وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة طه - تفسير الآيات 9 – 41
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

أقوال العلماء في مغزى تكرار قصة موسى عليه السلام :


 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثاني من سورة طه .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾.. وذكرنا أيضاً أن قصة موسى هذه أطول قصص سيدنا موسى في القرآن ، قصة سيدنا موسى في القرآن وردت سبع عشرة مرة ، هذه هي أطول روايةٍ لهذه القصة . 

علماء التفسير قالوا : " إن الله سبحانه وتعالى أراد من خلال هذه القصة أن يبيِّن لنا أنه لا إله إلا الله ، فالتوحيد إما أن يلقى إلقاءً مباشراً ، وإما أن يعرض على شكل قصة ، فهذه القصة مِن أَلِفِها إلى يائها ، من خلال كل حوادثها ، تبين حقيقةً واحدة ألا وهي التوحيد " .

وبعض علماء التفسير قال : " إن هذه القصة تبيِّن سَعَةَ علم الله سبحانه وتعالى " ، وبعضهم قالوا : " إنها تبين توحيد الألوهية ، وعلم الله في وقتٍ واحد " .

 على كل أيّة قصة لها مغزى ، فإذا لم نقف على المغزى فكأننا ما قرأنا القصة ، ليست القصة في أهدافها تبتغي أن تُمْتِع أسماعنا بحوادث ، وبمواقف ، وبعقدة ، ليس هذا هو الهدف ، الهدف هو استنباط حقيقة من هذه القصة ، إن هذه الحقيقة التي ينبغي أن تستنبط منها هو المغزى ، فالعلماء قالوا : " مغزى هذه القصة على طولها التوحيد " ، أي أن نعرف أنه لا إله إلا الله ، وبعضهم قال : " مغزاها أن نعلم أن الله يعلم " ، وبعضهم قال : " التوحيد وعلم الله سبحانه وتعالى هما المغزى الأساسي لهذه القصة " .

وفريقٌ ثالث من العلماء جَهَدوا إلى أن هذه القصة إنما كانت تسليةً ومواساةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام إذا تَلا هذه القصة يرى أن هناك أنبياء آخرين سبقوه من أولي العزم ، أصابهم ما أصابهم ، تجشَّموا المشاق ، ركبوا الأهوال ، تركوا بلادهم ، رحلوا إلى أماكن بعيدة ، مشوا في القِفار ، أصابهم البرد والجوع والخوف ، ثم عادوا إلى مواجهة فرعون ، كأن هذه القصة أراد الله منها أن يسلِّي النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن يواسيه ، وأن يخفف عنه ، وأن يشجِّعه ، وأن يجعل من هذا النبي سيدنا موسى الذي هو من أولي العزم مثلاً للصبر وللدأب ولنشر الحق . 

 

مختصر قصة موسى عليه السلام :


كلكم يعلم أن هذا النبي العظيم كان في قصر فرعون ، وفي مكانٍ آخر ، خرج من هذا القصر ذات مرة فرأى رجلين يختصمان ، يقتتلان ، هذا من شيعته وهذا من عدوه ، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ، فوكزه موسى فقضى عليه ، أي تسبب في قتله ولم يقتله في نظر القانون ، التسبب في القتل ، ثم جاء من يبيِّن لهذا النبي الكريم أن هناك قوماً يأتمرون بك ليخرجوك ، فخرج من مصر باتجاه مَدْيَن ، وتروي كتب التاريخ أنه قد قطع ألفين وخمسمئة كيلو متر مشياً على قدميه ، من مصر إلى مدين ، قطع سيناء مُساحِلاً ، أي على خليج السويس وخليج العقبة ، ثم انتقل منهما إلى مدين في شمال الجزيرة العربية ، وكلكم يعلم في موطن آخر في القصص كيف أنه وجد امرأتين تذودان : 

﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)  ﴾

[ سورة القصص  ]

وكيف تعرَّف إلى سيدنا شعيب ، وكيف تزوج ابنته ، ثم عاد إلى مصر بعد أن تزوج ابنته وبعد أن قضى الأجل ، أي رعى لسيدنا شعيب ثماني أو عشر سنوات ، ثم هو في طريقه مع أهله إلى مصر ، وكان الجو ماطراً وبارداً ، وكان مع أهله في وادٍ موحش ، شعر بحاجةٍ ماسةٍ إلى نارٍ يصطلي بها هو وأهله ، هنا بدأت القصة . 

﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾   أي يا أيها النبي هل أتتك هذه القصة ؟ هل سمعت بها ؟ أي اسمع إليها ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً﴾ .. وهو في الطريق مع أهله من بلاد مَدْيَن إلى أرض مصر ، والطريق طويل ، والبرد شديد ، والظلام دامس ، والخوف على أشده .. ﴿ إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ﴾ القبس في اللغة جذوة النار ، أي عودٌ مشتعل تأخذه من نارٍ مُضْرَمة ، هذا هو القبس ، ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ العلماء قالوا : " كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو " ، أي الإنسان ليس له أن يحتقر شيئاً ، ولا أن يستصغر شيئاً ، ولا يهمل شيئاً ، ولا أن يهمل طلباً ، ولا عرضاً ، ولا مناسبةً ، ولا فرصةً ، فهذا النبي الكريم رأى ناراً فتوجَّه إليها ليأخذ منها قبساً ، فكانت المُناجاة مع الله سبحانه وتعالى . 

 

تكليم الله لموسى عليه السلام :


﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا﴾ أي أتى النار ليأخذ منها قبساً يصطلي بها هو وأهله ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى﴾ .. لذلك سيدنا موسى كليم الله ، خاطبه الله سبحانه وتعالى ﴿ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ طبعاً هذه الآيات فسرها المفسرون بطرائق عدة ..﴿ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ ربنا سبحانه وتعالى استخدم في هذه الآية الضمير المُفْرَد ، لم يقل : ضع ، على ما يجري في القرآن إننا ..

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)  ﴾

[ سورة الحجر  ]

﴿  إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1) ﴾

[  سورة الكوثر  ]

﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) ﴾

[ سورة غافر  ]

لا ، قال : ﴿ إِنِّي ﴾ العلماء قالوا : " حيثما كان الحديث عن ذات الله استخدم الله ضمير المتكلم المفرد ، وحيثما كان الحديث عن أفعال الله استخدم الله ضمير الجمع ، لأن فعل الله فيه الرحمة ، وفيه القدرة ، وفيه الغنى ، وفيه اللطف ، وفيه الحكمة ، وفيه الحنان ، أسماء الله الحسنى كلها داخلةٌ في أفعاله " ، أما الحديث عن ذاته فغالباً ما يستخدم ضمير المتكلِّم المفرد .

 

الرب أقرب الأسماء الحُسنى إلينا لأنه مربينا وخالقنا :


﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ .. أي أقرب الأسماء الحُسنى إلينا الرب ، لأنه مُرَبِّينا ، خلقنا ، وأمدنا بالطعام والشراب ، أمدنا بالهواء ، أمدنا بالأهل ، أمدنا بالأولاد ، أعطانا كل ما في الأرض ، سخَّر لنا ما في السماوات والأرض ، هو ربنا ، وأمدنا بأنواره ، وأمدنا بتجلياته ، وربَّانا في طريق الإيمان ، خوَّفنا تارةً ، وطمأننا تارةً أخرى ، أعطانا ومنعنا ، رفعنا وخفضنا ، أعزنا وأذلنا ، هذه كلها تربية من الله عزَّ وجل ، الإنسان مرةً يرفعه الله ، ويمتحنه بهذه الرِفعة ، فإذا أساء استخدامها خفضه ، يمتحنه بالمال ، فإذا أنفقه على شهواته حرمه ، يمتحنه بالزوجة فإذا نسي معها ذكر الله عَقَّتْهُ ، يمتحنه بالأولاد ، فربنا سبحانه وتعالى كل شيءٍ يعطيك إيَّاه محض امتحانٍ وابتلاء ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ وما حنان الأم ، وما حَدَبُ الأب ، وما رعاية الأهل إلا طرفٌ يسيرٌ يسير ، ونقطةٌ من بحر من رحمة الله سبحانه وتعالى ، ومن عنايته ، ومن تربيته ، ومن إمداده ، فأقرب أسماء الله الحسنى إلينا اسم الرب لأنه يربينا ، يُعطي ويمنع ، يرفع ويخفض ، يعز ويذل ، يغني ويفقر ، يكرِّم ويهين .

﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)  ﴾

[ سورة النجم  ]

﴿  وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى(43) ﴾

[ سورة النجم  ]

أحياناً يضحك الإنسان ، معنى أنه يضحك ، أي الله عزَّ وجل أنعم عليه براحة البال ، أصلح له باله .

﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)  ﴾

[ سورة محمد  ]

فلو أنه أسمعه خبراً مؤلماً ، أو أراه شبحَ مصيبة خطيراً لجعل ضحكه بكاءً ، فإذا ضحكت فبفضل الله ونعمته ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى(43)﴾ ، ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى(48)﴾ .

 

تفسير : فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ :


﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ .. بعض المفسرين فسر هذه الآية أي دع حظ الدنيا من نفسك ، دع حظوظ الدنيا ، أي أعرض عن الدنيا بكل ما فيها ، وكأن الدنيا شيء تافه لا قيمة لها ، " الدنيا جيفة ، طلابها كلابها ، الدنيا دار من لا دار له ، ولها يسعى من لا عقل له" ، " خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً " ، " ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر " ، والنبي عليه الصلاة والسلام :

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ : أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ :

(( مرَّ على شاةٍ ميتة فقال : أترونَ هذِهِ الشَّاةَ هيِّنةً على أَهلِها ؟ قالوا : من هوانِها ألقَوها، قال: والَّذي نفسي بيدِه ، للدُّنيا أَهوَنُ على اللَّهِ من هذِهِ الشَّاةِ على أَهلِها ، ولو كانتِ الدُّنيا تعدِلُ عندَ اللَّهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منْها شربةَ ماءٍ . ))

[  العراقي : تخريج الإحياء للعراقي : خلاصة حكم المحدث : لمسلم نحوه من حديث جابر ]

لذلك : ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ .. هذا الوادي وادٍ مقدس لأنه تمَّت فيه المناجاة .

وهناك معنىً آخر ، أي إن هذا النبي العظيم في مسلكٍ مقدس ، في همّ مقدَّس ، في طموحٍ مقدس ، في أهدافٍ مقدسة ، في غاياتٍ مقدسة ، في مشاغل مقدسة ، هناك مشاغل تافهة ، هناك أهداف تافهة ، هناك أعمال تافهة ، هناك طموحات تافهة :

(( إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ ، و أَشرافَها ، و يَكرَهُ سَفْسافَها . ))

[ صحيح الجامع : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

﴿ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ ﴾ يشبه هذه الآية : ﴿ وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى(7)﴾ النبي عليه الصلاة والسلام في آفاق مقدسةٍ غير هذه الآفاق . ﴿ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ طُوى اسم هذا الوادي ، وادي المناجاة ، أي هؤلاء الأنبياء العظام لسمو مكانتهم عند الله عزَّ وجل ، ولمحبَّتهم ، ولإقبالهم ، ولفنائهم في حبّ الله ، استحقوا أن يناجيهم الله عزَّ وجل . 

 

الله تعالى اختار الأنبياء على عِلْم واصطفاهم على العالمين :


﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ .. اخترتك ، اصطفيتك ، انتقيتك من بين عبادي جميعاً لتكون رسولاً لي . 

﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ وإذا اختار الله سبحانه وتعالى نبياً عظيماً فلابدَّ من أن يكون هذا النبي قمةً في الكمال ، أية قصةٍ أيها الإخوة تخدش من كمال الأنبياء هي قصةٌ مرفوضة ، لأن الله اختارهم على عِلْم ، واصطفاهم على العالمين ، ولو أن في أخلاق الأنبياء خدشاً أو نقصاً كما تروي بعض الكتب المقدَّسة الأخرى أن هذا النبي شرب الخمر ، وأن هذا النبي فعل كذا وكذا بابنتيه ، وأن هذا وهذا ، لو أن في أخلاق الأنبياء انحرافاً أو خدشاً لما كان اختيارهم حسناً ، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي اصطفاهم ، وهو الذي اختارهم ، وهو الذي أكرمهم ، وهو الذي رفعهم ، إذاً من لوازم العقيدة الصحيحة أن تؤمن بعصمة الأنبياء ، إنهم معصومون في التبليغ ، معصومون في أقوالهم ، معصومون في أعمالهم، معصومون عن أن يعصوا الله سبحانه وتعالى ، وكل شيءٍ رابك أمرُه فاسأل أهل الذكر ، هكذا قال الله عزَّ وجل :

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) ﴾

[ سورة النحل  ]

﴿ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ .. 

 

صفات الدعاة إلى الله الواجب توفرها فيهم :

 

1 ـ الصبر :

الحقيقة الإنسان إذا طَمِحَ أن يكون خادماً للخلق ، حبيباً للحق ، إذا طمح أن يكون مفتاحاً للخير ، مغلاقاً للشر ، إذا طمح أن يجعل الله هدى الناس على يديه ، إذا طمح أن يكون مِشْعَلاً يضيء للناس طريقهم ، إذا طمح أن يكون كذلك فهناك امتحاناتٌ قاسية وهناك شروطٌ صعبة ، منها أن الله سبحانه وتعالى مثلاً يقول :

﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)﴾

[ سورة السجدة  ]

يجب أن تصبر ، يجب أن تصبر عن الشهوة ، وعلى الطاعة ، وعن المعصية ، يجب أن تصبر ، من هذه الشروط يجب أن تكون مطيعاً لله عزَّ وجل فيما تعلم ، وفيما لا تعلم ، فيما تعرف حكمته ، وفيما تجهل حكمته ، في السرَّاء والضرَّاء ، في الرخاء والشدة ، في إقبال الدنيا وإدبارها ..

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾

[  سورة البقرة ]

2 ـ العفة عن أموال الناس : 

من هذه الشروط :

﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21 )﴾

[ سورة يس  ]

يجب أن تعف عن أموال الناس ، قليلها وكثيرها ، جليلها وحقيرها ، يجب أن تجعل من دعوتك عملاً خالصاً لوجه الله عزَّ وجل ، لا تسأل وجاهةً ، ولا مكانةً ، ولا شيئاً معنوياً أو مادياً . 

3 ـ تبليغ الدعوة كاملةً :

من هذه الشروط يجب أن تكون جريئاً في إلقاء الموعظة وفي قول الحق ، لقوله تعالى :

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾

[ سورة الأحزاب ]

4 ـ الدعوة عن علم وبصيرة : 

يجب أن تدعوَ الناس على بصيرة ، وأن تأتي بالدليل ، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، إذا كنت ناقلاً فالصحة ، وإذا كنت مبتدعاً فالدليل :

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾

[ سورة يوسف ]

هكذا ينبغي أن تكون . 

5 ـ إظهار عظمة الله عز وجل :

يجب أن تظهر للناس كمال الله عزَّ وجل ، وعدالته ، ورحمته ، وحكمته ..

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾

[  سورة آل عمران   ]

6 – التواضع للناس :

يجب أن تكون متواضعاً للناس ، لمن تعلِّم :

﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) ﴾

[ سورة الشعراء ]

لا ينبغي أن تطالب الناس أن يكونوا متواضعين لك ، ينبغي أن تكون أنت قدوةً لهم في تواضعك لهم ..﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(215)﴾ .

هذه الشروط التي إذا نَجَحْتَ فيها يستحق الإنسان أن تكون بشكلٍ متواضعٍ جداً مشعلاً وضَّاءً ، نبراساً في طريق الهدى وطريق الإيمان ، لذلك .. ﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ أي لن يختار الله سبحانه وتعالى من يدعو إليه إلا إذا اجتاز امتحاناتٍ قاسية ، علِمَ اللهُ صدْقَه ، وعلِمَ زهده ، وعلم عفَّته ، وعلم شرفه ، وعلم استقامته ، وعلم إخلاصه . 

 

ملخّص الأديان السماوية : إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ :


﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ .. أي إذا أردت أن تلخِّص الأديان السماوية كلها في كلمات ، إذا أردت أن تلخص كل هذا القرآن في كلمة .

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) ﴾

[ سورة فصلت ]

هذا القرآن الكريم كله ، وهذا الدين الإسلامي كلُّه ، وهذه الديانات السماوية كلها إنما تتلخص في كلمةٍ واحدة.. ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ أي أن ليس في الكون إلا حقيقةٌ واحدة ، وهي الله سبحانه وتعالى ، فكل شيءٍ يؤدِّي إلى هذه الحقيقة ، استقامةً ، وتقرُّباً ، ومعرفةً فهو الحق ، وكل شيءٍ يبعد عن هذه الحقيقة إنكاراً ، أو معصيةً ، أو جحوداً فهو الباطل ، كل شيءٍ يؤدي إلى مزيدٍ من الاتصال بالله سبحانه وتعالى فهو الحق ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ لا نافع ، ولا ضار ، ولا رافع ، ولا خافض ، ولا معطي ، ولا مانع ، ولا معز ، ولا مذل ، ولا رازق ، ولا قابض ، ولا باسط ، ولا مكرم ، ولا مهين ، ولا محيي ، ولا مميت ، ولا مغني ، ولا مفقر إلا الله.. ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ فإما أن تعرف هذه الحقيقة ، وإما أن تجهلها ، فإذا جهلتها كان الهلاك والدمار والشقاء ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ هذه هي الحقيقة ، ما الموقف الذي يجب أن تقفه منها ؟ ﴿ فَاعْبُدْنِي﴾ إذا كنت في أشدِّ الحاجة إلى الماء ، وعلى وشك الهلاك ، ورأيت النبع ، ماذا ينبغي أن تفعل ؟ ينبغي أن تذهب إليه ، لذلك أخطر شيءٍ في الدين أن يبقى على مستوى الفكر ، أن يبقى الدين ثقافةً ، قناعات ، تصوُّرات ، مفاهيم ، كتباً مجلَّدة تقرؤها ، تُعجب بها ، تتكلم بها ، تتبجح بها ، لا ، الدين مواقف ، الدين عبادة ، يجب أن تعبده ، يجب أن تعرفه أولاً ، وأن تعبده ثانياً ، تعرفه بالكون ، وتعبده بالشريعة ، يجب أن تكون فقيهاً حتى تعرف كيف تعبده ، لذلك هذه آية دقيقة جداً لخَّصت الأديان كلها ، ولخصت جوهر الدين .. ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ .

 

الحكمة من عطف الصلاة على العبادة :


هنا سؤال : أليست الصلاة من العبادة ؟ طبعاً ، فلماذا خُصَّت بالذكر مع العبادة ؟ ألا تعني العبادة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان ؟ فقال علماء التفسير : " إنما خُصَّتِ الصلاة بذكرٍ منفصلٍ عن العبادة لأنها أبرز ما في العبادة"  .

(( الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين . ))

[ أخرجه البيهقي في الشعب ، بسند ضعيف من حديث عكرمة ، عن عمر مرفوعاً ، الجامع الصغير عن علي بسند ضعيف  ]

إن أبرز ما في العبادة أداء الصلاة ، فالصلاة من أجل الصلاة ، والصيام من أجل الصلاة ، والحج من أجل الصلاة ، والزكاة من أجل الصلاة ، والأوامر التفصيلية ؛ غض البصر من أجل الصلاة ، عدم أكل الربا من أجل الصلاة ، عدم الغَبْن في البيع من أجل الصلاة ، كل الأوامر والنواهي إنما يفعلها الإنسان من أجل أن يبقي الطريق بينه وبين الله سالكاً ، فأية معصيةٍ ، أو أية مخالفةٍ من شأنها أن تكون عقبةً كؤودًا بين العبد وبين ربه ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ .

العلماء قالوا : " الذِكر هنا ، الصلاة فيها ذكرٌ لله عزَّ وجل ، فيها قراءة الفاتحة ، وفيها التسبيح ، وفيها التعظيم ، وفيها الثناء ، وفيها الحمد ، وفيها تلاوة القرآن ، فالصلاة ذكرٌ لله عزَّ وجل .

ومعنى آخر للذكر هو أن يكون هذا الذكر خالصاً لوجه الله عزَّ وجل ، لا أن تذكر مع الله أحداً ، أن تذكره بإخلاص ، ومعنى : ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ أن تذكره ولا تذكر شريكاً له ، ومعنى : ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ أن تذكره ولا تنساه ، قال موسى : " يا رب كيف أشكرك يا رب ؟ " ، فقال الله عزَّ وجل : " يا موسى إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا نسيتني كفرتني " ، تذكرني ولا تناسني ، من أجل أن تشكرني يجب أن تذكرني ولا تنساني ..﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله عزَّ وجل إلا هذه الآية لكفت ، هذا الدين كله .

 

الحكمة من إخفاء يوم القيامة :


..﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ .. هنا يوجد سؤال دقيق : لماذا تعلَّقت إرادةُ ربنا سبحانه وتعالى أن يخفي الساعة عن الناس ؟ لِمَ لمْ تكن الساعة جليةً ظاهرة ؟ لِمَ لمْ تكن ساطعة كالشمس ؟ لِمَ أخفاها الله عن الناس ؟ معنى أخفاها أن الإنسان أحياناً ينسى الموت ، يحس بقوةٍ في عضلاته ، وبأملٍ في حياته ، يظن أنه لن يموت ، ينسى الموت ، يظن أن هذه الحياة لا تنتهي ، مديدة ، لن يموت ، هكذا يتوهَّم ، لماذا ربنا سبحانه وتعالى هذه الساعة التي لابدّ آتية ، هذه الساعة التي لا ريب فيها ، لماذا أراد الله عزَّ وجل أن تكون خافيةً بعض الشيء ؟ الإنسان أحياناً يصدم بجنازة ، لو أنه فكر بهذه الجنازة ، من في هذا النعش ؟  إنسان ، كان البارحة ملء السمع والبصر ، كان البارحة يسهر ، ويضحك ، ويتكلم ، ويقول : سأذهب إلى المكان الفلاني في هذا الصيف ، كان قبل ساعة يجمع أمواله ، كان قبل ساعة يُتابع هذا المسلسل ، إذا هو الآن جثةٌ في نعش ، يتبع الجنازة ، فإذا هذا الإنسان يوضع في حفرة ، شيءٌ مخيف .. ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ أصعب ليلةٍ يمضيها الإنسان هي أول ليلةٍ في قبره ، يقول الله عزَّ وجل : " عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت "

﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ لماذا يا رب تكاد تخفيها ؟ جاء الجواب : ﴿ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ .. مثلاً لو أنك صاحب محلٍ تجاري ، وأنت جالسٌ وراء الطاولة ، ولم تغادر هذه الطاولة التي فيها المال لحظةً واحدة ، فهذا الصانع الذي أمامك يا ترى هو أمينٌ أم خائن ؟ ما كان لك أن تعرفه ما دمت وراء الطاولة ، والمال في الطاولة ، وأنت مهيمنٌ عليها ، كيف تقول : هذا الصانع أمين أم خائن ؟ لم يُتَح لك أن تكشف عن أمانته أو خيانته ، إنك إذا تغافلت عنه قليلاً ، وخرجت من المحل إلى محلٍ مقابل ، وكانت عينك ترعى محلك التجاري ، وراقبت هذا الصانع كيف يبيع ويشتري ، هل يضع هذا المال في الدرج أم يضعه في جيبه ؟ إنك إن تغافلت عنه تمتحن أمانته ، إنك إن تغافلت عنه تمتحن خيانته ، إنك إن تغافلت عنه تعرف أخلاقه ، ما كان لهذا الإنسان أن ينكشف على حقيقته لولا أنك تغافلت عنه ، لذلك الإنسان أحياناً يسيء حتى يظن أن الله غافلٌ عنه ، كأن دابةً لها حبلٌ مُرْخى تظن أنها طليقة ، ولكنها ليست بطليقة ، إنه في اللحظة المناسبة يُشد الحبل فإذا هي في قبضة صاحبها ، لذلك : ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ أحياناً يأتي الموت فجأةً ، هذا الإنسان مخطّط أن يمضي هذا الصيف في هذا المكان ، وهذا الشتاء في هذا المكان ، ومخطط لرحلات ممتعة ، ولسهرات عامرة ، ولليالي حمر ، ولموائد خضراء ، فإذا الموت على الأبواب ، لذلك : ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ لابدَّ من أن تُكْشَف النفس على حقيقتها ، لابدَّ أن تمتحن ، لابدّ من أن تُبْتَلى ، لابدّ من أن يفتن الإنسان .

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

الدنيا دار ابتلاء ، والآخرة دار جزاء ، الدنيا دار تكليف ، والآخرة دار تشريف ، الدنيا دار عمل ، والآخرة دار إكرام .. ﴿ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ الحظوظ في الدنيا موزعةٌ توزيع ابتلاء ، وسوف توزَّع في الآخرة توزيع جزاء :

﴿  إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3) ﴾

[  سورة الواقعة  ]

﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ متى ينجح الطالب في الامتحان نجاحاً باهراً ؟ إذا كانت صورة الامتحان في ذهنه طوال العام الدراسي ، مادام يذكر هذه الساعة الحرجة ساعة الامتحان أغلب الظن أنه سوف ينجح ، وما دام الإنسان في الدنيا يغفل عن ساعة الموت ، ولا يحسب لها حساباً ، ولا يعبأ لها ، ويُمَنِّي نفسه ببعض الأُمنيات ، ويقول : هذا الحديث ليس له لزوم الآن ، إذا هرب من هذه الحقيقة فكأنه كالنعامة يغمس رأسه في الرمل .

 

نصيحة ربّانية :


﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ .. نصيحةٌ ربانية ، أيها المؤمن الكريم ؛ لا تستمع إلى إنسانٍ كافرٍ بهذا الدين ، كافرٍ بيوم القيامة ، كافر بيوم البعث ، كافر بالجنَّة ، كافر بالنار ، كافر بهذا الكتاب ، لا تُلْق إليه سمعك ، لا تصغ إليه ، لا تصدقه ، لا تهتم بكلامه. 

 

التلازم بين الكفر باليوم الآخر واتباع الهوى :


﴿ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ .. أروع ما في هذه الآية أن هناك تلازماً دقيقاً بين الذي لا يؤمن باليوم الآخر وبين الذي يتَّبع الهوى ، من لم يؤمن باليوم الآخر لابدَّ من أن يتبع الهوى ، ومن آمن باليوم الآخر يتبع الحق ، والحق أحق أن يُتَّبَع ، إما أن تقود نفسك إلى الحق ، وإما أن تقودك نفسك إلى الهاوية ، إما أن تكون سيِّداً لنفسك ، وإما أن تكون هي سيدة لها ، إما أن تقودك ، وإما أن تقودها ، إما أن تتحكم بها ، وإما أن تتحكم بك ، لذلك العاقل يقود نفسه نحو الحق ، والغافل تقوده نفسه نحو الباطل ، نحو الهوى ﴿ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ فتسقط ، فتهلك ، فتنتهي ، فتشقى .

 

حلاوة المناجاة :


﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ .. سؤال : رب العزة يناجي هذا النبي الكريم ، يسأله ، يا رب كيف تسأله وأنت الإله العظيم تعلم السر وأخفى ؟ تسأله عن هذه التي بيمينه ؟ هذا النبي الكريم حينما سأله رب العزة : ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ رآها مناسبةً ، مناسبة العمر أن يناجي الله عزَّ وجل ، فقال : ﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ ﴾ يبدو أنه ذاق حلاوة المُناجاة .. ﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ﴾ هذا اسمه إطناب .. ﴿ وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾ ذاق من حلاوة المناجاة فأطال الخطاب ، عندها شعر بالخجل ؛ لعلني أطلت ، وأطنبت ، وتكلمت فوق الحد المسموح به ، فقال : ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ فإن كان الله سبحانه وتعالى يريد أن أتابع حديثي يقول له : يا موسى ما هذه المآرب الأخرى ؟ حدثني عنها ؟ قال : ﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ الله سبحانه وتعالى أراد من هذا السؤال أن يلفت نظره إلى أن هذه التي بيدك ما هي ؟ تأمل بها إنها عصا ، تأكَّد أنها عصا ، لأنها بعد قليلٍ سوف تكون هذا العصا آيةً كبرى للناس ، قال : ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ ..معنى أهش بها على غنمي قال بعضهم : " أي أضرب ورق الشجر ليسقط فتأكله الغنم " .

وبعضهم قال : " أضعها على ظهور غنمي كي أوجِّهها نحو الهدف المطلوب " ، من بلاغة القرآن ليس هناك كلمة أدق من هذه الكلمة .. ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ .

﴿ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى﴾ رب العزة يقول:﴿ أَلْقِهَا﴾ ، ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ الله سبحانه وتعالى ما أراد أن يخيفه ، ولكن أراد أن يعرِّفه بهذه المعجزة : ﴿ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ﴾ لمجرد أن تمسكها تعود عصا .. ﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴾ هذه حلاوة المناجاة ، لذلك يروى أن مؤمناً وقع في غفلة ، أو وقع في مخالفة ، فظن أنه لابدَّ من أن يعاقبه الله عزَّ وجل ، لابدَّ من أن يسوق له بعض المصائب تنبيهاً له لهذه الغفلة ، فانتظر أياماً عِدَّة ، الأمور تجري على شكلٍ طبيعي ، ففي الصلاة ناجى ربه فقال : " يا رب لقد عصيتك فلم تعاقبني ؟ " ، فوقع في قلبه : " أن عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ ، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟ " ، ألم يكفك عقوبةً أنك وقعت في هذه الجفوة ؟

فهذا النبي الكريم حينما ناجى ربنا سبحانه وتعالى بماذا شعر ؟ إنك إن خاطبت إنساناً يبدو لك عظيماً تبقى أشهراً تستمتع بهذا الخطاب ، وهذا اللقاء ، وهذا الحديث ، تقول : أدرت معه حديثاً ممتعاً ، فكيف إن كان الحديث مع الله سبحانه وتعالى ؟ 

 

معجزات موسى عليه السلام :


﴿ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ .. هو جاء إلى هذا المكان ليأخذ قَبَسَاً من النار ، لذلك : كن لِما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، إذا دعاك إنسان إلى عمل صالح ، قد يكون الهدى في هذا العمل الصالح ، إذا دعاك إنسان إلى بيته فلبِّ هذه الدعوة ، لعلك بهذه الدعوة تنقذ إنسانًا من الضلال ، لا تعرف ، ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ﴾ .. ضع يدك تحت إبطك .. ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى﴾ منيرة ، مضيئة من دون بطارية ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ منيرةً ، مضيئةً ، وهَّاجةً ، من غير سوءٍ ، من غير ألمٍ ، من غيرِ أذى ﴿ آيَةً أُخْرَى﴾ العصا آية ، وأن تخرج هذه اليد للناس وضَّاءةً ، منيرةً ، متألقةً .. ﴿ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴾ .

 

إرسال موسى إلى فرعون لتجاوزه حدّ العبودية وادعاء الربوبية :


﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ تجاوز الحَد ، تجاوز حد العبودية فادعى الربوبية ، تجاوز الحد المعقول ، وخرج عن دائرة القبول ، تجاوز الحد البشري ، تجاوز الحدود التي يجب أن يقف عندها الإنسان ، رحم الله عبداً عرف حده فوقف عنده :

﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) ﴾

[  سورة النازعات  ]

﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ يا رب ؛ كل شيء إلا فرعون هذا ، أنا كنت عندهم ، وقتلت منهم رجلاً قبطياً ، وأنا مُلاحق ، فكيف أذهب إليه يا رب ؟ هذه قضية صعبة..﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ .

 

اتخاذ الأسباب وطلب الإعانة من الله :


( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً﴾ .

﴿ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ .. الإنسان أحياناً قد لا ينشرح صدره لعملٍ مع أنه قادرٌ على إتمامه ، وقد ينشرح صدره لعملٍ وليس قادراً على إتمامه ، هذا التلازم .. ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ لذلك إذا أقدم الإنسان على عمل ينبغي أن يدعو الله فيقول : اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً ، وما توفيقي إلا بالله ..﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ وهكذا ينبغي أن ندعو الله سبحانه وتعالى ؛ قبل أن تقدم على سفر ، قبل أن تقدم على زواج ، قبل أن تقدم على عمل ، قبل أن تقدم على مشروع ..﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ قبل أن تقابل إنساناً مهماً ..﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ أدخلني مدخل صدقٍ ، وأخرجني مخرج صدق ﴿ قَال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾. . كان سيدنا موسى عنده حبسةٌ في اللسان ، وكان أخوه هارون أفصح منه ، ولكن يبدو أن قلب موسى أفصح من قلب هارون ، بدليل أن الله سبحانه وتعالى جعل الرسالة في موسى ، ولم يجعلها في هارون ، وهذه الآية دليل قطعي على أن الفصاحة وحدها لا قيمة لها ، إذا أوتيت لساناً طليقاً ، ذرباً ، فصيحاً ، من دون قلبٍ كبير ، ومن دون قلبٍ مُفْعَمٍ بمحبة الله عزَّ وجل ، من دون معرفةٍ بالله ، هذه الفصاحة لا قيمة لها ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي﴾ أي إنساناً يعاونني ، وربنا عزَّ وجل قال :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)  ﴾

[ سورة المائدة  ]

تعاونوا ، وقال العلماء : " البر صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة " ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ نتعاون معاً على هذه الرسالة .. ﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ﴾ للناس ..  ﴿وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً﴾ فهذا النبي العظيم ؛ سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام دعا ربه أن يشرح له صدره ، وأن ييسر له أمره ، وأن يحلل عقدةً من لسانه ، ثم يدعو ويقول :﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي﴾ ، وزيرًا ، أي معيناً .. ﴿ هَارُونَ أَخِي ﴾ وكان نبياً ..﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً ﴾ .

هذا الدعاء معقول ، دعاء المؤمن مبنيٌ على علمٍ بالله عزَّ وجل ، لذلك أغلب الظن أن المؤمن إذا دعا الله عزَّ وجل يدعوه لشيءٍ عظيم ، والله سبحانه وتعالى يستجيب له ، قال : ﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ أجبنا دعوتك .

 

الله سبحانه وتعالى منّ على موسى بفضلٍ كبير من دون أن يدعوه :


﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ هنا نقطة دقيقة جداً ، هو أن الله سبحانه وتعالى مَنَّ عليه بفضلٍ كبير من دون أن يدعوه من قبل ، فلأن يَمُنَّ عليه الآن بفضلٍ وقد دعاه فمن باب أولى .. ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾ .

طبعاً فرعون بلغه أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على ملكه ، لذلك أصدر أمراً بقتل جميع أطفال بني إسرائيل ، وكانت الأم إذا أنجبت مولوداً تأتيها الصاعقة ، لأن ابنها لابدَّ من أن يذبح .. ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾ هنا الوحي وحي إلهام ، ألهمنا أمك .. ﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ﴾ ضعيه في صندوق .. ﴿ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ في البحر .. ﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ في هذه الآية إشارةً رائعة ، من الذي يلقيه بالساحل ؟ إنه اليم ، هل اليم عاقل ؟  أراد الله عزَّ وجل أن يعرفنا أن كل شيءٍ خلقه هو بإمرته ، فهذه المياه ، وهذه الأمواج هي بقدرة الله عزَّ وجل ، فهذه مأمورةٌ أن تلقي هذا الصندوق بساحل قصر فرعون ، فإذا كان الصندوق على سطح الماء يتحرَّك بإذن الله فتحرُّكُ الناس من باب أولى ، لذلك لا إله إلا الله ، كما قال سيدنا هود :

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)  ﴾

[ سورة هود ]

﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي ﴾ أي فرعون .. ﴿ وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾ ما معنى : ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾ .. أي ما رآك أحدٌ إلا أحبك ، فامرأة فرعون لما رأته أحبته ، فرعون أحبه ..

فموسى الذي رباه جبريل كافرٌ            وموسى الذي رباه فرعون مرسلٌ

***

فموسى الذي رباه جبريل كافرٌ ، هذا موسى السامري ، رباه الوحي ، وموسى الذي رباه فرعون مرسلٌ ، أي سيدنا موسى ، ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾ ..

ينادَى لـه في الكون أنَّا نحبـه                 فيسمع مَن في الكون أمر محبنا

* * *

إذا ألقى الله عليك محبةً أحبك الناس جميعاً ، وإذا كنت محبوباً من الناس جميعاً فإيَّاك أن تتوهَّم أنك طيِّب ، هذه محبة الله ألقاها عليك ، ولو نزعها عنك لأبغضك الناس جميعاً ، فإذا دعا الإنسان ربه فليدعه أن يلقي عليه محبةً منه ، إذا أحب الله عبداً أحبه خلقه جميعاً . 

﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ .. أي بصدقك ، ومحبتك ، وإخلاصك ، وتفانيك في طاعتي ، اصطنعتك لنفسي ، هيَّأتك تهيئةً خاصة ، أعددتك إعداداً خاصاً ، جعلتك موطن عنايتي ، ورعايتي ، وإكرامي ، جعلت قلبك يتسِّع لعلمي ، ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ فلما التقطه آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأبوا ، لم يكن هناك إرضاع صناعي ، فأبوا ، ما من مرضعةٍ عرضتْ نفسها على هذا الطفل إلا أبى أن يلتقم ثديها ، إذاً الطفل أيضاً بيد الله عزَّ وجل .. ﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ .. أي بطريقةٍ لطيفة أخته تتبعته ، قصَّت أثره ، وقالت لأهل بيت فرعون : هل أدلكم على من يكفله ؟ طبعاً دَلَّتْهُم على أمه ، فلما جاؤوه بأمه التقم ثديها ، هو التقم ثديها وأمه اطمأنت ، كانت تخاف أن يموت فإذا هي ترضعه في قصر فرعون ، أي إذا أحبك الله يسخَّر لك عدوك لخدمتك ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً ﴾ القبطي ..﴿فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتابع الحديث عن هذه القصة التي ذكرها الله عزَّ وجل لتكون موعظةً لنا .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور