الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
نِعَمُ اللهِ على بني إسرائيل :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة طه .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ .. بعد أن نجَّى الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل من عدوِّهم فرعون يذكرهم في هذه الآيات البيِّنات بنعمه المتتالية فقال : ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ﴾ .
الإنسان العاقل يفهم الحكمة من المصائب :
ما علاقتنا بهذه الآية ؟ ما منا واحد إلا وقد جاءته من حين إلى آخر مصيبة ، ربما دعا الله عزَّ وجل فصرفها عنه ، يجب أن يذكر دائماً أن الله عزَّ وجل تفضَّل ، وصرفها عنه ، ويجب ألا ينسى فضل الله ، وألا يعود إلى ما كان عليه ، ربما تأتي المصيبة لتعيد الإنسان إلى جادة الصواب ، ربما تأتي المصيبة لتعقد الصلة بين العبد وربه عزَّ وجل ، ربما تأتي المصيبة لتحمل المرء على التوبة ، ربما تأتي المصيبة لِتُزَهِّدَ في الدنيا ، ربما تأتي المصيبة لتقرِّب من الله عزَّ وجل فإذا جاءت ، ثم صُرِفَت بفضل الله ونعمته لا ينبغي للرجل المؤمن أن ينسى فضل الله عليه ، فإذا نسي جاءته أخرى ، وإذا نسي في الثانية جاءته ثالثة ، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد من هذه الآية أن يذكِّر المؤمنين على الدوام أنه إذا جاءت مصيبة ، أو إذا لاح شبح مصيبة فالهدف الكبير أن تقرِّبك من الله عزَّ وجل ، الهدف الكبير أن تحملك على التوبة ، أن تطهرك من أدرانك ، أن تعقد صلةً بينك وبين الله ، أن تجعلك أهلاً لرحمته ، أن تجعلك أهلاً لجنَّته ، فإذا جاءت ثم صُرِفَت بفضل الله ونعمته لا ينبغي للمرء أن ينسى ، لا ينبغي أن يُعْرِض ، لا ينبغي إذا ذهبت عنه المصيبة أن يعود إلى ما كان عليه ، لذلك قيل : " من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر "، أي إن أتت المصيبة ، ثم زالت ، فعاد الإنسان إلى ما كان عليه من تفلُّت ، من معاص ، من مخالفات ، من تقصير ، من حب للدنيا ، من انكباب عليها ، إذا جاءت المصيبة ، وصُرِفَت بفضل الله ، ولم تحدث الأثر المطلوب فلابدَّ من الثانية ، ولابدَّ من الثالثة ، إلى أن يحدث الأثر المطلوب ، فلذلك الإنسان العاقل يفهم على ربه ، ما أرسلتها لك يا عبدي إلا لتعود إليّ ، ما ضيَّقت عليك إلا لتتوب ، ما حملتك على المكاره إلا لتحمل نفسك على الطاعات ، فلذلك هذه الآية يمكن أن نفهم بها تلك القصة ، والأعمق من ذلك أن نطبِّقها على أنفسنا .
مناجاة الله لموسى عليه السلام أصبغت عليه صفة أنه كليم الله :
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾ .. أي سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام وعده الله سبحانه وتعالى بالمُناجاة في جبل الطور ، فاختار من أصحابه سبعين رجلاً لميقاتنا ، ففي هذا الوعد بالمناجاة ، وفي أثناء المناجاة نزلت التوراة ، على مَنْ يعود هذا بالنفع ؟ على المؤمنين ، على أتباع سيدنا موسى ، من هنا جاءت الآية : ﴿ وَوَاعَدْنَاكُم﴾ يا بني إسرائيل ، لأن نفع التوراة عائدٌ إلى قوم سيدنا موسى ، ونفع المناجاة عائدٌ إلى قوم سيدنا موسى ، فجاءت الآية بصيغة الجَمع : ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾ الطور هو الجبل ، الجبل الذي تمَّت فيه المناجاة ﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾ الأيمن صفة لجانب ، إذا قُلت : جانب الطور الأيمنِ فقد وصفت الطور ، فإذا قلت : جانب الطور الأيمنَ فقد وصفتَ الجانب ، أي من الجانب الأيمن من جبل الطور ..﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ .. المَنُّ طعامٌ يشبه العسل ، وكذلك السلوى نوعٌ من أنواع الطيور ، طيِّبة المذاق ، سهلة الهضم ، هكذا جاء في بعض التفاسير ، المقصود أن الله سبحانه وتعالى خصَّهم بطعامٍ نفيس ، وبنبي عظيم ، ووعد نبيَّهم بالمناجاة في جانب الطور الأيمَنَ ، والمناجاة أصبغت على هذا النبي الكريم الصفة الثابتة ، وهي أنه كليمُ الله .
الأمر بالأكلِ والنهي عن الإسراف والطغيان :
﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ ﴾ .. كُلْ من دون أن تطغى ، من دون أن تُفْسِد الحياة ، من دون أن تستعلي على الناس ، من دون أن تأخذ أكثر مما يجب ، من دون أن تقصِّر في الحقوق ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ ﴾ الطغيان الخروج عن الطريق المستقيم ، مجاوزة الحدود ، من تجاوز الحدود فهو من الحضرة مطرود ، الطغيان أن تأخذ ما ليس لك ، الطغيان أن تقول ما ليس لك بحق أن تقوله ، الطغيان أن تعتدي على الآخرين ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ ﴾ إيَّاكم أن تتنافسوا في هذه الطيبات ، فتأخذوها من طريقٍ غير صحيح ، تأخذوها من غير حِلِّها ، تستعملوها في غير ما صُنعت له ، العنب من الطيِّبات ، الطغيان فيه أن تجعله خمراً ، فكل مجاوزةٍ للحدود في الكَمِّ ، والنوع ، وطريقة الكسب ، وطريقة الإنفاق ، هو من الطغيان ، فالإنسان إذا اتبع الشرع الحنيف في تعامله مع الأشياء ، وفي تعامله مع الناس ، وفي تعامله مع المواد ، حقق الهدف من وجوده على وجه الأرض . ﴿ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ ﴾ لأنكم إن طغيتم فيه انقطعتم عن الله عزَّ وجل ، فإذا انقطعتم عن الله عزَّ وجل وقعتُم في العمى والشقاء لقول الله عزَّ وجل : ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ لا يضلُّ عقله ولا تشقى نفسه ، من اتبع هداي ، من ترك الهُدى الإلهي ضلَّ عقله ، وشقيت نفسه ، وأهلك نفسه ، فلذلك حينما يطغى الإنسان ينقطع عن الواحد الديَّان ، فإذا تمّ انقطاعه عن الله عزَّ وجل أصبح شقياً ، شقي بالبعد عن الله عزَّ وجل , السعادة كل السعادة أن تكون قريباً من الله عزَّ وجل ، والشقاء كل الشقاء أن تكون بعيداً عنه ، لذلك حينما يلعن الله سبحانه وتعالى إنساناً بمعنى يبعده عنه ، ومتى يبعده عنه ؟ إذا خرج عن الطريق الصحيح ، لذلك الإنسان ليحرص حرصاً بالغاً على ألا يسقط من عين الله .
فليتك تحــلو والحيـــــــاة مـريــــــرة وليتك ترضى والأنام غِضابُ
ولـيت الذي بيني وبينك عامـــــــر وبيني وبين العـالمـين خــرابُ
إذا صح منك الوصل فالكل هين وكل الـذي فوق التراب تــرابُ
* * *
لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض أهون من أن يسقط من عين الله ، طغيانه في الحياة يسقطه من عين الله ، اعتداؤه على الآخرين يسقطه من عين الله .
يروى كما جاء في بعض الكتب أن حجراً عبد الله خمسين عاماً ، فضجّ بالشكوى إلى الله عزَّ وجل ، قال : " يا رب عبدتك خمسين عاماً ، ثم تضعني في أُسِّ كنيف ؟! " فتروي القصة أن الله عزَّ وجل قال له : " تأدب يا حجر إذ لم أجعلك في مجلس قاضٍ ظالم " ، تأدب ، أن تكون في أُسِّ كنيف أفضل ألف مرة من أن تكون في مجلس قاضٍ ظالم ، فالإنسان إذا طغى في أي مجال من مجالات الحياة يغضب الله عليه ، وإذا غضب الله عليه فقد هوى ، سقط في الشقاء ، وأهلك نفسه وانتهى .
الطغيان سببٌ لجلبِ غضب الله :
﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ﴾ .. لذلك في الحياة شيئان : إذا كان الله راضياً عنك فأنت أسعد أهل الدنيا ، وإذا غضب الله عنك ، لو رضي عنك الناس جميعاً فأنت أخسر من في الأرض ، لو رضي الناس عنك جميعاً ، لو رفعوك إلى الأوج ، لو عظَّموك ، لو صدقوك ، إذا غضب الله عنك فهذا الذي يغضب الله عليه قد هوى وانتهى الأمر ﴿ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ من الهوي أي السقوط ، ومع السقوط الهلاك ، ومع الهلاك الشقاء ، لذلك آياتٌ كثيرة تبيِّن أنه :
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
[ سورة الأحزاب ]
لذلك :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾
[ سورة المؤمنون ]
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)﴾
[ سورة الأعلى ]
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
[ سورة المطففين ]
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
[ سورة الصافات ]
هذا هو الفوز العظيم ، وهذا هو النجاح ، وهذا هو الفلاح .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)﴾
[ سورة الأحزاب ]
﴿ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول : << عجبت لثلاث ، عجبت لمؤَمِّلٍ والموت يطلبه - ملك الموت على الأبواب ، وهو يفكِّر في أمالٍ عريضة لا تنقضي في عشرين عاماً ، الكفن قد نُسِج وهو يفكر بتغيير هذا البيت ، وتصميم بيتٍ آخر وَفْقَ أحلامه التي كان يحلم بها - عجبت لثلاث ؛ لمؤملٍ والموت يطلُبه ، وغافلٍ وليس بمغفولٍ عنه - هو غافل ، لكن الله ليس بغافل ، هو يظن أن الله غافل ، ولكن الله ليس بغافل - وضاحكٍ ملء فيه ، ولا يدري أساخطٌ عنه الله أم راض ؟ >> كيف يضحك الإنسان قبل أن يتأكد أن الله راضٍ عنه ؟ كيف يضحك ؟ كيف يقر له قرار ؟ كيف ينام ؟ كيف يغمض له جفن ؟ كيف ؟ ﴿ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ .
سعَةُ مغفرة الله عز وجل للتائبين :
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ يا لروعة القرآن ! كلما خفنا من بعض الآيات فُتِحَ باب التوبة ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ﴾ .. غَفَّار على وزن فعَّال ، صيغة مبالغة لاسم الفاعل ، شديد المغفرة ، أي يغفر دائماً ، يغفر كل ذنب ، ومهما تعاظمت الذنوب ..
(( عن أنس بن مالك قال اللهُ تعالى : يا بنَ آدمَ ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا بنَ آدمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي يا بنَ آدمَ ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً . ))
[ صحيح الترغيب حسن لغيره أخرجه الترمذي ]
هكذا في الحديث القدسي ..
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
[ سورة الزمر ]
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ﴾ شديد المغفرة ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ..
(( للَّهُ أفرَحُ بتوبةِ التَّائبِ مِنَ الظَّمآنِ الواردِ ومنَ العقيمِ الوالِدِ ، ومنَ الضَّالِّ الواجدِ ، فمَن تابَ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا أنسى اللَّهُ حافِظيهِ وجوارحَهُ وبقاعَ الأرضِ كُلِّها ، خطاياهُ وذنوبَهُ. ))
[ ضعيف الجامع : خلاصة حكم المحدث : ضعيف ]
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ﴾ غفور رحيم من دون شروط نوعٌ من الضلال ، يقول لك : " أخي الله غفورٌ رحيم " ، مقيمٌ على معصيته ، ويقول لك : الله غفور رحيم ، مقيمٌ على هذا الذنب ، مجترحٌ لهذه الخطيئة ، مُقَصِّرٌ في هذه الطاعة ، ويقول لك : الله غفورٌ رحيم ، لا ، القرآن دقيق ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ ﴾ هذه اللام للتخصيص . ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمَن ﴾ إنّ حرف توكيد ، إنّ حرف مشبَّه بالفعل ، ولكن يفيد التوكيد ، إذا قلت : الله عليمٌ ، أو قلت : إنّ الله عليمٌ ، جملة ( إنّ الله عليمٌ ) آكدُ من جملة : ( الله عليمٌ ) ، ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ﴾ هذه اللام لام المُزحلقة ، زُحلقت من اسم إن إلى خبرها ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ﴾ توكيدان ، ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ﴾ ، ولكن : ﴿ لِمَنْ ﴾ هذه اللام للتخصيص ﴿ لِمَنْ تَابَ ﴾ والتوبة كما تعلمون نَدَمٌ ، وإقلاعٌ ، وعزيمةٌ ، ندمٌ على ما مضى ، وإقلاعٌ عن الذنب في الحاضر ، وعزيمةٌ على ألا تقع في مثل هذا الذنب ما حييت ، هذه هي التوبة ، والتوبة تحتاج إلى علم ، لذلك الجاهل لا يتوب ، ذنب المنافق كالذبابة ، وذنب المؤمن كالجبل يجثم على صدره ، الجاهل لا يتوب ، أما العالم فهو الذي يتوب ، لذلك احضر مجالس العلم كي تعرف أين أنت من الدين ؟ هل أنت في المقدمة أم في الوسط أم في المؤخرة ؟ هل أنت على الصراطٍ المستقيم أم أنك بعيدٌ عنه ؟ كيف تتوب ؟ يجب أن تعلم موقعك من الدين ، فالتوبة تحتاج إلى علمٍ أولاً ، ومن لوازمها ندمٌ على ما مضى ، وإقلاعٌ في الحاضر ، وعزيمةٌ في المستقبل .
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ ﴾ هنا قال بعض المفسرين : " إذا أُطْلِقَت التوبة انصرفت إلى التوبة من الشرك " ، إذا كان هناك تعلُّق بالسوَى ، اعتماد على ما سوى الله ، اعتماد عليه ، إذا عقدت الأمل على جهةٍ غير الله عزَّ وجل فهذا الشرك يحتاج إلى توبة ، إذا وضعت ثقتك في غير الله فهذا شركٌ ويحتاج إلى توبة ، إذا خِفْتَ من غير الله فهذا شركٌ ، ويحتاج إلى توبة ، إذا رَجَوْتَ غير الله فهذا شركٌ ، ويحتاج إلى توبة ، فإذا أُطلقت التوبة انصرفت إلى التوبة من الشرك ، وسياق هذه الآية يُغَلِّبُ أن هذه التوبة من الشِرك ، لمن تاب من الشرك بالله وآمن بالله .
تلازم الإيمان مع العمل الصالح :
﴿ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ ما قيمة الإيمان من دون العمل الصالح ؟ إنه كلامٌ فارغ ، ما قيمة معتقدك إن لم يترجم إلى سلوك ؟ إلى انضباط ؟ إلى التزام ؟ ما قيمة أفكارك النيِّرة إن بقيت في الدماغ ولم تنقلب إلى مشاعر ؟ وإلى مواقف ؟ وإلى أخلاق ؟ إذاً : ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ العمل الصالح يشمل تطبيق الأوامر الإلهية في العبادات ، وفي المُعاملات ، وفي الأخلاق ، فيما بينك وبين الله ، وفيما بينك وبين الناس ، في تنفيذ الأوامر والبُعد عن النواهي ، لذلك قال له : " عظني " ، قال : " احذر أن يراك حيث نهاك ، وأن يفتقدك حيث أمرك " ، هذه موعظة .
من بقي مستمراً على توبته وإيمانه وعمله الصالح أصبح إنساناً مهتدياً :
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ .. بعض المفسرين حمل هذه الكلمة على الثبات ، تاب ، وآمن ، وعمل صالحاً ، وبقي كذلك إلى نهاية الحياة حتى عدَّ مهتدياً ، فلذلك عندما يتوب الإنسان إلى الله عزَّ وجل يجب أن يعقد العزيمة على أنه يعامل خالق الكون ، فهذه التوبة توبةٌ نصوح ، تاب إلى الله ، وانتهى الأمر ، هو يعامل خالق الكون ، هذا الذي ينقُضُ توبته كالمستهزئ بربِّه .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)﴾
[ سورة التحريم ]
﴿ ثُمَّ اهْتَدَى﴾ أي بقي على ذلك مستمراً على توبته ، وعلى إيمانه ، وعلى عمله الصالح كلِّ حياته حتى عُدَّ مهتدياً ، أما هذا الذي يتوب وينقض ، يؤمن ويشرك ، يعمل صالحاً ، ويعمل سيئاً ، فهذا ليس مهتدياً ، فالعبرة من كلمة : ﴿ ثُمَّ اهْتَدَى﴾ الاستمرار ، أن تكون مستمراً على الهدى ، مستقراً في الإيمان ، إذاً : ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ .
استعجال موسى قومه لمناجاة ربه :
الآن بدأت فِقْرَةٌ جديدة في القصة ، الله سبحانه وتعالى واعَدَ سيدنا موسى في الميقات ، واعده في جبل الطور ليناجيه ، فاختار هذا النبي العظيم من قومه سبعين رجلاً من عَلِيَّةِ القوم ، اختارهم ليذهب معهم إلى المناجاة ، ليتلقَّوا عنه التوراة ، وذهبوا إلى جبل الطور على موعدٍ مع الله سبحانه وتعالى ، يبدو أن سيدنا موسى لما وصل قومه إلى سفح الجبل سبقهم إلى الجانب الأيمن من الجبل ليسعد باللقيا ، ويسعد بالمناجاة ، فعاتبه الله سبحانه وتعالى عتاباً رقيقاً فقال : ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى﴾ لماذا سبقتهم ؟ اختلف العلماء في هذا ، بعضهم قال : " أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفت نظر هذا النبي الكريم إلى أنه لا ينبغي أن تسبق قومك " ، من أصول القيادة أن تكون معهم ، أن ترعى شؤونهم ، لا أن تسبقهم ، توجيهٌ لطيف إلى كل من يتولى أمر الناس ، إلى معلمٍ في صَفِّه ، إذا ذهبت بهم إلى نزهةٍ فلا ينبغي أن تتركهم ، أن تسبقهم إليها ، لعلهم ينقطعون ، لعلهم يحرجون ، توجيهٌ لطيفٌ جداً ، ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى﴾ ما الذي جعلك تتعجل إليّ ؟ طبعاً الذي أعجله إلى الله شوقه ، أعجله إلى الله هذا اللقاء الذي لا يوصف ، مع مَنْ ؟ مع خالق الكون .
الاستعجال إلى طلب رضا الله أمر مطلوبٌ :
﴿ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي ﴾ هم قريبون مني ، على الطريق ، في طريقهم إليك يا رب ﴿ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ .. لترضى عني ، استنبط بعض العلماء من هذه الآية إذا عَجَّل الإنسان إلى الصلاة يرضى الله عنه .. عن عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك :
(( أفضلُ الأعمالِ الصَّلاةُ لوقتِها ، و بِرُّ الوالديْنِ ، والجِهادُ في سبيلِ اللهِ. ))
[ صحيح الجامع : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
إذا عَجَّل في أداء فريضة الحج ، إذا عَجَّل في دفع الزكاة ، إذا عجّل إلى مجالس العلم ، إذا عجّل بالعمل الصالح ، كلما خطر له عملٌ صالح ليعجل إليه ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة :
(( بادِروا بالأعمالِ سبعًا ، هل تنتِظرونَ إلَّا مرضًا مُفسدًا ، و هَرمًا مُفندًا ، أو غنًى مطغيًا ، أو فَقرًا مُنسيًا ، أو موتًا مُجهِزًا ، أو الدَّجالَ ، فشرُّ مُنتظَرٍ ، أو السَّاعةُ ، و السَّاعةُ أدهَى و أمَرُّ ))
[ السلسلة الضعيفة : خلاصة حكم المحدث : ضعيف ]
بادروا أي أسرعوا ، هذه الدنيا ماذا تخبِّئ ؟ كل يوم ينشق فجره ويخاطب ابن آدم : " يا بن آدم أنا خلقٌ جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزوَّد مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة " ، هذه الأيام تمضي ، وتمضي ، وتَمضي ، لابدَّ من يومٍ نفاجأ بشيء طرأ على صحَّتنا ، لأنّ الله سبحانه وتعالى تفرَّد بالبقاء ، وكل مخلوقٍ يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت" ، لابدَّ من الموت ، فالإنسان ولو كان شاباً لابدَّ أن يأتي يومٌ قريبًا كان أم بعيدًا يفاجأ بطارئ يطرأ على صحَّته ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا ..)) احفظ القرآن ، تعلم تفسيره ، صلِّ قيام الليل ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) ﴾
[ سورة الأحزاب ]
احضر مجالس العلم ، أنفق زكاة مالك ، حُجَّ البيت ، افعل الصالحات ، قدِّم خدمةً للناس تبتغي بها وجه الله .. بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ .. ماذا تخبِّئ الدنيا من مفاجآت ؟ هناك مفاجآت تخبئها الدنيا ولكن كلها سلبية ((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ...)) قد تكون في بحبوحة ، ثم يأتي بعد البحبوحة فقرٌ مدقع ، قد تكون الأمور ميسَّرة فإذا بالأمور تصبح معسَّرة ..((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ...)) غنى على جهل يجعلك تطغى ، ثعلبة حمامة المسجد حينما صار غنياً ، وجاءه رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يطالبه بالزكاة قال له : قل لصاحبك ليس في الإسلام زكاة ..((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ...)) قد يأتي المال ليهلك صاحبه ، قد يأتي المال ليَحْمِلَ صاحبه على الكفر ((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا )) يفسد عليك حياتك (( أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) إذا عرف الإنسان الله عزَّ وجل فهو من خيرٍ إلى خير ، ومن زيادة إلى زيادة ، ومن إقبالٍ إلى إقبال ، ومن رفعةٍ إلى رفعة ، ومن تمكينٍ إلى تمكين ، فإذا أمضى حياته في المعاصي من ذُل إلى أشد ، ومن ضياعٍ إلى أشد ، وهكذا ، خطٌ بياني ، إما أنه صاعد ، وإما أنه نازل ، فالمؤمن له خطٌ بيانيٌ صاعد ، إذاً قال : ﴿ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ الاستعجال في الصلاة محمود ، الاستعجال في الزكاة محمود ، الاستعجال في الحج محمود ، الاستعجال في حضور مجالس العلم محمود ، قد تكون أبرز فكرةٍ في الدرس موجودة في أوَّله ، تأتي بعد ربع ساعة مفتاح الدرس ضاع منك ، فالاستعجال محمود في حضور مجالس العلم.
فتنة قوم موسى بالسامري :
﴿قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ .. سيدنا موسى يناجي ربَّ العزّة إذَا به يبَلَّغ أن قومه قد فُتِنوا ، ما هذا الخبر السيّئ ؟ الحياة كلُّها متاعب ، المناجاة والسعادة في الإقبال على الله عزَّ وجل ، الانغماس في نعيم القُرب هذا مدَّخرٌ لك في الآخرة ، درسٌ بليغ ، ولكنَّك في الدنيا مكلَّفٌ أن تكون في خدمة الخلق ، خدمة الخلق مقدَّمةٌ على حظوظ نفسك العُليا ، لا أقول الدنيا بل العُليا ، إذا كنت مع أصحابك فكن معهم دائماً ، حُلَّ مشكلاتهم ، هو في المناجاة قال له الله سبحانه وتعالى : ﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ ما القصَّة ؟ ماذا حصل ؟ عندئذٍ قطع هذا النبي العظيم مناجاته ، وعاد سريعاً إلى قومه .
رجوع موسى إلى قومه غضبان أسفًا :
﴿ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ .. قال علماء اللغة : " كلمة غضبان على وزن فَعْلان ، وهي صفةٌ مشبهة باسم الفاعل ، والصفة المشبَّهة باسم الفاعل على وجه الثبوت دائماً ، بينما اسم الفاعل على وجه الحدوث " ، ولكن لأن النبي ليس من عادته الغضب ، فكلمة غضبان بحقِّ هذا النبي ليست صفةً مشبَّهةً ، بل هي اسم فاعل على وجه الحدوث لا على وجه الثبوت ، لكنه غَضِب ، والغضب المقدَّس هو أن تغضب لله ، أن تغضب لله ، وأن ترضى لله ، وأن تحبَّ لله ، وأن تكره لله ، وأن تعطي لله ، وأن تمنع لله ، هذا هو الإيمان الكامل .. " لا يكمل إيمان المرء حتى يحبَّ في الله ، ويبغض في الله ، ويغضب في الله ، ويرضى في الله ، ويعطي في الله ، ويمنع في الله " .
غَضِب لأن قومه قد ضلوا ، وفُتِنوا ، وعبدوا غير الله عزَّ وجل ، لذلك ضحَّى بمناجاته ، وعاد إلى قومه سريعاً ﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ غضبان على وزن فعلان صيغة مبالغة لاسم الفاعل كما قلت قبل قليل وهي اسم فاعل لا صفة مشبَّهة ، أَسِف على وزن فَعِلْ أيضاً صيغة مبالغة ، كأن تقول : حَذِرْ ، أَسِفَ أي متأسِّف على ما حصل .
مواجهة موسى لقومه بعد إشراكهم بالله وتعطيل عقولهم :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ ﴾ .. ثلاث جهات : أولاً القوم ، وثانياً أخوه هارون ، وثالثاً السامري ، توجَّه إلى قومه .. ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ﴾ .. أنتم موعودون أن أعود إليكم ، ومـعي التوراة ، ألمْ تُبَلَّغوا هذا الوعد ؟.. ﴿ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ﴾ ما تحملتم ثلاثين يومًا ؟ أشركتم ؟ عبدتم غير الله ؟ أين عقولكم؟.. ﴿ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾ ما الذي حصل ؟ أردتم أن يغضب الله عليكم ؟ أردتم الشقاء ؟ ﴿ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾ الموعد هو الوعد ، مصدر ميمي ، وعد موعداً ، وركب مركباً ، أي فأخلفتم وعدي .. ﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ أي أرادوا أن يعتذروا له أنهم ما أرادوا ذلك ، لكنَّهم انساقوا إلى هذا سوقاً ، اعتذروا له بأنهم ما قصدوا أن يعبدوا غير الله ، ما قصدوا أن يشركوا بالله ، لم يبذلوا جهداً ليفعلوا ذلك .. ﴿ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ أي باختيارنا ، لا نملك أن نفعل غير ما فعلنا .. ﴿ وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ﴾ الأوزار جمع وزر وهو الحِمْل .. ﴿ حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ﴾ ألقى الفراعنة حليَّهم التي كانت معهم ، فأخذها قوم موسى ، فأصبحت بكميَّاتٍ كبيرة ﴿ حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا ﴾ قذفوها في حفرةٍ ، وقد أضرموا بها النار لتسيح .. ﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ .. فجاء رجلٌ فَتَّانٌ ، داهيةٌ ، مراوغٌ ، ذو ذكاءٍ خبيث فصنع من هذه الحلي عجلاً جسداً ، أي تمثال من الذهب على شكل عجلٍ ، فُرِّغَ داخله فأصبح له خوار ، إذا دخلت فيه الريح صار له صوت صفير .. ﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ ﴾ فجأة ، كان بارعاً في صناعة الذهب ، كان صائغاً .. ﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا ﴾ استنبط العلماء أن السامري له أتباع وله أعوان اتفقوا على إضلال قوم موسى ، وعلى فتنتهم ، وعلى أن يُزَيِّنوا لهم الذهب كإلهٍ يُعْبَدُ من دون الله ﴿ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ ﴾ هذا هو الإله الذي ذهب إليه موسى ليناجيه ، هذا هنا ، أصلحه الله إلى أين ذهب ؟ هذا هو الإله ، ﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ نسي موسى أنه هنا ، ذهب إليه وهو هنا ، ما هؤلاء الأشخاص ؟ ما هؤلاء القوم ؟ أين عقولهم ؟ ألمْ يروا بأمِّ أعينهم كيف أصبح البحر طريقاً يبساً ؟ وكيف صارت العصا حيَّةً مبينةً ؟ وكيف كانت يد هذا النبي الكريم مشعلاً وضَّاءً ؟ أين العقول ؟ إذا عطَّل الإنسان عقله أهلك نفسه ، كانوا قد عطَّلوا عقولهم .
كل ما سوى الله لا يملك نفعاً ولا ضراً :
﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ نسي موسى أن إلهه هنا ، هذا في بعض التفاسير ، قال ربنا عزَّ وجل : ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ﴾ .. هذا العجل من الذهب الخالص الذي يعبدونه ألم يروا أنه لا يكلِّمهم ، إذا سألوه لا يجيبهم ، إذا رَجَوه لا يتحدَّث إليهم ، إذا استجاروا به لا يجيرهم .. ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ﴾ أي ينبغي أن تعبد إلهًا يجيبك ، إذا سألته أجابك ، وإذا استغفرته غفر لك ، وإذا استغثت به أغاثك ، وإذا استجرته أجارك ، وإذا تُبت إليه تاب عليك ، وإذا ناجيته سمعك ، هكذا يجب أن تعبد الله عزَّ وجل .. ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً﴾ .. لماذا تعبدونه إن كان لا يجيبكم ولا ينفعكم ولا يضرُّكم ؟ هناك معان عكسيَّة دقيقة أن الله سبحانه وتعالى يسمعنا إذا دعوناه ، ويجيبنا إذا سألناه ، ويعطينا إذا طلبنا منه ، ويغفر لنا إذا استغفرناه ، ويتوب علينا إذا تبنا إليه ، وينفعنا بالخيرات ، وإذا عالجنا جعل حياتنا جحيماً ، بيده الخير ينفع ويضر ، أو يضر لينفع .
إنكار هارون على قومه عبادة العجل :
﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ .. عرف سيدنا هارون حجم المشكلة ، وعرف أنهم قد ضلَّوا ، وأنهم قد فُتِنوا ، ونبَّههم ، وحذَّرهم ، وبيَّن لهم المصير .. ﴿ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ﴾ الذي أنقذكم من فرعون ، الذي ذَبَّح أبناءكم ، واستحيا نساءكم ، ورأيتموه كيف يغرق في البحر أمامكم ، وفرعون مَنْ أهلكه ؟ الله سبحانه وتعالى ، ورأيتم كيف أصبح البحر طريقاً ، والعصا حيَّةً ، واليد مصباحاً .. ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ لكنَّهم لم يستجيبوا لهذا النبي .. لسيدنا هارون .. ولم يعبؤوا بكلامه ، ولم ينصاعوا لأمره ﴿ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ ﴾ عندئذٍ : ﴿ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ ﴾ لن نستجيب لك ، لن نترك عبادة هذا الصنم ﴿ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ .
معاتبة موسى لأخيه هارون وبيان عذره :
سيدنا موسى ترك القوم ، والتفت إلى أخيه الذي استخلفه على قومه .. ﴿ قَالَ يَا هَارُونُ ﴾ .. كان سيدنا موسى عصبيَّ المزاج .. ﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ حينما رأيتهم ضلوا ، وانحرفوا ، وفسدوا ، وعبدوا هذا الصنم ماذا فعلت أنت ؟ لِمَ لَمْ تتبع أمري ؟ لِمَ لمْ تتبع كما أتبع أنا معهم ؟ أزجرهم ، أعاقبهم ، أنهاهم ، أحذِّرهم ، ألا تتبعني في قومي بأن تقلدني في فعلي معهم ؟ .. ﴿ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ وأدركه الغضب فأخذ لحية أخيه ، وجَرَّه إليه من لحيته .. ﴿ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ ﴾ استرحاماً وتعطُّفاً ، أنا أخوك .. ﴿ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ خفت أن أُجْبِرَ جماعةً على شيء ما ، وينشقَّ الآخرون فيصبحوا فريقين ، ويقتتلوا ، وتعود فترى فتنةً لا حدود لها ، ألم تأمرني أن أصلح بينهم وأن أوفِّق بينهم ؟ وقف بعضهم موقف المعاند ، وقف بعضهم موقف الرضا ، لو أنني فعلت كما تقول لانشقوا ، وفُتَّ هذا في عضدهم .
قياس وعبرة :
﴿ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ﴾ بعضهم وجه هذه الآية أنه عندما أمر النبي عليه الصلاة والسلام ببعث أسامة ، فأدركته المنيَّة ، وانتقل إلى الرفيق الأعلى ، قبل أن ينفذ هذا البعث ، أراد سيدنا الصديق بعد وفاة رسول الله ، وظهور الفتن ، وحروب الردَّة ، أن يُنْفِذ بعث أسامة ، حيث تململ بعض الصحابة ، أن الجزيرة العربية فيها حروب الردَّة ، والعرب تركوا الإسلام ، وخرجوا منه ، فما معنى أن نذهب إلى بلاد الروم لنحاربهم ؟ علينا أن نطفئ هذه الفتن الداخليَّة أولاً ، سيدنا عمر أدرك أن هناك من يعترض على إنفاذ بعث أسامة ، فجاء هذا الصحابي الجليل - سيدنا عمر - إلى سيدنا الصديق ، وعرض عليه أن هذا البعث بعث أسامة الآن ليس من الحكمة إنقاذه ، وأن العرب قد ارتدوا ، وأن الأولى أن نطفئ الفتن الداخليةَّ قبل أن نلقى العدو الخارجي ، وأَنَّ ، وأنَّ ، فما كان من هذا الخليفة الوديع ، الحليم ، الرقيق ، إلا أن أصبح كالأسد الهَصور ، أمسكه من لحيته ، وهزَّها حتى كاد يخلعها ، وقال : " ثكلتك أمَّك يا بن الخطَّاب ، أجبَّارٌ في الجاهليَّة خوارٌ في الإسلام ؟!" فسَّر بعضهم هذه القصَّة أن سيدنا عمر كان مع الصديق في إنفاذ بعث أسامة ، ولكنَّه أراد أن يعرِض وجهة نظر المعارضة ، سيدنا الصديق حينما جعله عبرةً لمن يعتبر رضي أن يكون كبش الفداء ليقوِّي موقف سيدنا الصديق ، هذا تصرفٌ ذكيٌّ جداً من سيدنا أبي بكر ومن سيدنا عمر .
بعضهم يحمل هذه القصَّة على ذلك ، سيدنا موسى حينما أخذ برأس أخيه يجرُّه إليه أراد أن يضعضع عزيمة المُعارضين الذين فُتِنوا ، وأشركوا ، فلذلك ما أراد بهذا أن يهين أخاه إنما أراد أن يقوي مركز الحق ، وأخوه يعرف ذلك ، وغفر له ذلك ، لنفعل ما نشاء في سبيل الحق .
إذاً أراد هذا النبي الكريم أن يظهر قوَّة الحق ، ويبدو أن سيدنا هارون قَبِلَ أن يكون كبش الفداء إحقاقاً للحق ، فحينما رأوا سيدنا موسى قد غضب هذا الغضب الشديد ، وأخذ برأس أخيه يجرّه ارتعدت فرائص القوم ، وعادوا عن شركهم ، وأذعنوا إلى نبيهم ، وقضي الأمر ، حكمةٌ بالغة ، أحياناً يتجه الأب إلى الأم ، ويقرِّعها تقريعاً شديداً إذا هي عرضت وجهة نظر أولادها التي لا تُرضي الأب ، فحينما يرى الأبناء أن الأب صبَّ غضبه على الأم ، وهي شريكته في الحياة ترتعد فرائصهم ، هذا التفسير يليق بهذا النبي الكريم .. ﴿ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيت أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ .
الحديث الذي دار بين سيدنا موسى والسامري :
﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾ .. جاء برأس الفتنة هذا الخبيث ، تعال إلى هنا ، بعد أن وبَّخ القوم ، وعنَّف أخاه .. ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾ ما القصَّة ؟ ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟ ماذا فعلت ؟ لماذا فعلت هذا؟ .. ﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ هذه الآية اختلف المفسِّرون في تفسيرها ، من أوجه التفسيرات أن السامري عاش مع سيدنا موسى ، اقتبس منه ، من آثاره ، من بعض أقواله ، من بعض تفسيراته شيئاً ، وأوهم الناس أنه كذلك .. ﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ﴾ أي من أثر سيدنا موسى ، وهذا أسلوبٌ متَّبَعٌ حينما تخاطب إنساناً بطريقة الغائب ، قد تقول للأمير وهو أمامك : ما قول الأمير في هذا الموضوع ؟ فسيدنا موسى حينما سأله : يا سـامري لماذا فعلت هذا ؟ قال : ﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ﴾ بحثت عن الزعامة ، بحثت عن السلْطَة ، عن القيادة ، أردت أن أكون مكانك .. ﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا ﴾ ألقيتها بين أيدي القوم ﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ أي أردت أن أكون مكانك ، أردت أن أُنازعك هذا المقام ، تعلَّمت منك شيئاً ، وألقيته على مسامعهم فصدَّقوني ، وجئت بهذا العجل ، وصنعته لهم من الذهب الخالص بطريقةٍ رائعة ، وجوَّفته لهم فصار له صوت قلت : هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب إليه ، ونسي أنه هنا ، هكذا ، أي ﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ﴾ أراد أن ينازعه مقامه .. ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا ﴾ أي أراد بهذا أنه استعان ببعض أقواله وأساليبه في تصرُّفاته مع القوم لينازعه الأمر .. ﴿ فَنَبَذْتُهَا ﴾ ألقيتها أمامهم .. ﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ بعض التفاسير تقول : " إنه رأى جبريل عليه السلام وهو على فرس ، فأخذ أثراً من التراب التي داستها الفرس ، وألقاها على العجل فصار عجلاً حيًّا يتحرَّك " ، هذه الرواية ضعيفة .
مقاطعة السامري مقاطعة تامَّة جزاء ما اقترفت يداه :
قال سيدنا موسى : ﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ﴾ .. أي أمر الناس بمقاطعته ، لا يكلِّمونه ، ولا يكلِّمهم ، ولا يقربونه ، ولا يقربهم ، ولا يعاملونه ، ولا يعاملهم ، أي قطيعةٌ تامَّة جزاء ما اقترفت يداه .. ﴿فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ﴾ قال بعضهم : " أُصيب بمرضٍ مُعْدٍ جعله منبوذاً " ، وبعضهم قال: "حُرِمَ الذرِّيَّة " ، كلُّها أقوالٌ توضِّح معنى ..﴿ لاَ مِسَاسَ ﴾ .
إضلال الناس جريمةٌ في حقِّ الإنسانيَّة :
﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ﴾ إضلال الناس جريمةٌ في حقِّ الإنسانيَّة ، أن تُضِلَّهم عن سواء السبيل ، أن تصرفهم عن الحق ، أن ترغِّبهم في الباطل ، أن تزيِّن لهم الكفر والضلال .. ﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً﴾ هذا العجل حُرِّق إهانةً له ، ثم ألقي في البحر .. ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ هذا هو الإله العظيم ، خالق السماوات والأرض ..
﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)﴾
[ سورة الشعراء ]
الله صاحب الأسماء الحسنى :
﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ ﴾ .. صاحب الأسماء الحُسنى ، والصفات الفضلى ، السميع البصير ، الرحمن الرحيم ، المعزُّ المذلُّ ، الخافض الرافع ، القابض الباسط ، هذا هو الإله .. ﴿ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ لا مسيِّر للكون إلا هو ، ولا معبود بحق إلا هو .. ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ .
وهكذا تنتهي هذه القصَّة عند هذه الآية بقوله تعالى : ﴿ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ﴾ هذا من الغيب الماضي ، وذكر هذه القصَّة على هذا النسق دليل نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .. ﴿ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً﴾ هذا الذكر القرآن الكريم .
﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً﴾ ..
الإعراض عن القرآن ضنك في الدنيا وخزي يوم القيامة :
﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً﴾ .. يحمل عبئاً ثقيلاً ، عبء المعاصي التي اقترفها بسبب جهله ، عبء الذنوب ، عبء الانحرافات ، عبء الضلال ، عبء الإضلال ، عبء الفساد ، عبء الإفساد ، كل هذا الذي يحدث بسبب عدم حمل هذا الكتاب ، وعدم فهمه ، لذلك القرآن غنىً لا فقر بعده ، ولا غنىً دونه ، وليس على وجه الأرض عملٌ أجلُّ من أن تعرف كلام الله لتهتدي بهديه ، فتأتي يوم القيامة وقد حققت الهدف من وجودك .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين