- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (020)سورة طه
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تفسير كلمة ( طه ) :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الأول من سورة طه .
بسم الله الرحمن الرحيم :
أولاً : طه ، قال بعض المفسِّرين :
وقال بعضهم الآخر :
﴿
تفسير ثالث :
القرآن حمَّال أوجهٍ :
القرآن كما تعلمون أيها الإخوة حمَّال أوجه ..
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)﴾
فإذا قلت : الله أعلم بمراده فقد أصبت ..
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
وإن قلت : إن طه حرفان ، منهما ومن أمثالهما صيغَ هذا القرآن الكريم ، وهو الكتاب المعجز فقد أصبت ، وإن قلت : إن طه اسمٌ لهذه السورة فقد أصبت ، وإن قلت : إن طه اسمان لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، يا طاهراً من الذنوب ، ويا هادياً إلى علام الغيوب ، فقد أصبت ، وإن كانت طه إشارةً إلى العبارة طوبى لمن اهتدى فقد أصبت ، وإن رمزت إلى الطاء بطرب أهل الجنَّة بالجنَّة ، والهاء هوان أهل النار في النار فقد أصبت ، والله سبحانه وتعالى هو وحده يعلم سرَّ هذين الحرفين
الراجح في كلمة ( طه ) :
لكنَّ الذي يُرَجِّحُ أن هذين الحرفين اسمان لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن الله سبحانه وتعالى يقول :
شيءٌ آخر ؛ ورد في بعض التفاسير أن للنبي عليه الصلاة والسلام أسماء كثيرة منها طه و يس ..
(( يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا ، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقالَ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك. ))
موقف المؤمن من هذين الحرفين :
ما موقفنا نحن المؤمنين من هذين الحرفين ؟ هل طَهَّرنا أنفسنا من الذنوب ؟ هل حاسبنا أنفسنا في الدنيا حساباً عسيراً ليكون حسابنا يوم القيامة حساباً يسيراً ؟ هل راجعنا أنفسنا ؟ هل أيقنا بقوله تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ﴾
هل راجعنا حساباتنا مساء كل يوم ؟ هل تَبَصَّرنا بأعمالنا أفيها مخالفةٌ ؟ أفيها انحرافٌ ؟ أفيها تقصيرٌ ؟ أفيها معصيةٌ ؟ أفيها خرقٌ لحدود الله ؟ هل طهَّرنا أنفسنا من الذنوب ؟ هل ضبطنا سلوكنا وَفْقَ كتاب الله وسُنَّة رسوله ؟ إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يثني الله عليه بأنه الطاهر الهادي فأين نحن من هاتين الصفتين ؟ هل طهَّرنا أنفسنا ؟ هل طهَّرنا قلوبنا مما سوى الله ؟ هل طهرنا قلوبنا من الأمراض النفسيَّة ؟ من مشاعر الاستعلاء ومشاعر الأنانية إن صح التعبير- أي الأثرة ، من المشاعر التي لا تليق بالإنسان ، أين نحن من تطهير أنفسنا من الذنوب ؟
يا أيُّها الإخوة المؤمنون ؛ كل صفةٍ وُصِفَ بها النبي عليه الصلاة والسلام لابدَّ من أن يكون للمؤمن منها نصيب ، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد وصفه الحقُّ جلَّ وعلا بأنه الطاهر الهادي فلابدَّ من أن يكون المؤمن على شيءٍ ولو يسيرٍ من الطهر ومن الهدى ، يا طاهراً من الذنوب ، يا هادياً إلى علام الغيوب .
رفعة النبي عليه الصلاة والسلام وحرصه على هداية الناس :
شيءٌ آخر ؛ هو أن الله سبحانه وتعالى يبيِّن رفعة هذا النبي الكريم..
معاني قوله تعالى : مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى :
1 ـ الله تعالى يُسَلِّي نبيَّه الكريم ويُخَفِّف عنه بأنه ما كلفه فوق ما يطيق :
نحن إن اهتدى الناس اهتدوا ، وإن لم يهتدوا تقول : لا يهتدون ، ماذا أفعل لهم ؟ بماذا يُحِسُّ المؤمن إذا دعا إلى الله ولم يُسْتَجَب له ؟ هل يحسُّ بهذا الإحساس المُضني ؟ هل تتمزَّق نفسه ؟ هل يتفطَّر قلبه لما يرى من إعراض الناس وغفلتهم وانغماسهم في الشهوات وبعدهم عن الحق وتورُّطهم في بعض المعاصي ؟
أيُّها الإخوة الأكارم ... النبي عليه الصلاة والسلام هذا حاله ، وهو على خُلُقٍ عظيم ، وهو سيِّد الخلق ، وهو سيد ولد آدم ولا فخر - كما يقول عن نفسه - وهو العروة الوثقى ، وهو الوسيلة ، وهو صاحب الشفاعة ، إن الله عزَّ وجل يبيِّن لنا رحمة هذا النبي الكريم .
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) ﴾
إذا قرأت هذه الآية لا شكَّ أنك تحسُّ عظمة النبي عليه الصلاة والسلام ، كما يقول عليه الصلاة والسلام : عن عائشة أم المؤمنين :
(( يهودية كانتْ تَخْدِمُها فَلَا تَصْنَعُ عائشةُ إليْها شيئًا منَ المعروفِ إلَّا قالَتْ لها اليهوديةُ وقَاكِ اللهُ عذابَ القبرِ ، قالَتْ : فدَخَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَيَّ ، فقلْتُ : يا رسولَ اللهِ هل للقَبْرِ عذابٌ قبلَ يومِ القيامةِ ؟ قال : لا وعمَّ ذاكَ ؟ قالَتْ : هذه يهودِيَّةٌ لا نَصْنَعُ إليْهَا شيئًا مِنَ المعروفِ إلَّا قالَتْ : وقاكِ اللهِ عذابَ القبْرِ ، قال : كَذَبَتْ يهودٌ وهم على اللهِ كُذُبٌ لا عذابَ دونَ يومِ القيامةِ ، قالتْ : ثمَّ مكثَ بعدَ ذلكَ ما شاءَ اللهُ أنْ يمكُثَ فخرجَ ذاتَ يومٍ بنصفِ النهارِ مشتَمِلًا بثوبِهِ محمرةٌ عيناهُ ، وهو ينادِي بِأَعْلَى صوتِهِ : أَيُّهَا الناسُ أظَلَّتْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ الليلِ المظلِمِ أَيُّها الناسُ لَوْ تعلمونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثيرًا أيُّها الناسُ استعيذوا باللهِ من عذابِ القبرِ فإِنَّ عذابَ القبرِ حقٌّ ))
إذاً النبي عليه الصلاة والسلام يرى المصير ، مقام النبوَّة مقام الرؤيا ، لقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام مصير الإنسان إذا كان معرضاً عن الله عزَّ وحل ، رأى شقاءه الأبدي ، وهو أرحم الخلق بالخلق ، إذاً هو حينما يدعو الناس إلى الله عزَّ وجل ، وهم يعرضون إنه يتفطَّر عليهم ، ويتألَّم ، ويحزن ، من هذه المعاني قول الله عزَّ وجل :
﴿
﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
هذه الآيات الأربعة من هذا القبيل ..
هل تتألَّم إذا دعوت إنساناً لطاعة الله وسخِرَ من هذه الدعوة ؟ هل يتفطَّر القلب ألماً إذا رأيت مَن حولك في طريقٍ الهاوية ؟ إن كنت كذلك فأنت تقفو أثر النبي عليه الصلاة والسلام ، إن كنت كذلك فأنت من أمَّته ، لأن الراحمين يرحمهم الله ،
2 ـ النبي الكريم حمَّل نفسه فوق طاقتها كان في الليل قَوَّاماً وفي النهار داعياً :
المعنى الثاني : النبي عليه الصلاة والسلام لشدَّة عنايته بهذا الكتاب تلاوةً ، وتعليماً ، وقراءةً ، وتعبُّداً ، حمَّل نفسه فوق ما يطيق ، إنه يمضي معظم الليل يصلي قائماً إلى أن تورَّمت قدماه ، إنه يمضي معظم أوقاته في تعليم الناس ، وفي توجيههم ، وفي هدايتهم ، إنه يحفظ هذا الكتاب ، وينقله نقلاً أميناً للبشر الذين أنيط هداهم به ، فالله سبحانه وتعالى يخفِّف عنه ..
﴿
إذاً إما أن تفهم الآية :
والمعنى الثاني أن النبي عليه الصلاة والسلام حمَّل نفسه فوق طاقتها ، فأتعبها ، وكان في الليل قَوَّاماً ، وفي النهار داعياً ،
قام قومةً واحدة ، ودعا إلى الله ، ولبث في قومه ثلاثة وعشرين عاماً ، حقَّق من خلالها ما لا يفعله البشر قاطبةً ، قَلَبَ وجه الأرض ، أرسى قواعد العدل ، جاء الحياة فأعطى ولم يأخذ ، قدَّس الوجود ، رعى الإنسان ، كان مثلاً أعلى ، ألم يَدْعُه أترابه حينما كان صغيراً إلى اللعب ، فقال عليه الصلاة والسلام وهو في سنِّ الطفولة :
ألم ينزل عليه قوله سبحانه وتعالى :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) ﴾
هذا الحِمل الثقيل ، عبء الدعوة ، عبء الهداية كان يحمله ، ولا يدري ما المخرج ، كيف يدعوهم ؟ بأية صفةٍ يدعوهم ؟ إلى أن أنزل الله عليه الوحي .
ألم يقل الله عزَّ وجل :
﴿ وَالضُّحَى(1)وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) ﴾
اقتداء المؤمن بحرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية الناس :
لذلك هذه الآية :
ويا أيُّها الإخوة المؤمنون ... هذا الذي لا يحبُّ الناس ليس أهلاً أن يهديهم إلى سواء السبيل ، يجب أن تُحِبَّ الخلق ، أن تحبَّ الناس جميعاً لأنهم عيال الله ، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله ، يجب أن يمتلئ قلبك رحمةً ، إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ، وما من عملٍ يفوق أن تدلّ الناس على الله عزَّ وجل ، وأن تهديهم إلى سواء السبيل ، وأن تعرفهم بربهم ، إذا عرفوه سعدوا به ..
القرآن تذكرة لمن يخشى :
الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول :
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ
فكأنَّ الله عزَّ وجل أراد هذا القرآن ليس لكل الناس ، هو لكل الناس ، ولكن لا يستفيد منه إلا من أعمل فكره في أمور معاده ، أما هذا الذي يعيش لحظته ، ويعيش وقته ، وهو مع الناس إن أحسن الناس أحسن ، وإن أساؤوا أساء ، هذا الذي لا يعنيه إلا أن يكسب المال ، لا يعنيه إلا أن ينغمس في الملذَّات ، وهو غافلٌ عن ساعة الرحيل ، عن ساعة نزول القبر ، هذا الذي لا يفكِّر ليس مؤهَّلاً أن يفهم هذا القرآن الكريم ، هو تذكرةٌ لمن يخشى لا لكل الناس ، قيل:
﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى(9)سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10) ﴾
هذا المفكِّر يتذكَّر ، من السخْفِ بالمرء أن يستخدم هذا الفكر العظيم ، الذي هو أثمن شيءٍ في الوجود أن يستخدمه لأغراض رخيصة ، لأهداف خسيسة ، لمطالب محتقرة ، فالله كرَّمك بهذا الفكر من أجل أن تعرفه به
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) ﴾
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ﴾
﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) ﴾
﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ
خالق الكون هو من أنزل القرآن :
وأن الإنسان حينما طبل وزمر وقال : غزونا الفضاء ، ما قطع من الفضاء الخارجي إلا ثانيةً ضوئيَّةً واحدة ، في حين أن بعض المجرَّات يزيد بعدها عنا عن ستَّة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة .
هذا الذي خلق المجرَّات ، وخلق الأرض والسماوات ، هذا كلامه ، وهذا كتابه ، وهذا المنهج الذي ينبغي أن نسير عليه ، وهذا هو كتابنا وهادينا إليه ، فلذلك شرفُ الرسالة من شرف المُرسل ، إذا كنت في الخدمة الإلزامية ، وجاءتك ورقةٌ من عريف ، لك موقفٌ منها ، فإن جاءتك من رقيب لك موقفٌ آخر ، فإن جاءتك من الملازم ، فإن جاءتك ممن هو أعلى ، فإن جاءتك من قائد الجيش ، وقد وُقِّعَتْ بالأخضر لك موقفٌ آخر، فإن جاءك هذا الكتاب من ملك الملوك ، من خالق السماوات والأرض ، ممن بيده حياتك وموتُك ، ممن بيده كل شيء ، ما موقفك ؟ أيلقيه وراءه ظهرياً ؟
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) ﴾
شرف الرسالة من شرف المُرسل
القرآن مفتاحُ سعادتِنا :
والله الذي لا إله إلا هو لو عرفنا عظمة هذا الكتاب ، لو عرفنا تماماً أنه كلام رب العالمين ، وأن كل سورةٍ ، بل كل آيةٍ ، بل كل كلمةٍ ، بل كل حرفٍ ، بل كل حركة من حركات هذا القرآن مفتاحٌ لسعادتنا، منهجٌ لنا ، لكان أمرنا غير ما ترون ، آيةٌ واحدة :
﴿
كم يعاني الناس من مشكلات ؟ لو أن الإنسان قرأ قوله تعالى وأيقن أن هذا القرآن كلام الله عزَّ وجل ، وأنه لا محالة واقع ، ماذا يفعل ؟ ماذا ينتظر ؟
﴿
لو أن الإنسان قرأ قوله تعالى وهو موقنٌ بأن هذا الكلام كلام الله رب العالمين ، وأن هذا الكلام حقٌّ لا مِرْيَةَ فيه ، ولا شكَّ فيه ..
﴿
من قرأ قوله تعالى :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
لو ملكت الملايين ، لو طرت إلى السماء ، لو فعلت الأفاعيل ، ما لم تكن مقبلاً على الله عزَّ وجل فهذا الإنسان أشقى الأشقياء ، هذا كلام رب العالمين .
لو قرأت قوله تعالى :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
لاختلفت حياتك ، لذلك ماذا أملك حيال هذه الآية ؟ هذا الكتاب..
﴿
على جبل ، وبعض الناس يقرؤونه وهم ساهون لاهون ، يقرؤونه ولا يعملون بأحكامه ، لا يحِلُّون حلاله ، ولا يحرِّمون حرامه ، ولا يتعظون بأخباره ، ولا يخافون وعيده ، ولا يرجون وعده ، يقرؤونه تبرُّكاً ، أو يقرؤونه تعبُّداً ، وهم عنه غافلون ، وعن صهيب بن سنان الرومي :
(( مَا آمَنَ بالقرآنِ مَنْ استحلَّ محارمهُ . ))
مذهب الخلف ومذهب السلف في تفسير الآية التالية :
السلف الصالح قال : " هذه الآية يجب أن نفهمها من غير تكييف ، أي كيف استوى على العرش ؟ ومن غير تحريف ، ومن غير تشبيه ، أي هو كالملك يجلس على كرسي العرش ؟ لا .. ومن غير تعطيل لهذه الآية ، ومن غير تمثيل "، لا تمثِّل ، ولا تعطِّل ، ولا تُشَبِّه ، ولا تحرِّف ، ولا تكيِّف ، هذا مذهب السلف الصالح في فهم هذه الآية .
وأما مذهب الخلف أيضاً فمذهبٌ مقبول ، الخلف يقولون : " هذه الآية كنايةٌ عن الاحتواء على المُلْك ، والأخذ بزمام الأمور كلِّها " ، أي الله سبحانه وتعالى محيطٌ بالكون ، والله سبحانه وتعالى بيده كل شيء ، توحيد الربوبيَّة في هذه الآية ، أي هو الذي خلق ، وهو الذي أمدَّ ، وهو الذي ربّى ، وهو الذي أعطى ، وهو الذي منع ، وهو الذي عَلا ، وهو الذي قَهَر ، وهو الذي أخذ ، وهو الذي رفع ، وهو الذي خفض ، كل شيءٍ بيده،
سرُّ اقتران الاستواء باسم الرحمن :
لكنَّ الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى لم يقل : الله على العرش استوى ، ولم يقل : القوي على العرش استوى ، ولم يقل : الغني على العرش استوى ، ولم يقل : الربُّ على العرش استوى ، قال :
شيءٌ آخر هو أن الله سبحانه وتعالى رحمنٌ في ذاته ، رحيمٌ في أفعاله ، العرش هو المُلْك ، أي :
﴿
وقد جاء في بعض الأحاديث القدسيَّة : إن الله عز وجل يقول :
(( أنَا اللهُ لا إله إلا أنا ، مَلِكُ الملوكِ ، ومالِك الملوكِ ، قُلوبُ الملوكِ بيَدِي ، وإنِ العِبادُ أطاعوني حوَّلتُ قلوبَ ملوكِهم عليهم بالرأفةِ والرحمةِ ، وإنِ العبادُ عَصَوْنِي حولتُ قلوبَ ملوكِهم بالسَّخَطِ والنِّقمةِ فساموهم سوءَ العذابِ ، فلا تَشْغَلُوا أنفسَكم بالدعاءِ على الملوكِ ، ولكن أَشْغِلُوا أنفسَكم بالذِّكْرِ والتَضَرُّعِ أَكْفِكُم ملوكَكُم . ))
أنا ملك الملوك ، ومالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فإن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد عصوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسُخط والنقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بالملوك وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم .
هو ملك الملوك ، ومالك الملوك ، وبيده كل شيء صغيرٌ كان أو كبيراً ، جليل كان أو حقيراً .
من لوازم الاستواء الملكية المطلقة للكون خَلقاً وتصرفاً ومصيراً :
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) ﴾
المواقع وحدها ، هذه المسافات التي بين النجوم ستة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة ، إذا أحبّ أحدكم ليلاً أن يتسلَّى بعد الدرس ضرب ثلاثمئة ألف كيلو متر - هذا ما يقطعه الضوء في ثانيةٍ واحدة – ضربهم بستين دقيقة ، ثم ضربهم بستين صاروا ساعة ، ثم ضربهم بثلاثمئة وخمسة وستين صاروا سنة ، ثم ضربهم بستة عشر ألف مليون سنة يظهر رقم يحتاج إلى كرار ، لذلك هذه المسافات البينيَّة بين النجوم لا يعلمها إلا الله ..
الله تعالى يعلمُ السّرَّ وأخفَى :
صفوان بن أميَّة أخذ عُمَيْر بن وهب إلى خارج مكَّة ، إلى الصحراء ، قال له عمير : والله لولا خشية العَنَتِ على أطفالٍ صغار ، ولولا ديونٌ ركبتني لذهبتُ إلى محمدٍ وقتلته وأرحتكم منه ، شخصان لا يعلم بوجودهما إلا الله ، فقال له صفوان : أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر ، وأما ديونك فهي عليّ بلغت ما بلغت فامضِ لما أردت - اقتله وأرحنا منه - ما كان من عمير إلا أن حمل سيفه وسقاه سمَّاً ، وجهَّز راحلته وتوجَّه إلى المدينة .
في المدينة رآه سيدنا عمر متنكِّباً سيفه فقال : هذا عدو الله عُمَيْر جاء يريد شرَّاً ، أخذ سيفه وقيَّده بحمالة السيف ، وقاده إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، الأمر كان بُعَيْد معركة بدر ، بمعنى أن مجيء عمير إلى المدينة مغطَّى بسبب أنه جاء ليفَكِّ أخاه من الأسر ، فلمَّا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام قال له النبي الكريم : فكَّ أسره يا عمر - فكَّ قيده - فَكَّ قيده ، قال : ابتعد عنه ، فابتعد عنه ، قال : ادنُ مني يا عمير ، تعال ، قال : سلِّم علينا قال : عمت صباحاً يا محمَّد ، قال : سلِّم علينا بسلام الإسلام ، فقال عمير : لست بعيد عهدٍ بالجاهلية - هذا سلامنا - فقال له النبي الكريم : يا عُمير ما الذي جاء بك إلينا ؟ ، قال : جئت أفكُّ أخي من قيد الأسر ، قال : وهذه السيف الذي على عاتقك لماذا جئت بها ؟! ، قال : قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟! ، قال : ألم تقل لصفوان : لولا ديونٌ ركبتني ، وأطفالٌ أخاف عليهم العنت لقتلت محمَّداً ، وأرحتكم منه ؟
قد يقول أحدكم : أنا بهذا الوضع مستقيم ، لو معي ألف مليون الله أعلم ، يا ترى تبقى معنا في هذا المسجد ؟ لا نعرف ، من الذي يعرف ؟ الله عزَّ وجل- وعَلِمَ ما لم يكن لو كان كيف كان يكون - لهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى :
الله تعالى وحده المنفرد بالألوهية :
الآية الأخيرة ؛
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
لماذا ينبغي أن تعبده ؟ لأن الأمر كلَّه راجعٌ إليه ، ما دام الأمر راجعاً إليه في كل شيء إذاً ينبغي أن تعبده .
﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
مشابهاً ، ندًّا ، كُفئاً .
أسماء الله كلّها حسنى :
إذا أخذ الله منك شيئاً ليعطيك أضعافاً مضاعفة ، يبتلي ليجزي ، يمنع ليعطي ، الضار النافع ، يضرُّ لينفع ، الإنسان الضال الله عزَّ وجل قد يضرُّه في صحَّته ، أو بماله ، فيتوب إليه ، فيستقيم على أمره ، فيسعد بقربه ، فالمعطي والمانع ، والخافض والرافع ، يخفض ليرفع ، والمعز والمذل ، يُذلّ ليعز ، المتكبر يذلُّه الله عزَّ وجل ليخضع له ، فإذا خضع له أعزَّه ، وهكذا أسماء الله كلِّها حسنى ، وصفاته كلُّها فُضلى ، ولكن اسأل به خبيراً ، ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ
لا تسمح لنفسك أن تفهم الاسم الإلهي لوحدك ، قد لا تفهم أبعاده ، فالعلماء قالوا : هناك أسماءٌ لله عزَّ وجل يجب أن تُذكَر مَثنى مثنى " المعطي المانع ، الضار النافع ، المعز المذل لأنه يذلّ ليعز ، ويمنع ليعطي ، ويخفض ليرفع ، ويضر لينفع ، وقد يقهر عبده ، القهَّار ، هذا العبد متكبِّر يقهره ليتوب ، وهكذا..
وفي الدرس القادم إن شاء الله عزَّ وجل نبدأ بقصَّة سيدنا موسى ، وفي هذه السورة وردت بأطول روايةٍ لها ، أي أطول قصَّة عن سيدنا موسى جاءت في هذه السورة سورة طه ، وسوف نستعين بالله عزَّ وجل على توضيح بعض المعاني .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين