وضع داكن
18-07-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة طه - تفسير الآيات 115 – 128 حال المؤمن في الجنة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

  حال المؤمن في الجنة:


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثامن من سورة طه.
وصلنا في الدرس الماضي من هذه السورة إلى قوله تعالى: 

﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)﴾

[ سورة طه ]

هذه الآيات لابدَّ من أن تنقلنا إلى موضوع الجنَّة، فالإنسان في الجنَّة له حالٌ خاصة تختلف اختلافاً بيِّناً عن حاله في الدنيا، إنه في الجنَّة نفسٌ مرتكزةٌ إلى جسد، فالنفس ترى مباشرةً لا من خلال عينين كما هي الحال في الدنيا، إن النفس كلها أعينٌ، لمجرَّد أن تتجه النفس إلى جهةٍ معيَّنة حتى ترى كل شيء، والنفس كلُّها آذانٌ، إنها نورٌ مركَّبٌ على جسد، لذلك في الجنَّة لا شقاء، ولا تعب، ولا سعي، ولا كدَّ، ولا إرهاق، ولا جهداً يُبْذَل، ولا أي شيء مما يُحِسُّه الإنسان في الدنيا.
فربنا سبحانه وتعالى لابدَّ من أن يجعل من هذا النبي العظيم سيدنا آدم الذي بدأ به الخلق لابدّ من أن يجعله خليفته في الأرض، قبل أن يجعله خليفته في الأرض أراد أن يعطيه درساً بليغاً، إن نزول سيدنا آدم من الجنَّة إلى الأرض نزولٌ محقَّق، ولكن كان بطريقةٍ فيها تعليمٌ له ولنا على مرِّ العصور والدهور، الإنسان في الجنَّة نفسٌ مركَّبةٌ على جسد، لكنَّه في الدنيا على الأرض جسدٌ في داخله النفس، هذا الجسد يشغل حيِّزاً، يحتاج إلى غذاء، يحتاج إلى ماء، ومتى تناول الغذاء والماء يحتاج إلى إخراج الفضلات، يحتاج إلى سعي، فطبيعة الحياة على وجه الأرض طبيعةٌ فيها سعي، وكد، وتعبٌ، وجوعٌ، وعطشٌ، يحتاج إلى طعامٍ، وإلى شرابٍ، وإلى لباسٍ، وإلى مسكنٍ، وإلى زوجةٍ، بينما هو في الجنَّة لا يحتاج إلى شيءٍ من هذا، إن النفس تسعد مباشرةً لا عن طريق الوسائط.
 

حكمةُ المحظور من أجل تربية الإرادة البشرية:


ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يربي هذا الإنسان من خلال هذا الدرس البليغ الذي علَّمنا إياه، ما هذه التربية؟ لابدَّ من محظور، ولماذا المحظور؟ من أجل تربية الإرادة، إن أثمن ما يملكه الإنسان الإرادة الحرَّة التي منحه الله إياها، هذه الإرادة الحرَّة لا قيمة لها إلا إذا كانت منضبطةً وفق القواعد والأصول، فمن أجل أن تُرَبَّى هذه الإرادة لابدَّ من أن يكون في الحياة شيءٌ محظور، هذا الذي ينساق وراء شهواته ضعيف الإرادة، ليس أهلاً أن يكون خليفة الله في الأرض، هذا الذي يستجيب لكل رغبة، ينساق مع كل شهوة، يفعل كل ما يخطر بباله هذا إنسان ساقط، مُتهافت، ضعيف الإرادة، كتلةٌ من الشهوات تتحرَّك، لكنَّ الإنسان الذي أعدَّه الله ليكون خليفةً في الأرض لابدَّ من أن تنمو عنده الإرادة.
لذلك ربنا سبحانه وتعالى فيما ترويه التفاسير عَهِدَ إلى سيدنا آدم ألا يأكل من هذه الشجرة.

﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)﴾

[  سورة البقرة  ]

من أي شيءٍ كُلا إلا هذه الشجرة، إذاً في هذه إشارةٌ إلى أن المُباحات أكثر بكثير من المُحَرَّمات، وأن الإنسان حينما يدع جميع المُباحات ليقترف المحرَّم فقد أساء وظلم، لأن الله سبحانه وتعالى أباح كل شيء، وقد قال علماء الأصول: "الأصل في الأشياء الإباحة" ﴿وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أي نهيٌ واحد مع إباحةٌ لكل شيء.
 

تفسير الآية التالية ومعناها وما يُستنبَط منها:


﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً(115)﴾

[ سورة طه ]

 أوجه التفاسير أن هذا النبي الكريم الذي قال عنه سيد المرسلين: عن أبي سعيد:

(( آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلا فَخْرَ. ))

[  سنن الترمذي: حسن صحيح ]

استنبط من هذا الحديث أن سيد ولد آدم هو النبي عليه الصلاة والسلام، ويأتي بعده سيدنا آدم، فهو أعظم النبيين إلا أن يكون النبي محمد صلى الله عليه وسلَّم: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا﴾ أي وصَّيْنا، ﴿إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي من قبل أن يأتي إلى الأرض، من قبل أن يهبط إلى الأرض، حينما كان في الجنَّة، أبحنا له كل شيء عدا هذه الشجرة: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ﴾ لكنَّ هذا النبي الكريم ما كان يعرف الكذب، وَسْوَسَ إليه الشيطان أن: ﴿يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى﴾ يبدو أن هذا النبي الكريم كان في حالةٍ من القرب شديدة، وأنه أراد أن يبقى في هذه الحالة، وأن يخلُد فيها، ولم يكن يعرف ما الكذب.
﴿فَنَسِيَ﴾ ما عصى عن تصوُّرٍ وتصميم، لكنَّ معصيته جاءت عن نسيانٍ وسهوٍ، لذلك قال العلماء: "إن هذه الآية لا تقدح في عصمة سيدنا آدم" لله عزَّ وجل أن يقول ما شاء عن سيدنا آدم، أما نحن البشر فليس لنا أن نقول عنه: إنه عصى ربَّه بالمعنى الذي يفهمه عامَّة الناس، لأن الله سبحانه وتعالى برَّأه من أن تكون معصيته عن تصورٍ وتصميم: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليهِ. ))

[ أحمد شاكر: عمدة التفسير: خلاصة حكم المحدث: في إسناده رجل ضعيف ولكن معناه ثابت صحيح ]

إذاً نسيان هذا النبي هذا الحظرَ الإلهيَ لا يعني أنه عصى ربَّه بالمعنى الذي نفهمه نحن، أي عصاه عن تصورٍ وتصميم، ولكنَّ هذه المعصية جاءت عن نسيانٍ وسهوٍ.
﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ أيضاً من أوجه التفاسير أن هذا النبي الكريم ما كان يملك العزيمة على معصية الله، ما كان عازماً على معصيته، والدليل أن الله سبحانه وتعالى سرعان ما غفر له، واجتباه، وقَرَّبه، ولو أنه عصى عن تصورٍ وتصميم، ولو أنه كان يملك العزيمة الأكيدة على معصية الله عزَّ وجل لما كانت عودته واجتباؤه وتكريمه بهذه السرعة الفائقة.
 

الإرادة الحرَّة أثمن ما يملكه الإنسان في حياته وهي لا ترقى إلا بالمحظورات:


﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ إذاً هذه الآية تعلِّمنا أنه لابدَّ من أن يكون في الحياة شيءٌ محظور، لأن هذا الشيء المحظور يربِّي الإرادة في الإنسان، ولماذا الإرادة؟ لأنها أثمن ما يملكه الإنسان، إنه بالإرادة يرقى إلى الله سبحانه وتعالى، الإنسان مخيَّر، إن مشيئة الله سبحانه وتعالى شاءت أن يكون الإنسان ذا مشيئةٍ حرَّة، إن الله سبحانه وتعالى منحه الاختيار، منحه الإرادة الحرَّة، منحه المشيئة الحرَّة، وهذه المشيئة والإرادة لابدَّ لهما من تربية، وتربيتهما تكون في أن هناك في حياة الإنسان شيئاً محظوراً.
الصيام مثلاً - ونحن على أبواب رمضان - يربِّي في الإنسان الإرادة القويَّة، شيءٌ مباح، شربةُ الماء ليست محرَّمة، ولكنَّها في هذا الشهر محرَّمة من أجل أن تُربَّى في الإنسان الإرادة الصلبة المتينة، إذاً لا يمكن أن تكون الإرادة ذات قيمةٍ إلا إذا كانت منضبطة لا وفق الهوى، ولكن وفق الحقّ والقيم، فهذا الذي يعطي نفسه ما تشتهي، ومقاومته أمام الشهوات هَشَّة، ضعيفةٌ، سرعان ما ينهار أمام كل شيءٍ مُغْرٍ، هذا الذي تجذبه المغريات، وتخيفه الضغوط هذا إنسانٌ ضعيف الإرادة، لا يصلح أن يكون خليفة الله في الأرض، فالله سبحانه وتعالى أراد أن يعلِّمنا في نزول هذا النبي الكريم من الجنَّة إلى الأرض درساً لا يُنْسَى، هو أن الإنسان أثمن ما يملكه في حياته الإرادة الحرَّة، وأن هذه الإرادة الحرَّة لا ترقى إلا بالمحظورات ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا﴾ أي وصَّيْنا، ﴿عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ﴾ من قبل أن يهبط إلى الأرض ﴿فَنَسِيَ﴾ هذا العهد، ونسي تلك الوصيَّة، ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ لأنه لو لم ينسَ لبقي في الجنَّة، ولابدَّ من أن يهبط إلى الأرض.
 

سجود الملائكة لآدم سجود تعظيم لا سجود عبادة:


﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى(116)﴾

[ سورة طه  ]

أيضاً هذا السجود ليس سجود العبادة، ولكنَّه سجود التعظيم، هناك سجود التكريم، وهناك سجود التعظيم، وهناك سجود العبادة، أما سجود العبادة فهو لله وحده، ولا ينبغي لبشرٍ أن يسجد لبشر إلا أن يكون السجود كنايةً عن التكريم والتعظيم كما ورد في بعض آيات القرآن الكريم. 
إذاً نسي وصيَّتنا، أو نسي أمْرنا، ولم تكن عنده عزيمةٌ على المعصية، هذا تعليلٌ لطيف، وتخريجٌ يتناسب مع مقام هذا النبي الكريم، ومع عصمة النبي.
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾ لماذا كُلِّفَ الملائكة السجود لسيدنا آدم؟ لأن سيدنا آدم حمل الأمانة، والذي يحمل الأمانة يفوق بها من لم يحملها.

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

رُكِّبَ المَلَكُ من عقلٍ بلا شهوة، ورُكِّب الحيوان من شهوةٍ بلا عقل، ورُكِّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان، فالمؤمن إذا أخذ الأمانة بحقِّها، وعرف ربَّه، يفوق بهذا الملائكة المقرَّبين، لذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه: 

((  عبدي المؤمن أحب إلى من بعض ملائكتي.  ))

[ رواه الطبراني في الأوسط: ضعيف الجامع   ]

ما من شيء أكرم على الله من شاب تائب.
 

درس بليغ لآدم وذريته:


﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)﴾

[ سورة طه ]

درسٌ بليغٌ له ولذريَّته، وهو على وشك أن يكون خليفة الله في الأرض.

﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)﴾

[ سورة البقرة ]

علَّمه أن الشيطان عدوٌ له ولذريَّته: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ أي إذا أخرجك من الجنَّة تشقى، بمعنى أنك عندئذٍ تحتاج إلى سعي لكسب الرزق، تحتاج إلى عمل، وإلى كدٍّ، وإلى دأبٍ، وإلى جهدٍ تبذله من أجل أن تأكل، إنك في الجنَّة تتنعَّم، وتأكل بلا وسائط ماديَّة، أي هذه التفَّاحة يمكن أن تتصل بها نفس الإنسـان فتأخذ كل ما فيها من طعمٍ طيِّب، هذا في الجنَّة، الإنسان في الجنَّة يمكن أن يأكل أعداداً لا حصر لها من الفواكه والثمار من دون أن يُضطرَّ إلى أن يُدخلها إلى جسـده،  يأخذ طعمها الطيِّب، ويبتعد عن مادتها التي هي عبءٌ على جسده، لكنه في الأرض لا يستطيع أن يذوق طعم هذه التفاحة إلا إذا وضعها في فمه، فإذا وضعها في فمه أصبحت عبئاً على جهازه الهضمي، كانت هناك التُخمة، وكانت هناك أمراض الجهاز الهضمي، أي الحياة في الأرض تحتاج إلى جهدٍ كبير، من أجل أن تأكل طبقاً من الطعام تحتاج إلى ساعاتٍ لإعداده، من أجل أن تصل إلى هذا الشيء تحتاج إلى سنوات، هكذا فسَّر بعض المفسِّرين معنى تشقى.
 

الحكمة من قوله تعالى: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى وليس فتشقيا:


الشيء الذي يلفت النظر في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يقل: فلا يخرجنَّكما من الجنَّة فتشقيا، بل قال: فتشقى، لأن السعي والكدّ في نظر الدين على الرجل، ولأن الأمومة والتربية على المرأة، الرجل يعمل ليكسِبَ الرزق، والمرأة تربِّي الأولاد، وتنشـئهم تنشئةً عالية، من هنا المرأة التي شـكت إلى النبي عليه الصلاة والسلام زوجها، والتي قال الله في حقِّها:

﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)﴾

[ سورة المجادلة  ]

هذه المرأة حينما خاطبت النبي عليه الصلاة والسلام قالت له: يا رسول الله إن فلاناً تزوَّجني وأنا شابَّة، ذات أهلٍ ومالٍ وجمال، فلمَّا كَبِرَتْ سني، ونثر بطني، وتفرَّق أهلي، وذهب مالي، قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي، ولي منه أولاد، إن تركتهم إليه ضاعوا، هو لا يربيهم، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، أنا لا أطعمهم ولكني أربيهم، وهو لا يربيهم ولكنَّه يطعمهم، أي هذه المرأة حدَّدت بالضبط مهمَّة الرجل في الحياة، إن الرجل يعمل خارج البيت لكسب الرزق، والمرأة تعمل أخطر عملٍ تقوم به امرأة على وجه الأرض وهو تربية الأولاد، فمن أجل أن يكون الأولاد في المجتمع صالحين لابدَّ من لهم من أم رؤوم تحنو عليهم، وتعطي وقتها من أجلهم، لذلك: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ فتشقى وحدك، إنها في البيت، وأنت خارج البيت، إنك مكلَّفٌ بكسب المال، فلذلك الرجل أحياناً قد يأتي إلى البيت مُتْعَبًا، ليس التعب تعباً مادياً فحسب بل هو تعبٌ نفسي، إن صعوبات الحياة، وإن المتاعب، وإن العقبات كلّها يواجهها الزوج بشكلٍ صارخ، بينما الزوجة هي في بيتها ناَعِمَة البال، يأتيها رزقها رغداً، فلذلك على الزوجة أن تقدِّر أحياناً ظروف كسب المال، وظروف الحياة الصعبة، فلا تثقل على زوجها، ولا تُحمِّله ما لا يطيق، وقد كانت الصحابيِّات رضوان الله عليهن يقُلن لأزواجهن: "يا فلان نصبر على الجوع، ولا نصبر على الحرام، فاتَّقِ الله فينا" ، أي المرأة التي تُحمِّل زوجها فوق ما يطيق هذه امرأةٌ لا يحبها الله ورسوله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: عن عائشة أم المؤمنين:

(( أعظمُ النساءِ بركةً أيسرُهنَّ مُؤنةً. ))

[ إرواء الغليل: حكم المحدث: ضعيف ]

أقلَّهُنَّ مهراً، هذه المرأة اليسيرة التي ترضى باليسير.
عن معقل بن يسار:

(( تزوَّجوا الودودَ الولودَ. ))

[ العراقي: تخريج الإحياء للعراقي: حكم المحدث:إسناده صحيح ]

الودود الولود السـتيرة، التي تكتم نقاط الضعف في زوجها عن الناس، ولا تفضحه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يكره المرأة التي تخرج من بيتها تشتكي على زوجها، هذه امرأةٌ لا يحبُّها الله ورسوله، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( أيُّما امرأةٍ سَأَلَتْ  زَوجَها الطَّلاقَ في غيرِ ما بَأسٍ فحَرامٌ عليها رائحةُ الجنَّةِ. ))

[ شعيب الأرناؤوط: تخريج المسند لشعيب: حكم المحدث:إسناده صحيح على شرط مسلم ]

إذا أسكنها في بيت، وأطعمها، وكساها، وأمورها ميسورة، وكل حينٍ تقول له: طلقني، هذه امرأةٌ لا تروح رائحة الجنَّة، ولا ينظر الله إليها، والمرأة الصالحة تكون عوناً لزوجها على الشيطان، ولا تكون عوناً للشيطان على زوجها. 
أراد رجل أن ينصح امرأته فقال: إن في خُلُقي سوءاً، فقالت له زوجته: إن أسوأ خُلُقاً منك من حاجكَ لسوء الخُلُق. 
 

مشاهد ما في الجنة من النعم:


﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى(116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا﴾ أي إنّ إبليس ﴿عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ وبالتالي لذريِّتك ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ﴾ في الجنَّة ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ ربنا سبحانه وتعالى وصف الجنَّة، لك ألا تجوع فيها، إنك لست مضطرًّا لأن تُدخل الطعام إلى فمك كي تحيا، إنك تحيا من دون أن تكون محتاجاً إلى الطعام، إن الطعام في الجنَّة لا من أجل أن تحيا به، بل من أجل أن تتمتَّع به، لذلك حيثما اتجهت نفسك في الجنَّة إلى أية فاكهةٍ تأخذ كل اللذَّة منها من دون أن تأكلها، لذلك: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى﴾ هذه النفس التي هي الأصل في الجنَّة مركَّبةٌ على الجسد كلهيب الشمعة كيف أنه يحيط بالفَتيل، إنها عيون، إنها آذان، إنها مشاعر، إنها أحاسيس، خَطَرَ بباله فلان ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ أنت في الدنيا من أجل أن تلتقي بفلان لابدَّ من أن تسافر إليه، وتركب المركبة الساعات الطوال، ولكنَّك في الجنَّة لمجرَّد أن يخطر في بالك تطلع عليه، أي الحياة في الجنَّة كما قال النبي عليه الصلاة والسـلام فيما يرويه عن ربِّه: عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَر ٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].  ))

[ متفق عليه ]

لا يوجد بالجنَّة تقدُّم في السن، لا يوجد ضعف في القلب، لا يوجد ضعف بالأعضاء، لا يوجد خرف، لا يوجد ضعف في البصر، لا يوجد تشمع في الكبد، لا يوجد صمم، لا يوجد وهَن، لا يوجد أمراض شبابٌ دائم، نقص مواد لا يوجد، غلاء لا يوجد، الجنَّة مبذولةٌ للمؤمنين في أبهى مظاهرها، فلذلك: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) وفي قوله تعالى: 

﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾

[ سورة السجدة ]

أما الدنيا فهي دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء -لأنه مؤقت- ولم يحزن لشقاء -لأنه مؤقَّت- قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضَاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
 

من ضروريات العبد في الدنيا الطعام واللباس:


﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى(119)﴾

[ سورة طه ]

أساس الحياة أن تكون شبعان البطن، مكسوَّ البدن، الثانويات أن تكون في مأوى، وأن تكون في ريّ، فربنا سبحانه وتعالى فصل المتلازمين، كان بعضهم يقول: لو أن الله عزَّ وجل قال: إن لك ألا تجوع وألا تظمأ، وألا تعرى وألا تضحى، معنى ألا تضحى أي أنك لست بحاجةٍ إلى سكنٍ يحجُبُ عنك أشعَّة الشمس، ضحَى بمعنى بَرَزَ إلى الشمس، هنا كنايةٌ عن المسكن، لست في الجنَّة محتاجاً لا إلى طعامٍ، ولا إلى مأوىً، ولا إلى لباسٍ، ولا إلى ماءٍ تطفئ به ظمأك.
 

الشيطان أصل في الوسوسة والإضلال:


﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)﴾

[ سورة طه ]

 أي أنت في هذه الحالة الطيِّبة هل تحبُّ أن تستمرَّ بها؟ هل تحبُّ أن تخلُد في هذه الحالة؟ هذه أول كذبةٍ يكذبها إبليس على أبينا آدم، ما كان هذا النبي الكريم يعرف الكذب، أي حينما عصى لم يعصِ وهو يعلم أنه يعصي فنسـي، وحينما عصى لم يعصِ وهو عازمٌ على المعصية: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ والذي أغراه بهذا أن الشيطان توصَّل إلى نقطة الضعف فيه، هل تحبُّ أن تكون خالداً في هذه الحالة؟ قال: بلى، قال: كُلْ من هذه الشجرة.
 

آثارُ الأكل من الشجرة العصيان وظهور السوءة:


﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا﴾ حينما أكلا من هذه الشجرة، أي حينما وضعا التفاحة في الفم أصبحت لهما طبيعةٌ خاصَّة، أصبحت النفس داخل الجسد، وأصبح الجسد محيطاً بالنفس كما هي الحال في الدنيا، إذاً بَدَت العورات: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا﴾ يخصفان أي يضعان ﴿عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ معنى غوى أي خرج من هذه الحالة المُريحة في الجنَّة، الغَوِيّ الخروج عن الطريق، هذه الحالة المريحة في الجنَّة خرج منها ﴿فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ صار هناك عورات، ويحتاج إلى لباس، واللباس يحتاج إلى خياطة، والخياطة تحتاج إلى نسيج، والنسيج إلى خيوط، والخيوط إلى غَزْل، والغزل إلى قطن، والقطن إلى زراعة، وإلى حرث أرض، من أجل أن يرتدي هذا الثوب لابدَّ من جهودٍ كبيرة، ومن أجل أن يضع هذه اللقمة في فمه يحتاج إلى زراعة، وإلى أمطار، وإلى بِذار، وإلى حصاد، وإلى دراسـة، وإلى طحن، وإلى عجن، وإلى خبز، وإلى نقود، وإلى عمل.
 

انتقال آدم من دار النعيم إلى دار الفتن والابتلاء:


﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)﴾

[ سورة طه ]

 إنَّ هذا هو الدرس الأوَّل، انتقال هذا النبي الكريم من حالة أهل الجنَّة إلى حالة أهل الأرض، أهل الأرض جاؤوا إلى الدنيا للابتلاء، الإنسان يُبْتلى بكسب رزقه، يُبْتلى بزواجه، يُبْتلى بالفقر، يُبْتلى بالصحَّة، يُبْتلى بالمرض، يُبْتلى بالقوَّة، يُبْتلى بالضعف، يُبْتلى بالعُلوِّ في الأرض، يُبْتلى بالذلَّة، يبتلى، دخل إلى دار البلاء.

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

دخل إلى دار الفِتنة، دخل إلى دار السعي، دخل إلى دار التكليف، هذا حلال، وهذا حرام، هو الآن في الأرض، وعلى الأرض بحاجةٍ إلى طعام، والطعام يحتاج إلى كَسْب، كيف يكسب المال؟ هل يكسبه حراماً ليأكل أم يكسبه حلالاً ليأكل؟ دخل في الابتلاء، أصبحت فيه رغبةٌ إلى النساء لبقاء النوع، هل يُلَبِّي هذه الرغبة وفق الشريعة التي جاء بها الأنبياء أم وفق الشهوة العمياء كيف يلبي هذه الرغبة؟ دخل آدم عليه السلام في حالة الابتلاء، ودخل في حالة السعي والشقاء: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ طبعاً إذا قلت: فلان عصى بمعنى خالف الأمر، بصرف النظر عن دوافع المعصية، هناك من يعصي ساهياً، ومن يعصي مخطئاً، ومن يعصي متعمِّداً، ومن يعصي متحدّياً، ومن يعصي فاجراً، كلمة عصى تعني الخروج عن الأمر ليس غير، من دون أن يدخل الباعث على المعصية، إذا كان الباعث هو النسيان فلهذه المعصية حُكْم، وإذا كان الباعث هو المعرفة فلهذه المعصية حكم، وإذا كان الباعث هو التحدِّي فهذا هو الفجور، لذلك ربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَعَصَى﴾ أي خرج بسلوكه عن الأمر الذي أمرناه به فهبط من الجنَّة إلى الأرض.

  آدم عصى ناسياً ولم يعصِ عازماً فتاب الله عليه:


لأن هذا النبي الكريم عصى ناسياً ولم يعصِ عازماً: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ سريعاً جداً، ولذلك الإنسان إذا وقع في مخالفةٍ من دون قصدٍ، من دون تصميم، من دون إرادةٍ، من دون أن يكون راغباً في هذه المخالفة، توبته سهلةٌ جداً، أما إذا فعلها عن تَصَوُّرٍ وتصميم، إذا فعلها وهو يعلم أنه يعصي فهذه مشكلةٌ كبيرة.
 

حالة أهل الجنَّة أرقى بكثير من حالة أهل الأرض:


﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[ سورة طه ]

أي اهبطا، وكأن حالة أهل الجنَّة أرقى بكثير من حالة أهل الأرض، حالةٌ كلُّها نعيم، وكلُّها راحة، أما الإنسان على وجه الأرض فحياته شاقة. 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)﴾

[ سورة الانشقاق ]

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾

[ سورة البلد  ]

أي طبيعة حياته تحتاج إلى جهدٍ كبير، نحن في الدنيا يسكن أحدنا في بيت يكون أمامه زوجة وأولاد، يكون له دخل معقول، يقول لك: أربعون سنة وأنا أسعى، أربعون سنة  شقيت حتى وصلت إلى هنا، هكذا طبيعة الحياة، فيها ابتلاء، فيها امتحان في كل شيء.
 

العداوة الحقيقيَّة هي حمل إنسان على معصية أو دفعه إلى مخالفة:


﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ الإنسان في بعض الأحيان تكون امرأته عدوةً له إذا حملته بطلباتها على معصية الله، وقد يكون الزوج عدواً لامرأته إذا حملها على معصية الله رغبةً في شهوته، وقد يكون الابن عدواً لأبيه إذا سمح له الأب بشيءٍ يرفع مقامه في الدنيا على حساب دينه، يأتي يوم القيامة يقول: "يا رب لا أدخل النار حتى أُدْخِلَ أبي قبلي" .

﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)﴾

[  سورة الزخرف  ]

فكل إنسان حمل إنساناً على معصية، أو دفعه إلى مخالفة، أو كلَّفه ما لا يطيق فعصى الله عزَّ وجل هذه هي العداوة الحقيقيَّة.
 

من اتبع هدى الله لا يضلّ عقله ولا تشقى نفسه:


﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ مع أن الإنسان في الدنيا مُبْتَلى، مع أن الإنسان في الدنيا صاحب إرادةٍ حُرَّة، لكن الله سبحانه وتعالى نَصَبَ الآيات، كل شيءٍ ينطق بحمده، وكل شيءٍ دال عليه، ومع ذلك: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في القرآن الكريم إلا هذه الآية لكَفَتْ، كلنا جميعاً هذه الآية تَبُثُّ في قلوبنا الطمأنينة، إذا اتبعت هُدى الله في كل شيء لا تضلُّ ولا تشقى، لا يضلُّ عقلك ولا تشقى نفسك، تسعد، وترقى، وتنجح، وتتفوَّق، وتفلح، وتحقِّق الهدف مِن خلقك على وجه الأرض: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ يوجد طمأنينة عقليّة، هذا الذي لم يعرف الحق فيه خلل، عنده اختلال توازن، في قلق، هذا الذي يعتقده لا يطمئن إليه، دائماً في حالة غليان، أو حالة قلق، أو حالة خوف، لكنَّ الذي اعتقد ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام جاءت عقيدته مطابقةً لهدي الله عزَّ وجل، يطمئنُّ عقله إنه على حق، كم من البشر من سار في دربٍ ثم اكتشف في نهاية المطاف أنه طريقٌ غير صحيح ! كم من إنسانٍ ظنَّ أن هذا الشيء هو كل شيء في نهاية الحياة عرف أنه شيءٌ يسير لا قيمة له ضيّع من أجله حياته ! لذلك خيبة الأمل في خريف العمر شيءٌ لا يُحتمل، تكون قد أمضيت أربعين عاماً من حياتك في طريقٍ غير صحيح، تسعى للمال والمال عَرضٌ زائل، تسـعى لاقتناص اللذة، واللذَّة مُنقطعةٌ بالموت، لذلك: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ هنيئاً لمن وافق سلوكه الهُدَى الربَّاني، في زواجه، في بيعه، في شرائه، في عقيدته، في معاملاته، في علاقاته، في مشاعره، في عواطفه، من جاءت أحواله، وأقواله، وأفعاله مطابقةً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام فقد اطمأن عقله إلى أنه على الحق، أحياناً الإنسان يُفَسِّر حادثة، فإذا كان تفسيره مطابقاً للواقع ترتاح نفسه، فإذا اكتشف أن هذا التفسير غير صحيح يحتقر نفسه، يحتقر عقله، ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ .
 

المعيشة الضنك عاقبة الإعراض عن ذكر الله:


الآن الناس على صنفين، إما أن تتبع الهدى فلا تضل ولا تشقى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ هذا القرآن هو ذكر الله عزَّ وجل، الذكْرُ الذي أنزله الله، هذا الدستور، هذا المَنهج، هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: ﴿فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ﴾ ما معنى أعرض عنه؟ قد يقرؤهُ الإنسان، ولكنَّك إذا أعرضت عن تطبيق أحكامه، الله عزَّ وجل قال لك:

﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)﴾

[ سورة البقرة ]

المشرك عنده معمل، له مركبة فخمة، عنده بيت فسيح، ودخله كبير، وشكله جيِّد، وجاءك خاطب مؤمن أقل من هذا المشرك بكثير، لا يملك ثمن البيت، دخله محدود، فأنت إذا آثرت المؤمن على إيمانه، ورفضت المشرك على دنياه العريضة فقد عرفت أن هذا الكلام حقٌّ من عند الله، لكنَّك إذا خالفت كلام الله عزَّ وجل فهذا نوعٌ من أنواع الإعراض عن الله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ ، إذا قال الله لك:

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

وأنت لم تلتزم بهذه الآية، أطلقت لبصرك العِنان، أنت بهذا أعرضت عن ذكر الله، جعلت أحكام القرآن وراء ظهرك، مع أن المؤمن ليس هذا شأنه.

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

إذا حرَّم الله الربا انتهى الأمر، لا يوجد رأي ثالث، لا يوجد محاولة لإقناع الناس أن الربا مقبول، إذا حرَّم الله الاختلاط انتهى الأمر، إذا حرَّم الله النظر إلى الأجنبيَّات انتهى الأمر، لذلك ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ أي أعرض عن تطبيق هذا القرآن الذي جعله الله تذكرةً للإنسان ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾ والشيء الضنك هو الشيء الضيِّق، ضيقٌ ماديٌّ أو ضيقٌ نفسي، إما أن يكون الضيق ماديًّا يكاد يُعْصَر، وإما أن يكون الضيق نفسياً، لو أنه يملك أكبر ثروة في العالَم، لمجرَّد أن هذا الإنسان أعرض عن ذكر الله إنه في ضيقٍ نفسي لا يعلمه إلا الله، لذلك سئل بعض العلماء: هذه الآية كيف نفسِّرها في حقِّ الأغنياء الفَسَقَة أو أولي الحول والطول؟ فقال بعضهم: "إن الآية تعني ضيق النفْس"، في قلبه ضيق لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم، في قلبه ضيق لو وزِّع على أهل الأرض لماتوا همَّاً وغمَّاً ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ .
ويا أيُّها الإخوة المؤمنون؛ هذه الآية لو أن على وجه الأرض إنساناً واحداً أعرض عن ذكر الله وهو في سعادةٍ فهذا شيءٌ مستحيل، مستحيل أن تترُكه وتسعد، مستحيل، هذه النفس لا تسعد إلا بالله، لا تطمئنُّ إلا إلى ذكر الله، لا ترضى إلا بقضاء الله، لا ترتاح إلا لمشيئة الله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ ما كانت له صلةٌ بالله عزَّ وجل، كان في عمى، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:  عن أنس بن مالك:

(( الصلاةُ نورُ المؤمنِ. ))

[ ضعيف الجامع: حكم المحدث: ضعيف جداً ]

بهذا النور ترى به الحقَّ حقَّاً فتتبعه، وترى به الباطل باطلاً فتجتنبه، ولكنَّ الإنسان المُنْقَطِع عن الله عزَّ وجل أعمى.
 

المقطوع عن الله عز وجل يُحشر يوم القيامة أعمى:


﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)﴾

[ سورة طه ]

 كنت ذا عينين في رأسي ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ كنت أعمى القلب: يشيب المرء على ما شبّ عليه، ويموت على ما شاب عليه، ويحشر على ما مات عليه.
فلذلك: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ هذا الذي جعل هذا القرآن وراء ظهره، هو اشتغل بالدنيا، هذا إذا حُشِر يوم القيامة يُحْشَر أعمى، لأنه لو كان يصلي لكان في قلبه النور، كان مقطوعاً عن الله سبحانه وتعالى، وكانت الدنيا أكبر همِّه، ومبلغ علمه، لذلك كان أعمى: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ﴾ أنت لم تكن في الدنيا بصيراً، لك بصرٌ، ولم تكن لك بصيرة، لك عينان ترى بها صور الأشياء، ولم تكن لك بصيرةٌ ترى بها حقائق الأشـياء، غَرَّتك الحياة الدنيا، رأيتها كل شيء، مع أنها ليست كل شيء، رأيت المال هو كل شيء، رأيت المباهج الدنيويَّة هي كل شيء، رأيت العُلوَّ في الأرض هو كل شيء، رأيت الشهوة كلَّ شيء، مع أن معرفة الله هي كل شيء.
 

الجزاء من جنس العمل:


﴿ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)﴾

[ سورة طه ]

الآيات بثَّها الله في الأرض، وبثَّها في السـماء، وبثَّها في  خلقك، وبثَّها في أولادك، وبثَّها في زوجتك، وبثَّها في طعامك وشـرابك، وبثَّها في عملك، وبثَّها في بتتابع سِنِيِّ حياتك من طفولةٍ إلى شبابٍ، إلى رجولةٍ إلى كهولةٍ، إلى شـيخوخةٍ إلى ضعفٍ، إلى موت، كل ما حولك آيات، وبعث لك الأنبياء، وأنزل معهم الكتاب بالحق، وبعث من يَدُلُّك عليه، ﴿أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾ جعلت الدنيا أكبر همِّك ومبلغ علمك، ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ أي كذلك اليوم تُتْرَك، لم تستكمل موجبات الرحمة، لم تتعرَّف لي في الدنيا حتى تسعد في الآخرة، لم تجعل الدنيا دار ابتلاء، جعلتها دار عطاء، لم تجعل الدنيا مزرعة الآخرة، لم تجعلها دار تكليف، جعلتها دار تشريف، مع أن الدنيا دار تكليف، والآخرة دار تشريف، وربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ﴾ أسـرف على نفسه، أي أعطى نفسه ما تشتهي فحرمها كل الخَير، استهلك وقته استهلاكاً رخيصاً، أمضى الساعات الطوال في القيل والقال، وفي لغو الحديث، وفي التَمَتُّع بما لا يرضي الله عزَّ وجل.
 

العاقل من يعدّ العدة ليوم القيامة قبل أن يأتي:


﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)﴾

[ سورة طه ]

عذاب الدنيا ما أخذ من عذاب الآخرة شيئاً، إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول: يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون عليّ مما ألقى، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب، نارٌ محرقة تَلْفَحُ الوجوه، وتشوي الجلود، ومع ذلك في ضيقٍ نفسي، وفي عذابٍ نفسيٍّ لا يُحتمل، لهذا ورد في بعض الأحاديث أن الإنسان إذا اطلع على مكانه في النار يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا، وربنا سبحانه وتعالى يؤكِّد هذا المعنى:

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾

[ سورة الطور ]

﴿فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ لذلك هنيئاً لمن أَعَدَّ العدَّة لهذا اليوم العصيب، هنيئاً لمن عرف أنه سيموت قبل أن يموت، سيدنا عمر بن عبد العزيز اختار أحد كِبار العلماء ليكون مرافقاً له، قال: << يا مُزاحم، وظيفتك أن تقول لي إذا رأيتني ضللت أمسكني من تلابيبي، وهزَّني هزًّا شديداً، وقل لي: اتق الله يا عمر، فإنَّك ستموت >>، هذه وظيفتك، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن عبد الله بن عمر كنتُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاشِرَ عَشرةٍ، فذكر حديثًا طويلًا، فيه: فقال فتًى: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ المؤمنينَ أفضَلُ: قال: أحسَنُهم خُلُقًا، قال: فأيُّ المؤمِنينَ أكيَسُ؟ فقال: أكثَرُهم للموتِ ذِكرًا وأحسَنُهم له استِعدادًا. ))

[ ابن حجر العسقلاني المصدر: الفتوحات الربانية حكم المحدث: حسن ]

وقد ورد عن أبي الدرداء: خطبنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ جمعةٍ فقال: أيُّها الناسُ توبوا قبلَ أن تموتوا وبادروا بالأعمالِ الصالحةِ قبل أن تُشغلوا وصِلوا الذي بينكم وبينَ ربِّكم بكثرةِ ذكرِكم إيَّاه تسْعدوا وأكثروا الصدقةَ تُرزقوا وأْمُروا بالمعروفِ تُحصنوا وانْهوا عن المنكرِ تُنصروا أيُّها الناسُ إنَّ أكيسَكم أكثرُكم ذكرًا للموتِ، وأحزمُكم أحسنُكم استعدادًا له، ألا وإنَّ من علاماتِ العقلِ التجافي عن دارِ الغرورِ، والإنابةِ إلى دارِ الخلودِ، والتزودِ لِسكْنى القبورِ، والتأهبِ لِيومِ النشورِ.
وسيدنا علي رضي الله عنه يقول: << الغنى والفقر بعد العرض على الله >> ، لا يُسَمَّى الغني غنياً في الدنيا، إنه مبتلى بهذا المال، ولا يسمى الفقير فقيراً، إن الله سبحانه وتعالى وزَّع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء، فالغني امتُحِنَ بالغنى، إما أن ينجح، وإما أن يرسب، والفقير امْتُحِنَ بالفقر، إما أن ينجح به فيصبر، وإما أن يضجر فيرسب، والصحيح امتحن بالصحَّة، والسـقيم امتحن بالسقَمِ، والقوي امتحن بالقوَّة، والضعيف امتحن بالضعف، هذه الحظوظ وزِّعت في الدنيا توزيع ابتلاء، وسوف توزَّع في الآخرة توزيعاً آخر، توزَّع توزيع جزاء، فكم من غنيٍّ لم ينجح في امتحانه! وكم من فقيرٍ نجح في امتحانه! فأصبح الفقير في الآخرة غنياً، والغني فقيراً، الآية عُكِسَت، لذلك:

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)﴾

[ سورة الواقعة ]

قد ينجح الفقير في الامتحان فيصبر، وقد يرسب الغني في الامتحان فيُسْرِف، ويتكبَّر، ويبخل، عندئذٍ تكون الحظوظ في الآخرة موزَّعةً توزيعاً آخر، ربما كان الغني فقيراً، والفقير غنياً، لذلك العبرة لما بعد الموت، وهذه الدنيا عرضٌ زائل يأكل منه البَر والفاجر، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))

[ صحيح الترمذي  ]

عَنْ أبي هريرةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( رُبَّ أشعثَ مدفوعٍ على الأبوابِ، تنبُو عنه أعينُ الناسِ لو أقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ. ))

[ أخرجه مسلم: السلسلة الصحيحة: خلاصة حكم المحدث: حسن  ]

فلذلك الإنسان ليسعَ إلى جوهر الحياة، وجوهرها أن تعرف الله، وأن تستقيم على أمره، وأن تتقرَّب إليه، إذا كنت كذلك فأنت الفالح.

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 

السعيد من يتعظ بغيره والشقي لا يتعظ إلا بنفسه:


الآية الأخيرة: 

﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)﴾

[ سورة طه ]

 كفَّار قريش يذهبون صيفاً وشتاءً إلى الشام، وفي طريقهم إلى الشام مدائن صالح، وديار لوط، وديار عادٍ وثمود، هؤلاء الأقوام الجبابرة الأقوياء الذين طغوا في البلاد، الذين جابوا الصخر بالواد، الذين فعلوا ما فعلوا، الذين أكثروا فيها الفساد، أين هم الآن؟ ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ لأصحاب العقول، لذلك الإنسان السعيد من يتعظ بغيره، والشقي لا يتعظ إلا بنفسه.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور