الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا. مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا. وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا. وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا. وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا. وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا. وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا. وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة الكهف .
مرَّ بنا في هذه السورة قصتان ، القصة الأولى تتحدث عن أصحاب الكهف ، وكيف أنهم آثروا رضوان الله عز وجل على الدنيا العريضة ، وكيف أن الله حفظهم ، وتولاهم ، وأكرمهم في الدنيا والآخرة ، وكيف أن الهدى مبدؤه أن يختاره الإنسان ، وعندئذٍ تأتيه الزيادات من الله عز وجل ، ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ .
والقصة الثانية : قصة الشرك ، شرك الأسباب ، أنَّ الإنسان إذا نجح في حياته الدنيا ، نجاحاً في تجارته ، أو في صناعته ، أو في زراعته ، أو في مشاريعه ، أو في درجاته العلمية ، أو أي نجاح كان ، في اللحظة التي يعزو بها هذا النجاح إلى قدراته الذاتية ، إلى إمكاناته ، إلى ذكائه ، عندئذ يستحق التأديب من الله عز وجل ، لأن هذا الذي عزا النجاح إليه مؤمن ، والدليل قوله تعالى : ﴿ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي ﴾ يعترف بالله خالِقاً ومُربيّاً ، لكنه :
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ﴾
اليوم ننتقل إلى قصة ثالثة ؛ قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح الذي آتاه الله من لدنه رحمة ، وعلماً ، وقبل أن نصل إليها لابد من آيات ربما استغرقت الدرس كله ، أو بدأنا بأولها إن شاء الله تعالى .
قد يسأل سائل : ما علاقة هذه الآية بالتي قبلها لأن آيات القرآن الكريم مترابطة ؟ والدليل :
[ سورة هود ]
الآية التي قبلها : ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ الحشـر ... والعرض ... والكتاب ... ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ ..
مرَّ بنا في درس العقيدة في يوم الأحد أن المؤمن يأخذ كتابه بيمينه ، وأن الكافر يأخذ كتابه بشماله ، أو من وراء ظهره.
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) ﴾
[ سورة الحاقة ]
وقد ورد في بعض كتب العقيدة استناداً إلى بعض الآيات الكريمة أن الإنسان حينما يأخذ كتابه يُصاحبه معه الملك الذي كتبه ، فإذا أنكر فيه شيئاً فالذي كتبه سوف ينطق بالحق .
وورد أيضاً أن الذي يتلقى كتابه بشماله أو من وراء ظهره لو أنه أنكر ما فيه بلسانه عندئذٍ :
﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) ﴾
[ سورة يس ]
أي كاتب الكتاب واقف مع الكتاب ، إذا كذبت الكتاب فكاتب الكتاب ينطق بالحق ، وإذا كَذَّبْتَ هذا الشاهد فإن الفم سوف يختم عليه ، وسوف تنطق الجوارح :
﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)﴾
[ سورة فصلت ]
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾ من هنا يأتي قوله تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ﴾
[ سورة الزلزلة ]
قال بعضهم : لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لكفت الناس جميعاً ، وحينما وعظ النبي عليه الصلاة والسلام أحد الأعراب ، قال له : يا رسول الله عظني وأوجز ، تلا عليه قوله تعالى : ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ قال : قد كفيت ، فقال عليه الصلاة والسلام : فقُه الرجل ، لم يقل فقِه ، قال : فقُه ؛ أي أصبح فقيهاً .
أيها الإخوة الأكارم ؛ العلاقة بين الآيتين هي أن الله عز وجل بعد أن ذَكَرَ الموقف الصعب ، والموقف الذليل ، والموقف المخيف ، والموقف العصيب الذي يقفه العصاة يوم القيامة حينما يفتح الكتاب لينطق هذا الكتاب بكل أعمالهم ، صغيرها وكبيرها ، عندئذٍ ذَكَّرَ الله عز وجل بني آدم كيف أخذ عليهم العهد ألا يعصوا ربهم ، وألا يستجيبوا للشيطان.
السجود لآدم سجود التعظيم وليس سجود العبادة :
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾ .. أيها الإخوة ، هذا ليس سجود العبادة ، هذا سجود التعظيم ، هناك سجود العبادة وهناك سجود التعظيم ، ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ توهّمَ بعضهم أنَّ إبليس من الملائكة ، لكن هذه الآية صريحة بأن إبليس من الجن ، والدليل قوله تعالى : ﴿ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ .
أمّا أن يستنبط إنسان أن إبليس ملَك بدليل :
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ ﴾
هذا اسمه استثناء منقطع ، قد تقول : حضر الطلاب إلا المدرس ، فالمدرس ليس طالباً ، لكنه اشترك مع الطلاب في حضوره الساعة الثامنة ، لكن الطلاب طلاب ، والمدرس مدرس ، يُدعى هذا في اللغة : استثناء منقطعاً ؛ ومعنى استثناء منقطع أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه ، بينما الاستثناء المتصل تقول : حضر الطلاب إلا خالداً ، أو إلا طالباً ، فالمستثنى من جنس المستثنى منه ، بـ إلا ، فهنا استثناء منقطع ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ والدليل في آيات أخرى :
﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) ﴾
[ سورة الحجر ]
إذاً ليسَ إبليس من الملائكة ، وهذه الآية صريحة في ذلك ﴿ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ معنى فسق بمعنى خرج ، وكل إنسان يخرج عن أمر الله ، أمرك الله عز وجل أن تغض بصرك ، فنظرت إلى الحرام فهذا فسق ، أمرك بتحرّي الحلال في الكسب ، فكسبت مالاً حراماً هذا فسق ، أية معصية هي فسق .
﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) ﴾
[ سورة يونس ]
العصاة المقيمون على المعصية ، الذين خرجوا عن الصراط المستقيم هؤلاء يُفكّرون تفكيراً خاصاً ، يفكرون بطريقة تُبرر معاصيهم ، منطقهم تبريري ، يدافعون عن عاداتهم ، عن تقاليدهم ، عن معاصيهم ، عن مخالفاتهم ، عن انحرافاتهم ، عن شهواتهم ، عن نزواتهم ، فمنطق هؤلاء غير صحيح ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)﴾ .
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾ لأنه خليفة الله في الأرض .
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾
[ سورة البقرة ]
قال عليه الصلاة والسلام : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه :
(( أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فخرَ ، وبيدي لِواءُ الحمدِ ولا فخرَ ، وما مِن نبيٍّ يَومئذٍ آدمَ فمَن سِواهُ إلَّا تحتَ لِوائي ، وأَنا أوَّلُ مَن ينشقُّ عنهُ الأرضُ ولا فخرَ ، قالَ : فيفزعُ النَّاسُ ثلاثَ فزعاتٍ ، فَيأتونَ آدمَ ، فيقولونَ : أنتَ أبونا آدمُ فاشفَع لَنا إلى ربِّكَ ، فيقولُ : إنِّي أذنبتُ ذنبًا أُهْبِطتُ منهُ إلى الأرضِ ولَكِن ائتوا نوحًا ، فيأتونَ نوحًا ، فيقولُ : إنِّي دَعَوتُ علَى أهْلِ الأرضِ دَعوةً فأُهْلِكوا ، ولَكِن اذهبوا إلى إبراهيمَ ، فيأتونَ إبراهيمَ فيقولُ : إنِّي كذبتُ ثلاثَ كذباتٍ ، ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : ما منها كذبةٌ إلَّا ما حلَّ بِها عن دينِ اللَّهِ. ولَكِن ائتوا موسَى ، فيأتونَ موسَى ، فيقولُ : إنِّي قد قتلتُ نفسًا ، ولَكِن ائتوا عيسَى ، فيأتونَ عيسَى ، فيقولُ : إنِّي عُبِدتُ مِن دونِ اللَّهِ ، ولَكِن ائتوا محمَّدًا صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ قالَ : فَيأتوني فأنطلِقُ معَهُم - قالَ ابنُ جُدعانَ : قالَ أنسٌ : فَكَأنِّي أنظرُ إلى رسولِ اللَّهِِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - قالَ : فآخذُ بحلقةِ بابِ الجنَّةِ فأُقَعقِها فيُقالُ : مَن هذا ؟ فيُقالُ : محمَّدٌ فيفتَحونَ لي ، ويُرحِّبونَ بي ، فيقولونَ : مرحبًا ، فأخِرُّ ساجدًا ، فيُلهِمُني اللَّهُ منَ الثَّناءِ والحمدِ ، فيُقالُ لي : ارفَع رأسَكَ وسَلْ تُعطَ ، واشفَعْ تُشَفَّع ، وقُلْ يُسمَعُ لقَولِكَ ، وَهوَ المقامُ المحمودُ الَّذي قالَ اللَّهُ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ))
[ صحيح الترمذي : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
يتبيّن من خلال مجموعة أحاديث أنَّ سيدنا آدم يأتي بعد النبي عليه الصلاة والسلام في المرتبة ، سيدنا النبي محمد عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم ، خير خلق الله ، أول خلق الله رتبة ، وسيدنا آدم يليه في المرتبة ، فالبشرية بدئت بأكرم نبي بعد رسول الله ، وختمت الرسالات بأعظم الأنبياء من دون استثناء ، ﴿ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ مثلما كانَ سيدنا جبريل رئيساً الملائكة كان إبليس رأساً للشياطين .
أعظم مرتبة عند الله أن تكون وليه :
﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ - هنا يعجب الله عز وجل - أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ .. أتتخذ الشيطان ولياً لكَ من دون الله !!
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) ﴾
[ سورة البقرة ]
التفوق الأكبر في الأرض أن تكون ولياً لله ، ما من مرتبة على وجه الأرض أعظم عند الله من أن تكون وليه .
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) ﴾
[ سورة يونس ]
الويل لمن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله ويتحرك بتوجيهاته ووساوسه :
﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ ﴾ إبليس له ذرية من الجن ، توسوس للإنسان بالشر ، بالشهوة ، بالنزوات ...﴿ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ﴾ تدع كتاب الله ، تدع هذا التوجيه الكريم ، تدع هذا الصراط المستقيم ، تدع هذا الدستور العظيم ، تدع كتاب رب العالمين وتتجه إلى وسوسة تُهلِك صاحبها إلى الأبد ؟! ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ أتستشيرَ عدواً يأمُرُكَ أن تخرب محلك التجاري ؟ أن تكسر البضاعة ؟ أن تُغلق في ساعات العمل ؟ أو أن تسلم نفسك للموظفين في مخالفات أهكذا يعقل ؟ ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ ﴾ .. هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني ، هؤلاء الذين تتحركون بتوجيهاتهم ، هذه الوساوس الشيطانيّة التي توسوس لبعض الناس فيستجيبون لها ، هؤلاء الشياطين ، هؤلاء الذين هم أعداء لكم ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ، أي ما كانوا حاضرين يوم خلقت السماوات والأرض ، بمعنى ما استعنت بهم على خلق السماوات والأرض ، إن كانوا غائبين فنفي الاستعانة بهم في غيابهم أشد من نفيها في حضورهم ، هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء تعبدونهم ، تستجيبون لوساوسهم ، تأكلون المال الحرام استجابة لهم ، تعتدون على الأعراض استجابة لهم ، هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله ما خلقوا السماوات والأرض ، ولا استعان الله بهم ، وما كانوا شاهدين ، كانوا غائبين ، أي أن ننفي أن يستعين الله بهم في غيبتهم أبلغ بكثير من أن ننفي استعانته بهم في حضورهم ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ ﴾ ما كانوا شاهدين يوم خلق الله السماوات والأرض .
الله وحده هو من يستحق العبادة ولا أحد سواه :
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي هذا المولود من ساهم في خلقه ؟
﴿ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) ﴾
[ سورة الواقعة ]
الذي يعبد الشيطان من دون الله ، الذي يستجيب لوساوس الشيطان ، هل هذا الشيطان ساهم في خلق الإنسان حتى يكسب هذا الحق ؟ لا ، كأن الله عز وجل في هذه الآيات يقول : إن الذي يستحق العبادة هو الله وحده ، ولا شيء سواه ، ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾ .
نقطة ماء ، حيوان منوي واحد من ثلاثمئة ألف حيوان يلقح بويضة تنقسم في ثمانية أيام إلى عشرة آلاف قسم ، ثم تلتصق في جدار الرحم ، ثم يبدأ تشكل الدماغ ، والأحشاء ، والأعضاء ، في تسعة أشهر وعشرة أيام يصبح طفلاً كاملاً ، دماغ ، جمجمة ، مخ ، مخيخ ، بصلة سيسائية ، نخاع شوكي ، أعصاب ، قلب ، شرايين ، رئتان ، معدة ، أمعاء ، كبد ، بنكرياس ، كليتان ، مثانة ، عضلات ، عظام ، جلد ، غدد دهنية ، غدد صبغية . ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾ .. ما كان الله عز وجل ليتخذ إنساناً مضلاً عضداً له في تعريف الناس به ، المضل لا يوفق في هداية الناس ، لأن الله لا يتخذه عضداً ، ﴿ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾ .. أي هذا الذي يضل الناس عن طريق الله لن يكن عضداً لله عز وجل ، أي مُعيناً له في هِداية خلقه . لذلك :
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) ﴾
[ سورة الحاقة ]
شروط لابد من توافرها حتى يتخذ الله الإنسان وسيلة للهدى :
الآيات المتعلقة بهذا الموضوع :
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾
[ سورة البقرة ]
متى جعله إماماً ؟ بعد أن ابتلاه فصبر :
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) ﴾
[ سورة السجدة ]
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) ﴾
[ سورة الأحزاب ]
هذه علامة ثالثة .
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18) ﴾
[ سورة آل عمران ]
هذه علامة رابعة .
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108) ﴾
[ سورة يوسف ]
علامة خامسة .
التنزّه عن الدنيا ، الدعوة على بصيرة ، الصبر على بلاء الله ، الفوز في امتحان الله ، هذه كلها شروط لابد من توافرها حتى يتخذ الله هذا الإنسان وسيلة للهدى ، ﴿ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾ .
الله عز وجل ما أمر الإنسان أن يعبده إلا من بعد أن طمأنه أن الأمر راجع إليه:
﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ ﴾ ربنا سبحانه وتعالى من باب تعريفهم بشركائهم ، بعض المفسرين يرى أن اعتقاد المشركين بآلهتهم التي عبدوها من دون الله ، هذا الاعتقاد قد يستمر معهم إلى ما بعد الموت ، عندئذٍ يقول الله عزَّ وجل : ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ ﴾ ، هذا الذي اعتقدت أنه كل شيء في الحياة ، ينفع ويضر ، أين هو الآن ؟ ناده ، اطلب منه أن يخلصك ، ادعه أن يستجيب لك ، أرادَ الله عزَّ وجل بهذه الآية أن يبين لنا أن هذه الآلهة التي عُبدت من دون الله عز وجل سوف تكشف على حقيقتها المزرية يوم القيامة ، ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾ أنهم شركاء ، وأنهم آلهة ، وأنهم بيدهم الحل والربط ، حينما أمرك الله عزَّ وجل أن تعبده طمأنك بأن الأمر كله راجع إليه .
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
[ سورة هود ]
﴿ فَدَعَوْهُمْ ﴾ ادعوهم أن يخلصوكم إن كنتم تزعمون أنهم آلهة ، أنَّهم بيدهم الفعل ، ادعوهم ﴿ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ﴾ وهذا من بلاغة القرآن ، لم يقُل : لم يُخلصوهم ، إذا كانوا عاجزين عن أن يستجيبوا لكم فعن تخليصهم أعجز ، إذا كانوا عاجزين عن أن يستجيبوا لكم فهم عن تخليصهم أشد عجزاً ، ﴿ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ﴾ .. الموبق ؛ هو الهلاك ، أي هؤلاء الذين أَشركوا ، وهؤلاء الذين أُشركوا ، هؤلاء الذين عَبدوا من دون الله ، وهؤلاء الذين عُبدوا من دون الله ، جميعاً هالكون ، تجمعهم نار جهنم التي تلفح بلهيبها وجوههم .
تيقن الكافر أنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً :
﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ .. هناك قول شهير أن تُوقِع المصيبة مصيبة أكبر منها ، وأنت من خوف الفقر في فقر ، ومن خوف المرض في مرض .
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) ﴾
[ سورة غافر ]
﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ﴾ أي إذا حُكِم على إنسان بالإعدام شنقاً حتى الموت بجريمة ارتكبها ، ثم أطل من كوة السجن فرأى المشنقة في فنائه ، كلما أطلّ عليها شعر بقرب تنفيذ حكم الإعدام ، قد ناله من الألم أضعاف ما لو أُعدِمَ فوراً ، ﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ﴾ هذا ظنٌّ يقيني ، كلمة ظن تعني حسب ، أو تعني أيقن يقيناً عقلياً ، لا يقيناً شهودياً ، لذلك ربنا عز وجل حينما أثنى على أهل الجنة قال :
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) ﴾
[ سورة البقرة ]
معنى يظنون أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا كما يتوهم بعض الناس ، فكلمة ظن في القرآن تأتي بمعنى الاعتقاد الجازم ، وتأتي بمعنى الشك ، ظننته عالماً فإذا هو جاهل ، بمعنى حسبته ، أما هنا بمعنى ﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ﴾ بمعنى تيقّنوا أنهم مواقعوها . ﴿ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ﴾ .. وكأن الله عز وجل يلفت نظرنا إلى كتابه الكريم ويقول : ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ .. ذَكَرَ ربنا عز وجل قصصاً ، ذكر أمثلةً ، ذكر أخباراً سابقة ، ذكر تشريعات ، ذكر أوامر ، ذكر نواهي ، ذكر مرغبات ، ذكر مخيفات ، ذكر مشاهد من يوم القيامة ، ذكر مشاهد من الجنة ، ذكر مشاهد من جهنم ، رغّب ، وأرهب ، وخوّف ، وحذر ، وبشر ، وأنذر ، وبيّن ، ووضح ، ومثل ، وقص ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾.. أي أساليبه عديدة ، تقرأ السورة ، تقرأ فيها حُكماً شرعياً ، ثم آية كونية أحياناً ، فقصةً بليغةً ، ثم مثلاً رائعاً ، ثم خبراً ماضياً ، ثم بشارةً ، ثم مشهداً من مشاهد الجنة ، ثم مشهداً من مشاهد النار ، ثم ملخصاً ، سورة ذات موضوعات متكاملة .
الصفات التي وُصِف بها الإنسان في القرآن ليست نقاط ضعف بل هي لمصلحته :
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ .. خُلِقَ الإنسان ضعيفاً ، وخُلِقَ الإنسان هلوعاً ، وخُلِقَ الإنسان عجولاً ، وكانَ الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جدلاً ، هذه الصفات التي وصف بها الإنسان في القرآن ليست نقاط ضعف تستوجب اللوم ، لكنها نقاط ضعف لمصلحته ، كيف أن الجهاز الغالي يحوي نقطة ضعف كهربائية من أجل ألا يحترق ، تُسمّى "الفيوز" ، كذلك الإنسان خُلِقَ ضعيفاً .. وخُلِقَ هلوعاً .. وخُلِقَ عجولاً ، خُلِقَ ضعيفاً ، لو خلقه الله قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه ، خُلِقَ عجولاً يرقى إذا اختار الآجلة إلى أعلى عليين ، خُلِقَ هلوعاً ، لولا أنه يهلع لما عرف الله عز وجل ، لو خلقه متجلداً لا يخاف ، يبقى على معاصيه إلى يوم القيامة ، لكن ضعفه ، وخوفه ، وفرقه ، وكونه يهلع ، ويجزع ، وتخور قواه ، وترتعد أطرافه ، هذا كله لمصلحته ، من أجل أن يعود إلى الله عز وجل ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ زوّدَ الله الإنسان بالمنطق ، يناقش ، يحاور ، يسأل ، يريد البرهان ، الدليل .
بطولة الإنسان أن يعرف الله وهو في الرخاء :
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ﴾. . يعجَب ربنا عز وجل في هذه الآية !! ما الذي يمنعكم أيها العباد من أن تؤمنوا ؟ ما الذي يمنعكم ؟ لا تؤمنون بي حتى يأتيكم العذاب ، وهذا الكلام لنا ، أي وأنت في شبابك ، وأنت في صحتك ، وأنت بحبوحتك ، وأنت في قوتك ، وأنت في غِناك ، لِمَ أنتَ غافل ؟ ألا تريد أن تؤمن بالله إلا بعد المرض وبعد الفقر وبعد الذل وبعد الإهانة ؟ أهكذا المروءة ؟!! أهكذا الذكاء ؟!! أهكذا الوفاء ؟!! لا يؤمن بالله إلا بعد الشدة ، أنحن عبيد أم أحرار ؟ السيدة رابعة العدوية تقول : " العبّاد ثلاثة ؛ العبيد هم الذين يعبدونه خوفاً من ناره ، والتـجار يعبدونه طمعاً في جنته ، والأحرار عرفوا أن لهم رباً فأطاعوه :
وما مقصودهم جنـــات عـدنٍ ولا الحور الحسان ولا الخياما
سوى نظر الجليل وذا مناهم وهــــــــذا مـــــطلب القوم الـكراما
***
ألا يليق بك أيها الأخ الكريم وأنت في شبابك ، وأنت في صحتك ، وأنت مستمتع بسمعك ، وبصرك ، وذاكرتك ، وقوتك ، وأعضائك ، وأنت هكذا في أوجك ألا ينبغي الآن أن تعرف الله ؟ أن تعرف ماذا يريد منك ؟ ما طريق رضوانه ؟ أما معظم الناس إلى أن يأتيهم المرض الشديد العضال ، أو أن يأتيهم التحليل أن هناك ورماً خبيثاً ، إلى أن يأتي التحليل أن هناك داء عضالاً ، إلى أن يفقد أحدهم ماله كله ، إلى أن يوضع في وضع صعب جداً ، عندئذ يقول : يا رب ، يا رب ، لا ، قل : يا رب أنت في الرخاء ، إن كنت بطلاً فقل : يا رب ، وأنت في الرخاء ، وأنت معافى ، وأنت شاب ، وأنت مستمتع بسمعك وبصرك ، أنت مستمتع بقوتك ، وعندك زوجة وأولاد ، هذه البطولة ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى ﴾ هذا الهدى بين أيديكم ، كتاب الله بين أيدينا .
العاقل من يؤمن بالله وهو في ريعان شبابه :
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾ .. عذاب الاستئصال ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ﴾ إلى أن يأتي العذاب والبلاء والقهر ، كأن الله عز وجل يتمنى علينا في هذه الآية أن نؤمن به طوعاً لا كرهاً ، فعَنْ أبي هريرة رضي الله عنه :
(( عَجِبَ اللَّهُ مِن قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ في السَّلاسِلِ ))
[ صحيح البخاري ]
من لم يتجه إلى الله بلطائف الإنعام ساقه الله إليه بسلاسل الامتحان ، إما أن تأتي إليه طوعاً ، أو هو قادر على أن يجعلك تنساق إليه كرهاً .
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)﴾
[ سورة فصلت ]
هذه بطولة أيها الإخوة ، بطولة ، وأنت في صحتك ، أن تنفق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمن الغنى ، هذا الإنفاق ، لذلك قال النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم :
(( عن عبد الله بن عباس قال : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه : اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ : شبابَك قبل هَرَمِك ، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك ، وغناك قبل فقرِك ، وفراغَك قبل شُغلِك ، وحياتَك قبل موتِك . ))
[ أخرجه المنذري الترغيب والترهيب إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما ]
اسمع : ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ فتية ، شباب .
عيّنَ النبي عليه الصلاة والسلام سيدنا أسامة بن زيد قائداً للجيش ، وكان من جنود هذا القائد سيدنا عمر بن الخطاب ، كان عُمُرُ هذا القائد الجليل سبعة عشر عاماً ، وكان عمر ، وعثمان ، وعلي جنوداً في هذا الجيش ، وأراد سيدنا الصديق رضي الله عنه أن يُدعّم مركزه فمشى في ركابه ، فما كان من أسامة بن زيد إلا أن قال : يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن ، قال : والله لا ركبت ، ولا نزلت ، وما عليّ أن تغبر قدمايَ ساعة في سبيل الله ، حينما وصلا إلى مركز الانطلاق والتجمع استأذن سيدنا الصديق من قائد الجيش الذي لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً أن يبقي له عُمَرَ مستشاراً في المدينة . هذا كلام موجه للشباب ، ما من شيء أحبّ إلى الله عز وجل من شاب تائب .
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ ﴾ عندما يصل الإنسان إلى خريف العمر حيث الأمراض ، والهموم ، والانزواء ، وقلة الشأن ، عندئذ لا يبقى له إلا المسجد ، أما البطولة أن تأتيه وأنت صحيح شحيح ، وأنت في ريعان شبابك .
الناس رجلان ؛ مؤمنٌ تقي وفاجر شقي :
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾ كلما كفر قوم بربهم وطلبوا معجزة ، جاءت المعجزة واستؤصلوا بعدها استئصالاً نهائياً ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ﴾ .. معنى قُبُلاً ؛ أي عياناً ، وجهاً لوجه .﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ .
عن عبد الله بن عمر :
(( أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطب الناسَ يومَ فتحِ مكةَ فقال يا أيها الناسُ إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عبيةَ الجاهليةِ وتعاظُمَها بآبائها فالناسُ رجلانِ رجلٌ بَرٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ والناسُ بنو آدمَ وخلقَ اللهُ آدمَ من الترابِ قال اللهُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. ))
[ ابن العربي : عارضة الأحوذي: خلاصة حكم المحدث : صحيح : أخرجه الترمذي ]
الناس رجلان : مؤمنٌ تقي كريمٌ على الله ، وفاجر شقي هين على الله ، هذا يُبشر ، وهذا يُنذر .
الابتعاد عن الاستهزاء بالحق :
﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً﴾ .. قال العلماء : إن أشد أنواع الكفر الاستهزاء بالحق ، لو أنك جلست تناقش أهل الحق ، وأنت تريد أن ترد الحق هذا الموقف أشرف بكثير من أن تستهزئ بالحق ، أي أن يتخذ الإنسان الحق هزؤاً ، أن يتخذ آيات الله لعباً ، أن يهزأ بدين الله ، أن يلعب بأحكام الله هذا أشد أنواع الكفر .
الحق هو الشيء الثابت والهادف والباطل هو الشيء العابث والزائل :
﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً ﴾ .. الباطل هو الشيء الزائل ، لو وضعت هذه الثريا مع السقف تماماً كان مكانها بالباطل ، لو وضعت إلى الأرض تماماً لكان مكانها بالباطل ، معنى الباطل أنه لابُدَّ من أن يُزال هذا المكان غير الصحيح ، الباطل هو الشيء الزائل ، أما الحق فالشيء الثابت ، فالحق ثابت ، الباطل زائل ، الحق هادف ، الباطل عابث ، الحق واقع والباطل كاذب ، الحق يناقض الحكمة في الخلق ويناقض الحكمة في التشريع ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً ﴾ .
يُروى أنَّ رجلاً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام سمى ابنه الله ، أو سمى نفسه الله ، استهزاءً بالله عز وجل ، فجاءت صاعقة فقتلته فوراً ، يجب على الإنسان ألا يتورط بالاستهزاء بآيات الله ، بمقدسات الدين ، بالقيم الدينية ، بالقواعد الشرعية ، بالأحكام القرآنية ، هذا مكان خطر جداً ﴿ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً ﴾ .
أشدّ الناس ظلماً المُعرِضُ بعد التذكير :
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ .. أي ليس في الأرض إنسان أشد ظلماً ممن ﴿ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ دُعِيَت إلى الحق قلت : هناك وقت طويل ، في الثمانين نحج ، ونتوب ، ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ دعيت إلى الحق فأعرضت ، دعيت إلى طاعة الله ، فقلت : الله غفور رحيم ، دعيت إلى التصدق ، فقلت : الله يغني من يشاء ، دعيت إلى غض البصر ، فقلت : أين أذهب بعيني ؟ دعيت إلى تحرير كسبك من الحرام ، فقلت : الناس كلهم كذلك ، كلما تدعى إلى طاعة تعرض عن هذه الطاعة وترفضها وتحتال عليها بشتى الأعذار ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ غفل عن أعماله السيئة ، غفل عن ظلمه ، غفل عن تعدياته ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً﴾ قد يفهم القارئ هذه الآية فهماً ما أراده الله عز وجل ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ الله عزَّ وجل ذكره مرات عديدة ، هناك آيات أخرى تؤكدها .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
[ سورة الأنعام ]
يُذَكِّرُ الله عز وجل عباده ليلاً نهاراً ، عن طريق الملك ، وعن طريق الأنبياء ، وعن طريق الرسل ، وعن طريق العلماء ، وعن طريق الدعاة ، وعن طريق القرآن ، وعن طريق المكتشفات العلمية ، وعن طريق الآيات الكونية ، حتى إن بعض التفاسير وهو القرطبي في تفسير قوله تعالى :
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) ﴾
[ سورة فاطر ]
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية : إن النذير هو الموت ، موت الأقارب أكبر نذير ، والقرآن هو النذير ، والنبي هو النذير ، والعالم هو النذير ، والمرض هو النذير ، والمصائب هي النذير ، والشيب هو النذير ، وسن الأربعين هو النذير ، وسن الستين هو النذير ﴿ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ﴾ .
من يختار الضلال يمنع الله عنه كلّ الحقائق :
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ﴾ .. حينما اختار الضلال جُعل على قلبه هذا الكن ، لذلك أوضح آية توضح هذه الآية :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) ﴾
[ سورة الصف ]
هذا هو الإضلال الجزائي ، المبني على الضلال الاختياري ، يختار الإنسان الضلال فيمنع الله عنه كل هذه الحقائق ، تماماً كما لو أنك مسافر إلى بلد قريب ، ووجدت في الطريق مفترقين لا تدري أيهما تسلك ، سألت واحداً من الناس : أين حمص ؟ قال لك : من هنا ، قلت له : جزاك الله عني كل خير ، بعد أن استجبت له ، وقبلت هذه النصيحة زودك بمعلومات شتى عما في الطريق ، من تحويلات ، ومن حواجز ، ومن مطبات ، ومن ، ومن ، كل هذه المعلومات متى زُودت بها ؟ بعد أن قَبِلتَ هذه النصيحة ، أمّا الذي يتهم هذا الدليل بالكذب ، هل بإمكان هذا الدليل أن يعطيه من المعلومات شيئاً ؟
معنى الإضلال هنا أنه حينما ذَكَّرَه الله عز وجل فأعرض عن هذا التذكير ، ونسي ما قدمت يداه ، عندئذ : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً﴾ أي لا يستطيع كائن من كان في الأرض أن يهدي من اختارَ الضلال والدليل :
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾
[ سورة القصص ]
﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾
[ سورة البقرة ]
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) ﴾
[ سورة الأنعام ]
﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) ﴾
[ سورة الغاشية ]
﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) ﴾
[ سورة الأنعام ]
الرحمة كلها من عند الله :
﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ﴾ ..
في آية أخرى :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
[ سورة آل عمران ]
أجمع العلماء على أن أرحم مخلوق بالمخلوقات قاطبة هو النبي عليه الصلاة والسلام ، أرحم الخلق بالخلق ، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128) ﴾
[ سورة التوبة ]
ومع ذلك قال الله عز وجل : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ أما ربنا عز وجل : ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ فالرحمة كلها من عند الله ﴿ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ﴾ .. تقتضي رحمة الله عز وجل أن يُمهل ولا يُهمل ﴿ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ﴾ .
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى(130) ﴾
[ سورة طه ]
ربنا حليم ، أي يحلم على عباده إلى درجة تفوق التصور ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ﴾ .. أي مفراً ، أو ملتجأ .
الآية التالية آية مُحكَمة تأخذ شكل قانون :
﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾ .. هذه الآية آية محكمة ، تأخذ شكل قانون ، ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾. . هذه المصائب الجماعية ، من زلزال ، إلى بركان ، إلى فيضان ، إلى قحط ، إلى سيل ، إلى طوفان ، هذه المصائب الجماعية جاءت من الله بحسبان :
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) ﴾
[ سورة الأنعام ]
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) ﴾
[ سورة النحل ]
﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾ .. هناك توقيت دقيق .
قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام تؤكد أن الفعل بيد الله :
في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نبدأ بقصة سيدنا موسى مع الخضر ، في هذه القصة مغزى كبير ، تأتي الإنسان أحياناً أشياء لا يرضى عنها قال تعالى :
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) ﴾
[ سورة البقرة ]
هذه الآية هي مغزى قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام ، وهذه القصة يحتاجها كل مؤمن ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لاعتقاده الجازم بأن الله عز وجل لا يسوق لعباده إلا الخير كان إذا جاءت الأمور وفق ما يريد قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وكان إذا جاءت الأمور على خلاف ما يريد قال : الحمد لله على كل حال .
فقصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام قصة تؤكد أن الفعل بيد الله ، وأن فعل الله كُلهُ حِكمة ، وكله رحمة ، وكله عدل ، وكله علم ، فهذه القصة إذا قرأناها ، ووعيناها ، وعقلناها ينبغي أن نستسلم لله عز وجل ، وأن نرضى بقضاء الله وقدره .
يحمل سيدنا موسى علم الشريعة ، بينما يحمل سيدنا الخضر عليه السلام الحقيقة ، وهناك تكامل بين الحقيقة والشريعة.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين