وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة طه - تفسير الآيات 43 – 70 قصة موسى عليه السلام3
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


  معية  الله لكلّ مؤمن وهي معية نصرٍ وتأييدٍ ودفاعٍ ومعونة : :


  أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الرابع من سورة طه .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ ..

أذكِّركم أيها الإخوة بقوله تعالى :

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)  ﴾

[ سورة المائدة ]

نريد أن نخرج من هذه الآية إلى قاعدة ، معيَّة الله سبحانه وتعالى معية نصرٍ ، وتأييدٍ ، ودفاعٍ ، ومعونة ، هذه المعيَّة لكل مؤمن لكن لها ثمن ، توضحها الآية الكريمة : ﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ﴾ لأنه إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ما من شيءٍ على وجه الأرض أعظم منالاً من أن يكون الله معك ، هل في الأرض كلها ، بل هل في الكون كله جهةٌ تستطيع أن تنال منك إذا كان الله معك ؟ إذا كان الله معك فأنت أقوى الأقوياء ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك .

يوضح لنا ربنا سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى ثمن هذه المعية ، الخلق كلهم سواء عند الله عزَّ وجل ، لا تنسوا أن سيدنا عمر رضي الله عنه حينما أرسل سيدنا سعداً بن أبي وقاص قال له : " يا سعد ، لا يغرَّنك أنه قد قيل : خال رسول الله ، فالخلق كلهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له " ، الذي يرفعك عند الله طاعتك ، حجمك عند الله بحجم عملك .

وقف أبو سفيان بباب الخليفة عمر رضي الله عنه ساعاتٍ طويلة فلم يؤذن له ، وكان يرى صهيباً وبلالاً يدخلان ويخرجان من دون استئذان ، آلمه ذلك ، فلما دخل على الخليفة عمر رضي الله عنه قال : " زعيم قريش يقف في بابك ساعاتٍ طويلة ، وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان !! " قال : " أنت مثلهما ؟! " عظمة الإسلام أن الناس كلهم سواسية كأسنان المشط ، قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات  ]

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ . ))

[ صحيح البخاري  ]

هذه مبادئ الإسلام ، فإذا أردت معية الله عزَّ وجل ، إذا أردت نصره ، تأييده ، معونته ، توفيقه ، أن ينصرك على من عاداك فهذا هو الثمن ادفعه واقبض هذه النتيجة .

 

شروط معية الله :


﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ﴾ بشرط : ﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ ﴾ هؤلاء الذين جاؤوا بعد عصور التألُّق والازدهار وصفهم عزَّ وجل فقال :

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[ سورة مريم  ]

أي شراً ، أي قهراً ..

﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾

[ سورة النساء ]

إذا كنت معه ، وقد أقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وآمنت برسله ، ونصرتهم ، يتخلَّى عنك ؟! والله الذي لا إله إلا هو زوال الكون أهون على الله من أن يكون ذلك ﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ هذا هو الثمن ادفعه واقبض النتيجة . 

 

الله تعالى جليس من ذكره :


﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ .

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾

[  سورة الإسراء  ]

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ .. يا موسى ! أتحب أن أسكن معك ؟ فصعق هذا النبي الكريم ، وكيف ذلك يا رب ؟ " قال : أما علمت أنني جليس من ذكرني ، وحيثما التمسني عبدي وجدني ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ هذا حال المراقبة ، يتحدَّث عنه بعض الصوفيين ، أن تحس أن الله معك دائماً ، اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فهو يراك.

 

التلطُّف في الدعوة إلى الله :


﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ التلطُّف في الدعوة إلى الله ألّا تواجه الإنسان ، ألّا تواجهه بأخطائه ، استخدم ضمير الغائب ، هكذا فعل هذا النبي العظيم ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ يا فرعون ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ .. هذا الذي يواجه الناس بأخطائهم يقول له : أنت فاسق ، أنت كافر ، هذا أسلوبٌ لا يرضاه الله عزَّ وجل، لأنه من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف .

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)  ﴾

[ سورة آل عمران  ]

قل لـه : من يعصِ الله عزَّ وجل فسوف يحاسبه في الدنيا والآخرة ، استخدم قاعدة ، استخدم ضمير الغائب ، ولا تستخدم الضمير المخاطب .

 

صورٌ مِن هداية الله للمخلوقات :

 

1 ـ الإنسان :

﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ من ربكما يا موسى ؟ جاء الجواب بإيجازٍ رائع : ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ .

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)  ﴾

[  سورة التين  ]

خلق له عينين ليرى بهما كل شيء ، الأشياء بأحجامها ، وألوانها ، وأبعادها ، الطولية ، والعرضية ، والعُمْقية ، يرى الإنسان بعينيه الأبعاد الثلاث ، ولساناً وشفتين ، وباللسان ينطق ، ويعبِّر عن آرائه ، وعن أفكاره ، وعن مشاعره ، وبالشفتين يلتقم ثدي أمه ، خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم ، جعل له هيكلاً عظمياً ، وجعل له عضلاتٍ تحرِّك العظام ، وجعل لهذه العضلات أوتاراً ، وجعل الشرايين والأوردة ، وجعل القلب والرئتين ، وجعل المعدة والأمعاء ، وجعل جهاز الإفراز ، وبَثَّ في هذا الجسم الأعصاب والغدد الصماء ، بحيث يُعدُّ الإنسان أعقد آلةٍ على وجه الأرض ، أكثر الأعضاء تعمل ليلاً نهاراً بلا كلل ولا ملل ، تنام أنت والدماغ يقظان ، يقلبك في الليل ذات اليمين وذات الشمال ، الهضم يعمل وأنت نائم ، والتنفس يعمل وأنت نائم ، والقلب يضخ وأنت نائم ، وأعمالٌ معقدةٌ لا يعلمها إلا الله ، كلها تكون وأنت نائم ﴿ مَنْ َرُّبُكَما يَا مُوسَى ﴾ من جعل هذه العين ترى ثمانمئة ألف درجة من اللون الواحد؟ عين الإنسان تستطيع أن تميز بين لونين من ثمانمئة ألف لون بهذه الدقة البالغة ، عين الإنسان ترى الشيء بحجمه الطبيعي ، أذن الإنسان تلتقط أدَقَّ الأصوات ، لك ذاكرةٌ سمعية تعرف بها أصوات كل من حولك ، تسمع هذه المكالمة الهاتفية فتقول لأول وهلةٍ : إنه فلان ، كيف عرفت أنه فلان ؟ لولا أن لك ذاكرةً سمعيةً ، وذاكرةً شميةً ، وذاكرةً بصريةً ، وذاكرة أسماء ، وذاكرة أرقام ، وذاكرة طعوم ، ﴿ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ لماذا لم يجعل الله عزَّ وجل في الشعر أعصاباً ؟ لو كان في الشعر أعصابٌ حسية لكان الإنسان بشكلٍ مخيف ، لأنه لن يستطيع أن يحلق شعره ، يحتاج إلى عمليه جراحية ، إلى تخدير :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) ﴾

[  سورة البلد  ]

﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾

[ سورة عبس  ]

آلية الولادة لو اطلعتم عليها لكانت أعظم آيةٍ من آيات الله عزَّ وجل ، هذا الرحم الذي جعله الله في قرارٍ مكين ، وجعله يتسع من 7 سم3 إلى 3500 سم3 ، أي مئات ، بل ألوف الحجوم الكبيرة يتسع لهذا الجنين ، ثم يتقلَّص تقلُّصاً لطيفاً ليدفعه إلى خارج الجسم في الوقت المحدود ، فإذا خرج الجنين إلى خارج الرحم انقبض هذا الرحم انقباضاً شديداً ليسُدَّ الشرايين المفتوحة ، التي لولا انقباضه لماتت الأم من شدة النزيف ، من رَتَّبَ هذا ؟ من هيَّأ هذا ؟ من سيَّر هذا الجنين ؟ من جعل اللبن يخرج لهذا الطفل في الوقت المناسب معيراً في كل يومٍ من أيام نموه ؟ بارداً في الصيف ، دافئاً في الشتاء ، معقَّماً ، فيه كل مناعة الأم .

﴿  أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8)وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9)وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10) ﴾

[  سورة البلد  ]

لو أمضيت الحياة كلها في الوقوف على دقائق خلق الإنسان لما انتهيت منها ، أليس خلقك أنت معجزة ؟ أليس خلق ابنك الذي تعرف كيف كان أكبر آيةٍ دالةٍ على عظمة الله عزَّ وجل ؟ ﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ﴾ يقول ربنا عزَّ وجل :

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) ﴾

[  سورة القمر  ]

هذه العين لها عتبةٌ تقف عندها ، لو أن هذه العتبة ارتفعت لرأيت في هذا الكأس من الماء ألوف الألوف من الكائنات الحية ، لعزفت نفسك عن شربه ، لكن الله عزَّ وجل لحكمته البالغة جعل البصر يقف عند حد ، وجعل السمع يقف عند حد ، لو أنه أسمعك كل شيء لسمعت حركات الأحشاء فلا تنام الليل : ﴿ مَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴾ الأعصاب جعلها بحساسيةٍ معينة ، فلو زادت لاختل نظام الحياة ، هذا خلق الإنسان فماذا عن خلق الحيوان ؟ 

2 ـ الإبل :

الجمل ..

﴿  أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) ﴾

[  سورة الغاشية  ]

مَن جعل له هذا الخف ليستعين به على السير على الرمال ؟ من جعل لعينيه جفنين  جفناً يقيه دقائق الرمل إذا ثارت ؟ مَن جعل لأذنه ساتراً أيضاً يقيه ثورة الرمال إذا ثارت ؟ مَن جعل الجمل يتحمَّل العطش أشهراً طويلة ؟ ﴿ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) ﴾ ،  من جعل الجمل يستطيع أن يحيا سنواتٍ من دون طعام ؟ يستهلك سنامه كلَّه ، شيءٌ يأخذ بالألباب . 

3 ـ الطائر :

انظر إلى الطائر كيف يكون ؟

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) ﴾

[  سورة الملك  ]

4 ـ السمك :

انظر إلى الأسماك كيف تسبح في الماء ؟ لماذا خلق الله لها هذه الزعانف ؟ إنها أدوات توجيه ، وأدوات توازن ، وأدوات تحريك ، تحريك وتوجيه وتوازن ، من جعل لهذه السمكة مقياس ضغطٍ تعرف أين هي من الماء هل نحو السطح أقرب أم إلى القاع أقرب ؟ يقدر علماء الأحياء أن في البحر مليون نوع من السمك ، ألف ألْف ، لو اطلعتم على بعض كتب البحار ، أو على بعض المصوَّرات لرأيتم العجب العُجاب ، سمكٌ لطيف ، سمكٌ للزينة ، سمكٌ كبير ، حوتٌ ضخم يزن مئةً وخمسين طناً ، الحوت الأزرق ، الأرقام خيالية ، يوجد خمسون طناً من الدهن في هذا الحوت ، يعطينا تسعين برميل زيتاً ﴿ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ الطير ، السمك ، هذه الحيوانات الأليفة ، من جعلها مذللة؟ 

﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)  ﴾

[  سورة يس  ]

لو أن الله عزَّ وجل ركَّب في الغنمة أخلاق الضَبع ، هل بإمكان الناس أن يرعوا الغنم ؟ من جعل هذه الغنمة مذللة وجعل هذا الجمل مذللاً ؟ من جعل للجمل عينين تُريانه الصغير كبيراً والبعيد قريباً ؟ الله سبحانه وتعالى ، لو أمضينا الحياة كلها في الوقوف على آيات الله التي بثها في الأرض لما انتهينا من آيةٍ واحدة ، أليست هذه الآيات كلها دليلاً قطعياً على وجود الله ؟ وعلى ربوبيته ؟ وعلى ألوهيته ؟ وعلى عظمته ؟ وعلى أسمائه الحسنى ؟ إن الكون كله ما هو إلا تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، ماذا أقول حول هذه الآية ؟ إن الساعات الطوال لا تكفي لشرح هذه الآية من الوجهة العلمية ﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ﴾ السمع له درجة ، البصر له درجة ، الحِس له درجة ، من خلق آلية النطق ؟ كيف تتكلم وكل حرفٍ يحتاج إلى سبع عشرة عضلة تأخذ وضعاً مُعَيَّنَاً حتى يخرج هذا الحرف ؟ فإذا كانت الكلمة خمسة أحرف فهل بإمكان الإنسان المتكلم أن يضبط أمره هو أم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينطقه ؟ ولولا أن الله تولى عنه تحريك هذه العضلات لما أمكنه أن ينطق بكلمةٍ واحدة ، ﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ﴾ أي كل مخلوق جَهَّزه ببنيةٍ ، وطبيعةٍ ، ونفسيةٍ ، وأجهزةٍ ، وأعضاء تناسب مهمته في الحياة ، كل مخلوقٍ من دون استثناء جهزه الله ببنية ، وطبيعةٍ ، ونفسيةٍ ، وقدراتٍ ، وإمكاناتٍ ، وأجهزة ، وأعضاء تتناسب مع مهمته تماماً . .﴿ ثُمَّ هَدَى﴾ وبعدئذٍ هداه إلى تحقيق مهمته على وجه الأرض ، زَوَّدَ الله الإنسان بهذا العقل القوة الإدراكية ليهتدي به إلى الله عزَّ وجل ، والحيوان جهزه الله بهذه الغريزة ، وهي من أعقد الأفعال ، لكنها مجهَّزة تجهيزاً تاماً من دون جهدٍ أو تعلُّم .

من جعل سمك السلمون مثلاً ينطلق من أعالي الأنهار في أمريكا ويسير باتجاه المحيط الأطلسي ثم يتَّجه نحو غرب أوروبا وهنا يفرخ صغاراً ؟ هذه الصغار بعد وقتٍ معلوم تتجه إلى مسقط رأس أمها ، من دلّ هذه السمكة العَجْماء إلى الطريق المؤدِّي إلى مصب الأمازون مثلاً ؟ شيءٌ فوق إدراك البشر ، تجد قبطاناً يحمل شهادة عُليا في علم البحار ، وتدرّب في مدارس عالية المستوى قد يضلّ الطريق ، هذه سمكةٌ تحت الماء تتجه من غرب أوروبا إلى مَصَب الأمازون ، لو أضافت إلى زاوية اتجاهها درجة واحدة لجاءت في أمريكا الشمالية ، من هدى هذه السمكة إلى منابع الأنهار ؟ يخرج ثعبان الماء من ينابيع النيل ، ويتجه نحو البحر المتوسط ، ثم يتجه غرباً إلى مضيق جبل طارق ، ثم يتجه شمالاً على سواحل إسبانيا وفرنسا ، ثم يدخل في بحر المانش ليستقر في بحر الشمال ، ثعبان ماءٍ يستطيع أن ينتقل هذه الانتقالات من دون دليل ؟! من دون بوصلة ؟! من دون خرائط ؟! ﴿ ثُمَّ هَدَى﴾

5 ـ هجرة الطيور :

هذه الطيور التي تهاجر عشرات الألوف من الكيلو مترات ، بعض أنواع الطيور يهاجر إلى منطقةٍ تبعد عن مستقره سبعة عشر ألف كيلو متر ، يطير طيراناً متواصلاً يزيد عن ستٍ وثمانين ساعة ، من دون توقف ، هل في الأرض كلها طائرة تستطيع أن تطير ستاً وثمانين ساعة من دون توقُّف ؟ من دَلّ هذه الطيور إلى طريقها ؟ حـار العلماء في ذلك ، يا تُرى معالم الأرض ؟ وجدوها تطير في ليلةٍ ظلماء ، يا ترى الشمس ؟ طارت في أيامٍ تحتجب فيها الشمس بفعل الغيوم ، بأي شيءٍ تطير ؟ أحدث نظرية أنها تطير وفق ساحةٍ مغناطيسية ، فلما وضعت في أماكن ذات ساحة مغنطيسية أخرى تشوَّشت ، بعض النظريات ، لكن الجواب الشافي غير معروفٍ تماماً حتى الآن ﴿ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ هدى الإنسان إلى علة خلقه ، وهدى الحيوان إلى طعامه ، وإلى استطبابه ، وإلى قضاء حاجاته ، وإلى البحث عن طعامه . 

 

سؤال فرعون غايته صرف الأنظار عن الحقيقة :


ثم قال فرعون : ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ الآية الأولى : ﴿ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ هذه آيةٌ لو أمضينا فيها دروساً طويلة إلى آخر هذا العام لا تنتهي ، لأنها بحثٌ في خلق كل شيء ، بدءاً من الإنسان ، مروراً بالحيوان ، انتهاءً بالنبات ، ثم إلى الكون ، كل شيءٍ مخلوقٌ في أبدع صورة ، وفي أدق ترتيب ، وقد هُديَ هذا المخلوقُ إما بالغريزة ، وإما بالفكر ، وإما بالكشف ، وإما بالإلهام ، وإما بوسائل عديدة ، إلى هدفه ، وحاجته ، وسُبل معاشه ، وعلَّة وجوده ، والإنسان أرقى هذه المخلوقات هداه الله إليه ، لذلك أنعم عليه بنعمة الإيجاد ، وبنعمة الإمداد ، وبنعمة الإرشاد ، نقف عند هذا الحد في هذه الآية ، ونتابع الآيات الأخرى .. ﴿ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾ أراد فرعون أن يصرف هذا النبي العظيم عن موضوع الدعوة ، فشغله بموضوعٍ جانبي .. ﴿ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ﴾ أو أنه أراد أن يستنبئه الغيب ، لأنه يظن أن النبي يعلم الغيب ، أو أراد أن يؤكِّد له أن هؤلاء القرون الأولى ما بالهم كانوا على ضلالٍ مثلي مثلاً .

 

الله تعالى لا ينسى وكل شيء عنده محفوظ :


على كلّ جاء الجواب الشافي : ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ﴾ ..أي علمٌ يقيني ..﴿ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ .. فسر بعض العلماء : ﴿ لاَ يَضِلُّ ﴾ بمعنى لا يخطئ ، أو لا يغيب عنه شيء ، فحكمته مطلقة ، هذا لا يضل ﴿ وَلاَ يَنْسَى ﴾ الله سبحانه وتعالى لا ينسى ، أي كلُّ شيءٍ محفوظ عنده . وكلمة ﴿ كِتَابٍ ﴾ تطمينٌ لنا ، الله عزَّ وجل غني عن الكتاب ، ولكن بحسب تصوراتنا نحن الكتاب تكون فيه المعلومات مثبَّتة .

 

خصائص الربوبية :


﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ﴾ .. جعل هذه الأرض منبسطة ، كيف نعيش عليها لو جعلها منحدرات حادة ؟ قد يعاني الإنسان أحياناً مشقةً بالغة في زرع سفوح الجبال ، يحتاج إلى مدرجات ، ويحتاج إلى مصاطب ، وتأتي الأمطار فتجرف التربة ، لو أن الأرض كلها سفوح مائلة ، هذه الأرض ليست مهداً .. ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ﴾ والأرض لها تربة ، لو أن سطح الأرض كلَّه صخري كيف نزرعها ؟ كيف نعيش ؟ كيف نأكل ؟ ماذا نأكل ؟ جعلها مُمَهَّدة بأن جعلها منبسطة ، وجعلها ممهدة بأن جعلها ذات تربة ، والتربة أنواع ، هذه التربة كلسية ، وهذه لحقية ، وهذه غُضارية ، وهذه تصلح لهذا الثمر ، وهذه تصلح لهذا الثمر ، نوَّع الله أنواع الترَب ، ونوَّع النبات ، قال : ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾ أي جعل الطرق ، هناك طرق بين البلاد ، هناك طرق بين الجبال ، هناك طرق في الوديان ، هناك طرق بحسب سلاسل الجبال ، وجعل الأنهار طُرقاً أحياناً ، وجعل البحار طرقاً ، فالسبل مطلق الطرق ، البحر طريق ، البحر كما يقولون همزة اتصالٍ بين القارَّات ، لو أن البحر أرضٌ صلبةٌ لاحتجنا إلى تعبيد هذه الطرق ، ولدفعنا مئات ألوف الملايين ، لكن البحر كله طريق ، وتأتي هذه السفينة ، وتحمل ألف مليون طن ، الآن هناك سفن حمولتها مليون طن ، تسير في البحر كأنها جبلٌ شامخ لتبتغي من فضله .. ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ .. الطعام نبات ، القمح نبات ، القمح ، والحمّص ، والعدس ، والبقول ، والمحاصيل ، والخضراوات بجميع أنواعها ، والفواكه بجميع أنواعها ، هذه كلها قوتٌ وطعام ، القوت الشيء الأساسي ، والطعام الشيء الثانوي ، لأن الله عزَّ وجل كرم بني آدم .

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾

[  سورة الإسراء ]

هذه الفواكه ، والثمار ، وهذه الخضراوات ، يمكن أن نعيش دون بعض الخضراوات ، ودون بعض الفواكه ، ولكنها إكرامٌ لنا . 

اللباس .. القطن نبات تصنع منه بعض المنسوجات ، تحتاج إلى خشب لبناء السقف ، هناك نباتٌ مختصٌّ كالأعمدة الطويلة ، تحتاج إلى خشب لصنع الأثاث ، تحتاج إلى خشب لصنع الأبواب والنوافذ ، كله من النبات ، تحتاج إلى شيءٍ تنظِّف به بدنك ، ليف نبات ، تحتاج إلى شيءٍ تنظف به أسنانك ، نبات ، تحتاج إلى شيءٍ تخلل به ما بين أسنانك ، نبات ، تحتاج إلى نبات يكون حاجزاً بينك وبين جارك ، نبات حدودي ، تحتاج إلى نبات للزينة لتُمتع به النظر ، نبات ، تحتاج إلى شجر يكون لك مظلة دائمة الخضرة ، شكلها جميل جداً ، لو تأمَّلت في الأشجار وحدها ، هناك أشجار زينة ، هناك أشجار غابات ، هناك أشجار ثمار ، أشجار أخشاب ، حدثني بعض الإخوة النجارين قال : نتعامل نحن النجارين تقريباً مع مئة نوعٍ من الخشب ، هذا الخشب لا يتأثر بالماء ، بالمطر ، والبرد ، والحرارة ، هذا الخشب قاسٍ جداً لصنع الأثاث ، هذا الخشب طري جداً لصنع بعض الحاجات ، الأخشاب أنواع منوعة .

هناك أخشاب ذات منظر رائع للأبواب الخارجية ، أخشابٌ ذات قسوةٍ بالغة للأثاث ، أخشابٌ ذات ليونةٍ عجيبة ، حدثني بعض الإخوة أن معملاً اشترى بعض الآلات ، فلما وضعها على صبة من الإسمنت تقطَّعت الخيوط ، الآلات جديدة ، استقدموا خبيراً من دولةٍ أجنبية ، فماذا فعل ؟ جاء بأخشـاب التوت ، وجعلها قواعد لهذه الآلات ، قال : لأن خشب التوت له أليافٌ متينةٌ مرنةٌ في وقتٍ واحد ، فصدمة المكوك تمتصُّها هذه القواعد ، هكذا درس في ألمانيا ؛ أن خشب التوت من أجل أن يكون قواعد لآلات النسيج ، السنديان له خشب خاص يمتص الضربة القاسية ، المعاول لها أخشاب خاصة ، أي إذا ذهبت إلى أنواع الخشب شـيءٌ يأخذ بالألباب ، إذا ذهبت إلى أنواع النبات ﴿ مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ﴾ الأصبغة نباتات ، الورود والرياحين أشياء جمالية محضة نباتات ، الغذاء الأساسي نبات ، الدواء نبات ، يكاد يكون النبات أكبر ظاهرةٍ في الأرض دالةٍ على عظمة الله عزَّ وجل .. ﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ .

﴿ أَزْوَاجًا ﴾ لو أن الله سبحانه وتعالى خلق النباتات لمرة واحدة فلما فَنِيَت مات الناس جوعاً ﴿ أَزْوَاجًا ﴾ هذا النبات له بذر ، وهذا البذر يُزْرَع ، وليس هناك حدود لإمكانية التوالد ، في الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، دائماً نستقدم الأشتال ، نستقدم الفسائل نزرعها ، بقدر جهد الإنسان يزرع هذه الأرض ، فإذا رأيتم أرضاً قاحلةً فهذا دليل كسل الإنسان ، الإنسان كسول ، لكن الله سبحانه وتعالى جَهَّزَ كل نبات بشيءٍ يكون استمراراً له ، كذلك الحيوان يتوالد ، الأبقار تتوالد ، الدجاج يتوالد ، الأغنام تتوالد ، وكل شيءٍ يتوالد ﴿ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ﴾ .. من أجل أن تأكلوا ، وأن تشكروا الله عزَّ وجل على هذا النبات الذي زوَّدكم به . ﴿ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ﴾ تتعلق حياتك بهذا الحيوان الذي تأكله ، وتتعلق حياة الحيوان بهذا الكلأ الذي ينْبُت ، أَلِفَ الناس أن يقولوا : ارتفعت أسعار مشتقات الحليب لجَدَبِ البادية ، فإذا جاءت الأمطار وفيرة في البادية تهبط أسعار هذه المشتقات من سمنٍ وجبنٍ لوجود الكلأ ﴿ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ﴾ أي حاجة الإنسان إلى الكلأ لا إليه بالذات ، ولكن إلى الحيوان الذي يعتمد عليه في غذائه .. ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ .. لأصحاب العقول ، وسُمَّيَت العقول نُهى لأنها تنهى أصحابها عن فعل المنكرات ، من هو العاقل ؟ هو الذي في رأسه عقل يحجزه عن المعاصي ، يحجزه عن السقوط ، يحجزه عن أن ينحرف ، يحجزه عن أن يعصي الله ، يحجزه عن أن يأخذ ما ليس له ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ أصحاب العقول ، فهذا الذي يرى كل هذه النعم ، وكل هذه الآيات ، ولا يفكر فيها ، هذا إنسانٌ ليس من أولي النهَى ، وليس من أولي الألباب ، وليس من أصحاب العقول ..

﴿  إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ﴾

[ سورة المدثر ]

أي من احتقار العقل أن تستخدمه في أغراض دنيئة ، أن تستخدمه في الإيقاع بين الناس ، أن تستخدمه في جَمع الدِرهم والدينار ، ولكن العقل إذا عرفت الله به لقد شرفته بهذا .. 

 

الأرض أصل خلق الإنسان ومآل رجوعه ومبدأ بعثِه :


﴿ مِنْهَا ﴾ من هذه الأرض ﴿ خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ .. أولاً على سبيل المثال التاريخي سيدنا آدم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام خُلِقَ من تراب ، فإذا قال الله عزَّ وجل : ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا ﴾ أي منها خلقنا أباكم آدم ، وأنت من ذُرِّيَتِهِ ، هذا معنى أول .

وهذه النطفة التي يتخلَّق منها الإنسان إذا لقحت البويضة أساسها من التراب ، من الغذاء ، لولا أن الأب تغذَّى بكل أنواع الثمرات ، والمحاصيل ، والبقول ، والخضراوات ، والفواكه ، لما تشكَّل هذا الحيوان المنوي ، هذا الغذاء أصله من التراب ، هذا المعنى الثاني .

إما أنا خلقنا أباكم آدم من التراب ، أو أن الحوين المنوي الذي هو أصل الحياة إنما أصله من التراب ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ﴾ كل الطموح ينتهي في القبر ، كل الثروات تنتهي في القبر ، كل الآمال تنتهي في القبر .. " عش ما شئت فإنَّك ميت ، وأحبب ما شئت فإنك مفارق ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به " .

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته      يوماً على آلة حدباء محمولُ

فــــــإذا حــــملت إلى القبور جنازة       فاعلـــــم بأنك بعـدها محمـولُ

* * *

﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ﴾ وحينما يوضع الإنسان في قبره أول مرة يقول الله عزَّ وجل :

يا بن آدم أتدري ماذا يقول ملَك الموت وأنت نائم على خشبة الغسل ؟ ينادي عليك ويقول : يا بن آدم أين سمعك ما أصمَّك ؟! أين بصرك ما أعماك ؟! أين لسانك ما أخرسك ؟! أين ريحك الطيِّب , ما غيَّرك ؟! أين مالك ما أفقرَك ؟! فإذا وُضِعْتَ في القبر نادى عليك الملك : يا بن آدم , جمعتَ الدنيا أم الدنيا جمعتْك ؟ يا بن آدم تركت الدنيا أم الدنيا تركتك ؟ يا بن آدم استعددت للموت أم المنيَّة عاجلتْك ؟ يا بن آدم خرجت من التراب وعدتَ إلى التراب ؛ خرجت من التراب بلا ذنب , وعدتَ إلى التراب وكلُّك ذنوب , فإذا ما انفضَّ الناس عنك , وأقبل الليل لتقضي أول ليلة صبحها يوم القيامة , ليلة لا يُؤذَّن فيها للفجر, لم يقل المؤذِّن يومها الصلاة خير من النوم , انتهت الصلاة , انتهت العبادات , إنَّ الذي سيؤذِّن فجرها هو إسرافيل , أيتها العظام النخرة , أيتها اللحوم المتناثرة , قومي لفصل القضاء بين يدَي الله رب العالمين , إن الله يقول : ونُفِخَ في الصور فجمعناهم جمعًا ، ويقول أيضًا : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدًا ,

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن أبي الدرداء :

(( خطبنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ جمعةٍ فقال : أيُّها الناسُ ! توبوا قبلَ أن تموتوا ، وبادروا بالأعمالِ الصالحةِ قبل أن تُشغلوا ، وصِلوا الذي بينكم وبينَ ربِّكم بكثرةِ ذكرِكم إيَّاه تسْعدوا ، وأكثروا الصدقةَ تُرزقوا ، وأْمُروا بالمعروفِ تُحصنوا ، وانْهوا عن المنكرِ تُنصروا ، أيُّها الناسُ ! إن أكيسكم أكثركم للموت ذكرا، وأحزمكم أشدكم استعداداً له، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لوقت النشور. ))

[ ابن مردويه والبيهقي عن أبي جعفر المدايني ]

﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ هذا يوم البعث والنشور .

 

إخفاء فرعون أغراضه الدنيئة تحت ستارٍ من القيم الزائفة :


﴿ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾ .. ﴿ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا ﴾ لفرعون ، العصا ، واليد البيضاء ، وكيف أن هذه العصا أكلت كل الحيَّات التي صنعها سحرة فرعون ، كل هذه الآيات رآها فرعون ، وسمع البيان : ﴿ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ طبعاً هذه الآية ملخَّص لبيان طويل ، سمع البيان من سيدنا موسى ﴿ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا ﴾ آيات بيانية ، وآيات إعجازية .. ﴿ فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾ ..هذا هو الكفر ، التكذيب والإعراض ، والإيمان التصديق والإقبال ﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ طبعاً كل إنسان عندما يتكلم يتخذ كلاماً عليه مسحة منطق ، أو مسحةٌ من القيم ، لأن الإنسان لا يتكلَّم الحقيقة غالباً ، يخفي أغراضه الدنيئة تحت ستارٍ من بعض القيم الزائفة .. ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ هذا سحر ، هذه ليست معجزات ، هذا سحر تعلَّمته أنت ، ونحن عندنا سحرة يقفون في وجهك ، أنت لست نبيًّا ، وهذه ليست آيات دالة على نبوَّتك ، إنما هي ألعاب سحرية قُمت بها أمامنا ، ونحن قادرون على أن نرد عليك بسحرٍ مثله ، هكذا قال فرعون ..

 

محاولة فرعون مجابهة آيات موسى بسحرتِه :


﴿ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى﴾ أي مكان متوسِّط يأتيه جميع الناس،  و: ﴿سُوًى﴾ مستوٍ ، مكان منبسط ، فهو متوسط من حيث الموقع ، ومنبسط من حيث الطبيعة ، يا موسى أنت ساحر ، وأنا عندي سحرة مهرة سوف يقفون في وجهك ، وسوف يردُّون عليك ، لذلك اجعل بيننا وبينك موعداً ، الموعد أي وعداً ، بعضهم قال : الموعد اسم زمان .. ﴿ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً ﴾ الموعد إما أن يأتي مصدراً ميمياً ، أي وعداً ، وإما أن يأتي اسم زمان ، قال :

﴿ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) ﴾  

[  سورة هود  ]

وإما أن يأتي اسم مكان ، موعدهم جَهَنَّم ، اسم مكان ، أو اسم زمان ، أو مصدر ميمي ، يرجِّح علماء التفسير هنا أن تكون مصدراً ، لأن كلمة :﴿ لاَ نُخْلِفُهُ ﴾ قرينةٌ دالةٌ عليه إذاً : ﴿ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى﴾ مكان مستوٍ ومتوسِّط .. 

 

اجتماع سحرة فرعون يوم الزينة لمجابهة موسى عليه السلام :


﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ﴾ .. إما أنه يوم العطلة الرسمية ، أو يوم السوق ، كان في كل بلد يومٌ للتبادل التجاري ، كما هي العادة في بعض الأرياف أو في معظم الأرياف ، سوق الأربعاء مثلاً ، سوق الأحد ، سوق الجمعة الذي بجوارنا ، فهذا يوم الزينة إما أنه يوم السوق ، أو يوم العطلة ، حيث الناس يتزيَّنون ، يرتدون أجمل ثيابهم .. ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ وأنسب وقتٍ وقتُ الضُحى ، الشمس ساطعة ، والأمور واضحة ، والناس مرتاحون . ﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى﴾ جمع السحرة من أطراف البلاد ، ومنَّاهم ، وأغراهم بعطاءاتٍ لا حدود لها ، وأغراهم أن يقرِّبَهُم منه فيجعلهم من وزرائه ﴿ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى *قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾ .. إنه نبيٌ مرسل ، ومعه معجزة .. ﴿ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ﴾ يسحقَكُم بالعذاب .. ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ .. وهذه آية عامة ، على الإنسان ألا يفتري ، لا يتهم اتهامات باطلة ، لا يزوِّر الحقائق ، لا يتكلم بشيء وهو غير مقتنع به ، لا يردد الأقوال الباطلة .

 

اختلاف سحرة فرعون في أمر موسى واتهامه باتهامات باطلة :


﴿ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ .. أي فرعون والسحرة ﴿ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ أي عقدوا الاجتماعات ، واتفقوا فيما بينهم على خطط معيَّنة من أجل إحباط هذه الرسالة .. ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾ اتفقوا واستقر رأيهم مجتمعين على هذه المَقولة .. ﴿ إِنْ هَذَانِ ﴾ موسى وهارون .. ﴿لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ ﴾ طبعاً إنْ هذان ، إنّ حرف مشبَّه بالفعل ، أما إنْ فمخففة ، أي نعم هذان لساحران في أوجه الإعرابات ..﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا ﴾ الهدف مادي ، دائماً إذا أراد الكافر أن يتَّهم المؤمن يُسقط الأهداف المادية على دعوته ، يسقط الأهداف الدنيوية ، المكاسب المادية على دعوته ، ﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ﴾ يريدان المُلك ، يريدان أن يحلا وقومهما محلكم .. ﴿ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ في الحياة ، إذاً هم يتصوَّرون أن طريقتهم في الحياة مُثلى ، لذلك يقول ربنا عزَّ وجل :

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾

[ سورة الكهف ]

فهذا هو الضلال البعيد أن تكون على خطأ كبير ، وتتوهَّم أنك على صواب .. " من الناس من يدري ويدري أنه يدري فهذا عالمٌ فاتبعوه ، منهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهلٌ فعلّموه ، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا شيطانٌ فاحذروه " .. فهؤلاء ظنوا أنَّهم على طريقةٍ مُثلى ، وعلى شيءٍ بديع ، وعلى صراطٍ مستقيم ، وأن موسى له أهداف مادية يريد أن يحل هو وأخوه وقومهما محل فرعون ، أسقطوا على دعوته الطابع المادي ، وطابع المكاسب الأرضية . ﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً ﴾ يا أيها السحرة أجمعوا كيدكم ، كونوا يداً واحدة ، ثم ائتوا صفاً ..  ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ .

 

اعتراف سحرة فرعون بنبوة موسى وإيمانهم به :


لكن السحرة فيما تروي الكتب تأدبوا مع موسى ، فقالوا : ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى – أنت الخيار لك -  إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ اختر .. ﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُوا ﴾ أنتم .. ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ .. أتوا بحبالٍ ، فرغوها من الداخل ، وضعوا فيها زئبقاً ، لوَّنوها بألوان الأفاعي ، وضعوها على أرض حارة ، فلما حمي الزئبق تمدد فتحرك فخُيَّل إلى الناس أنها تسعى ، شيء عجيب ، هو نبي ومعه آية ، وهذا الحبل يسعى ، يتحرك وحده .. ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ خاف ..﴿ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ ﴾ ألقِ العصا .. ﴿ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ﴾ .. فإذا هذه العصا تنقلب في ثانيةٍ واحدة إلى أفعى عظيمة تأكل كل هذه العصي والحبال .. ﴿ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ مبدأ عام ، لا يُفلح الساحر حيث أتى ، السحرة علماء بالسحر ، صنعوا حبالاً ، وزيَّنوها ، ولوَّنوها ، ووضعوا داخلها زئبقاً ، لكن هذا الذي رأوه أفعى حقيقية !! ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ .. هذا ليس سحراً ، هذه نبوة ، لذلك :

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[  سورة فاطر  ]

تعلَّم من أجل أن تخشى الله ، لا تعرف حقيقة الدين إلا إذا كنت متعلماً ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( عن أبي أمامة الباهلي  : ذُكِرَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رجُلانِ؛ أحدهما عابدٌ، والآخَرُ عالِمٌ ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم : فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ : إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ ليصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخيرَ . ))

[ صحيح الترمذي :خلاصة حكم المحدث : صحيح ]


المسافة بين النبي الكريم وبين آخر مؤمنٍ هي نفسها بين العالم والعابد :


(( فقيهٌ واحدٌ  أشدُّ على الشَّيطانِ من ألفِ عابدٍ . ))

[ أخرجه ابن ماجة بسند ضعيف ]

(( اغْدُ عَالِمًا ، أَوْ مُتَعَلِّمًا ، أَوْ مُسْتَمِعًا ، وَلا تَكُنِ الرَّابِعَ فَتَهْلِكَ . ))

[ أخرجه الدارمي بسند ضعيف ]

هؤلاء علماء بالسحر ، عرفوا أن هذا ليس بسحر ، هذه نبوَّة ..

 

تهديد فرعون باستعمال القوة مع من آمن بإله موسى :


﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى* قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ عليكم أن تستأذنوني .. ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ هو ساحر ، هو الذي علَّمكم هذا السحر ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ﴾ قال فرعون : ستعلمون من هو أشد عذاباً أنا أم رب موسى .. ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ لنا عودة إلى هذه الآيات الأخيرة ، ولا سيما موقف السحرة الأخير في الدرس القادم إن شاء الله تعالى .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور