وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 04 - سورة القصص - تفسير الآيات 29 - 40 آيات موسى لفرعون وتحدي فرعون للذات الإلهية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

مقدمة تذكيرية:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع من سورة القصص.

وصلنا في قصة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام في الدروس السابقة إلى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ .. قصة سيدنا موسى وردت في القرآن الكريم مراتٍ عديدة، وفي كل مرةٍ لها عرضٌ خاص، ولها زوايا خاصة، فالحلقةُ الأخيرة من قصة سيدنا موسى في هذه السورة بعد أن قضى موسى الأجل، والأجل هو المهر الذي اشترطه عليه سيدنا شُعَيب من أن يرعى غنمه ثماني سنوات أو عشر سنوات، أغلب المفسرين على أن سيدنا موسى قد قضى الأجل الأَتَم والأكمل، أي بقي في رعْي غنم سيدنا شعيب عشرَ سنوات بالتمام والكمال.

 

للرجل القوامة والقيادة بحكم بُعْد نظره في الشؤون العامة:


﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ .. مِن حقِّ الرجل، وله القِوامَةُ أن يسافر بأهله، يقول الله سبحانه وتعالى:  

﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)﴾

[  سورة النساء  ]

التفضيل من جهتين؛ من أن الرجل له القيادة بحكم بُعْد نظره في الشؤون العامة، وفي شؤون خارج البيت، وله حقّ القوامة بسبب إنفاق ماله، فسار بأهله، وكلمة: ﴿بِأَهْلِهِ﴾ ، تعني أنهم جمعٌ، أي زوجته وأولاده ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ يبدو أنه في الطريق أصابه بردٌ شديد، وفوق ذلك ضلَّ الطريق.

 

حرص رب البيت على سلامة أهله من كل أذى:


﴿آنَسَ﴾ بمعنى شاهد، رأى ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً﴾ .. الطور جبل في سيناء، جبل الطور ﴿مِنْ جَانِبِ﴾ أي أنه كان يسير إلى جانبه ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً﴾ أو هكذا بدا له.. ﴿قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ .. وهذه حكمة الله عزَّ وجل، إنه سيذهب إلى المناجاة، لعلَّ أهله في المناجاة يكونون عبئاً عليه، لذلك ألهمه الله عزَّ وجل أن يبقيهم في مكانٍ من الطريق ليأخذ جذوةً من نارٍ، أو يأتي بخبرٍ عن الطريق، ضلّ الطريق، وأصابه بردٌ شديد ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ ..

﴿بِخَبَرٍ﴾ عن الطريق، ﴿تَصْطَلُونَ﴾ أي تَسْتَدْفِئون بها، أيْ حِرص رب الأسرة على أسرته، عطفَه عليهم، عنايته بهم، حرصه على سلامتهم، هذه من صفات الأبوة، الأنبياء قدوة لنا حتى في أسرهم، قدوة لنا في معاملتهم لزوجاتهم، في معاملتهم لأولادهم.

 

كل شيء يستخدم في سبيل الله شيء مبارك:


﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ .. حصلت المناجاة، والله سبحانه وتعالى يقول في سورةٍ أخرى: 

﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)﴾

[ سورة الشورى ]

سيدنا موسى كَلِيمُ الله، كَلَّمه الله عزَّ وجل من وراء حجاب، والحجاب هو الشجرة ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ﴾ .. الشاطئ الطرف، شاطئ البحر طرفه، شاطئ الوادي طرفه ﴿نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ .. البقعة مباركةٌ، لأنه حصلت فيها المناجاة، البركة الخير الكثير، إذا كنت في بيتك مُصَلّياً صائماً قائماً مطيعاً لربِّك فهذا البيت مبارك، وإذا سخَّرت هذه المركبة لخدمة الخلق، ولخدمة الناس فهذه المركبة مباركة، وإذا أقمت في مكانٍ جميل، وتحدَّثت عن الله عزَّ وجل فهذا المكان مبارك، وإذا استخدمت قلماً في كتابة العلم الشريف فهذا القلم مبارك، أيُّ شيءٍ يكون موطَن الخير، أو موضع الخير، زمان الخير، مكان الخير، بيئة الخير، ظروفَ الخير، هو الشيء المبارك ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ .. والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نُصَلِّي في المسجد، وأمرنا أن نصلي في بيوتنا، لك أن تصلي الفرض في المسجد، ولك أن تصلي بعض النوافل في البيت، لئلا يكون البيت قبراً، ليكون البيت مباركاً، البيت الذي يُقْرأ فيه القرآن بيتٌ مبارك، البيت الذي يُدعى فيه إلى الله بيتٌ مبارك، البيت الذي تقام فيه أوامر الله بيتٌ مبارك، المحل التجاري الذي تبيع فيه وَفْقَ العدل والاستقامة محل مبارك، المكان الذي تدعو فيه إلى الله مكانٌ مبارك، الشيء الذي تستخدمه في سبيل الله شيءٌ مبارك، أي كان سبباً لهذا الخير الكثير ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ أي الله سبحانه وتعالى يتجلَّى على بعض مخلوقاته بشيءٍ من الجمال، فإذا هذا الجمال يسبي العقول، فكيف إذا حصل هذا الاتصال بينك وبين مصدر الجمال؟ كيف إذا كان الله هو المتكلِّم؟ 

 

العقاب الأليم يوم القيامة هو الحجاب عن الله عزَّ وجل: 


لذلك يوم القيامة ينظر أهل الجنة إلى وجه ربهم فيغيبون خمسين ألف عامٍ من نشوة النظرة، وأكبر عقابٍ يُعَاَقبه الكافرون يوم القيامة أنهم عن ربهم محجوبون.

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾

[ سورة المطففين ]

وأعظم مقامٍ في الجنة: 

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾

[ سورة القيامة  ]

قد يتوهم الإنسان أن الجنة طعامٌ وشراب، هي طعامٌ وشراب، وأنهارٌ من لبن ومن عسل، وفيها حورٌ عين، وولدان مخلَّدون، كلّه صحيح، ولكن يجب أن تعلموا علم اليقين أن الجنة في حقيقتها تسمو على ذلك؛ فيها رضوانٌ من الله عزَّ وجل، فيها إقبال الله على قلب الإنسان. 

قلت لكم اليوم: العمل المشترك لا يقبله الله عزَّ وجل، والقلب المُشْتَرك لا يُقبل عليه، العمل الذي في إشراك لا يقبلهُ الله عزَّ وجل، والقلب الذي فيه غير الله عزَّ وجل لا يُقبل عليه، فالجنةُ فضلاً على أن فيها من الثمرات والفواكه ما تشتهي الأنفس، وتَلَذُّ الأعين، وفيها من الحور العين، وفيها ولدان مخلدون، وفي الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على وجه الأرض لغلب ضوء وجهها ضوء الشمس والقمر، كلُّ هذا صحيح، وأصحُّ منه أن في الجنة أيضاً رضوانٌ من الله عزَّ وجل. 

قد تدخل بيتاً فتجد في البيت كل شيءٍ مريحًا، ولكن أين صاحب البيت؟ أين الترحيب؟ أين الاستقبال؟ أين المؤانسة؟ أين الشعور بأَنَّك أثيرٌ على صاحب هذا البيت؟ إن كلَّ مظاهر الضيافة، وكلَّ الراحة، وكلَّ الطعام الطيِّب، وكلَّ الإكرام ليس بشيءٍ أمام ترحيب صاحب البيت، وإكرامه، وتقريبه، وأن يَخُصَّك بشيءٍ من الودّ، فلذلك العقاب الأليم يوم القيامة هو الحجاب عن الله عزَّ وجل ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ والعطاء العظيم أن تكون في رضوان الله:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾

[ سورة التوبة ]

 ورضوانٌ من الله أكبر هكذا جاء في القرآن الكريم، ورضوانٌ من الله أكبر من كل هذه النعَم التي أعدَّها الله في القرآن الكريم. 

هذا النبي العظيم سيدنا موسى من أولي العزم، وهو كليم الله، وما استحق أن يكلِّمه الله عزَّ وجل إلا لشدة حبه لله، وشدة تعلُّقه بما عند الله عزَّ وجل، ولصبره وتحمله كل المشاق في سبيل الله، قلت لكم اليوم أيضاً: إن النبي عليه الصلاة والسلام وهو في الطائف لاقى من التكذيب، ولاقى من الإيذاء ما لا يستطيع بشرٌ على الإطلاق أن يتحمَّله إلا أن يكون نبياً، ومع ذلك ماذا قال؟ قال:  ربي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، هذا حب، هل بعد هذا الحب من حب؟ هل بعد خوف الجفوة من الحبيب من خوف؟ 

 

تفاصيل المناجاة بين موسى وربه:


سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام من أولي العزم، واستحقَّ أن يكلمه الله عزَّ وجل، فهو كليم الله، طبعاً في أماكن أخرى:  

﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)﴾

[  سورة طه  ]

في أماكن أخرى من كتاب الله: 

﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)﴾

[ سورة طه  ]

حينما سأله الله عزَّ وجل، اللهُ يعلم كل شيء، فكيف يسأله؟ ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ﴾ يبدو أنه ذاب في هذه المناجاة من شدة الحب والوَجْد، فتابع الكلام واستخدم أسلوب الإطناب: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ ، حينما قال: ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ استحيا أن يكون قد أطال، فقال: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ فإذا أراد الله عزَّ وجل متابعة المناجاة يسأله:  وما هذه المآرب يا موسى؟ لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُعْلِمَهُ أن هذه التي بيدك ما هي؟ قال: ﴿هِيَ عَصَايَ﴾ لأنها بعد قليلٍ سوف تكون حيةً تسعى، لتكون الآية واضحةً عند سيدنا موسى. 

﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ هذا قول العاشقين:  

فليتـــــــك تحلو و الحــــــــياة مــــريرةٌ             وليتــــك ترضــــــــى والأنـــام غضـابُ

وليت الذي بينـــــي وبينــــــــك عامرٌ             وبـيني وبيـــــــن العالميـــــــــن خــــرابٌ

* * * 

فـلو شاهدت عيناك من حسننـــــا             الذي رأوه لما وليت عنــــــــــا لغـيرنـــا

ولو سمعت أذناك حسن خطابــنا             خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــــــــــا

ولو ذقت مـن طعم المحبــــــة ذرة             عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــــــــا

ولو نسمت من قربنا لك نسمــــة             لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــــــــــــا

* * *

 

العبرة من قصة موسى عليه السلام:


هذه القصة لماذا أوردها الله عزَّ وجل؟ لماذا جعلها قرآناً يُتْلى إلى يوم القيامة؟ من أجل أن يكون لنا نصيبٌ من هذه القصة، هل لك مع الله مناجاة؟ هذا العبد المؤمن الذي سمع من دروس العلم أن كلَّ معصيةٍ تسبب حجاباً، وكلَّ معصيةٍ تسبب عقاباً، زلَّت قدمه، ووقع في مخالفةٍ، وقع في جفوةٍ مع الله عزَّ وجل، هو ينتظر العقاب، ينتظر التأديب، ينتظر، ينتظر، مرَّ يومٌ ويومان، وأسبوعٌ وأسبوعان، وليس هناك عقابٌ ولا تأديب، فناجى ربه، وقال:  يا ربِّ، لقد عصيتك فلم تعاقبني؟ فوقع في قلبه:  أنْ يا عبدي قد عاقَبْتُك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذة مناجاتي؟ أيْ ألك مع الله مناجاة؟ 

 

الصلاة مناجاة:


إذا وقفت في الصلاة أتشعر أنك واقفٌ بين يدي الله عزَّ وجل؟  لَوْ يَعْلَمُ المُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا انْفَتَلَ ..

الصلاة قربٌ، الصلاةٌ ذكرٌ، الصلاة وعيٌ، الصلاة مناجاةٌ، الصلاة دعاءٌ، الصلاة اتصالٌ، الصلاة نورٌ، الصلاة حبورٌ، لا خير في دينٍ لا صلاة فيه، الصلاة عمادُ الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين. 

إذاً هذه المناجاة ألك منها نصيب؟ ألك مع الله ساعةٌ تناجيه؟ ألك مع الله ساعةٌ تدعوه؟ ألك مع الله ساعةٌ تقرأ كتابه فَيَقْشَعِرُّ جلدك؟ ألك مع الله ساعةٌ تناجيه فتبكي؟ أهطلتْ دمعةٌ من خشية الله؟ أتحب الله عزَّ وجل حباً صادقاً صحيحاً؟ ما ذَكَرَ الله لنا هذه المناجاة وهذا اللقاء إلا ليكون لنا منه نصيبٌ يسير على قدْر إيماننا، على قدر استقامتنا، على قدر ورعنا، على قدر إخلاصنا، على قدر معرفتنا، على قدر عملنا الصالح، لا بدَّ من اتصالٍ بالله عزَّ وجل، والله سبحانه وتعالى جعل الاتصال به منظماً.

﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)﴾

[ سورة يونس  ]

 

المعصية حجاب بين العبد وربه:


ما دُمْتَ متلَبِّساً بمعصيةٍ فبينك وبين الله حجاب، سماكة هذا الحجاب بقدر المعصية، كلما ازدادت واقتربت من الكبيرة كان الحجاب ثخيناً، وكلما كانت صغيرة كان الحجاب رقيقاً. 

الحجاب قد يَنْسى المرء بعض العلم بالمعصية، إذا غضضت البصر تماماً، وحرَرَّت الدخل تماماً، وضبطت سمعك، وبصرك، ولسانك، ويدك، ورجلك، والتزمت أوامر الشرع تماماً، ووقفت عند حدود الله تماماً فلا بدَّ من أن تشعر أنك من الله قريب، لا بدَّ من أنْ تشعر أنَّ الطريق إلى الله سالك، لا بدَّ من أن تشعر أن الصلة بالله شيءٌ محبَّب، إنَّ أسعد لحظات المؤمن يوم يقف بين يدي الله ليصلي، هذه المناجاة، أنت إذا وقفت مُصلياً فإنك تناجي الله عزَّ وجل، الأنبياء حالاتٌ متفوقةٌ جداً. عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ:  

(( لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ:  كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ:  قُلْتُ:  نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ:  سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ:  فَوَ اللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ:  نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ:  يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّات. ))

[ صحيح الترمذي ]

 

جوهر الدين الاتصال بالله عز وجل:


جوهر الدين هذا الاتصال بالله عزَّ وجل، هذا الاتصال يحتاج إلى انضباط، يحتاج إلى أن تضع شهواتك كلها تحت قدمك، يحتاج إلى أن تؤثر الله في كل شيء، يحتاج أن تكون وَقَّافاً عند حدود الله، كي تذوق طعم المناجاة التي ذاقها بشكلٍ فائقٍ جداً هذا النبي الكريم كليم الله. 

أحياناً تشعر أن الله عزَّ وجل يحبك، تشعر أن الله راضٍ عنك، تشعر أنك غالٍ عند الله عزَّ وجل، تشعر أنك بأعين الله عزَّ وجل.

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

قد تناجي ربَّك فتقول: يا ربِّ هذا حالي لا يخفى عليك، يا رب هذا جهدٌ مِن مُقِلٍّ. لا بدَّ من مناجاةٍ مع الله عزَّ وجل، إذا كنت محباً لله، إذا كنت مستقيماً على أمره. 

 

وقفةٌ مع قصة موسى عليه السلام:


أقف الآن عند هذه الآية كي نستفيد منها؛ ما شأنُنا في قصةٍ وقعت قبل آلاف السنين؟ الله سبحانه وتعالى ما أراد من هذه القصة أن نأخذ عِلماً أن الله قد ناجى سيدنا موسى، طبعاً ناجاه، أعرفت أم لم تعرف، أصدَّقت أم لم تصدِّق، أأقررت أم لم تقرّ، ولكنَّ الله عزَّ وجل أراد من هذه القصة أن يكون لك نصيبٌ أنت من هذه المناجاة، الله عزَّ وجل هكذا يقول: 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[  سورة الكهف ]

هذه وصفة، اعمل عملاً صالحاً خالصاً لله عزَّ وجل، وإذا شككت أن نفسك تأمُرك، وتوسوس لك أنك غير مخلص فاكتم هذا العمل عن الناس، أنفقْ من مالك، أَعِنْ أخاك المؤمن، قدِّم شيئاً ثميناً تملكه في سبيل الله، ابذل من وقتك الثمين، من خبرتك، من مالك، من علمك، من جاهك، اعبُدِ الله عبادةً متقنةً، ثم انظر كيف أن الله سبحانه وتعالى يتجلى عليك، ثم ذُق طعم القرب. 

سألوا امرأةً كانت متهَتِّكَةً، فلما عرفتْ ربها، والتزمت أوامر الله عزَّ وجل، وتحجبت، سألها قريبٌ لها:  كيف ضحّيتِ بحريتك وانطلاقاتك بهذا العمل؟ فقالت:  لو ذُقتَ من القرب من الله عزَّ وجل الذي ذقتُ أنا لضحَّيتَ بحياتك من أجله:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده                ولا الصبابة إلا من يعـانيها

* * *

 إذاً: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أي أصحاب النبي عليهم رضوان الله ما الذي جعلهم لا ينامون الليل شوقاً إلى الله؟ ما رأوا من عظمته، ما رأوا من كماله، ما رأوا من بديع خلقه، أقبلوا عليه، استقاموا على أمره، والوْا رسولَه. 

ثوبان، هذا المولى لرسول الله عليه رضوان الله رآه النبيُّ مُصْفَرَّ اللون قال: ما بالك يا ثوبان قد تغير لونك؟ قال:  والله مالي وجعٌ، ولكنني كلما رأيتُك ارتاحت نفسي، فإذا غبت عني اشتقت إليك، ذكرت الآخرة فعلمت أنك مع النبيين والصديقين، قد لا أكون معك، سكت النبي عليه الصلاة والسلام، فنزل قوله تعالى: 

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ﴾

[ سورة النساء ]

أين الشوق؟ هؤلاء الأصحاب كان الواحد منهم كألف، عشرة آلاف صحابي فتحوا أطراف الدنيا، والآن ألف مليون مسلم ليست كلمتهم هي العُليا، لأن الحب والإيمان متلازمان، لأن أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً. 

 

معجزة عصا موسى:


﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ .. ألقى عصاه..﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً﴾ .. خاف، هذه بشرية سيدنا موسى..

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)﴾

[  سورة المعارج  ]

﴿وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ لم يلتفت..﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ .. أنت رسول، وأنا معك فلا تخف. 

 

من صور اطمئنان قلب النبي عليه الصلاة والسلام حادثة غار ثور:


هذا الكلام ينقُلنا إلى موقف النبي عليه صلاة الله وسلامه في غار ثور، فقد وضع عليه الصلاة والسلام خطةً محكمةً للهجرة، سار مُساحِلاً، وبحث عن خبيرٍ للطريق، واختار ناقةً جيدة، واختار رفيقاً، وعَيَّن شخصاً يمحو الآثار، وشخصاً آخر يَتَّبع الأخبار، وشخصاً ثالثاً يأتي بالزاد، رسم خطةً دقيقةً جداً، غَطَّى كل شيء، أعطى لكل شيءٍ تقديره، ومع ذلك وصل كفار قريش إلى غار ثور، سيدنا الصديق أصابه خوفٌ شديد، قال:  

(( يا رسول الله: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا ـ فماذا قال عليه الصلاة والسلام ـ قَالَ:  مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. ))

[ صحيح البخاري  ]

بعد قليل قال الصحابي الجليل سيدنا الصديق:  لقد رأونا يا رسول الله، قال:  يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى: 

﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)﴾

[ سورة الأعراف  ]

هنا السؤال:  لماذا كان النبي عليه صلوات الله مطمئناً مع أن الخطة كلها انكشفت؟ ما دام كفار قريش وصناديدُهم قد وصلوا إليه، وأصبحوا على مشارف الغار، فخطته لم تنجح، لو أن اعتماده على الخطَّة لأصابه الهلع، ولكنَّ اعتمادَه على الله، أخذ بالأسباب، وتوكَّل على رب الأرباب، وكل واحدٍ منا إذا واجه مشكلةً فأخذ لها الأسباب، واعتمد على الأسباب، ثم جاء الخطر فإن قلبه يكاد ينخلِع خوفاً، أما إذا أخذ بالأسباب، واعتمد على الله عزَّ وجل فإنه يطمئن لوعد الله عزَّ وجل، فسيدنا النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالأسباب مشرعاً، ولكن الله سبحانه وتعالى طمأنه بأنه آمن، والآية الكريمة التي تُؤَكِّدُ أنه معصومٌ من أن يُقتَل:

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾

[  سورة المائدة  ]

هذه الآية تؤكد عصمته مِن أن يُقتَل، كذلك سيدنا موسى رسولٌ من أُولي العزم، فحياته مصونة، ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ ولعَمري إذا كان الله سبحانه وتعالى قد طمأنك فأيُّ شيءٍ آخر يدخل إلى قلبك؟﴿إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ .

 

الحياة الطيبة لمن يؤمن بالله ويعمل صالحاً:


الآن أنتقل من هذه الآية إلى آيات كثيرة في القرآن الكريم، لقد قال الله عزَّ وجل: 

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

الآن نقول الشاب المتشائم السوداوي المِزاج اليائس ضعيفُ الإيمان بكلام الله،  خَالق الكون يعدك بحياةٍ طيبة ثمنها أن تؤمن بالله وتعمل صالحاً، وتخاف بعد ذلك !! ﴿وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ إذا قال الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾  

[ سورة الحج  ]

وأنت مؤمنٌ ورَبِّ الكعبة، تخاف بعد ذلك؟! إذا طمأنتك آيات الكتاب، تخاف بعدها؟! لذلك إذا قرأت هذا القرآن وعرفت أنه كلام خالق الكون لا يدخل إلى قلبك الخوف، لا يحزن قارئ القرآن، لا أحد يدري في قلب المؤمن من الطمأنينة ومن الأمن ما لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم، من طمأنه؟ الله سبحانه وتعالى يقول:  

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾

[  سورة الأنعام  ]

إن الله يعطي الصحة والذكاء والجمال والمال للكثيرين من خَلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين، هذا كلامُ خالق الكون، يجب أن تصدِّقَهُ، يجب أن يكون عندك له مصداقية.

 

لا تخَف إلا من ذنبك:


 إذا طمأنك الله في آيات القرآن فيجب أن تطمئن، وإذا خوَّفك في بعض الآيات فيجب أن تخاف، علامة إيمانك أنك تطمئنُّ إذا طمأنك الله عزَّ وجل، وتخاف إذا خوَّفك الله عزَّ وجل، خَفْ  ذنبك، قال:  يا موسى خف ثلاثاً:  خفني، وخف نفسك، وخف من لا يخافُني، خف نفسك أن تعصيني تستحِق التأديب، هذا الذي لا يخافني خف منه، لأنه ليس منضبطا، خفني، وخف نفسك، وخف من لا يخافني، وقد ورد: "لا يخافَنَّ العبدُ إلا ذنبه ولا يرجونَّ إلا ربه" .

القلق والخوف مرض نفسي مدمِّر، المؤمنون بحول الله معافون منه: 

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

 

نعمة الأمن:


أيُعقل أن يعاملك الله عزَّ وجل وقد آمنت بالله وعملت الصالحات كما يعامل الذين اجترحوا السيئات؟ أنت منضبط، تحضر مجالس العلم، تصلي، تغضُّ بصرك، تنفق من مالك، ترجو الله، تخاف منه، تتقرب إليه، تعمل الصالحات، أتتوقع أن يعاملك الله عزَّ وجل كما يعامل أهل الدنيا الضائعين، الشاردين، التائهين، العُصاة، الفُسَّاق، الفُجَّار؟ إنك مستثنى: 

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[ سورة الروم ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32)﴾

[ سورة فصلت ]

﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ نعمة الأمن لا يعرفها إلا من فقدها.

﴿ الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾

[  سورة قريش  ]

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   

(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. ))

[ رواه البخاري في لأدب المفرد  والترمذي :  حسن غريب  ]

نعمة الأمن خاصةٌ بالمؤمنين، أما أهل الدنيا فقد يأخذون كل شيء، ولكن نعمة الأمن لا يعرفونها، لأنهم أشركوا ألقى الله في قلبهم الخوف والفزع والقلق. 


  الآية الثانية من آيات الله إلى فرعون:


الآية الثانية: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ .. أي ضع يدك في جيبك، جيب الثوب فتحته العُلوية، غير الجيب الذي نعرفه نحن، الجيب فتحة الثوب من جهة العُنق، اسلكْ أي ضع..﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾ أي متألفة، منيرة، كأنها مصباح، كأنها كوكبٌ دري ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ والله سبحانه وتعالى أشار بهذه الآية إلى ما قاله اليهود في تلمودهم، وكيف حرَّفوا التوراة، وقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام حينما وضع يده في جيبه خرجت بَرْصاء..﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ .

 

تفسيرات قوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ:


﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ .. الرَّهَب هو الخوف، لهذه الآية تفسيرات ثلاث: أنه لما رأى الأفعى خاف، فمدَّ يديه ليدفع عنه خطرها، قال تعالى:  ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ أي لن تؤذيك هذه الأفعى، هذا المعنى.

المعنى االثاني: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ أي أن المؤمن إذا أراد أن يصلي يتطامَن، أي يَضمّ عَضُديه ويديه إلى صدره تأدُّباً مع الله عزَّ وجل، أما التمطي، وتحريك الأطراف هكذا أو هكذا فلا يتناسب مع الخشوع، أما أن يضم الإنسان عَضَدَيه ويديه إلى صدره، ويقف متطامناً فهذا نوعٌ من الخشوع، إذاً هذا تعليمٌ من الله عزَّ وجل أن الإنسان إذا صلَّى فعليه أن يقف في خشوع، لا أن يَتَمَطَّى، وأن يباعد بين أطرافه، وأن يتطاول، هذا لا يتناسب مع الخشوع، وقد علَّم اللهُ سبحانه وتعالى هذا النبي الكريم، وعلمنا من خلال هذه الآية: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾   من الخشية.

 

معجزة نبينا باقيةٌ إلى يوم القيامة أما معجزة موسى فانتهت وأصبحت خبراً: 


الأفعى واليد البيضاء..﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ .. هاتان آيتان من آيات الله، والذي كَرَّمَ الله به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو أن معجزته ليست حِسِّية، إن معجزته باقيةٌ إلى يوم القيامة، إنها كتاب الله عزَّ وجلَّ، إن كتاب الله بين أيدينا، من أراد أن يُحَدِّث ربه فليصلِّ، ومن أراد أن يُحَدِّثَه ربه فليقرأ القرآن، إنه كتابٌ بين أيدينا، لكن معجزة النبي موسى عليه الصلاة والسلام انتهت، وأصبحت خبراً، الأفعى واليد البيضاء ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ .. والفاسق هو الذي خرج عن أمر الله، هو الذي خرج عن إنسانيَّته، هو الذي جهل مهمته فتبع شهوته، جهل نفسه كما جهل نفسه فتبع شهوته ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ لذلك حينما دَمَّرهم الله عزَّ وجل ما بكت عليهم السماوات والأرض.  


موسى عليه السلام يتذكّر قتلَه القبطي وخوفه من انتقام فرعون منه:


سيدنا موسى قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً﴾ تذكر أنه قتل قبطياً ﴿فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ .. هنا تعليق لطيف جداً: هو أن الله سبحانه وتعالى حينما ألقى السحرة عصيَّهم وحبالهم، وخُيِّل إليه من سحرهم أنها تسعى أوجس في نفسه خيفة موسى خاف سيدنا موسى، لماذا خاف؟ لم يخف الله طمأنه قال له: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ لكن هذا الخوف الثاني، الخوف الأول بشري، لأنه بشر، أما الخوف الثاني فخوف الرسول من أن تُكَذَّبَ دعوته، خاف على الدعوة، ولم يخف على شخصه، قال عز وجل: 

﴿ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)﴾

[ سورة طه  ]

أيْ هذا الذي فعله السحرة لا شيء أمام الآية التي معك، لذلك عصا موسى حينما ألقاها أكلت كلَّ حبالهم وعصيهم، فإذا هي تلقف ما يأفكون، إذاً: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ إذاً:  هذا الخوف كان على الدعوة لا على شخصه. 

تعليقٌ آخر: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ هذا خوفٌ على الدعوة. 

 

حرصُ موسى عليه السلام على الدعوة:


﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً﴾ .. بعض المفسرين يقولون: إن سيدنا موسى معه حبسة، الحبسة أي حالة غير سوية في النطق، الإنسان أحياناً يضَّطرب نطقه، التأتأة، والفأفأة اسمها في علّم النفس: الحبسة، الحبسة تزداد عند الاضطراب النفسي، فسيدنا موسى خاف أن يكذِّبه فرعون فيضطرب فينعقد لسانه، وهناك إشارة أخرى إلى أن الفصاحة فصاحة القلب، ولو أنَّ الفصاحة باللسان لكان المُرْسَل إلى فرعون هارون، كن فصيح القلب إذا كنت تعرف الله عزَّ وجل ولك اتصالٌ به فأنت الفصيح، ولو لم تكن في مستوى فصاحة الآخرين، ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)﴾ .. أي من حرصه على الدعوة مرةً ثالثة، من حرصه على الدعوة خاف إذا ذهب وحده إلى فرعون أن ينعقد لسانه، أو أن يقتله فرعون بهذا القبطي الذي قتله سابقاً فتنطفئ الدعوة، ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي﴾ .. أيْ معيناً، إذا انعقد لساني يتكلَّم عني، إذا قتلني فرعون ينوب مكاني.

 

لا بد للدعوة من الحجة والسلطان:


﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً﴾ .. السلطان هنا إما القوة القاهرة، وإما الحجة الباهرة، أيْ إذا كان الله معك فمن عليك؟ المؤمن يقول: إذا كان الله عليك فمن معك؟

﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾

[ سورة طه  ]

 

منتهى عظمة الله عزَّ وجل أنه يدفع الخطر الكبير بشيءٍ صغير: 


﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ .. حينما سار سيدنا موسى بقومه، وتبعهم فرعون، فرعون بكل قوته، وكل جيشه، وكل جبروته، وكل قسوته وراءهم، والبحر من أمامهم، ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ كما قال هذا الرجل في معركة الخندق حينما رأى اليهود قد نقضوا عهدهم، والأحزاب قد جاءتهم من كل حدبٍ وصوب، ولم يبق للإسلام إلا ساعات، ينتهي الإسلام عن آخره، كيف أن الله سبحانه وتعالى أنقذ الدعوة الإسلامية كلَّها بالعنكبوت على غار ثور، هذا من عظمة الله عزَّ وجل، أنه يدفع الخطر الكبير بالسبب الحقير، يدفع الخطر الكبير بشيءٍ صغير، هذا منتهى عظمة الله عزَّ وجل، وأيضاً في الخندق جاءت الأحزاب من كل حدبٍ وصوب، وقد رمت العربُ كلها النبيَّ عن قوسٍ واحدة، كلها جاءت لتستأصل المسلمين، واتفقوا جميعاً، وجاءوا بخيلهم، ورَجِلهم، وأسلحتهم، وطَوَّقوا المدينة، والصحابة الكرام حفروا الخندق، وظهرهم محميٌّ لمعاهدةٍ بين النبي وبين اليهود، فإذا باليهود ينقضون العهد كعادتهم، فانكشف ظهر النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يبق للإسلام بحسب ما يبدو للعين إلا ساعات، وينتهي الإسلام مِن على الأرض، فما كان من أحد الضعاف إلا أن قال:  أيعدنا صاحبكم أن تُفْتَح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدُنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟!! أين كسرى وقيصر؟ لا يأمن أحدنا أن يقضي حاجته من شدة الخوف، ومع ذلك أرسل الله رياحاً عاتية قلبت قدورهم، واقتلعت خيامهم، وأطفأت نارهم، ووقعوا في حيص بيص، وتبلبلوا، وذهبوا:

﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)  ﴾

[ سورة الأحزاب ]


لابد من الابتلاء لامتحان إيمان الناس:


ربنا أحياناً يؤخِّر النصر ليسمع ما تقول؟ أحياناً ربنا عزَّ وجل يرسل شبح مصيبةٍ، المؤمن القوي يصبر، قال ربنا عز وجل: 

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

لكن هناك أشخاص ضعاف الإيمان إذا لاح شبح المصيبة يتزلزل إيمانهم، قال ربنا عزَّ وجل: 

﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾

[  سورة الأحزاب ]

أحياناً الإنسان يقوم بتحليلٍ فتكون النتيجة مرضاً خطيراً، ماذا يقول في نفسه؟ يكون التحليل خطأ، الله امتحنه، لاح له شبح مصيبة، ماذا يقول في نفسه؟ أيُنْكِرَ وجود الله عزَّ وجل؟ أيُنْكِرَ رحمته؟ أيُنْكِرَ عدالته؟ أينكر حكمته؟ الله عزَّ وجل يمتحنك، أنت في امتحان دائم، إذا كنت بطلاً، إذا جاءت الأمور على غير ما تشتهي فقل:  الحمد لله على كل حال ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا جاءت الأمور وَفْقَ ما تريد فقل:  الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، هذا شأن المؤمن، والمؤمن مُبتلى، سُئل الإمام الشافعي: "أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تُمَكَّن قبل أن تُبْتَلى"، لا بدَّ من أن تبتلى ليمتحن الله إيمانك، ليمتحن الله صدقك، ليمتحن الله ثقتك به، ليمتحن الله اعتمادك عليه، ليمتحن الله علمك، ليمتحن الله معرفَتَك، ليمتحن الله صبرك، ليمتحن الله حسن ظنّك به، هناك ابتلاء، هناك امتحان، فقال أصحاب موسى: ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ فرعون وراءنا، والبحر أمامنا، ماذا قال سيدنا موسى؟ قال:  ﴿كَلاَّ﴾ على أي شيءٍ اعتمد؟ ليس هناك أسباب مادية إطلاقاً، فرعون بقوته وجيشه وقسوته وراءه، والبحر أمامه: 

﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾

[  سورة الشعراء ]

أحياناً يتصور الإنسان أنَّه على أرض، وهناك بحر، قد تخرج موجةٌ فتأخذه إلى البحر، هذه المصيبة، كلما كان في الأعماق أصبح في مَنجاةٍ عن أن يتزلزل، أما إذا كان على حرف فسريعاً ما ينهار.

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾

[  سورة الحج ]

لا تكن ممن يسيرون على الحرف، كن بالأعماق، والحياة تحتاج إلى بطولة، تحتاج إلى صبر، إلى جَلَد، والابتلاء لا بدَّ منه.

 

العاقبة للمتقين:


﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى﴾ .. هذه الآية الصارخة، عَصَا تُصْبِحُ أفعى، يدٌ تتألق كأنها كوكبٌ دُرِيّ، هكذا الكفر، الكفرُ فيه مكابرة، فيه جحود، فيه شهوة طاغية، هذه الشهوة الطاغية تحمل على التكذيب: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى﴾ .. هذا سحر، وهذا افتراء، وهذا اختلاق ليس له أساس من الصحة، ﴿وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ(36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ .. هو الذي يعلم، وعلْمُه تَمَثَّل بهاتين الآيتين: ﴿وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ .. العاقبة لمن؟ للمؤمن، الأيام تدور، وتدور، وتستقر في صالح المؤمن، كن مع الله ولا تُبَالِ، كن مع الحق ولا تكن مع الباطل، لأن الباطل زهوق، لا تكن في خندقٍ ضد أهل الحق ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ..

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)﴾

[ سورة المجادلة ]

﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) ﴾

[  سورة الصافات  ]

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[ سورة النور ]

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾

[ سورة الزمر ]

أي كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله، يكفي أن تكون العاقبة لك. أهل الدنيا لما رأوا قارون قالوا:  ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ ..

﴿  لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)﴾

[ سورة آل عمران  ]

﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ هذا الذي ظلم نفسه، وظلم غيره لا يفلح.


  ذكاءُ الأغبياء:


﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ .. فرعون ذكي، الآن أراد حينما رأى هاتين الآيتين الصارختين، وشعر أن أتباعه وقعوا في ريب، وفي شك، وفي حيرة، وقف موقفاً معتدلاً في الظاهر ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ كلام فيه تحفُّظ، فيه اعتدال، أي بحسب معلوماتي، بحسب علمي المتواضع ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ هذا الذي جاء به موسى غير صحيح، وهذا الذي يدعيه أنه رب العالمين غير صحيح، ليس هناك إله غيره، لكن ليس لديه إصرار، قال:  ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ بتحفظ، لأن ربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)﴾

[  سورة النازعات  ]

العلماء قالوا:  لمَ بدأ ربنا عزَّ وجل بالآخرة كان الأَوْلى أن يقول: نكال الأولى والآخرة؟ قال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ لأنَّه في الأولى ماذا قال؟ ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ وماذا قال في الآخرة؟

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[ سورة النازعات  ]

أيُّهما أشد كفراً؟ المقولة الثانية، فبدأ الله بها.

 

تحدي فرعون للذات الإلهية:


﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ .. أيْ ابْنِ لي برجاً من الآجر، من الطين المُحَمَّى، أي اجعل هذا الطين محمى، أوقد عليه ناراً، واصنع منه لبناتٍ، اصنع منه برجاً..﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ كأن الله عزَّ وجل في نظر فرعون شخص، أوقد لي على الطين، اجعل لي صرحاً لأصعد عليه، فأطلع إلى إله موسى.

بعضهم قال:  ابنِ لي مرصداً أرصد الكواكب، أخذاً من قوله تعالى: 

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)﴾

[  سورة غافر ]

لعلي أرى النجوم فتنبئني إن كان هناك إلهٌ كما يدَّعى موسى، أم هو من الكاذبين، تفكيرٌ سخيف، صغير جداً.

 

المستكبر لا يقبل الحقَّ أبداً:


﴿فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ﴾ .. العلَّة هي الاستكبار، المستكبرون هم الكفَّار، ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ استكبر عن أن يؤمن، أما النجاشي فلم يستكبر، النجاشي آمن، والله سبحانه وتعالى زاده عزاً ورفعةً، النبي عليه الصلاة والسلام خدم وفد النجاشي بنفسه إكراماً له، النجاشي ملِك ومع ذلك خضع للحق، قال: "إن هذا الذي جئت به، والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاةٍ واحدة" ، هذه كلمة النجاشي، أما فرعون فاستكبر، والاستكبار دائماً بغير الحق، استكبار بالحق لا يوجد، استكبار بغير الحق، ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ﴾ .. لهم معه مصالح، مصالحهم معه، في الأرض بغير الحق ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾ ظنوا أنهم مُخَلَّدون في الدنيا، ظنوا أن هذه الدنيا باقيةٌ لهم، ظنوا أن الموت هو نهاية الحياة، فإذا هو بداية حياةٍ أُخرى، ظنوا أن الحياة طويلة ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾ ..

﴿  فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾  

[ سورة الغاشية  ]

 

مِن سننِ الله مع الظالمين الاستدراج ثم القصمُ:


﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ .. أي  الله عزَّ وجل أحياناً يستدرج الكافر، اتبع فرعون سيدنا موسى، فلما صار الطريق في البحر يبساً تبعه، فلما خرج موسى وإخوانه من البحر أعاد الله الطريق اليابس بحراً.

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

فربنا عزَّ وجل قال له: 

﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)﴾

[ سورة يونس ]

كل واحدٍ من بني البشر سوف يؤمن عند الموت، ولكن بعد فوات الأوان، البطولة أن تؤمن في الوقت المناسب، لذلك ربنا عزَّ وجل نجاه ببدنه لأنه لشدة استكباره لا يصدِّق أحدٌ أنه غرق.

﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)﴾

[ سورة يونس ]

وأغلب الظن أن المومياء التي في مصر هي فرعون موسى، هذه إلى الآن موجودة، وقد أُخِذت إلى فرنسا لبعض الترميمات، أكرر وأقول:  أغلب الظن إن هذه المومياء هي فرعون موسى، لقوله تعالى:  ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ ، ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)﴾ ..

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾

[ سورة الأنعام ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور