وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 7 - سورة طه - تفسير الآيات 99 – 114 جزاء الإعراض
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

مخالفة القرآن والإعراض عنه أصلُ الشقاء :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السابع من سورة طه .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً﴾ .. الذكْرُ هو القرآن الكريم ، فيه ذكر الحقيقة ، فيه ذكر الأمر الإلهي ، فيه ذكر النَهي ، فيه ذكر مصير الإنسان ، فيه ذكر الجنة ، فيه ذكر النار ، فيه ذكر الطريق المستقيم ، فيه خبر من كان قبلنا ، فيه نبأُ من سيأتي بعدنا ، إنه القرآن الكريم ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، والله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً﴾ لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفتنا ، ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ﴾ .. هذا الذكر الحَكيم ، هذا القرآن الكريم ، الذي فيه طريق سعادتنا ، الذي فيه تعريفنا بأنفسنا ، تعريفنا بخالقنا ، ما ينبغي أن نفعل ، ما لا ينبغي لنا أن نفعل ، ما هو الحق ؟ ما هو الباطل ؟ ما هو الخير ؟ ما هو الشر ؟ إلى أين المصير ؟ أين كنا ؟ ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾ أي من اتخذه وراءه ظهريَّا ، من لم يعبأ به ، من استخف به ، من قال : إن هذا القرآن لا يصلح لهذا الزمن ، من رأى أن أوامر الله عزَّ وجل في كتابه الكريم ثقيلة ، فيها تزمت ، من رأى أن قوله تعالى :

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

[ سورة النور ]

من يقول : أين أذهب بعيوني ؟ كأنه رأى هذا الأمر تكليفاً ثقيلاً فأعرض عنه ، حينما قرأ قوله تعالى :

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]

فقال : هذا هو الربا الاستغلالي ، نحن نبيح الربا الاستثماري ، الربا ربا ، الله سبحانه وتعالى قال : ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ .

 

من لم يعبأ بأوامر الله شقي في الدنيا والآخرة :


معنى ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾ من لم يعبأ بهذه الأوامر ، من استخف بها ، من رأى أن الإجراءات الوضعية التي يضعها الإنسان فيها تلبيةٌ لحاجاته اليومية ، وتتمشى مع تطورات العصر ، من انطلق في اعتقاده من هذا الاعتقاد فهذا أيضاً يشمله قوله تعالى : ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾ أحياناً ترى على آلةٍ ضخمةٍ مِفتاحاً كتب فوقه : التشغيل ، يا ترى ما مصداقية هذه الكلمة ؟ هل هي صحيحة ؟ مبالغ بها ؟ إذا ضغطت هذا المفتاح فتحركت هذه الآلة الضخمة ، أليس تحرك هذه الآلة الضخمة مؤكداً إلى مصداقية هذه الكلمة ؟ لو أن الإنسان تتبع ما يجري في الكون ، لو أن الإنسان تتبع ما يجري للناس في تحركاتهم اليومية لوجد أن كل من طبَّق كلام الله عزَّ وجل سعد في الدنيا والآخرة ، وكل من حاد عنه شقي في الدنيا والآخرة ، أي إلى أن يمتلك الإنسان هذا اليقين القطعي أن كل الذي أُمرنا به في هذا الكتاب خيرٌ مطلقٌ محضٌ ، وأن كل الذي نهينا عنه في هذا الكتاب شر مطلقٌ محضٌ ، إذا تكوَّنت عندنا هذه القاعدة ، وهذه العقيدة ، عندئذٍ نقرأ كلام الله فنستسلم لأمره ، وننتهي عما عنه نهى ، فالقضية قضية موقف ، كل المسلمين في هذا الزمان يقرؤون هذا الكتاب ، ويتبرَّكون به ، ويضعونه في أجمل أمكنةٍ في بيوتهم ، ويتباركون به ، يضعونه في مركباتهم ، في محلاتهم ، في غرفهم ، في أماكِنهم ، يزيِّنون جدران بيوتهم بآياته ، هذا السلوك لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، القضية أن القرآن إذا أمرك بأمر هل أنت مع هذا الأمر ؟ إذا قال الله لك :

﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) ﴾

[ سورة البقرة ]

هل تؤثر في تزويج ابنتك المؤمن الفقير على المنحرف الغني ؟ إذا قرأت القرآن وقلت : صدق الله العظيم ، ولم تكن في هذا المستوى ، بحثت عن زوجٍ لابنتك غني ، وتساهَلت بدينه ، ورفضت زوجاً فقيراً على الرغم من تمسكه بدينه ، إذا فعلت ذلك فأنت لم تقل : صدق الله العظيم ، لم تقل ذلك .

إذا أمرك الله عزَّ وجل أن تغض بصرك عن محارم الله ، ورأيت في إطلاق البصر متعةً لا تفوت ، فأنت لم تقل : صدق الله العظيم ، وأنت قد أعرضت عن هذا الكتاب ، فالقضية ليست قضية تبرك ، قضية أن تضعه في جيبك ، أن تضعه في مركبتك ، القضية أعمق من هذا ، هل أنت مع أمره ونهيه ؟ هل أنت موقنٌ يقيناً قطعياً أن في أوامره الخير الجزيل ؟ وأن في الحيد عن خطه المستقيم شقاءً لا يعدله شقاء ؟ فهذه الآية تؤكد ذلك :  ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾ في زواج الإنسان لو لم يتبع هدي القرآن الكريم ما سعد بهذا الزواج ، في تجارته ، من لم يتبع هدي هذا القرآن الكريم لا يحقق أهدافه من عمله ، في كل حركاته ، وسكناته ، في صحته ، في علاقته بنفسه ، في علاقته بجسده ، في علاقته بربه ، في علاقته بزوجته ، بأولاده ، بجيرانه ، بزبائنه ، بمن حوله .

 

جزاء الإعراض تحمُّل الوزر :


﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً﴾ .. كلمة يحمل ، و وزر ، الوزر : الحمل الثقيل ، فقد تجد إنساناً عَلَتْهُ الكآبة ، تسأله : مالك ؟ يقول لك : حملي ثقيل ، له قضيةٌ تستوجب مصالحةً بمبلغٍ كبير ، تراه لا ينام الليل ، يخشى من شبح مصيبةٍ تُنْهِكُ قواه ، وتبدد أمواله ، يقول لك : حملي ثقيل ، فالإنسان إذا خالف أمر الله عزَّ وجل يحمل حملاً ثقيلاً ، لو أنه انساق مع شهوته ، وسبب شقاء فتاةٍ كان من الممكن أن تكون زوجةً صالحة ، إنها تُلاحقه في كل أوقاته ، تلاحقه بخيالها ، لقد جعلتها امرأةً ساقطة بعد أن كان من الممكن أن تكون امرأةً شريفة ، لقد حمل من الوِزر ما لا يطيق ، الإنسان حينما يبني غِناه على فقر الناس ، أو حينما يبني سعادته على شقائهم ، يحمِّل نفسه ما لا يطيق ، فلذلك : ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً﴾ أي ما من سعادة أعظم من أن تكون خالي الساحة من كل تبعةٍ أو مسؤولية ، هذا الذي يطيبُ لونه دليل أن عمله طيِّب ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى رَفَعَ راحة البال وصلاح البال إلى مستوى الهدى ، فقال :

﴿  سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5) ﴾

[  سورة محمد  ]

أنت أن تنام قريرَ العين ، أن تنام مطمئن النفس ، لو أن حياتك خشنة ، لو أن فيها متاعب مادية ، لو أن عملك يقتضي جهداً عضلياً كبيراً ، لو أنك واصلت الليل بالنهار من أجل قوت يومك ، قوت أولادك ، تنام ساعاتٍ عديدة تستعيد نشاطك ، لكن هذا الذي بنى مجده على أنقاض الناس ، بنى غناه على فقرهم ، بنى سعادته على شقائهم ، إنه يحمل حملاً ثقيلاً قد نقول في أنفسنا : كيف يحمله ؟

 كيف تستطيع أن تنام الليل وقد آذيت حيواناً ؟ هذا الذي يتسلَّى ، ويدهس كلباً في أثناء سيره كيف ينام الليل ؟ يوم القيامة كما حدثنا النبي عليه الصلاة والسلام يأتي عصفورٌ وله دويٌ كدوي النحل يقول : يا ربِّ - لمن اصطاده لغير مأكلةٍ - يقول : عن الشريد بن سويد الثقفي :

(( من قتل عصفورًا عبثًا عجَّ إلى اللهِ يومَ القيامةِ يقولُ : يا ربِّ إنَّ فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتُلني منفعةً . ))

[  المنذري : الترغيب والترهيب : خلاصة حكم المحدث  :إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما : أخرجه النسائي واللفظ له ، وأحمد ]

هذا الحمل الثقيل لا يعرفه إلا من ذاقه ، من وقع في مخالفةٍ لأمرٍ بشري ، وهذه المخالفة تقتضي غرامةً كبيرة ، أو تقتضي عقاباً أليماً ، قبل أن يُضبط بهذه المخالفة تراه كأنه يحمل حملاً ثقيلاً يكادُ يسحقه ، فالحمل الثقيل لا يعرفه إلا من ذاقه ، قد يكون الحمل الثقيل معنوياً ، قد يكون الحمل الثقيل إساءةً لإنسان ، أو هذا الذي يُطَلِّق امرأته بلا سبب ، في ساعة غضبٍ شرَّدها ، جعلها خارج البيت ، له منها أولاد ، لم تسئْ إليه ، إلا أنه أراد أن يشفي رغبة أمه أحياناً ، هذه الزوجة المظلومة ، قد تخاطبه ليلاً نهاراً : ماذا فعلت لك حتى عاملتني هذه المعاملة ؟ هذا حملٌ ثقيل . 

 

المعاصي حِمل ثقيل :


المعاصي والذنوب والآثام حملها ثقيل ، والنفس لا تقوى على حملها ، إن تعذيب الإنسان لذاته شيءٌ لا يعرفه إلا من ذاقه ، فالإنسان كلَّما كان مستقيماً ، وكلما كان مُحسناً ، وكلما كان منضبطاً ، وكلما كان أشد خوفاً لله عزَّ وجل ، كلما شعر براحةٍ لا تعدلُها راحة ، المظاهر المادية لا قيمة لها ، إنها لا تَهَبُنا السعادة ، إن المال الوفير ، والفراش الوثير ، والبيت الكبير ، والمركبة الوطيئة ، والسمعة المتألِّقة ، هذه كلها أقنعةٌ كاذبة لا تهبنا السعادة ، إن السعادة تتأتَّى من أن تكون عضواً نافعاً في المجتمع ، إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك .  

 

الحمل الثقيل يسحق الإنسان :


السؤال الخطير : ماذا أديت لبني البشر من خدمات ؟ هل دللتهم على الله عزَّ وجل ؟ هل ساهمت في تخفيف الآلام عنهم ؟ هل كنت عضواً نافعاً ؟ هل يتعلق عملك بخدمتهم أم بسلبهم حرِّياتهم ؟ كيف تعيش ؟ من أي جهةٍ تُرزق ؟ أترزق من نفعٍ الناس أم من الإضرار بهم؟ 

يا أيها الإخوة الأكارم ؛ كلما حَسُنَ عمل الإنسان سعد في الدنيا والآخرة ، إن الحمل الثقيل حِمْلُ المعاصي والآثام ، حمل البغي والعدوان ، حمل الخروج عن أوامر الشرع ، حمل الإساءة إلى الناس ، إن هذا الحمل الثقيل شيء يسحق الإنسان ، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى في آخر سورة البقرة قال : 

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)  ﴾

[ سورة البقرة ]

دخل رجلٌ إلى بيته وهو مخمور ، فقتل امرأته وخمسة أطفالٍ له ، فلما صحا ماذا فعلت يداه ؟ لو أن أحداً لم يحاسبه ، لو أن أحداً لم يلق القبض عليه ؟ ألم يحمل حملاً لا يحتمله ؟ طبعاً هذه حالةٌ حادةٌ ، مثلٌ حاد ، لكن إذا غششت امرأً مسلماً في البيع قال لك : بالله عليك انصحني ، أنت لم تنصحه ، دللته على البضاعة الكاسدة ، وزينتها له حتى صرفتها عنك ، إنه إذا كان لك ضميرٌ يقظ ، إن هذا المسلم الذي وقف على دكانك سوف يكون حِمْلاً ثقيلاً عليك ، هذا الذي يغش الناس ، هذا الذي يعتدي على أعراضهم ، هذا الذي يكذب عليهم ، هذا الذي يحتال عليهم ، هذا الذي يبني ثروته على فقرهم ، كيف يواجه الله سبحانه وتعالى ؟ فلذلك:

﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ(83) ﴾

[ سورة الزخرف ]

حينما يأتي ملك الموت ، وحينما ينكشف العمل ، وحينما يرى الإنسان مقامه ، ومكانه ، أفي الجنة أم في النار ، عندئذٍ أهل النار يصعقون ..﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ(83)﴾ .

﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾ عن هذا الكتاب ، لا يوجد حالة ثالثة ، إما أن تأخذ به ، وإما ألا تأخذ به ، إن أخذت به هداك للتي هي أقوم :

﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(9)﴾

[ سورة الإسراء ]

في كل شيء ، والمُطْلَقُ في القرآن على إطلاقه ..﴿ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ في حياتك الزوجية ، في حياتك المِهَنية ، في حياتك الروحـية ، في حياتك الجسـمية ، في حياتك العقلية ، في حياتك الاجتماعية ، في حياتك العاطفية ..﴿ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ .

 

من يرتكب المعاصي والآثام يتحمل وزرها إلى يوم القيامة :


﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ ﴾ فهذه الهاء في (عنه) على من تعود ؟ ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ﴾ الإنسان .. ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ﴾ .. في هذا الوِزر ، وبعض المفسرين قال : في جزاء هذا الوزر ، ما قولك أن يرتكب الإنسان معصيةً لساعةٍ أو لساعات ، أو لشهرٍ أو لسنوات ، ويتحمَّل شقاءها إلى الأبد ؟ لو أن هذه المعصية دام نعيمها ، أو دامت لذَّتها طوال حياته ، وانقضت الحياة ، وجاء الحساب ، وأصبح خالداً في النار نظير هذه المعصية ، هل كان هذا الإنسان عاقلاً ؟ " ابن آدم أطع ربك تسمَّ عاقلاً " .

 عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ . ))

[ الترمذي : حكم المحدث : صحيح ]

لذلك هذه كلمة : ﴿ خَالِدِينَ فِيهِ﴾   أي في الوزر ، أي في جزاء الوزر . هذا مثل منتزع من حياتنا اليومية : لو أن إنساناً في ساعة غضبٍ قتل إنساناً ، وسيق للمحاكمة ، وحُكم عليه بأن يمضي في السجن ثلاثين عاماً مع الأشغال الشاقة ، يا ترى نشوة الظفَرِ بقتل هذا الإنسان هل تساوي أن يمضي في السجن ثلاثين عاماً مع الأشغال الشاقة ؟ الثلاثون عاماً تمضي ، والأربعون تمضي ، والخمسون تمضي ، ولكن الأبد لا يمضي ، الأبد أبد ، أي إلى الأبد ، فهذا الإنسان الذي لا يعرف معنى الأبد ومعنى الخلود هو أحمق كبير إذا عصى ربه الواحد المتعالي ، ﴿ خَالِدِينَ فِيهِ﴾ في هذا الوزر ، في تبعة هذا الوزر ، في شقاء هذا الوزر ، في عِقاب هذا الوزر ، في النار التي استوجبت هذا الوزر. 

 

البعد الشاسع بين من يأمر بالمعروف وبين من ينهى عنه :


﴿ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً﴾ .. حملٌ ثقيل ، بين أن يأتي الإنسان إلى رب العالمين بوجهٍ نضر ، بوجهٍ أبيض ، بيدٍ محملةٍ بالأعمال الصالحة ، شتان بين أن يأتي سيدنا الصديق رضي الله عنه ، وقد كان خادماً كما روى عن نفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان معه في السرَّاء والضرَّاء ، وساهم معه في نشر هذا الدين الحنيف ، وبين أن يأتي أبو جهلٍ ليقف إلى جانبه ليلقى جزاء عمله ، شتان بين من يأتي يوم القيامة وقد تزوَّج امرأةً صالحة فسعد بها ، وأسعدها ، وأنجب منها ذريةً طيبة ، رباها تـربيةً صحيحة ، وكان خيِّراً معطاءً ، وبين من يأتي وقد زنى بفلانةٍ وعلاَّنة ، وتسبب في شقائهم ، شتان ، شتان بين من يقرض الله قرضاً حسـناً وبين المُرابي ، شتان بين من ينصح في البيع والشراء وبين من يغش ، شتان بين من يصدق وبين من يكذب .

 

مَشَاهِد من يوم القيامة :


﴿ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً﴾ .. النفخُ في الصور هذا ورد في أكثر من موضعٍ في كتاب الله ، لا نعرف كُنْهَ الصور ، ولكن نعرف أن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا أنه في وقتٍ معين ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات والأرض ، ثم ينفخ فيه أُخرى فإذا هم قيامٌ ينظرون ، أي النفخ في الصور إشارة إلى بعث الناس من قبورهم ، الأشياء التي غابت عنا بذواتها وآثارها ، مسلك اليقين بها هو مسلك اليقين الإخباري ، الإخبار اليقيني ، أو اليقين الإخباري ، والله سبحانه وتعالى أخبرنا وهو الصادق المَصدوق في كتابه الكريم أن هناك نفخاً في الصور يستدعي قيام الناس من قبورهم ليلقوا نتائج عملهم ، ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً﴾ .. زرقاً ما يشبه قوله تعالى :

﴿  وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107) ﴾

[  سورة آل عمران  ]

﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)﴾

[ سورة آل عمران  ]

الزرق اللون الأزرق القريب من اللون الأسود ، فهو كنايةٌ عن سواد الوجه الذي هو بسبب الخزي والعار الذي سببته المعصية والانحراف . 

وهناك معنى آخر لكلمة زرق : شخوص البصر دليل الخوف الذي ملأ القلب ، يحشرون خائفين ، أو يحشرون بوجوه مسودَّة ، المجرم دائماً وجهه أسود تعلوه كآبة ، تعلوه مسحةٌ من سواد .  

 

من حقارة الدنيا قِصَرُ زمنها :


﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ .. التخافُت الكلام السرِّي ، أي بصوتٍ مهموس ، بصوتٍ غير مسموع.. ﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً﴾ أي هذه الدنيا التي سرحتم بها ، ومرحتم بها ، واستعليتم بها على خلق الله ، وفعلتم ما فعلتم ، وعصيتم ما عصيتم ، وانتهكتم ما انتهكتم ، هذه الدنيا التي ظننتم أنها طويلةٌ جداً ، وأنها حياةٌ طويلة أمضيتموها في المتع الرخيصة هي الآن في نظر المجرمين إن هي إلا عشرة أيام .. ﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً﴾ فإذا واجه الإنسان الألم ، تمضي أيام السرور عليه سِراعاً ، أيام اللذة تمضي وكأنها دقائق ، لذلك قالوا : ساعة اللَّذة دقيقة ، ودقيقة الألم ساعة ، الأيام التي سُرَّ بها الإنسان ، وانقضى أجله ، وجاء يوم القيامة ليلقى جزاء عمله يراها ساعات ، أياماً ..﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً﴾ يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً﴾ بل إن بعض هؤلاء المجرمين ليقولون قولاً مغايراً لم يلبثوا إلا يوماً واحداً ، ما قولكم ؟ هل من العقل ومن الذكاء ومن رجاحة التفكير أن يمضي الإنسان عمراً قصيراً مشحوناً بالمتاعب والآلام والهموم بمعصيةٍ يلقى بعدها عذاباً أبدياً سرمدياً ؟! ﴿ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً﴾ يومًا ، لذلك سئلت السيدة رابعة العدوية رحمها الله تعالى عن الإنسان فقالت : " هو بضعة أيام ، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه "، بضعة أيام ، كل منا له عُمُر ، ليسألْ نفسه هذا السؤال : كيف مضى هذا العمر ؟ يقول لك : والله بين عشيةٍ أو ضحاها صرت في هذا العمر ، إذا كانت الأربعون عاماً مضت هكذا ، ألا يمكن أن تمضي العشرون الأُخَر بلمح البصر ؟ تمضي سراعاً ، نحن نستقبل الصيف ونودِّع الصيف ، نستقبل الشتاء ونودع الشتاء ، نستقبل عام سبعة وثمانين ، وبعده عام ثمانية وثمانين ، وبعده بسنتين عام تسعين ، وهكذا ، الأيام تمضي سريعاً ، من هنا قال سيدنا علي كرم الله وجهه : " كل متوقعٍ آت وكل آتٍ قريب " .

 

من يجهد في إرضاء الله فهو في بحبوحةٍ ولن يعذبه الله عزَّ وجل :


 على كلّ هناك بشارة من الله عزَّ وجل أن الذي يخشى ذنبه ، ويسعى لتكفيره ، أن الذي يُقلقه مصيره ، ويسعى لصلاح نفسه ، أن الذي يخشى غضب الله عزَّ وجل ، ويسعى لبلوغ رضاه ، أن الذي لا يرتاح لحالته النفسية ، ويسعى لتزكيتها ، هذا الإنسان الذي يستغفر ، ويجهد في إرضاء الله عزَّ وجل هذا في بحبوحةٍ لن يعذبه الله عزَّ وجل لقوله تعالى :

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ﴾

[  سورة الأنفال  ]

أي : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ .. هذه الآية أول معنى من معانيها : إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم لن يعذَّبوا ، لأن الدعوة قائمة ، وإذا انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى ، وبقيت سُنَّتُه فيهم ، وشريعته فيهم ، مطبقة في بيوتهم ، وفي أعمالهم ، وفي تحركاتهم ، وفي سكناتهم ، إذا بقيت محبته فيهم لن يعذبهم الله عزَّ وجل ، أي إذا كان الإنسان قد أقلقه مصيره ، خاف على نفسه ألا يكون الله راضياً عنه ، ورأى في حياته خللاً ، وسعى لإصلاحه فهو في بحبوحة ، ليطمئن ، ما دام السعي حثيثاً لبلوغ الهدف النبيل فالله سبحانه وتعالى يعطي هذا العبد فرصةً كي يصلح من شأنه . 

 

مصير الجبال يوم القيامة :


﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ .. يبدو أن الجبال عند أهل مكة شيءٌ صارخٌ في حياتهم ، حيثُما التفت المَكِّي رأى جبالاً شاهقةً موزعةً في كل الأنحاء ، ومن يحج البيت الحرام يعرف مصداق هذه الآية ، يبدو أن كفار قريش سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن مصير هذه الجبال ؟ فقال الله عزَّ وجل : ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ لا يبقى منها شيء .. ﴿ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ﴾ أي يذر مكانها أرضاً منبسطةً ملساء ، قاعاً أي أرضاً ممهدةً ملساء ، ﴿ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً﴾ .. العوج هو المنخفض ، والأمت هو المرتفع ، لا مرتفع ولا منخفض ، أو أن هذه الجبال تصبح كالرمال تذروها الرياح ..

﴿  وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ(5) ﴾

[ سورة القارعة ]

هذه قدرة الله عزَّ وجل ، يقول لك : جبل هيمالايا ارتفاعه اثنا عشر ألف وثمانمئة متر .. أي اثنا عشر كيلو متر تقريباً .. أعلى نقطة فيه قمة إفرست ، هذا الجبل داخل في هذه الآية : ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ جبال الألب بأوروبا ، جبال أورال ، جبال الأطلسي ، هناك جبال كثيرة ، هذا جبل قاسيون تلَّة صغيرة .. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً﴾ ، لذلك :

﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2)وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3)وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5)وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ(6)وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7)وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9) ﴾

[ سورة التكوير  ]

هذه كلها من مشاهد يوم القيامة .

 

تلبية الداعي يوم القيامة :


يومئذٍ هؤلاء المجرمون ، هؤلاء الذين عصوا ربَّهم في الدنيا ، هؤلاء الذين عتوا عن أمره ، هؤلاء الذين تمرَّدوا ، استعلَوا ، رأوا أنهم كل شيء ، هؤلاء ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ﴾ أي لا يتلكَّؤون ، ولا يتباطؤون ، ولا يمتنعون عن تلبية الداعي ، نحن في الدنيا ، إذا جاء بعض الناس الداعي ليأخذه إلى مكانٍ معيَّن ، ليس في إمكانه أن يقول : لا أذهب ، فكيف إذا جاء الداعي من قِبَلِ الله سبحانه وتعالى ؟ إذا جاء الداعي من قبل إنسانٍ لا تستطيع ألا تلبِّي دعوته ، فكيف إذا جاء الداعي من قِبل الواحد الديَّان؟ فلذلك ارتكب أحدهم عملاً فظيعاً ، وذهب إلى الحج ليستغفر الله عزَّ وجل فكان يقول : " رب اغفر لي ذنبي ولا أظنك تفعل " ، فقال له أعرابي : " يا هذا ما أشدّ يأسك من رحمة الله ؟! " ، فقال : " ذنبي عظيم " ، ذكر له قصةً مروِّعة ، يبدو أنه كان في بيت ، وقد قتل الزوجَ والولد فأعطته الزوجة - طبعاً هو يهدف أن يأخذ ما في هذا البيت - درعاً مُذْهَبَةً كتب عليها بيتان من الشعر فوقع مغمياً عليه :

إذا جار الأمير وحاجـــباه               وقاضي الأرض أسرف في القضاء

فــــــويلٌ ثم ويــــلٌ ثم ويــــلٌ               لقاضي الأرض من قاضي السـماء

* * *

أي إذا جاء يومئذٍ الداعي .. ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ﴾ لا عوج ، العوج : لا تلكُّؤ ، لا تريُّث ، لا رفض ، لا تمرُّد أبداً ..﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ﴾ نحن في الدنيا إذا جاء داعي الموت ، مَنْ مِنَ الناس يستطيع أن يرفض هذه الدعوة ؟ ولو كنتم في بروجٍ مشَيَّدة .. لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفس .. هكذا قال أحد الشعراء في العصر العباسي :

لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفـس          وإن تمنعت بالـحجـّـــــــــــاب والـحــرس

فما تزال سهـــــــام المــــوت نـافـــــــذةً          فـي جـنب مـــــــــدَّرعٍ منهــــــا ومُـتَّــرس

أراك لســــــــــــت بـوقـــافٍ و لا حـــــذرٍ         كالحاطب الخابط الأعواد في الغَلَـسِ

ترجو النجاة ولم تســلك مســالكــــها         إن الســفينـــة لا تجـــــري على اليَبَسِ

* * *

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها .. يقول الناس : " الله يرحمنا ، الله يغفر لنا ، نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان ، الله يتولانا بعفوه ، لا تسعنا إلا مغفرته " ، هذا كلام لا يسمن ولا يغني من جوع ، لابدَّ من العمل ، طلب الجنة من دون عمل ذنبٌ من الذنوب ، هذا الذي يطلب الجنة بلا عمل كالمستهزئ بربه ..

 

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا             فـإنا منـحنا بالرضا من أحبنــــــا

ولُذ بحمـــانا واحتـــمِ بـجنابنـــــا             لنحميك مما فيه أشــرار خلقنــــا

وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغــل            وأخلص لنا تلق المسرَّة والـهنــــا

* * *

وبعدئذٍ يقول ناظم هذه القصيدة :

فـلو شاهدت عيناك من حسننـــــا             الذي رأوه لما وليت عنــــــــــا لغـيرنـــا

ولو سمعت أذناك حسن خطابــنا             خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــــــــــا

ولو ذقت مـن طعم المحبــــــة ذرة             عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــــــــا

ولو نسمت من قربنا لك نسمــــة             لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــــــــــــا

* * *

فما حبنا سهلٌ .. هنا بيت القصيد :

فما حبنا سهل وكل من ادعــــــى             سهولته قلنا له قــــــــــــد جهلتنـــــــــــــا

فأيسر ما في الحب للصب قتـلـه             وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنــا

* * *

 

العاقل من يعدّ لموقف يوم القيامة عدته :


لذلك ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً﴾ .. في الدنيا ينفجر الإنسان أحياناً بالصوت ، يعلو صوته على صوت الآخرين بدافع من استعلائه أو تمرُّده ، ولكن هذا المجرم يوم القيامة لا تسمع له صوتاً .. ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ خشوع الصوت أي سكونه .. ﴿ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً﴾ لشدة هول الموقف .

ليس من يقطع طُرقاً بطلاً                 إنما من يتقي الله البطل

* * *

البطولة أن تعد لهذا الموقف عُدَّته ، البطولة أن تعد لهذا الموقف الاستقامة التامة ، والعمل الصالح ، وفهم كتاب الله ، والعمل به ، وأن تحضر مجالس العلم ، وأن تعرف الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والخير والشر ، هذه هي البطولة. 

 

الشفاعة حقّ ولكن لا تكون إلا بإذن الرحمن ورضاه :


﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً* يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ .. الله سبحانه وتعالى ينفي نفع الشفاعة إحقاقاً للحق ، وتنفيذاً لوعده ووعيده ، وعد الله بالجنة ، ووعيده بالنار ، فإذا نفعت الشفاعة بمعناها الضيِّق تعطَّل الوعد والوعيد ، وتعطَّل الثواب والعقاب ، ولم يحق الحق ، وكان ذلك مخالفاً لما ذكره الله سبحانه وتعالى في آياتٍ أخرى ، لكن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام حق ، ولها تفصيلٌ ذكرناه في دروس العقيدة ، شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لا ينالُها إلا من مات غير مشركٍ بالله عزَّ وجل ، هذا ورد في صحيح الأحاديث .. لا تنال النفس شفاعة النبي إلا إذا كانت موحدةً في الدنيا .. ولها شروطٌ ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : " يا فاطمة ! مشيراً إلى المعنى الساذج للشفاعة الذي يتعلق به عامة الناس ، يظنون أنهم إذا آمنوا بشفاعة النبي فلهم أن يفعلوا ما يفعلون من المنكرات والآثام والمعاصي ، والنبي صلى الله عليه وسلم يدخلهم الجنة ، وانتهى الأمر ، تعطل الدين كله ، الشفاعة لها معنىً آخر لا مجال الآن لذكرها بالتفصيل ، ولكنها حق ، ويجب أن نعتقد بها ، وهي من العقائد التي يجب أن تُعلم بالضرورة ، لكن بمفهومها الساذج أن يفعل الإنسان ما يفعل من شرورٍ ، وآثامٍ ، ومعاصٍ ، وأن يمتنع عن أداء الحقوق والواجبات ، ويقول : سَـيُشْفَعُ لي ، فأنا من أمة محمد ، هذا الكلام ليس مقبولاً في نص هذه الآية ، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . ))

[ البخاري ومسلم  ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام : مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

وفي قولٍ آخر إن النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة يرى بعضاً من أمته يسحبون إلى النار فيقول : عن أبي سعيد الخدري :

(( إنَّهُمْ مِنِّي ، فيُقَالُ : إنَّكَ لا تَدْرِي ما عَمِلُوا بَعْدَكَ ، فأقُولُ:  سُحْقًا سُحْقًا لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي . ))

[ صحيح مسلم ]

﴿ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ .. فالشفاعة كما قلت قبل قليل حق ، ولكن لمن أذن له الرحمن ، والنبي عليه الصلاة والسلام صاحب الشفاعةٍ العُظمى ، ولكن شفاعته مقيدةٌ بأن يموت المرء غير مشركٍ بالله عزَّ وجل ، فمن لم يشرك بالله عزَّ وجل ، واتبع سُنَّته في الدنيا ، شفع له النبي عليه الصلاة والسلام في الآخرة ، فكانت كرامة الله عزَّ وجل لهذا النبي بأن يسوق الخير للمؤمنين على يديه ، أما في القسم الأخير من هذه الآية : ﴿ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ أي حتى الشفاعة نفسها أولاً لا تجدي إلا في حالةٍ واحدة : ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ وهذا مِصْداق قوله تعالى :

﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) ﴾

[ سورة الأنبياء  ]

 

الله تعالى يعلم أعمال كل الخلق :


﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾ أي الله سبحانه وتعالى يعلم أعمال كل الخلق .. ﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ أمَّا هم ..﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾ لذلك من السذاجة أن تظن أنك تعلم كل شيء ..

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[  سورة الإسراء  ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) ﴾

[  سورة البقرة ]

 

العَجز عن الإدراك إدراك :


﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾ .. الإنسان أحياناً كما قال بعض العلماء : العَجز عن الإدراك إدراك ، حينما ترى أن الله سبحانه وتعالى لا نهائيّ في كل شيء ، وأن علمه لا يُحَد بحد ، وأن قدرته لا تُحد ، وأن عظمته لا تُحد ، عندئذٍ تستسلم لهذه الذات الكاملة ، ولا يسعك إلا أن تعبد الله سبحانه وتعالى ، وأن تشكره على عطائه ، وهذا مصداق قوله تعالى :

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)  ﴾

[  سورة الزمر  ]

 

أشدّ الناس خسارة يوم القيامة من حمل ظلماً :


﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾ أي خضعت ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾ .. أي من حمل ظلماً يأتي يوم القيامة وهو من أشدّ الناس خسارةً ، خاب ، لم يحقق الهدف ، فلذلك كما قال عليه الصلاة والسلام : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ :

(( الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . ))

[  صحيح البخاري ]

وأشد أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه ، ومعنى ظلم النفس أن يحرمها معرفة الله عزَّ وجل ، هذا أشد أنواع الظلم :

﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)﴾

[  سورة البقرة  ]

حينما تحرم نفسك لذَّة معرفة الله ، وسعادة القرب منه ، فهذا من أشد أنواع الظلم ، ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ﴾ .

 

اقتران الإيمان بالعمل الصالح :


 ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً﴾ والله الذي لا إله إلا هو لَزوالُ السماوات والأرض أهون على الله من أن تستقيم على أمره ، وأن تعمل صالحاً ، وأن يَخِيبَ مسعاك ، وأن تُهْضَمَ حقوقك ، لذلك هذه الآية تبثُّ التفاؤل في النفس ، وتبثُّ البشر ، ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ .. عرف الله وخدم الخلق ، كان مستقيماً في علاقته بالناس ، قدَّم للناس خدماتٍ صحيحة مخلصة ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل ، انطلق من قول النبي عليه لصلاة والسلام : عن جعفر بن برقان :

(( الخلقُ عيالُ اللهِ ، وأحبُّهم إليه أنفعُهم لعيالِه  . ))

[  بداية السول: خلاصة حكم المحدث : إسناده ضعيف جداً  ]

من كان عمله صالحاً ، من خدم بني البشر ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل ، من صَدَقَهُم ، من أخلص لهم ، من أعانهم على مصـائبهم ، من خفف عنهم تبعات الحياة ﴿ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً﴾ ولكن العمل الصالح مقيدٌ بالإيمان ، من دون إيمان ربما كان هذا العمل الصالح ذكاءً ، وكياسةً ، وسياسةً ، وحِذْقاً في تصريف الأمور ، ربما تكون محسناً ليقول الناس عنك كذلك ، ليرتفع اسمك في سماء من تعاشره ، ولكن البطولة أن تعمل صالحاً وأنت مؤمن ، العمل الصالح إذا بني على الإيمان كان ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً﴾ لا أن يُظْلَم ، ولا أن تُهْضَمَ حقوقه . 

 

معنى تصريف الوعيد في القرآن :


﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ معنى عربياً أي واسع البيان .. ﴿ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ﴾ .. أي نوَّعنا فيه ، تارةً يأتي الأمر ، وتارةً يأتي النهي ، وتارة يأتي الوَعْدُ ، وتارة يأتي الوعيد ، وتارة تأتي القصة ، وتارة يُضْرَبُ المثل ، وأخرى يُذَكَّرُ الإنسان بماضيه ونشأته ، ثم يصوَّر له مصيره بعد الموت ، ومرةً يذكر لنا الله سبحانه وتعالى أخبار من سـبقنا ، ومرةً يحدِّثنا عما سـيكون .. ﴿ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾ لعل هذا القرآن بسورِه ، وآياته ، وقصصه ، وأمثاله ، وأوامره ، ونواهيه ، ووعده ، ووعيده ، وحكمه ، لعله يُحْدِثُ في هذه النفس أثراً بَيِّنًا .

 

وجوبُ تنزيهِ الله من كل نقصٍ :


﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ .. تعالى عن كل نقيصة ، سبحانه وتعالى ، هذا من ألفاظ التنزيه ، أي تعالى الله علواً كبيراً عن أن يخلقنا عبثاً ، عن أن يهضم حقوقنا ، عن أن يظلمنا ، عن ألا يرحمنا ، تعالى الله سبحانه وتعالى : ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ .

 

العلم هو القيمة الأساسية التي أرادها الله لتكون عاملاً مُرَجِّحَاً بين بني البشر :


﴿ وَلَا تَعْجَلْ – يا محمد - بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ ..

هذه الآية أيضاً إشارةٌ دقيقة إلى أن القيمة الأساسية التي أرادها الله لتكون عاملاً مُرَجِّحَاً بين بني البشر هو العلم ..

﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ لذلك أعلى مرتبة ينالها الإنسان في الحياة الدنيا أن يتعلَّم ، وأن يعرف الله عزَّ وجل ، وإن الله عالمٌ يحب كل عالم .. عن علي بن أبي طالب :

(( خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمَه  . ))

[  صحيح الترمذي:  خلاصة حكم المحدث : صحيح : أخرجه الترمذي واللفظ له، وأحمد . ]

وليس فوق مرتبة العلم مرتبة ، فإذا أردت الكرامة عند الله فتعلَّم هذا القرآن ، وعلِّمه الناس ، عندئذٍ تكون من خير الناس (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )) ، ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ لم يقل : زدني مالاً ، لم يقل : زدني جاهاً ، لأن المال زائل ، ظلّ زائل ، وعاريةٌ مستردة ، ولأن الجاه ينتهي بالموت ، ولكن الله عزَّ وجل قال : ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾  قيل:

"إِذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لَا ‌أَزْدَادُ ‌فِيهِ ‌عِلْمًا ، فَلَا بُورِكَ فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. "

وفي روايةٍ أخرى :

(( لا بورك لي في يومٍ لم أزدد فيه من الله قرباً . ))

[ الجامع الصغير عن عائشة بسند فيه مقال ]

يجب أن تزداد في كل يومٍ علماً وقرباً ، تعلَّم كتاب الله ، احضر مجالس العلم تزدد علماً ، افعل الصالحات تزدد قُرباً .

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[  سورة الكهف ]

 فلذلك العلم يستمر أثره إلى ما بعد الموت ..عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ . ))

[  صحيح الجامع ]

فلذلك باب العلم مفتوح ، وأبواب المساجد مفتَّحة ، ولحكمةٍ بالغة جعل الله عزَّ وجل بذل العلم مُتاحاً لكل إنسان ، العلم مبذول من دون مقابل ، لا تستطيع أن تطرق باب الطبيب إلا والمال في جيبك ، ولا تستطيع أن تطرق باب المحامي إلا والمال في جيبك ، ولا تستطيع أن تدخل إلى حانوتٍ إلا والمال في جيبك ، ولكنك تستطيع أن تدخل أي بيتٍ من بيوت الله لتستمع إلى تفسير كلام الله من دون مقابل ، لا جزاءً ولا شكوراً ، فلذلك العلم مبذول ، فعلى كل مؤمنٍ أن يتعلم كلام الله وأن يعلمه .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور