الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع من سورة الشعراء.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ .. أي أيها النبي اتلُ على قومك نبأ إبراهيم، نبأ إبراهيم، أي قصة، أو خبر سيدنا إبراهيم.
يبدو أن القصة الأولى في تفصيلاتها، وفي دروسها ومواعظها كانت موجهة لبني إسرائيل، لكن كفار قريش يزعمون أنهم على دين إبراهيم، وأن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة، فالله سبحانه وتعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يتلو على هؤلاء المشركين قصة سيدنا إبراهيم، وكيف كان موحداً، وكيف كان يعبد الله وحده، وكيف كسّر الأصنام، ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ يقاس على ذلك أن المؤمن أحياناً يرى، أو يستمع، أو يشاهد قصة بليغة تجسد آية قرآنية، قصة ذات موعظة بليغة، قصة ذات مدلول كبير، قصة تنير لنا الطريق، لو أن المؤمن قرأ قصة، أو شاهد أحداث قصة، وتأثر بها تأثراً كبيراً ينبغي قياساً على ذلك أن ينقل هذه القصة لمن يثق بدينه، لمن يتوسم فيه الصلاح، لمن يتعظ، لمن يفكر، لمن يتأمل، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ ، ودائماً الحقائق التي تستقى من القصة أبعد تأثيراً في النفس من الحقائق المجردة، الاستنباطات التي تستنبطها من رواية قصة أبلغ من الحقائق التي تعرض مباشرة من دون حدث، ومن دون شخصية، ومن دون حركة مؤثرة في النفس.
ما قصة سيدنا إبراهيم؟ واتل عليهم - أي يا محمد – اتلُ أي اقصص، ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ﴾ أي خبر إبراهيم، أبي الأنبياء، من أولي العزم، هو الذي بنى هذا البيت.
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)﴾
[ سورة البقرة ]
هل يرضيه أن يرى أصناماً حول هذا البيت؟ هل يرضيه أن يُعبد من دون الله أحجار لا تنفع ولا تضر؟ ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ طبعاً لو أنَّ القصة في الأصل موجهة إلى قوم النبي عليه الصلاة والسلام، أو إلى مشركي قريش، ولكن القرآن الكريم موجه أيضاً إلى كل مؤمن إلى يوم القيامة.
إنكار إبراهيم عليه السلام على قومه عبادة الأصنام:
﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾ .. انظر.. وقفة متأمل، هذا الذي يعيش مع أهله من دون أن يفكر، من دون أن يتأمل، تستهلكه الحياة، يستيقظ، يعمل، ينام، يأكل، يسهر، يسمر، ثم ينام، فيأكل، ويشرب، أين الفكر الذي أودعه الله فيه؟ لِمَ لمْ تقف موقف المتأمل؟ لِمَ لمْ تسأل نفسك أهلي على حق أم على باطل؟ هم مصيبون أم مخطئون؟ هذا الذي يقول: إني وُجِدت هكذا، أهلي هكذا، بيئتي هكذا، مجتمعي هكذا، ظروفي هكذا، هذا ليس مهتدياً، بل يجب أن تقف موقف المتأمل، يجب أن تقف موقف الفاحص، لو كان في البيت اختلاط، لو كان هناك معاصٍ، لو كان هناك مخالفات تقول: ماذا أفعل هكذا أهلي؟! سيدنا إبراهيم سأل قومه: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾ ما الذي تعبدونه؟ رأى أصناماً تُعبد من دون الله، لا تنطق، لا تسمع، لا تستجيب، لا تنفع، لا تضر، لم يعجبه ذلك، لم ير ذلك متوافقاً مع المنطق، ولا مع العقل، ولا مع الواقع، ولا مع عظمة الكون، هذا الذي خلق السماوات والأرض أيُعْبد حجر من دونه! الإنسان يجب من حين لآخر أن يقف وقفات تأملية، هل عملي صحيح؟ هل كسبي للمال صحيح؟ هل إنفاقي لهذا المال صحيح؟ هل علاقاتي الاجتماعية وفق ما يرضي الله عز وجل؟ لا تكن ممن تستهلكه الدنيا، تستهلكه الدنيا فجأة يصحو على قرع ملك الموت، هذه ساعة عصيبة.
﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) ﴾
[ سورة الطور ]
حينما يلاقي الإنسان هذه الساعة ينتقل من كل شيء إلى لا شيء، الإنسان العاقل قبل أن تأتي هذه الساعة يُعِدُّ لها العدة.
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)﴾ يبدو أن الإنسان في فطرته لا ترتاح نفسه إلا إذا عبد الله وحده، فإذا ضلّ يعبد سواه، يعبد شمساً أو قمراً، من أغرب ما قرأت في هذه الأيام أن أحداثاً دامية في جنوب شرق آسيا لا أذكر أو في جنوب أميركا قوم يعبدون القمر، فلما وطئت قدم الإنسان أرض القمر انقسموا أقساماً ثلاث: قسم نفى هذا الحدث، وقسم وجد له تبريراً، أن القمر سمح أن يطأ الإنسان عليه، وقسم آخر كفر بهذا الإله، يبدو أن الإنسان في فطرته مفطور على عبادة خالق الكون، فإما أن يعبد الله عز وجل، وفي هذا انسجام مع فطرته، وإما أن يعبد من دونه أشياء لا تنفع ولا تضر، أليس هناك قوم عبدوا البقر؟ قد تقف البقرة في عرض الطريق فتقطع الطريق، أهذا دين ! أليس هناك قوم عبدوا الشمس؟ أليس هناك قوم عبدوا صنماً اسمه بوذا؟ أليس هناك قوم عبدوا الميكادو كما يزعم أهل اليابان، إذاً: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾ هذا استفهام الإنكار، ما هذه الأصنام التي تعبدونها؟ ما الذي تعبدونه من دون الله؟
جواب قوم إبراهيم يدل على تعطيلهم لعقولهم:
﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً﴾ .. هذه المصيبة، لم يقولوا: نعبد آلهة، قالوا: نعبد أصناماً أي نعرفها أصناماً، نعرفها أحجاراً، نعرفها أشياء لا تنفع ولا تضر ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ نعبدها بشكل مستمر، معنى نظل أي نعبدها على الدوام، ﴿نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ وكأنهم عطلوا تفكيرهم، وكأنهم مسخوا عقولهم، وكأنهم أناس لا يعرفون شيئاً ولا يهتدون ﴿نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ .
من صفات الإله المعبود الحقيقي السمع:
هنا جاء السؤال الدقيق: ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ .. أي من صفات الإله الذي ينبغي أن تعبده أن يسمعك، لأنك ضعيف في الأصل ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ بُنْيتُك الخَلْقية أساسها الضعف، وحينما خلقك الله ضعيفاً فهذا لمصلحة إيمانك، لأنك إذا كنت قوياً استغنيت بقوتك، واستغناؤك بقوتك يعني أن تشقى بالبعد عن الله عز وجل، تشقى باستغنائك، تستغني بقوتك فتشقى باستغنائك، لكن الله سبحانه وتعالى خلقك ضعيفاً كي تفتقر بضعفك إلى الله فتسعد بافتقارك، لو أن الله عز وجل خلقك قوياً لاستغنيت بقوتك عن الله فشقيت باستغنائك.
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾
[ سورة المعارج ]
﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)﴾ تعبد الله لماذا؟ لأنك عبد ضعيف، أنت معرَّض للهم والحزن، معرض لمرض عضال، معرض لأزمة مالية، معرض لشبح مصيبة جاثم على صدرك، معرَّض لما لا يُعد ولا يحصى من المشكلات، فالمؤمن له ركن ركين يلجأ إليه، المؤمن يشعر أن قوة كبيرة ترعاه، أنه بعين الله، أن الله يحفظه، فلذلك: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)﴾ لذلك ورد: "الدعاء مخ العبادة"، الدعاء يعني أنك عبد فقير، وأن الله غني قدير، وهو يسمعك دائماً في كل مكان، الإنسان أحياناً يكون له شخص له أهمية في المجتمع، لكن لا يستطيع في بعض المواقف الحرجة أن يصل إليه، اتصَل به في الهاتف فقيل له: مسافر، هذا الذي عقدت عليه الآمال مسافر، هذا الذي تقول: أنا فلان حينما أطلب منه شيئاً يلبيني فوراً.. هو مسافر، هذا الذي عبدته من دون الله مسافر، أو قد يكون مريضاً، أو قد يكون خارج المنزل، أو قد يكون نُحِّيَ من عمله الذي أنت عقدت عليه الآمال. فربنا عز وجل من لوازم الإله العظيم الذي يجب أن تعبده أن يسمعك في أي وقت، في خلوتك، في جلوتك، في حِلّك، في ترحالك، وأنت مسافر، وأنت مقيم، وأنت صحيح، وأنت مريض، وأنت قوي، وأنت ضعيف ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ .
سؤال الله ودعاؤه:
لذلك يقول الله عز وجل: ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ .. هل دعوت الله عز وجل؟ هل سألته الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل؟ هل استعذت به من النار وما قرب إليها من قول أو عمل؟ هل سألته أن يكفيك بحلاله عن حرامه؟ وبطاعته عن معصيته؟ وبفضله عمن سواه؟ هل سألته العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة؟ هل سألته أن تحبه؟ وأن تحب من يحبه؟ هل سألته عملاً صالحاً يقربك إليه؟ هل سألته تفكيراً سديداً ولساناً صادقاً وقلباً ذاكراً وجسداً على البلاء صابراً؟ هل سألته عصمة في الدين؟ هل سألته صلاح الدين والدنيا؟ ماذا تفعل؟ النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو دبر كل صلاة، وكان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وقد ورد: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" و "وإن الله يحب من عبده أن يسأله شسع نعله إذا انقطع" و "الدعاء مخ العبادة"، لكن قال الله عز وجل:
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)﴾
[ سورة النمل ]
أنت إذا كنت مضطراً تدعو الله بقلب متأجج، تدعو الله بدعاء حار، تشعر كأن كل خلية تدعو الله عز وجل، اجعل دعاءك دعاء المضطر، اجعل طلبك من الله طلباً ثميناً، اسأله كل شيء، اسأله خير الدنيا والآخرة، اسأله الحفظ، اسأله كل ما تطمح إليه، لذلك الله عز وجل يحب من عبده أن يسأله، اسأله ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ هذه الأصنام التي تعبدونها لا تسمعكم إذ تدعون.
الأصنام لا تنفع ولا تضر:
﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ .. الحقيقة يسمعونكم إذ تدعون، ينفعونكم أو يضرون فقط، لكن يوجد صفات الله سبحانه وتعالى الذي ينبغي أن تعبده له أسماء حسنى كثيرة، وله صفات فضلى كثيرة، لماذا اكتفى ربنا سبحانه وتعالى من أنه يسمع عباده إذا دعوه وأنه يملك نفعهم وضرهم؟ الحقيقة أن أول صفة من صفات الإله الذي ينبغي أن تعبده أن يكون هناك اتصال بينك وبينه، ما دام الاتصال مقطوعاً فهذا ليس إلهًا، سيدنا إبراهيم لما رأى كوكباً قال: هذا ربي، فلما أفل - انقطع الاتصال - قال: لا أحب الآفلين، لا يعقل أن يكون هذا رباً ما دام قد أفل، إذاً ينبغي أن يكون هناك اتصال دائم بينك وبيت الخالق ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ وينبغي أن يكون الخالق قديراً على كل شيء، على أن ينفعك، أو على أن يعاقبك، إذا أيقنت أن الله يسمعك، وأن الله يراك، وأن الله قادر على أن ينفذ فيك حكمه نفعاً كان أم ضراً، إذا أيقنت ذلك حق اليقين تستقيم على أمره حق الاستقامة، هذا شيء ثابت، أنت في علاقاتك مع بني البشر إذا كان لك من هو أعلى منك، وكان مطلعاً على أعمالك بطريقة أو أخرى، وكان يفعل ما يقول، بإمكانه أن يعطيك شيئاً ثميناً، وبإمكانه أن يسلبك شيئاً ثميناً، تجد نفسك بشكل أو بآخر منساقاً إلى طاعته، أما إذا كان الاتصال مقطوعاً أمره شديد، وعقابه كبير لكن لا يراك، تعصيه، يراك ولكنه أضعف منك، تعصيه، لكن متى تطيعه قطعاً؟ إذا رأيته يعلم ورأيتَه يقدر، لذلك:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾
[ سورة الطلاق ]
إذا أيقنت بعلمه وبقدرته استقمت على أمره، إذا نظرت فهو ينظر إليك، إذا أكلت مالاً حراماً ربما أتلف مالك، إذا تطاولت ربما أهانك، إذا أخذت ما ليس لك ربما أُخِذ ما ليس لك، لهذا ورد: "ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر" .
من صفات الإله الحق السمع والنفع والضر:
﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ .. من صفات الإله الضرورية أنه يسمعك إذا دعوته، ﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ لماذا تعبد الله؟ لأن روحك بيده، حياتك بيده، أعضاءك بيده، نقطة دم في مكان من الدماغ تسبب شللاً تاماً، بمكان آخر تسبب عمى، بمكان آخر فقد ذاكرة، بمكان رابع فقد عقل، نقطة دم لا يزيد حجمها عن رأس الدبوس لو تخثَّرت في بعض شرايين المخ لأصيب الإنسان بعاهة خطيرة تقلب حياته جحيماً، والمعدة بيده، والأمعاء بيده، والكبد بيده، قد ينمو هذا الكبد نمواً سرطانياً، قد ينمو أي مكان نمواً سرطانياً تنتهي الحياة، فحياة الإنسان بيد الله عز وجل، من بيده صمامات القلب؟ من بيده الشريان التاجي في القلب؟ من بيده حركاتك وسكناتك؟ من بيده سمعك وبصرك؟ من بيده سلامة عقلك؟ من بيده سلامة أعضائك؟ الله عز وجل ينفع ويضر، قد يحفظك فتعيش حياة آمنة، مطمئنة، طويلة، مديدة، بسعادة ورخاء ورضًى وسرور وتوكل، وقد تعيش حياة كلها متاعب، فالإله يسمع، ويعلم، وينفع، ويضر، فما لك من طاعته بدّ، ما لك من محبته بدّ، ما لك من الإقبال عليه بدّ، فائته طائعاً قبل أن تأتيه خاضعاً، ائته طائعاً قبل أن تساق إليه بالسلاسل، إذا جئته طائعاً من دون سلاسل فهذا موقف نبيل، موقف شريف، هذا موقف حر.
الاحتجاج بالبيئة وتقاليد الآباء:
﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ .. هكذا البيئة، انظر إلى صرعات العصر الحديث، البيئة، تفاعل الإنسان مع البيئة، مرحباً بالبيئة إذا كانت نقية من كل معصية، أما بيئة كلها معاصٍ، تفاعل مع البيئة، يقول لك: الواقع، هذا فكره واقعي، الواقع يجب أن يكون وفق الشرع، فإذا كان خلاف الشرع فلا قيمة لهذا الواقع، كلمات البيئة، والواقع، والمعطيات، والظروف المحيطة بالإنسان هذه كلها فيها الحق، وفيها الباطل، فيها الخير، وفيها الشر، يجب أن تقبل منها ما هو خيّر، ما هو صحيح، ما هو مشروع، ما هو متوافق مع كتاب الله، أما عادات أساسها المعاصي، أساسها الاختلاط، أساسها أكل مال الناس بالباطل، أساسها تجاوز حدود الآخرين، هذه معاصٍ، تقول: عادات، تقاليد، بيئة، معطيات، ظروف، كل هذا كلام فارغ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أي هكذا التقاليد أن الشاب يظهر أمام النساء، هذه تقاليد بالية، تقاليد فاسقة، تقاليد ليست من الحق في شيء.
فلذلك التقليد ليس إلهاً، والعادات، والأعراف، والواقع، والبيئة، والظروف، أخي نحن ظرفنا هكذا، ليس عندنا حجاب، هكذا تربينا، ما معنى هكذا تربينا؟ ما معنى هكذا نشأنا؟ ليس لها معنى، يوجد إله خلقك يقول لك: افعل، لا تفعل، يجب أن تفعل ما أمرك أن تفعل، وألا تفعل ما نهاك ألا تفعله ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ فكل واحد يقول: أنا بيئتي هكذا، هكذا تربينا، هكذا يفعل أبي، يدعونا جميعاً رجالاً ونساءً يوم العيد على مائدة واحدة، هذا خلاف السنة، خلاف القرآن، صار هذا اختلاطاً، هكذا يفعل أبي، هكذا الجيران، هكذا الحي، هكذا أسرتنا، هكذا بيئتنا، هكذا الواقع، هكذا الظروف، هذه الظروف، والواقع، والبيئة، والمعطيات، وما إلى ذلك من هذه الأصنام التي عبدها الناس من دون الله، أي يعبدون المظاهر، أي سمعته عند الناس أغلى عليه من سمعته عند الله، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله، أتخشون الناس والله أحق أن تخشوه؟!
عدم عذر الإنسان بما وجد عليه الآباء:
أردت من هذه الآية أن الإنسان ليس معذوراً إذا قال: التقاليد هكذا، هكذا بيئتي، هكذا نشأتُ، هكذا علمنا أبونا رحمه الله، نعم رحمه الله، وأدخله الجنة، ولكن هل علَّمك وفق الشرع؟ إذا كان كذلك ليس هناك مانع، إما إذا كان خلاف ذلك، لو أن أباك له محل تجاري، والتعامل على أساس ربوي، أنت ماذا تفعل؟ هكذا علمني، هل أبوك إله؟ أبوك عبد لله، يخطئ ويصيب، فإذا أصاب فمرحباً بهذا الصواب، إذا أخطأ لا أبقى على خطئه.
عداوة إبراهيم لعبادة الأصنام:
﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)﴾ هذه الأصنام ﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)﴾ .. هذه العداوة قد يسميها بعض العلماء عداوة المآل، أي لو كانت لك قضية بمكان معين، وإنسان أوهمك أن بيده حل هذه المشكلة، وابتز من مالك الشيء الكثير، ثم اكتشفت فجأة أنه ضعيف لا يستطيع أن يحرك ساكناً، بعد هذه المدة الطويلة، وهو يبتزّ مالَك، وهو يقول لك: أنا أفعل كذا، وكذا، وبإمكاني أن أفعل كذا وكذا، وفلان مفتاحه عندي، وفلان لا يعصي لي أمراً، ونمْ مطمئنًا، وادفع هذا المبلغ، ثم اكتشفت فجأة أن هذا الذي ابتز مالك ليس بإمكانه أن يفعل شيئاً، ألا ينشأ عندك عداوة تجاهه؟ طبعاً، فهؤلاء الذين عبدوا هذه الأصنام، وظنوها أنها تحفظهم، وأنها تنجيهم، وأنها تنقذهم، حينما اكتشفوا عند الموت أنها لا تنفع ولا تضر، وأنهم أخطؤوا خطأً كبيراً بعبادتها عندئذ ينشأ في نفوسهم عداوة لا حدود لها تجاه هذه الأصنام التي عبدوها من دون الله.
والآن لو أن إنساناً أرشدك إلى عمل لا يرضي الله عز وجل، ووافقته على هذا العمل، وجاءك العلاج الإلهي، ألا تشعر بعداوة بالغة تجاهه؟ لو أن إنساناً دلَّك على معصية، أو دلك على خرق حدود الله، أو دلّك على عمل يسخط الله، أو دلَّك على ظلم الآخرين، أو شجعك على أن تغش الناس، أو حملك على أن تأخذ مالاً ليس لك، لو أن إنساناً دفعك إلى هذا ثم دفعت الثمن باهظاً جاء العلاج الإلهي ألا تشعر أنه عدو لك؟ عندئذ تعاديه أشد العداء، هكذا ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)﴾ هذه الأصنام وأنتم معها.
محبة الله لأنه أنعم على الإنسان بنعمة الوجود والإمداد والإرشاد:
﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)﴾ .. بعض المفسرين قال: إلا من يعبد رب العالمين، والأوجه أن تقول: إلا رب العالمين، وإلا من يعبد رب العالمين، أنت تحب الله رب العالمين الذي أسبغ عليك نعمة الوجود.
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾
[ سورة الإنسان ]
والذي أسبغ عليك نعمة العقل، وأسبغ عليك نعمة البيان:
﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
[ سورة الرحمن ]
وسخر لك ما في الكون جميعاً لك، وهبك نعمة العقل، وهبك نعمة البيان، أرسل لك الأنبياء، أنزل عليهم الكتاب من أجلك، إذاً ينبغي أن تحبه، لأنه أنعم عليك بنعمة الوجود، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ .
من لوازم الربوبية الخَلق والهداية:
من رب العالمين؟ ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ هذه هو، تقول مثلاً: فلان أحضر طعاماً، هذا الكلام لا ينفي عن الآخرين أنهم أحضروا طعاماً، وجدت أمامك طعاماً كثيراً، من جاء بهذا الطعام؟ يقال لك: فلان أحضر طعاماً، هذا الكلام يعني أنه أحضر طعاماً، وربما فلان آخر أحضر طعاماً أيضاً، ولكن إذا قلت: الذي أحضر الطعام هو فلان، هذه صيغة قصر ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾.. أي أن الهداية لا تكون إلا من الله، لو قرأت مذهباً وضعيَّاً، لو قرأت كتاباً لفيلسوف كبير، لو اطَّلعت على نظرية معينة من صنع البشر، هذا كله ضلال في ضلال، لأن الذي خلقك هو وحده الذي يهديك، إن الله هو الصانع، آلة معقدة جداً ليس في الأرض كلها جهة واحدة مخولة أن تعطيك تعليمات التشغيل والصيانة إلا الجهة الصانعة، وأنت تفعل كذلك، عندك آلة معقدة لك جار، اثنان، ثلاثة، لك جار موظف، وجار صانع، وجار عنده محل تجاري، تبحث عن التعليمات المطبوعة التي جاءت مع هذه الآلة ولا تسأل أحد من هؤلاء لأنهم لا يعرفون، الجهة المخولة بإصدار تعليمات التشغيل، والصيانة هي الجهة الصانعة ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ فإما أن تكون مهتدياً من قِبل الخالق وإلا فأنت في ضلال مبين قولاً واحداً، قولهم الإنسان أصله قرد هذا ضلال، الإنسان كل شيء في حياته الجنس – فرويد - هذا ضلال، المادة كل شيء في حياة الإنسان – الماديون- هذا ضلال، اللذة كل شيء في حياة الإنسان – الوجوديون - هذا ضلال، هذا كله أرضيّ، الفكر الذي ينكر وجود الخالق ضلال ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ إما أن تهتدي إلى الهدى الذي أنزله الله على أنبيائه فأنت مهتدٍ، وإلا فأنت ضال، الذي خلقني فهو وحده يهديني، هذه العبارة فيها قصر في البلاغة، الذي جاء بهذا الطعام هو فلان، كلمة هو فلان أي وحده ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ لذلك كتاب في علم النفس مثلاً يقول: إن الشاب عندما يكون في حياته الاجتماعية مع شابة تتهذب مشاعره فترق، يتهذب كلامه، هذا ضلال، لأنه خلاف القرآن، لا يوجد كتاب خلاف القرآن فيه حق إلا أن يكون مستقى من القرآن فأصبح حقاً، كتاب أخذ أفكاره من كتاب الله، كتاب جاء بالدليل من القرآن فهو حق، أيّ كتاب يأتي بأفكار مدعمة بالقرآن والسنة فهو صحيح، وهو حق، أما كتاب آخر جاء بأفكار بحث علمي أن قليلاً من الخمر تنعش القلب، كلام فارغ، لأنه خلاف القرآن الكريم، هذا الكتاب من عند الله، قولهم: هذا النبيذ يبعث في الجسم الحرارة فهو ضروري في الشتاء، هذا كلام فارغ، لأنه خلاف القرآن، ما أسكر كثيرُه فملء الكف منه حرام، انتهى الأمر، أنت عندك مقياس، عندك منهج، عندك دستور، عندك قاعدة، هذا الخالق العظيم هذا الكون خلقه، وهذا القرآن كلامه، وكلامه مطابق لخلقه، هذه التعليمات لهذه الآلة، الصانع واحد الذي صنع هذه الآلة أصدر هذه التعليمات، إذاً هذه التعليمات تضمن سلامة الآلة وأداء مردودها أعلى أداء، الآية دقيقة، ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ أي هدى من كتاب يبتعد عن الدين، يبتعد عن القرآن، يبتعد عن أمر الله عز وجل ضلال في ضلال، لكن يكون الباطل أحياناً فيه زخرف، له بريق مصطنع، الإنسان قد يؤخذ بظاهره، ولكن إذا طبقته على المدى البعيد تكتشف الخلل الخطير فيه ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)﴾
الرزق من لوازم الربوبية:
﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)﴾ ..
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ(23)﴾
[ سورة الذاريات ]
لكن هناك سؤال دقيق: لماذا قدم الله الهدى على الإطعام والسقيا؟ لأن الهدى أخطر في حياتك من الطعام والشراب ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)﴾ كيف قُدِم تعليم القرآن على خلق الإنسان؟ لأن المنهج مقدم على الحياة، والهدى مقدم على الإطعام والإسقاء ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)﴾ هو يطعمني، أنت إذا اشتريت فاكهة إياك أن تتوهم أن هذا المال ثمن الفاكهة، هذا المال ثمن خدمة الفاكهة، ثمن خدمتها فقط، لو أن الله عز وجل لم يخلق هذه الفاكهة، ولا هذا القمح، ولا هذه الخضار.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)﴾
[ سورة الملك ]
الله عز وجل، إذا امتنعت السماء عن أن تنزل المطر بأمر الله عز وجل فكل هذه الأشجار المثمرة تصبح حطباً، وهذا رأيناه بأم أعيننا في إفريقيا، مساحات شاسعة يبست الغابات، يبست الأشجار، ماتت الأبقار والأغنام، وهجر الناس الأرض، وهاموا على وجوههم، وصاروا يقفون وراء بعضهم بعضاً ينتظرون قطرات الماء تأتيهم من جهات بعيدة ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ العام الماضي الله عز وجل تفضل علينا بأمطار غزيرة، فكان كيس القمح إذا بُذر يعطي سبعين كيساً، السنة اثنان أو ثلاثة أو أربعة، هو الرزاق، المحصول يكثر، ويكثر فتحتار كيف تستخدمه، وكيف تخزنه، وماذا تفعل به، ويقل، ويقل حتى لا تدري ماذا تفعل به ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)﴾ إذا جلس الإنسان إلى مائدة وأكل هذه مائدة الله عز وجل، لو أنه أعطاك هذا التفكير يوجد خبرة تعمل بمصلحة أو بمهنة، لو أن هذا الفكر تعطل أُخِذ إلى المصحة أين الرزق؟ تعطل الرزق، إذا معك مال فهذا من فضل الله عز وجل، أي مكنك من عمل يُدر عليك مالاً، خلل في الصحة يتعطل العمل، فلذلك الله عز وجل هو الرزاق الذي مكنك من كسب الرزق، وهو الرزاق الذي خلق الرزق، وهو الرزاق الذي ساقه إليك، مكنك من طلبه وخلقه وساقه إليك، هو الرزاق. فكلمة هو إياك أن تقول:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾
[ سورة القصص ]
لا، هذا رزق الله عز وجل، فإذا أكلت أو شربت فاشكر المولى عز وجل على أنه خلق هذا الطعام، وعلى أنه جعلك سليماً معافى بإمكانك أن تأكل هذا الطعام، وعلى أنه يسر لك عملاً يُدرّ عليك مالاً تشتري به هذا الطعام، كم مرة؟ خلق هذا الطعام، أعطاك صحة سليمة بإمكانها أن تأكل هذا الطعام، يسر لك عملاً يدر عليك مالاً تشتري به هذا الطعام، لذلك قل: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وإليه النشور.
النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد الله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ قوته، وأذهب عني أذاه" أي الطعام، أذاقني لذته، يوجد السيروم ليس فيه لذة، إبرة في الوريد مدة اثنتي عشرة ساعة متواصلة، لكنك تأكل تفاحة، تأكل بطيخًا، تأكل خضراً، فواكه، أذاقني لذته، وأبقى فيّ قوته، وأذهب عني أذاه، مسالك البول جارية، سالكة، لو أنها انسدت لاحتاج إلى عمليات، وبحصة، وكلية تعطلت، شيء صعب، أذاقني لذته، وأبقى فيّ قوته، وأذهب عني أذاه ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ ، كلمة هو يعني إياك أنَّ تتوهم أن مالَك وحده يكفي لأن تأكل وتشرب، أو أن قوتك وحدها تكفي، قوتك العضلية، أو أن خبرتك في هذا الموضوع، أو أنك متقن لهذه الحرفة، أو أن لك باعاً طويلاً في هذا المجال فتقول: أنا تاجر عريق، صناعي كبير، طبيب لامع، محامٍ لامع، إياك أن تظن أن خبراتك ومعلوماتك وذكاءك ومالك هذا كله جعلك تأكل هذا الطعام، هذا الطعام من فضل الله سبحانه وتعالى، هو خلقه، ومكنك من أكله، وألهمك عملاً كسبت منه مالاً فدفعت ثمن هذا الطعام، أما قارون فقال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ، ﴿فَخَسَفْنَا بِهَ وَبِدَاِرهِ الأَرْضَ﴾ .
من لوازم الربوبية الشافي هو الله:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ .. أحياناً يمرض الإنسان فيزور الطبيب، يصف له الدواء يشفى، ينسى أن الله عز وجل هو الذي شفاه، يتوجه بكل طاقته إلى شكر الطبيب، الطبيب يشكر إذا خدمك لكن لا تنسَ فضل الله عز وجل ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ ..
إن الطبيب لـه علـم يدل بـــه إذا كان للناس في الآجال تأخير
أما إذا ما انتهت أيام رحــلته حــــــــار الطبـيب وخانته العقاقير
* * *
غلطة صغيرة من الطبيب تودي بحياة المريض، يعطيه دواءً، وما سأله سؤالاً صار معه صدمة فتوقف قلبه فمات، عظم الله أجركم:
إن الطبيب لـه علـم يدل بـــه إذا كان للناس في الآجال تأخير
أما إذا ما انتهت أيام رحــلته حــــــــار الطبـيب وخانته العقاقير
* * *
واسأل أي طبيب تريد، هناك ما يسمى عند الأطباء: الشفاء الذاتي، أي الله عز وجل أحياناً مع أن الأطباء حكموا على هذا المرض بأنه عضال، وأنه لا شفاء له، وأن هذا المريض لن يعيش إلا أسبوعين، فإذا هو يعيش عشرين عاماً بعد قولهم، وإذا هذا الذي قال: لن يعيش إلا أسبوعين مات بعد خمس سنين، وبقي المريض يعيش بعد ذلك خمس عشرة سنة ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ لذلك اليأس كفر ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسٌ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ مهما كان المرض عضالاً ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ ، مهما كانت المصيبة مؤلمة مستحكمة فإنّ الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، إذا أعطى أدهش.
هذه الآية تبث الأمل في النفس، مهما كانت القضية ليس لها حلّ، وأحياناً ربنا عز وجل من لوازم العلاج النفسي يلهم الطبيب أن يقول لك: ليس هناك دواء، هذه قضية مستعصية، لا تتعب نفسك، وطن نفسك عليها طوال حياتك، إذا بهذا الطبيب يرى شيئاً أدهشه ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ تقول لي: الطبيب قال: هذه قضية دائمة، وهذه علة دائمة، وهذه ليس لها دواء، هذا علمه، ذلك مبلغه من العلم، ولو علم العلم الكامل والشامل لقال لك: معلوماتي التي درستها تقول كذا، وعند الله ما ليس عندي، الطبيب هكذا يقول، أنا الذي أعرفه أن هذا المرض لا شفاء منه، ولكن الله عز وجل قادر أن يشفيك منه، فتوجه إلى الله بالدعاء، هذا الطبيب المؤمن هكذا يقول، أما إذا جزم فهذا الطبيب لا يعرف ما عند الله ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾.
الإحياء والإماتة من صفات الله:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)﴾ هنا لا يوجد هو، سبحان الله ! ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾ لأن الناس قد يتوهمون الهدى من غير الله فجاءت هو تؤكد، وقد يتوهمون الرزق من غير الله فجاءت هو تؤكد، وقد يتوهمون الشفاء من الأطباء فجاءت هو لتؤكد، ولكن الناس قاطبة مؤمنهم وكافرهم يعتقدون أن الذي يحيي ويميت هو الله، لذلك: ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ .. ما الموت؟ الموت هو أن يريد الله أن يموت هذا العبد، هذا الموت، أما مهما تكن العلل كبيرة، والموت لم يَحن بعدُ فهو في فسحة الحياة، لذلك لا خوض غمار الحرب يقرِّب الأجل، ولا أي شيء آخر يقرب الأجل، ينهي الأجلَ اللهُ سبحانه وتعالى، هذا المعنى يبث في النفس الشجاعة، الإنسان له أجل محدود لا يتقدم ولا يتأخر ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)﴾ .
معاني الموت:
﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)﴾. . الخطيئة هنا لها معنىً دقيق، في بعض التفسيرات الإشارية لهاتيتن الآيتين الأخيرتين أن بعض المفسرين يقول: إذا مرضت بمخالفته شفاني الله برحمته، وإذا مرضت بمقاساة الخلق شفاني الله بمشاهدة الحق، وإذا مات العبد بالمعاصي أحياه الله بالطاعات، وإذا مات بالخوف أحياه الله بالرجاء، وإذا مات بالطمع أحياه الله بالقناعة، وإذا مات بالعدل أحياه الله بالفضل، وإذا مات بالجهل أحياه الله بالعلم، وإذا مات بالفراق أحياه الله بالتلاق.
الموت إذاً من معاني الموت، المعنى الأول الحقيقي الموت هو الموت ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)﴾ أي انفصال الجسد عن النفس عن الروح، أي نهاية الحياة الدنيا، هذا المعنى الحقيقي الأول.
من معاني الموت: الذي يعصي ربه كأنه ميت، والخائف كأنه ميت، الخائف بسبب الشرك كأنه ميت، والطامع في الدنيا ميت القلب، والبعد عن الله موت، والجهل موت، والعلم حياة، واللقاء مع الله حياة، وفضل الله حياة، والقناعة والرجاء والطاعة حياة.
في الدرس القادم إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ إن شاء الله نفصل فيها في الدرس القادم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين