- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (026)سورة الشعراء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الاعتقاد بعصمة الأنبياء جزء من العقيدة الإسلامية الصحيحة:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس من سورة الشعراء.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
الله سبحانه وتعالى اصطفى من خلقه رسلاً ليبلغوا دعوته للناس، وهؤلاء الرسل أمرنا ربنا باتباعهم في كل حركاتهم وسكناتهم فهل يعقل أن يقع خطأ من رسول؟ هل يعقل أن يرتكب النبي أو الرسول معصية أو ذنباً أو أن يقع في كبيرة؟ لو أن هذا معقول ما الذي يحدث؟ كيف يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نتبع أنبياءه ورسله وهم غير معصومين؟ كأن الله يأمرنا أن نتبع المعصية أو الخطأ وهذا مستحيل، أو أن نلغي أمر الله إلينا باتباعهم، أيضاً هذا مستحيل، لذلك علماء العقيدة ما هم عليه جمهور العلماء من أن الأنبياء من صفاتهم الأساسية العصمة، أي هم معصومون عن أن يقعوا في كل أنواع المعصية، والخطأ، والمخالفة، والإثم في معتقداتهم، وفي أقوالهم، وفي أفعالهم، وفي أخلاقهم. قضية عصمة الأنبياء شيء مقطوع بها، لو لم يكن الأنبياء معصومين لاختل ميزان الشريعة، لأن الله سبحانه وتعالى يأمرنا فيقول:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ
فإذا أمرنا الله عز وجل أن نأخذ كل ما أمرنا به النبي، فإذا كان يصح أن يقع النبي في خطأ، أو في معصية، أو في إثم، أو في مخالفة، سواء في معتقده، أو في أقواله، أو في أفعاله، أو في أخلاقه، لو أن هذا ممكن لاختل ميزان الشريعة، نقول: يا رب كيف تأمرنا أن نتبعه وها هو ذا يخطئ؟ أنلغي أمرك أم نتبع خطأه؟ كل هذا لم يكن، الأنبياء معصومون، ومعنى معصوم هذه اسم مفعول من عصم، ومعنى عصم أي منع، قال:
﴿ قَالَ
أي يمنعني من الماء.
﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ
أي امتنع، فالله سبحانه وتعالى حدثنا عن أنبيائه الكرام جملة لا تفصيلاً، قال:
﴿
أي أنت أيها المؤمن مطالب أن تقتدي بهدي الأنبياء جميعاً، ونحن كمسلمين مطالبون أن نقتدي بهدي نبينا عليه الصلاة والسلام.
آية أخرى يقول الله عز وجل:
﴿
إذاً هو أسوة حسنة، وهو قدوة صالحة، وهو مثل أعلى، إذاً يستحيل الخطأ على الأنبياء لأنهم قدوة، بل لأن الله جعلهم قدوة، فإذا جعلهم الله قدوة ووقع منهم الخطأ ماذا نفعل؟ أنقتدي بخطئهم، هذا مستحيل، أنلغي أمر الله بالاقتداء بهم؟ مستحيل، إذاً كل هذا لم يكن، يجب أن نعتقد اعتقاداً جازماً بعصمة الأنبياء جميعاً والمرسلين.
معنى النبي، ومعنى الرسول ذلك الإنسان الذي لا ينقطع عن الله لحظة، أي إذا كنت تحمل ضوءًا كشافاً ترى به كل شيء هل يعقل أن تقع في خطأ؟! هل يعقل أن تهبط في حفرة؟ مستحيل، الاعتقاد بعصمة الأنبياء جزء من العقيدة الإسلامية الصحيحة، ولكن اليهود يعتقدون خلاف ذلك، يعتقدون أن سيدنا لوط شرب الخمر، وزنى بابنتيه، ويعتقدون أن نبياً آخر زنى بزوجة ابنه، ويعتقدون أن سيدنا إبراهيم ارتدَّ بعد الإيمان، وعبد الأصنام، يعتقدون اعتقادات ما أنزل الله بها من سلطان، ولو أن عندكم وقتاً كافياً، واطلعتم على ما في كتبهم المقدسة التي كتبوا فيها من عند أنفسهم لرأيتم العجب العجاب، نحن نعتقد أن الأنبياء جميعاً معصومون، وكذلك الرسل، وعصمتهم من لوازمهم، صفة أساسية من صفاتهم، ألا وهي العصمة.
العصمة صفة أساسية من صفات الأنبياء:
شيء آخر ؛ أحد الأئمة وهو الإمام القرطبي صاحب التفسير الجامع لأحكام القرآن يقول: العصمة إذا نسبت إلى النبي تعني امتناعه من أن يقع في كل المعاصي صغيرها وكبيرها، ولا تنسوا أن هذه المعاصي سماها النبي عليه الصلاة والسلام: القاذورات، أي كيف أن الإنسان أحياناً يشمئز من رائحة الجيفة، الجيفة حيوان مات في البرية، ومضى على موته بضعة أيام بعد أن ينتفخ، وتفوح منه رائحة لا يستطيع الإنسان أن يواجهها، هذه الرائحة التي لا تحتمل لو أن للمعاصي روائح، لو أن للخيانة رائحة، لو أن للكذب رائحة، لو أن للغدر رائحة، لوجدنا أن رائحة هذه المعاصي تزيد عن رائحة الجيف، لذلك:
العصمة قبل النبوة وبعدها ضماناً لمكانة النبي في أمته:
لكن شيء آخر ؛ يرجح العلماء أن تكون عصمة الأنبياء بعد النبوة بإجماعهم، وقبلها، لماذا؟ لأن الله عز وجل يقول لسيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)﴾
﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي
معنى ذلك أن الإنسان إذا جاءته رسالة من عند الله، ويعلم من هذا المرسَل أن له ماضياً سيئاً، أنه له جاهلية، إن هذا الماضي يستمر أثره إلى ما بعد الرسالة، لذلك لا يعقل أن تكون عصمة الأنبياء بعد الرسالة فقط، إنها عصمة قبل النبوة وبعد النبوة ضماناً لمكانة النبي في أمته، وفي هؤلاء الذين يدعوهم إلى الله، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان صغيراً كان إذا دعي إلى اللهو يقول عليه الصلاة والسلام: لم أخلق لهذا.
الأنبياء معصومون والأولياء محفوظون:
شيء آخر ؛ أما الأولياء، الأنبياء معصومون، لكن الأولياء محفوظون، الله سبحانه وتعالى يحفظهم، كيف يحفظهم؟ لو أن ولياً من أولياء الله عز وجل وقع في خطأ طفيف ربنا عز وجل يعالجه، يلهمه الصواب، يشدد عليه في العتاب، مباشرة يترك هذا الخطأ، فهذا اسمه في علم العقيدة: حفظ، الأنبياء معصومون عن الخطأ، والأولياء محفوظون، أي هذا الذي عرف الله عز وجل لا يمكن أن يقع في كبيرة، ولا يمنع من أن يقع في شيء طفيف عن غير قصد، ومع ذلك الله سبحانه وتعالى يلفت نظره، يضيق عليه، يعاتبه، يمنع عنه التجليات، يرسل له شيئاً يذكره، على كل الولي محفوظ والنبي معصوم، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
﴿
هذا هو الحفظ، أي المؤمن معه مصباح كشاف يرى به طريق الحق من طريق الشر، من طريق الباطل، يرى به الخير من الشر، الحق من الباطل، ما يصح، وما لا يصح، ما يجوز، وما لا يجوز، هذا النور الذي يقذفه الله في قلبه يكشف له متاهات الطريق، هذا هو الحفظ الذي وعد الله به أولياءه، ولكن الأنبياء لأنهم قدوة، ولأن النبي مقامه مقام التشريع، فأفعاله، أقواله، سكوته إقرار، حركاته، سكناته، أخلاقه، معاملاته كلها تشريع، لذلك لا يعقل أن يقع منه صلى الله عليه وسلم أي خطأ أو خلل، هذه العقيدة الصحيحة، مادامت هذه العقيدة الصحيحة وقد أخذت من آيات كريمة كثيرة إذا مرّ بنا آيات أخرى فيها شيء يشبه أنهم أخطؤوا، أو وقعوا في ذنب فهذا له موضوع آخر.
شعور النبي بالذنب أمام فضل ربه عليه:
الموضوع الآخر هو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى فضل ربه عليه، وعظيم امتنانه عليه، ورأى عمله، قد يستقل عمله، إذا استقل النبي عمله أمام فضل ربه يشعر بالذنب، هذا شعور بالذنب من طرف واحد من طرف النبي عليه الصلاة والسلام، أي في ميزان الشريعة النبي عليه الصلاة والسلام لا ذنب له، سيدنا إبراهيم في ميزان الشريعة لا خطيئة له، ولكن في ميزان الفضل أي إنسان أعطاك بيتاً، وزوّجك ابنته، وجعلك شريكاً له في العمل، فكنت في مرتبة دنيا في المجتمع، فإذا أنت إنسان ذو دخل كبير، ولك كرامة، ولك مكانة اجتماعية، كل هذا حصَّلته من هذا الذي منحك العطاء، مهما قدمت له من تكريم تشعر في أعماقك أنك مقصر في حقه، هذا الشعور من طرف واحد هو الشعور بالذنب الذي قال الله عنه:
﴿
أي شعور العبد أمام الرب شعور التقصير، هل عرف النبي عليه الصلاة والسلام ربه المعرفة الكاملة؟ الجواب لا، لأن الله لا يعرفه إلا الله، لذلك:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
هل عرف النبي عليه الصلاة والسلام فضل ربه عليه بالتمام والكمال؟ لا.
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
شعوره أن معرفته ليست المعرفة المطلقة، وأن شكره ليس الشكر المطلق، وأن استجابته ليست هي الاستجابة المطلقة، هذا الشعور من طرف واحد من طرف النبي عليه الصلاة والسلام هو الشعور بالذنب الذي ذكر في الآية الكريمة، هذا معنى من معاني الذنب أو الخطيئة إذا عزيت للنبي عليه الصلاة والسلام أو لسيدنا إبراهيم.
شعور الأنبياء بالذنب شعور صحي يعبر عن وفائهم لربهم وعن شكرهم له:
سيدنا إبراهيم أكرمه الله عز وجل أعظم تكريم، جعله أبا الأنبياء، جعله أمَّة، كرمه تكريمات لا حصر له، شعور هذا النبي الكريم وهذا الرسول العظيم بأنه لم يوف ربه حقه، هذا الشعور يمكن أن يفسر معنى الخطيئة، أي في ميزان الشرع لم يرتكب النبي ذنباً، ولم يرتكب سيدنا إبراهيم خطيئة، ولكن في ميزان الفضل ربما كان هذا شعور النبي عليه الصلاة والسلام أو شعور سيدنا إبراهيم لأنه شعور صحي، شعور يعبر عن وفائهم لربهم، وعن شكرهم له، وعن عبوديتهم التامة، أي إذا قست مقام العبودية إلى مقام الألوهية لا بدّ من أن ترى أن هناك بوناً شاسعاً بين المقامين، لذلك هذا الذي عبر الله عز جل عنه:
الخطيئة إذا نسبت إلى النبي أو إلى الرسول فهذا في ميزان الفضل لا في ميزان الشرع :
كما تذكر بعض الروايات حينما قال:
﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77)﴾
حينما قال:
﴿
لم يقل إبراهيم عليه السلام لربه: هل أنت قادر على إحياء الموتى؟ لو قال هذا السؤال لكان معنا الحق، ولكن قال: كيف تحيي الموتى؟ هو يسأل عن الكيفية، يريد أن يعرف سرّ الخلق، ليس هذا نقصاً في عقيدته، أي كل من يقول إن قوله: كيف تحيي الموتى؟ إني سقيم، بل فعله كبيرهم هذا، هذه الأقوال لا ترقى إلى مستوى الخطيئة، بعض أقواله احتجاج، وبعض أقواله أسلوب تربوي، وكل قول من أقواله يعبر عن حكمة بالغة في مخاطبته للمشركين.
على كلّ الخطيئة إذا نسبت إلى النبي أو إلى الرسول معناها في ميزان الفضل لا في ميزان الشرع، في ميزان الشرع لم يرتكب النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أي نبي خطيئة، ولا ذنباً، ولكن في ميزان الفضل ربما شعر النبي وهو الذي يفيض وفاءً لربه، يفيض حباً له، ربما شعر أنه لم يقدم لربه ما ينبغي أن يقدَم له، هذا الشعور بالتقصير دائماً، وهذا يقع بين الناس، أي الإنسان المحسن إليه أمام المحسن دائماً يوجد شعور بالتقصير، يا أخي لم نوف إليك فضلك، نحن مقصرون معك، هذا كلامٌ قد لا يكون مقصراً، ولكن الفضل غمره عندئذ لا يستطيع أن يفي بهذا الفضل، هذا معنى قول الله عز وجل:
معنى الحُكْم ومقتضياته:
(( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. ))
فهذه قدرة يختص بها الإنسان أحياناً لتفضل الله عليه في فهم النص فهماً عميقاً، فلذلك الله عز وجل حينما دعا سيدنا إبراهيم فقال:
من صفات الأنبياء التواضع:
مِن نعم الله على الإنسان أن يثني الناس عليه بالخير:
﴿
أنت واحد، لكن لو دعوت إلى الله عز وجل... لو أحسنت إلى الخلق للهجت الألسن بفضلك والثناء عليك، لأن الإنسان عبد الإحسان، يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جبلت على حبّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، هل أنت في قلوب الناس؟ هل أنت في مشاعرهم؟ هل العيون منعقدة عليك؟ هل القلوب تميل إليك؟ إذا كنت محسناً متواضعاً معطاءً خيّراً طبعاً هذا يحدث، فلذلك سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام تمنى أن يكون أمة، وكان كذلك، لا تكن واحداً، لا تأت ربك فرداً، إذا كنت خيراً معطاءً، إذا كنت محسناً، كل هؤلاء الذين أحسنت إليهم يحبونك، ويدعون لك، وتلهج ألسنتهم بالثناء عليك، لذلك هذا معنى قوله تعالى:
سيدنا عيسى بشر قومه بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد، وسيدنا إبراهيم من خلال هذه الآية واجعلي - أي من ذريتي - لسان صدق في الآخرين، إذاً هو النبي عليه الصلاة والسلام دعوة النبي.
وبعضهم قال: لسان الصدق في الآخرين الذكر الحسن، ونحن في كل صلواتنا كمسلمين، أنا أعرف أنه يوجد ألف مليون مسلم، لكن قال لي أخ من يومين: ألف وخمسمئة، معلوماتي الأخيرة: ألف مليون مسلم، أي ألف مليون مسلم في اليوم خمس مرات يقولون في صلاتهم: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، هذه دعوة سيدنا إبراهيم.
العلماء استنبطوا من هذه الآية أنه يجوز للرجل أن يسأل ربه أن يهبه عملاً صالحاً يكون سبباً في ذكر الناس له الذكر الحسن، هذه طبيعة النفس، أي إذا كنت محسناً، وأثنى الناس عليك، هذا شيء يثلج صدرك، بين أن يقول الناس عنه إنه لئيم، إنه شحيح، إنه منحرف الأخلاق، إن بيته مضطرب، إن أخلاق زوجته مشكوك بها وبين أن يقول الناس عنك: إنك رجل صالح، مستقيم، ورع، عندك متواضع، لطيف، عفو، كريم؟ هذا معنى قول النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
من أحبه الناس فليسجد لله شاكراً:
لذلك لا بأس كما قال علماء الفقه استنباطاً من هذه الآية لا بأس في الرجل أن يطلب من ربه عملاً صالحاً يكون سبباً في ثناء الناس عليه، إذا قصد بهذا العمل وجه الله، إذا قصد السمعة فهذا منزلق خطير، والدليل على هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ
كيف يلقي الله على عبده المحبة؟ يجعل الناس يحبونه، فلان محبوب، يقول لك: الناس تحبه جميعاً، هذه: ألقيت عليك محبة مني، فإذا كان الإنسان أكرمه الله بهذه المحبة لا ينبغي أن ينظر أنه بفضل ذكائه واستقامته وحرصه على سمعته أحبه الناس، لا والله، هذا ثوب ألبسه الله إياه، ولو شاء خلعه عنه فابتعد الناس عنه، وأبوا أن يسلموا عليه، لذلك إذا أحبك الناس فاسجد لله شاكراً، لأن هذا فضل من الله عز وجل أسبغه عليك
الذكر الحسن من فضل الله عز وجل:
على كلّ الآية الثانية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾
هذه الآية لها معنيان ؛ سيجعل بينه وبين المؤمنين وداً، وهل من كرامة أعظم عند الله أن تكون المودة بينك وبين الله؟!
المعنى الثاني: وهو الأقرب إلى الواقع، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً مع الخلق، الناس يحبونهم لتواضعهم، وإحسانهم، وإنصافهم، وحبهم للخير، ورأفتهم، ورحمتهم، ولطفهم، وعفوهم، وصفحهم يحبونهم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ . ))
هذا الذكر الحسن من فضل الله عز وجل.
سؤال إبراهيم ربه الجنة:
نهاية الشقاء أن يكون الإنسان ضالاً:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾
سعادة الإنسان في الدنيا أن يكون على الطريق الذي رسمه الله له:
السعادة أحياناً من تعاريفها: أن تأتي حركتك اليومية مطابقة للهدف الذي خلقت من أجله، نضرب على ذلك مثلاً ؛ الطالب إذا درس أو طالع درساً وفهمه، ما دام هو طالب، وهو في عام دراسي، وعنده امتحان، وهو يعلق آمالاً عظمى على هذا الامتحان، ساعات الدراسة ترتاح فيها نفسه، لأنه في الطريق الصحيح، لأن حركته هذه تطابق هدفه في هذا العام وهو النجاح، فإذا ضيّع يومين أو ثلاثة في نزهة ممتعة مع أن النزهة ممتعة، ومع أنه جلس مع رفاقه، وأكل ما لذّ وطاب، ومتّع نظره بالمناظر الجميلة، لكن حزناً عميقاً في قلبه، لأنه ضيع أياماً ثلاث، لأن هذه النزهة مع أنها بريئة جاءت مخالفة للهدف الذي رسمه لنفسه، لذلك في ساعات الدرس والمذاكرة، في ساعات الجدّ والنشاط هناك راحة لا يعرفها إلا من ذاقها، هي راحة الإنجاز، وفي ساعة تضييع الأوقات هناك شعور عميق بالخيبة، والإحباط، والخسران.
الآن الإنسان ما هي سعادته في الدنيا؟ إذا كان في الطريق الذي يوصل إلى الله، إذا كان في الطريق الذي يرضى الله عنه، إذا كان يعمل عملاً يبتغي به وجه الله، إذا كان يعبد الله في كل شيء، إذا كان يخضع لله عز وجل في كل حركاته وسكناته، إنه في هذه الحالة يشعر بالارتياح الشديد، أما إذا خرج عن الخط الذي رسمه الله له فيشعر بالضيق، لذلك عبارات الناس متضايق، عندي كآبة، عندي انقباض، الانقباض، والضيق، والكآبة، والقلق، والضجر، واختلال التوازن، هذه كلها أسبابها أن حركته اليومية ليست مطابقة لهدفه، لو أنه جلس في سهرة أو في نزهة يعصي الله فيها مع رفاق السوء، هذه المتعة الظاهرة لا تغني عن قلقه العميق، لذلك هذا الإنسان لا ترتاح نفسه إلا إذا عرف ربه، واستقام على أمره، من هنا قالوا: إن دين الإسلام هو دين الفطرة، أي يتوافق مع الفطرة، كلما كنت على الطريق الصحيح انعكس هذا اطمئناناً وشعوراً سليماً يغلف أحاسيسك
عدم الركون إلى البيئة الفاسدة:
هل من الضروري إذا كان الأب ضالاً أن يكون أولاده كذلك؟ الله سبحانه وتعالى يقول لهذا الإنسان: لمَ لمْ تفكر؟ هذا إبراهيم عليه السلام قدوة لنا جميعاً، لأن الإنسان إذا لم يفكر ضيّع مستقبله في الدنيا والآخرة، أي الله عز وجل أعطانا هذا الفكر، أعطانا هذا العقل، نصب لنا الأدلة في الكون، فيجب أن نُعْمل عقولنا وأذهاننا في معرفة الله، يجب ألا نبالي بمعطيات البيئة، إذا نشأ إنسان في بيئة فاسدة، إخوة كرام كثر نشؤوا في بيئة فاسدة، لا الأب يرعى الدين، ولا الأم كذلك، الأمر ليس منضبطاً، بيت ليس فيه أي شعور ديني، ومع ذلك أعمل هذا الشاب فكره فعرف ربه، وكان إبراهيم عليه السلام قدوة له
الدعاء بعدم الخزي يوم القيامة:
مرة قرأت في مجلة أن إنسانة تعمل في الفن سئلت: ما شعورك وأنت على خشبة المسرح؟ فقالت: شعور الخزي والعار، وهذا شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الناس، تكلمت الصدق والحق، شعور الخزي والعار، هذا شعور الخزي والعار لا يحتمل، آلام السرطان تحتمل أحياناً، إذا شخص مؤمن وواثق من رحمة الله، ومن عدالته، وجاءه هذا المرض يتألم، ويقول: يا رب لك الحمد، آلام لا تحتمل، لكن مع الإيمان تحتمل، لكن آلام الخزي والعار فعلاً لا تحتمل، لذلك إذا كان الإنسان يحب ذاته.. إذا كان يحبّ نفسه فعليه أن يستقيم على أمر الله، لئلا يقف هذا الموقف الذي فيه خزي وعار.
لو نظرتم إلى إحدى الصحف حينما يلقى القبض على بعض المجرمين، وحينما يصورون ترى أن عيني المجرم في الأرض لا يستطيع أن ينظر إلى المصور، لماذا؟ لأنه في حالة الخزي والعار، هذا الذي يعتدي على أموال الناس، وعلى أعراضهم، أو هذا الذي يسرق أموال الناس، ويلقى القبض عليه، ويساق إلى المحاكمة، إنه في وضع من أوضاع الخزي والعار، لكن هذا كله ينتهي عند الموت، لو حُكم عليه بالإعدام وأعدم انتهى الخزي والعار بعد شنقه، ولكن الخزي والعار يلازم الإنسان إذا كان في جهنم إلى الأبد
المال والبنون زينة الحياة الدنيا:
﴿
أي المال الكثير بلا أولاد فيه غصة، أولاد كثر بلا مال فيه شقاء، لكن مال وبنون، أولاد حول الإنسان يرتدون أجمل الثياب، تتورد خدودهم من الطعام الجيد، يسكنون في بيت فسيح، وغرف واسعة، هذه الغرفة للذكور وهذه للإناث، وهذا للطعام، وهذا للجلوس، وهذا للضيوف، المال والبنون، مال بلا بنين، أو بنون بلا مال شيء صعب
﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32)﴾
معاني القلب السليم:
(( الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ ، كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ. ))
الآن إذا صح القلب صحت الجوارح، صحّ العمل، صحت الوجهة، انحرف القلب انحرف العمل، انحرفت الجوارح، انحرفت الوجهة، لذلك المناط هو القلب، عبدي طهرت منظر الخلق سنين، زينت دارك، حسنت لباسك، حسنت مركبتك، هذا كله منظر الخلق، أفلا طهرت منظري ساعة؟ فالقلب السليم هو القلب الذي طهر من الشك والشرك، هل هناك آخرة؟ الله أعلم، إذا لم يوجد آخرة فإن تعبنا ذهب سُدى، ولكن إن كان هناك آخرة نعمة، هذا شاك، ليس هذا هو الإيمان.
﴿
لذلك القلب الذي سلم من الشك والشرك هو القلب السليم.
القلب السليم هو قلب المؤمن لماذا؟ لأن الله عز وجل وصف قلوب المنافقين بأنها فيها مرض:
﴿
وصف الشحيح بأنه مريض قال:
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
فالشحيح مريض نفسياً، والمتكبر مريض نفسياً، والمشرك مريض نفسياً، والشاك برحمة الله وعلمه وقدرته وأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى مريض نفسياً، المسرف مريض نفسياً، المغرور مريض نفسياً، الظالم مريض نفسياً، لذلك القلب السليم هو قلب المؤمن، وقلب المنافق وقلب الكافر قلب مريض.
وقال بعض العلماء القلب السليم القلب الخالي من البدعة، المطمئن بالسنة، أي من هوي الكَفَرَة، هوي مخترعاتهم حشر معهم، ولا ينفعه عمله شيئاً، فالقلب المتعلق بالبدع والأشياء التي لا ترضي الله عز وجل هذا قلب مريض، والقلب المطمئن إلى شرع الله، وإلى السّنة هذا قلب سليم، هذا
وأجمل هذه المعاني القلب السليم: القلب المُخلِص والمخلَص، المخلِص لله، والخالص من كل شائبة، والقلب السليم بمعنى آخر هو القلب الذي سلم من الأوصاف الذميمة، وتحلى بالصفات الجميلة، كل قلب سلم من الأوصاف الذميمة وتحلى بالصفات الكريمة فهو قلب سليم.
والقلب السليم أن تعلم أن الله حق، وأن الساعة حق، وأن الله يبعث من في القبور، أي كل التركيب النفسي مبني على أن الله حق، وأن الساعة حق، هذا قلب سليم.
والقلب السليم الخالي من كل ذنب، السليم من كل عيب، لا خبرة له بأمور الدنيا، أي بعيد عن الدنيا مستغرق في الآخرة، هذا قلب سليم، هناك أشخاص بالعكس، في الدنيا له خبرات لا حدود لها، يعرف كيف تقتنص الفرص، يعرف كيف تؤكل الكتف، يعرف كيف يستفيد من الفرص.
إذا هبت رياحك فاغتـنمها فـإن الريح عادتها السكـون
وإن درت شياهك فاحتلبها فما تدري الفطيم لمن يكون
* * *
هذا الخبير بأمور الدنيا، الجاهل بأمور الآخرة، هذا قلبه ليس سليماً، السليم بالعكس، لذلك جاء في الحديث الصحيح أن أكثر أهل الجنة هم البله، البله لا كما تفهمونها بادئ ذي بدء، الأبله هو البعيد عن معاصي الله، بريء، نظراته بريئة، لكن هناك إنسان ينظر يقول: هذه يمكن أن تقبل، أي خبيث النفس، الأبله البعيد عن المعاصي، من معاني الأبله المطبوع على الخير، الغافل عن الشر، والأبله في اللغة من غلب عليه حسن الظن بالناس، وطيب القلب، قلبه طيب، وحسن الظن بالله، والآن يسمونه: أجدب، من كان طيب القلب، وحسن الظن بالناس، من طبع على الخير، وغفل عن الشر، من ابتعد عن معاصي الله، أو المعنى الدقيق أي إذا الإنسان ترك مبلغاً كبيراً خوفاً من الله يسميه الناس: أبله، وهو في الحقيقة في منتهى الذكاء، بل إنه أبله في نظر البله.
سيدنا يوسف حينما قال:
وفي الدرس القادم إن شاء الله نتابع قصة سيدنا إبراهيم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين