة الناس سيفقدون صوابهم، يقولون لك: حر لا يطاق، ستة آلاف درجة على السطح، ألسنة اللهب طولها نصف مليون كيلو متر، الألسنة فقط، حول الأرض كلها أربعون ألف كيلو متر، خمسمئة ألف كيلو متر طول لسان اللهب، محيط الأرض أربعون ألف كيلو متر، أيْ اثنا عشر مِثلاً من محيط الأرض طول لسان اللهب من الشمس، ولو أن الأرض ألقيت في الشمس لتبخرت في ثانية واحدة ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)﴾ ، وهذا نجم العقرب، برج العقرب، قلب العقرب الذي يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ اعرف الله أولاً، تفكر في خلق السماوات والأرض عندئذ تعرف أن كلمة الله تجعلك تخر له ساجداً، تفكر في خلق السماوات والأرض، مليون مليون مجرة - هذه أحدث أرقام - في كل مجرة مليون ملْيون نجم، أي لو أن غرفة في الشتاء أردت أن تكنسها، وقد دخلت إليها أشعة الشمس لرأيت في سماء الغرفة ذرات عالقة، ما الأرض بالنسبة إلى جزء من الكون إلا كذرة عالقة في سماء هذه الغرفة، والأرض نفسها، يمكن سوريا على الكرة الأرضية لا يتسع حجمها لكلمة (Damascus) لا تكفي، لو أرادوا أن يضعوا العاصمة فقط، ويضعوا اسم العاصمة بالإنكليزي لا يتسع حجم سوريا كلها على كرة أرضية لاسم العاصمة. في بلاد آسيا – وما أدراك ما آسيا - وإفريقيا وأمريكا وأوروبا وأوقيانوسيا والقطبين وكل هذه اليابسة خمس البحر، والبحر أربعة أخماس ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)﴾ .

إنكار فرعون ربوبية الله :

﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)﴾ لأن فرعون يطرح على الناس أنه إله، وأنه ربهم، وأنه إلههم، فإذا قال سيدنا موسى: إنّ هناك إلها عظيمًا، رب السماوات والأرض، هو لا يحب أن يقبل ذلك، يريد أن ينكر ذلك، قال لمن حوله: ألا تستمعون؟ ما هذا الكلام، وفي آية أخرى قال:

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾

[ سورة القصص  ]

ما هذا الكلام؟ ما رب العالمين؟ 

الله تعالى رب السماء والأرض :

قال سيدنا موسى: ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ ليس فقط رب السماء، وربك أنت أيها الملك، ربكم أنتم يا قوم فرعون، ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي هو رب السماوات والأرض أوجدها، وأمدها، وسيّرها، وربكم أنتم، لأن الله عز وجل يقول: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[ سورة الزخرف ]

هو فعلاً رب السماوات والأرض، رب هذه المجرات، رب هذه الكازارات، رب هذه المذنبات، رب هذه النجوم الملتهبة، رب هذه الكواكب المنطفئة، رب هذه السيارات التي تسير حول بعضها بعضاً، رب هذا الفراغ الكبير، رب هذه المواقع الشاسعة ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ .

اتهام فرعون موسى بالجنون :

 ما وسع فرعون بعد أن سمع هذا الكلام الذي يلغي دوره، يلغي ربوبيته المزعومة، يلغي ألوهيته، ما وسع فرعون إلا أن يقول:﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ ولكن المجنون كما قال عليه الصلاة والسلام من عصى الله، حينما رأى مجنوناً سأل أصحابه سؤال العارف من هذا؟ قالوا: مجنون، فقال: لا.. هذا مبتلى، المجنون من عصى الله، أي هذا الذي يمشي في طريق مسدود هو مجنون، هذا الذي يمشي في طريق ينتهي إلى هاوية مجنون، لكن الذي يمشي في طريق سالك إلى جنة عرضها السماوات والأرض هو عاقل، لذلك والله الذي لا إله إلا هو يعدّ أقلُّ مؤمن على وجه الأرض أذكى من أكبر شخصية كافرة، لأن الكافر حياته عريضة، لكن هذا الطريق العريض ينتهي بهاوية سحيقة، بينما المؤمن ولو أن الطريق التي هو بها ضيقة لكنها نافذة إلى جنات ربه، لذلك: 

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

هذا كهذا؟! ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ .

الله  ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما :

عندئذ قال سيدنا موسى: ﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ هذه الشمس من حركها؟

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)﴾

[ سورة البقرة ]

أقوى أقوياء الأرض لو اتخذ قراراً بأن تطلع الشمس من مغربها هل يستطيع؟ لو اجتمعت دول العالم على أن تصمم على أن تشرق الشمس من مغربها مستحيل، الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الشمس، وخلق القمر، وخلق الأرض وحركهم. 

العقل هو القوة الإدراكية التي لا ينبغي أن تعطل :

﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي اعقلوا، هذا العقل، هذه الجوهرة الثمينة لا ينبغي أن تبقى شاردة، لا ينبغي أن تعطل، هذه القوة العقلية الإدراكية لا ينبغي أن تعطل، مع الأسف الإنسان يوظف ذكاءه وفكره وعقله في كسب المال فقط، أو في الاحتيال، أو في الإيقاع بين الناس، ولا يسخر الإنسان عقله لمعرفة ربه، والعقل أساساً حينما خلق الله السماوات والأرض قال:

﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)﴾

[  سورة الرحمن  ]

أعطاك ميزاناً، أعطاك هذا الميزان من أجل أن تعرف ربك فعطلت هذا الميزان، أو استخدمته في أغراض أخرى ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تعرفون أن الله سبحانه وتعالى رب المشرق والمغرب، ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تعرفون أن الله سبحانه وتعالى ربكم ورب آبائكم الأولين، ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تعلمون أن الله سبحانه وتعالى رب السماوات والأرض. 

ردُّ فرعون بسلاح التهديد والوعيد :

يبدو أن فرعون أُسقط في يده، وأقيمت عليه الحجة، ولم يدر ماذا يفعل، عندئذ استنجد بقوته، الإنسان حينما يضعف في المنطق.. يضعف في المحاورة.. يضعف في المناقشة إما أن يستخدم قوته إن كان قوياً، أو أن يستخدم لسانه في السباب إن كان ضعيفاً، إذا حصل نقاش جادّ بين اثنين حينما ينهزم أحدهما، هذا المهزوم إن كان ضعيفاً يستخدم لسانه البذيء، وإن كان قوياً يستخدم قوته، فيبدو أن فرعون حينما انهزم أمام سيدنا موسى في المناقشة، في الحجة قال: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ .. هل هذا رد علمي على هذه الطروحات؟ هذا رد لا علاقة بها، هذا الرد لا يتناسب مع هذا الحوار، هو يؤكد له أن الله هو رب السماوات والأرض، أعندك دليل ينفي ذلك؟ هو يؤكد أن الله ربكم ورب آبائكم الأولين، أعندك يا فرعون دليل ينقض ذلك؟! هو يؤكد أن الله سبحانه وتعالى رب المشرق والمغرب، أعندك يا فرعون دليل ينقض ذلك؟! جاءه فقال: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ ما علاقة هذا الكلام بهذا الحوار؟ إنه استنجد بقوته.

حاجة الإنسان إلى قوة وفكر ومبدأ يغطي قوته :

عندئذ سيدنا موسى قال له قولاً أحرجه فيه، لأن الإنسان القوي لا بدّ من أن يستعين مع قوته بفكرة، بنظرية، بمبدأ، بعقيدة، لأن القوة وحدها لا تكفي، الإنسان يحتاج إلى قوة، وإلى فكر، أو إلى عقيدة، أو إلى مبدأ يغطي هذه القوة، فقال له موسى: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ .. لو أنني جئت بدليل قاطع على ما أقول، أنا أقول لك: إنني رسول من رب العالمين، أنا أزعم أني رسول، فما قولك يا فرعون لو أتيتك بالدليل القطعي؟ طبعاً لو كان النقاش بين فرعون وسيدنا موسى وحده لانتهى الأمر، ولكن النقاش أمام ملأ، لذلك وقع فرعون كما يقولون في حيص بيص، أي لا يتمكن مادام هناك عرض للدليل القطعي ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ أي أو لو جئتك بدليل قطعي على أني رسول؟ أولو جئتك بدليل قطعي على أني صادق فيما أقول؟ أو على أن الله هو رب العالمين ولست أنت؟ 

تحدي فرعون موسى عليه السلام :

﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)﴾   وضعه في زاوية ضيقة في الحوار، أي أحرجه، أي جعله أمام من حوله، أمام الملأ من هم حوله في موقف حرج، فاضطر فرعون أن يقول: ﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ .. سيدنا موسى ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين.

آيات الله الدالة على عظمته لا تعد ولا تحصى :

الحقيقة أن هناك آلاف الآيات الكونية الدالة على عظمة الله، حينما تلد الأنثى غلاماً صغيراً أليست هذه آية عظيمة؟ لكن سبحان الله ! الأشياء التي تتكرر يألفها الناس، أيها الزوج ألا تعلم أن هذا الطفل الصغير كان نطفة من ماء مهين؟ حوين منوي واحد لقح بويضة أصبح هناك غلام فيه دماغ، فيه مئة وأربعون مليار خلية سمراء، أربعة عشر مليار خلية قشرية في الدماغ، يوجد جمجمة فيها مفاصل منكسرة لتلقي الصدمات، يوجد نخاع شوكي، يوجد عمود فقري، يوجد قلب له أربعة تجاويف، يوجد دسامات، يوجد رئتان، يوجد معدة، يوجد أمعاء، يوجد كبد، يوجد صفراء، يوجد بنكرياس، يوجد غدد صماء، يوجد كليتان، كظران، يوجد عظام، يوجد معامل كريات دم حمراء، يوجد عضلات، يوجد مواد شحمية، يوجد جلد، فهذا الغلام الصغير الذي يبكي يبحث عن ثدي أمه، يشرب الحليب، يتحول هذا الحليب إلى لحم وعظم، ينمو وزنه أليست هذه آية دالة على عظمة الله ولكن الناس ألفوها؟ وهذه المشكلة. 

شروق الشمس أليس آية؟ أن تلقي في الأرض بذرة، فإذا هي نباتٌ يعطيك من الخضراوات والثمار ما لذّ وطاب، هذه الفواكه الطيبة سكرية الطعم، ذات اللون الجميل، والرائحة الطيبة، والقوام المعتدل، والغذاء، والفيتامينات و، و، و، هذه من التراب يد من صنعتها؟ أليست هذه آية؟! هذا الحليب الذي تشربه، هذه البقرة كيف تحوَّل الدم إلى حليب؟ أربعمئة حجم من الدم تحتاج البقرة كي تصنع منه لتر حليب واحد، أربعمئة حجم من الدم تجول حول الغدد الثديية من أجل تصنيع لتر حليب واحد، هذا المعمل الذي تحت سمعنا وبصرنا أليس آية قاطعة دالة على عظمة الله؟! من جعل هذا الحليب متناسباً مع بنية الجسم؟ مواد سكرية، مواد بروتينية، مواد شحمية، ستة عشر معدنًا، ثمانية فيتامينات، مواد بروتينية، من جعل هذا ! هذا الحليب الغذاء الكامل، أي البقرة نفسها تعرف ذلك؟ هل البقرة تعرف احتياجات الجسم؟ وهل هذا الحليب لابن البقرة أم للإنسان؟ للإنسان، لأن عجلها ربما لا يحتاج لأكثر من كيلوين من الحليب، ولكن هذه الكمية الكبيرة - أربعون، خمسون - الآن هناك بقر يعطي ستين كيلو في اليوم، ستون كيلو من أجل ابنها العجل؟ هذه البيضة، آيات كثيرة جداً، ولكن سبحان الله ! صار ذلك شيئاً مألوفاً، الأشجار، القمح، الثمار، الرياح، الأمطار، البحار، ملايين مَلايين ملايين الآيات الدالة على عظمة الله، ولكن الإنسان أحياناً هذا كله مألوف عنده، لعدم التفكر، للانهماك في الدنيا يصبح شيئاً مألوفاً.

معجزة تحو‍ّل العصا إلى ثعبان وخروج اليد من الجيب بيضاء :

﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)﴾ .. أي تحوّل العصا إلى ثعبان شيء فوق طاقة البشر، شيء لا يستطيعه البشر، هذه هي المعجزة، أي خرق للعادات على يد نبي أو رسول، لأن هناك تحديًا، هناك من يكذبه، فلا بدّ من أن يأتي بشيء لا يستطيعه البشر مجتمعين، إذاً كأن الله سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء: إن هذا الإنسان رسولي، والدليل هذه المعجزة، فألقى عصاه ليست هي كالثعبان، لو كان ساحراً إذا هي كالثعبان، فخيل لهم من سحرهم أنها تسعى، هذا تخييل، السحر شيء، والمعجزة شيء آخر، من أتى كاهناً فقد كفر، من أتى ساحراً فقد كفر، من أتى ساحراً فلم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، ولا دعاء أربعين ليلة، إذا كان الإنسان في نزهة، وأراد أن يتسلى بالودع أو نجمة فهذا شيء مخالف للقرآن، إنك إن صدقت الكاهن كفرت بمحمد، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)﴾

[ سورة النمل  ]

فالذي يقول لك: سوف تفعل كذا وكذا، هذا غيب، والذي يأتي الساحر لا ليصدقه، بل ليتسلى، اجعل التسلية في شيء آخر، من أتى ساحراً فلم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، ولا دعاء أربعين ليلة ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ﴾ كلمة ( فإذا ) هذه إذا الفجائية، أي لم تكن حية، ولكنه قد سكنها، أو جمدها، ثم حركها، لا، كانت عصا، ألقى عصاه فإذا هي فجأة ثعبان مبين واضح كالشمس كبير، ونزع يده من تحت إبطه فإذا هي بيضاء للناظرين، يد تتألق كالمصباح.

اتهام فرعون موسى بالسحر بعد رؤيته المعجزات :

فرعون قال: ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ .. طبعاً فوجئ فرعون، فرعون دهش، صعق، فعلاً شيء فوق طاقة البشر، عصا بيده فإذا هي ثعبان مبين، تصبح يده مصباحاً متألقاً، فإذا هي بيضاء للناظرين ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ من كلمة ( عليم ) يتضح أن فرعون هالته هذه المعجزة، لكنه يكابر، ولا يرضى أن يعترف أنه رسول، يقول: إن هذا لساحر، لكنه عليم من مستوى رفيع.

  مشاورة فرعون قومه في شأن موسى :

﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾ انظروا إلى الانهيار المفاجئ ﴿فَمَاذَا  تَأْمُرُونَ﴾ متى كان فرعون بهذه الأخلاق؟ متى كان فرعون يخاطب قومه الذي قال لهم: أنا ربكم الأعلى، متى يقول لهم: ماذا تأمرون؟ يوجد انهيار مفاجئ لأنه فَقَدَ الحجة وسيدنا موسى لما ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، وحين نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، أعطى معجزتين لا يستطيع بنو البشر مجتمعين أن يفعلوها، أن يفعلوا هاتين المعجزتين، عندئذ أسقط في يد فرعون، أما هذا الهبوط المفاجئ في الموقف من قوله: أنا ربكم الأعلى، ما علمت لكم من إله غيري إلى قوله: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ ماذا نفعل؟ 

إجماع فرعون وقومه على مواجهة موسى بالسحر :

قال الملأ من حوله: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ .. أي  هذا سحر، هم ركبوا رؤوسهم، وقالوا: هذا سحر، نحن عندنا سحرة، فنجمع السحرة في أرجاء البلاد ليقفوا في وجهه، وليثبتوا أنهم أعلم منه في السحر ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)﴾ سحّار صيغة مبالغة على وزن فعّال، إنّ هذا لساحر عليم، كلمة ساحر اسم فاعل، لكن سحّار صيغة مبالغة لاسم الفاعل، أي يأتوك بكل سحّار عليم، أي أعلم مِن هذا الذي يدّعي أنه رسول. 

طبعاً هنا يوجد قفزة في القصة، أرسل فرعون رجاله وجنوده في أرجاء البلاد، وفي مختلف الأقاليم والأصقاع، وجمع كل ساحر عليم، بل كل سحّار عليم ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ .. أي كان هناك لقاء مع فرعون ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ طبعاً المشكلة أنه توقع أن هؤلاء السحرة الذين سيجمعهم سينتصرون على سيدنا موسى، إذاً لابدّ من أن يكون هذا الانتصار أمام جمع غفير من الناس، وما كان يدري أن هذا الجمع الغفير الغفير الذي سيشهد هزيمة السحرة لن يكون إلى جانبه عندما يتأكدون أن هذا الإنسان نبي ورسول من رب العالمين ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ(40)﴾ أي غلب على ظن فرعون وملئه أن سحرة فرعون أن هؤلاء السحرة الذين جمعهم فرعون سيحبطون سحر سيدنا موسى على حدّ زعمهم، وينتصر باطلهم على الحق.

تشجيع فرعون السحرة بتقريبهم إليه حال الفوز :

﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(41)﴾ .. أي هذا ما ثمنه؟ هؤلاء السحرة الآن أجراء منتفعون، هؤلاء السحرة أناس يعملون لا لمبدأ ولا لقضية، إنما يعملون ليقبضوا ثمناً باهظاً لسحرهم ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(41)﴾ أي كم تدفع لنا يا فرعون؟ ما هي الأشياء المغرية التي تغرينا بها حتى نفعل؟ ﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ .. أي أنتم إذا انتصرتم على موسى سوف أعطيكم عطاءً جزيلاً، وسوف أقربكم أي أجعلكم في قصري مستشارين أحياناً، طبعاً القصة فيها قفزات فنية، أي هذان السطران يحتاجان إلى شهرين أو ثلاثة بين إرسال الجنود والأتباع، وجمع السحرة، وجمع السحرة مع فرعون، ودعوة الناس إلى هذا اللقاء الحافل، ومساومة السحرة مع فرعون، هذه كلها في كلمات قليلة.

بدء التحدي والمواجهة الميدانية وثقة موسى بالفوز :

﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا﴾ .. واثق من نفسه، واثق أنه نبي، وأن هذا الذي سيفعله ليس سحراً، ولا خديعة، ولا تخيلاً، ولا تخييلاً، إنما هو حقّ من الله تعالى ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ في بعض التفاسير: إن هؤلاء السحرة جعلوا في حبالهم التي طلوها بما يشبه الأفعى أو الثعبان جعلوا الزئبق، وجعلوا هذه العصي والحبال فوق أرض حارة، فلما تمدد الزئبق حرك الحبال فبدت كأنها تسعى ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾ قال أحدهم: 

اجعل لربك كل عــزك  يـستـقـر ويثبت        فـإذا اعتـززت بـمن  يموت فإنّ عزك ميت

* * *

قالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، سيدنا موسى واثق من نفسه ﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ﴾ هنا نقطة مهمة جداً: لو أن هذا النبي الكريم ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، كما تخيلوا أن العصي والحبال تتحرك، يدّعون أنهم توهموا أن هذه العصا بفعل السحر أيضاً تتحرك، ولكن الله شاءت حكمته أن عصا سيدنا موسى التي أصبحت ثعباناً مبيناً أكلت كل حبالهم وعصيهم، لأنها لو كانت قضية تخيل أو سحر لبقي ثعبان سيدنا موسى الذي كان عصا قبل قليل، وبقيت الحبال والعصي، أي هذا يتحرك، وهذا يتحرك.

ابتلاع ثعبان موسى لكل ألاعيب السحرة :

﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ﴾ .. تلقف بمعنى تبتلع، أي أسرع طريقة في التهام الطعام تلقف، أي كل حبل بلقمة واحدة ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ السحرة يعلمون أنهم سحرة، وأنهم ما فعلوا إلا بعض الخدائع، بعض أنواع الخديعة البصرية، أما هذا ثعبان حقيقي، وهذا الثعبان أكل كل حبالهم وعصيهم.

سجود سحرة فرعون إيماناً بالله وإقراراً بالهزيمة :

عندئذ: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ .. الصلحة بلمحة، تحولوا في لمح البصر من عملاء إلى فرعون.. من أجراء إلى مؤمنين مصدقين ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)﴾ هذا ليس من فعل البشر، عصاه تصبح ثعباناً، وتأكل كل الحبال والعصي، هذا من فعل الله خالق الكون ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)﴾ .

تهديد فرعون السحرة بأبشع أنواع القتل :

عندئذ كاد فرعون يتميز غيظاً ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ﴾ .. الدقة في اللغة لم يقل فرعون: آمنتم به، بل آمنتم له، أي أنتم آمنتم، أي انحزتم إلى جانبه انحيازًا هكذا، لمصلحة، لاتفاق سري لا أعلمه، آمنتم له. 

لو فرضنا إنساناً دجالاً، شخص آمن له حتى يوهم الناس أنه هو على حق، أحياناً بعض الذين يلعبون ليبتزوا أموال الناس يكون حولهم أناس من طرفهم، يعطونهم المال الوفير على أثر ألعاب، فالمتفرج يصدق ذلك، فهذا يؤمن له، ولم يؤمن به، أن تؤمن لإنسان أي أن تنحاز له لمصلحة ما، ففرعون ما صدق أن هؤلاء السحرة آمنوا به، بل آمنوا له، بين آمنتم به أي صدقتموه، أما آمنتم له أي جاملتموه ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ ما استأذنتموني في الإيمان ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ أي أنتم سحرة، وهو ساحر، لكنه ساحر كبير ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ بدأ التهديد ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ أي أقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ هذا الموقف المدهش، أن هؤلاء السحرة الذين كانوا قبل قليل أجراء عند فرعون جاؤوا ليأخذوا ماله، وجاؤوا ليأخذوا على عملهم أجراً وفيراً، آمنوا إيماناً عظيماً وكان إيمانهم حملهم على خطر خطير.

صبر السحرة على أذى فرعون وحسن ظنهم بالله :

﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ﴾ .. أي افعل ما بدا لك، افعل ما تشاء، اقطع أيدينا وأرجلنا من خلاف، صلبنا في جذوع النخل، آمنا برب العالمين، لذلك من عرف الله زهد فيما سواه ﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾ نحن آمنا، وسننقلب إلى الله، أي نرجع إليه، نتوجه نحوه، نتوب إليه، نقبل عليه، نسعد بقربه، افعل أنت ما شئت أن تفعل، والحقيقة لا شيء إلا الله، أي لا إله إلا الله، هذه الحقيقة، لا رافع، ولا خافض، ولا معز، ولا مذل، ولا معطي، ولا مانع إلا الله ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا﴾ أي لنا أخطاء كثيرة، فلعلنا بهذه التوبة ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي كانوا هم السابقين في إيمانهم بالله عز وجل.

تخطيط فرعون لقتل موسى وأتباعه :

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ .. يبدو أن الله سبحانه وتعالى علم أن فرعون بلغ من الغيظ الدرجة القصوى، ولا بدّ من أن يبيدهم عن آخرهم، فأوحى الله إلى سيدنا موسى أن أسرِ بعبادي إنكم متبعون ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ هنا يوجد تناقض في كلام فرعون، أرسل ليحشر كل جنوده ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)﴾ إذا كانوا شرذمة قليلين هل تحتاج أنت إلى أن تحشر كل الجنود؟ يوجد شيء معلن، هو يريد أن يقلل من شأنهم، لكنه في الحقيقة يخافهم ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)﴾ أي حشر كل الجند ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ﴾ هنا جاءت اللحظة الحاسمة، أي مِن أربعين أو خمسين سنة فرعون يقول أنا: ربكم الأعلى، الآن جاء الحساب.

مرحلة الانتقام من فرعون وقومه ونصر موسى ومن معه :

﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)﴾ .. طبعاً عندما خرج سيدنا موسى مع قومه من مصر باتجاه الشرق، باتجاه البحر الأحمر جمع فرعون جنده وقواته، واتبعهم ليقتلهم، وقال: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)﴾ على كلٍّ الله سبحانه وتعالى استدرج فرعون، بهذه الطريقة لما أوحى ربنا إلى سيدنا موسى أن أسرِ بعبادي إنكم متبعون استدرج فرعون وجنوده. (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(59)﴾ قال العلماء: إما أن بني إسرائيل عادوا إلى ما كان عليه فرعون من جنات، وعيون، وكنوز، ومقام كريم، أو أنهم عادوا إلى مثل هذه النعم بعد أن نصرهم الله عز وجل، كلا الرأيين صحيح.

اتباع فرعون مع جنوده آثار موسى وأتباعه إلى شاطئ البحر :

﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)﴾ .. تبع فرعون موسى، فالمشكلة الآن أن سيدنا موسى وقومه متجهون باتجاه الشرق، الشرق في البحر الأحمر، وفرعون وما فرعون، وقوته، ومن حشرهم ليكونوا معه وراء سيدنا موسى وقومه، قوم سيدنا موسى إيمانهم متفاوت، إنسان يرى أنه في الطريق إلى البحر ليس معه سفينة، ولا قارب، ولا عدة، ولا عتاد، ووراءه فرعون بكل قوته فالموت محقق، العدو من ورائكم والبحر من أمامكم ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾ لما رأى فرعون وقومه، ومن حشرهم سيدنا موسى وقومه، وكانوا على وشك أن يلحقوا بهم والبحر من أمامهم فلا بدّ من أن يقبض عليهم، ولا بدّ من أن يبيدهم عن آخرهم.

صبر موسى وحسن ظنه بالله :

﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ .. أي تزلزلوا، بالمنطق هذا البحر، وهذا فرعون، ونحن ضعاف، وهو أقوى منا، سيدنا موسى قال: ﴿قَالَ كَلَّا﴾   مستحيل، الله وعدني بالنجاة، أحياناً يعد الله عز وجل المؤمن بشيء، وقد تأتي الأحداث على خلاف هذا الوعد، فيقع المؤمن بسوء الظن، وهذا ذنب كبير، لما وعد ربنا عز وجل المؤمن بحياة طيبة، لو أنه بدا لك أن هناك حياة غير طيبة فهذا امتحان لك، سيدنا النبي اللهم صلِّ عليه في معركة الخندق جاءته قريش بجيشها وأبطالها ومعظم القبائل العربية، عشرة آلاف مقاتل جاؤوا ليبيدوا المسلمين عن آخرهم، واليهود نقضوا عهدهم مع النبي، وبدا الأمر أن الإسلام كله مع نبيه العظيم ومع أصحابه الكرام لا يعيشون إلا سويعات، بقيت قضية زمن، حتى قال أحدهم: أيعدنا صاحبكم، ما قال رسول الله - أن تفتح علينا بلاد كسرى وقيصر  وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟! أين الوعد؟ قال:

﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾

[ سورة الأحزاب ]

وهذا الامتحان لا بدّ منه لكل مؤمن، أي يبدو للمؤمن أحياناً أن الله تخلى عنه، ليسمع ماذا يقول، هل هو حسن الظن بالله؟ هل إيمانه بالله أقوى من هذا الحدث أم أن هذا الحدث سحقه؟ فربنا عز وجل لا يصطفي المؤمن قبل أن يمتحنه، الإمام الشافعي سئل: أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تمكن قبل أن تبتلى، لا بدّ من أن يبتلى المؤمن ليمتحن الله صدق إيمانه، ليمتحن الله عز وجل محبته الحقيقة لربه، ليمتحن صبره، ليمتحن توكله، فالصحابة الكرام امتحنوا: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12)﴾ وهذا الامتحان أُعيد كذلك ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا﴾ لم يقل: لا، لأن ( كلا ) أداة ردع، أي لا تقولوا ذلك ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ 

معجزة انفلاق البحر ونجاة موسى وإغراق فرعون وقومه :

﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ .. أصبح البحر الأحمر طرقاً عريضة راسخة يابسة ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ﴾ سيدنا موسى دخل مع قومه، فرعون انتظر، دهش، إلى أن خرج سيدنا موسى وقومه من الطرف الآخر، تبعهم فرعون ﴿وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)﴾ العاقبة لمن؟ للمتقين، إذا كان الله معك فمن عليك؟ هذه قصة تتكرر، كن مع الله ولا تبالِ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ آية كبيرة جداً، آية دالة على عظمة الله، آية دالة على أن الله هو وحده ولا أحد سواه. 

قصة موسى من التطبيقات العملية في القرآن :

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)﴾ .. أي القرآن فيه قواعد نظرية، وفيه تطبيقات عملية، وهذه القصة من التطبيقات العملية التي تؤكد القواعد النظرية، وهي قصة تعني كل مؤمن، لأن المؤمن في الحياة يحتاج إلى ركن ركين يلوذ به، ويلجأ إليه، وينصره على خصومه، فكن مع الله تلقَ كل راحة، وكل توفيق، وكل نصر، وكل تفوق.

وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قصة سيدنا إبراهيم مع أبيه آزر ومع قومه.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين