- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (018)سورة الكهف
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
سورة الكهف تؤكد العقيدة الصحيحة وتوضح المنهج الصحيح وتصحح بعض القيم :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الأول من سورة الكهف : بسم الله الرحمن الرحيم
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ هذه السورة يوم الجمعة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين . ))
والذي يغلب على هذه السورة القصص ، ففيها قصة أهل الكهف ، وقصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر ، وفيها قصة ذي القرنين ، وهذه القصص إنما تؤكد العقيدة الصحيحة ، وتوضح المنهج الصحيح ، وتصحح بعض القيم .
في هذه السورة تصحيح للعقيدة ، وللمنهج ، وللقيم ، وسوف نأتي على هذه بالتفصيل ، في أثناء شرح الآيات .
الحمد وحده يشير إلى أن الإنسان محاط بنعم لا تعد ولا تحصى :
قبل كل شيء ، يقول الله سبحانه وتعالى في مطلع هذه السورة :
لو ذهبنا إلى تعداد النعم لانقضى العمر قبل أن تنقضي بعضها ، لذلك كلمة الحمد وحدها تعني أن الإنسان محاط بنعم لا تعد ولا تحصى ، ولكن المشكلة لا أحد على وجه الأرض ينكر أن يكون الإنسان محاطاً بالنعم ، ولكن المشكلة أن هذا الحمد لمن ؟ إنه لله .
أهل الكفر يعزون هذه النعم إلى أنفسهم ، إلى جهدهم ، إلى آلهة أشركوها مع الله عز وجل ، المشكلة أن النعمة موجودة ، ولكن من صاحبها ؟ من الذي يستحق الشكر عليها ؟
لو أن إنساناً أسدى إليك نعمة ، أو عطاءً ، إنك تظل إلى أمد طويلٍ طويل تشكره من أعماقك ، فما بالك وقد أنعم الله عليك بهذا الخلق السوي ؟ إذا نظر الإنسان إلى وجهه في المرآة يجب أن يشكر الله عز وجل .
وكان عليه الصلاة والسلام : إذا نظر إلى وجهه ، دعا بدعاء ، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول :
(( اللهم أَحسَنْتَ خَلْقي فأَحْسِنْ خُلُقي . ))
يا رب كيف أشكرك ؟ فقال الله عز وجل : تذكرني ولا تنساني ، إنك إذا ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)﴾
اذكروه ذكراً كثيراً ، إنك إذا ذكرته شكرته ، وإذا ما نسيته كفرته ، علامة الشكر أن تكثر ذكره ، أن تعرف أن هذه النعمة من عنده . فكلمة الحمد فقط وحدها تعني أنك محاط بنعم لا حدود لها ، لا تنتهي ، لا حصر لها ، الحمد .
وجوب شكر الله على نعمه :
أما كلمة لله فهذه النعم التي أنت فيها يجب أن تشكر الله عليها ، لأن الله هو مصدرها ، هذا هو الفرق بين المؤمن والكافر ، المؤمن يعرف أن هذه النعم من عند الله ، وغير المؤمن ينسبها إلى غير الله ، وفي الحديث القدسي عن أبي الدرداء عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
((
رجل بلغ أعلى المراتب ، حصّل أعلى الشهادات ، احتل أرفع المناصب ، كل شيء على ما يرام ، فجأةً يفقد بصره ، يقول لصديقه : أتمنى أن أجلس على الرصيف ، وأتسول ، وأن يرد الله إلي بصري ، يوم تمتعت بنعمة البصر هل عرفت أن هذه النعمة من الله عز وجل ؟ جعلك ترى الأشياء التي تحبها ، ترى الألوان ، نعمة السمع ينبغي أن نعرفها قبل أن نفقدها .
من علامة التوفيق أن ترى النعمة بوجودها لا بفقدها ، لكن الناس جميعاً إذا فقدوا بعض النعم تحسسوا لها ، وعندئذٍ عرفوا قيمتها ، لكن البطولة أن تعرف النعمة وأنت مستمتع بها ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، و قوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، فهذا ينسحب أيضاً على سورة الفاتحة تقول في كل صلاة وفي كل ركعة : الحمد لله رب العالمين ، لو أن قناة العين الدمعية ، وهي أدق قناة في الإنسان لو أنها أُغلقت لاضطررت أن تمسك منديلاً تمسح الدمع الذي يفيض على خديك طوال النهار ، ولأثَّر هذا الدمع على صفحة الوجه ، وترك بعض أنواع الالتهاب ، هذه القناة الدمعية .
جهاز التوازن الذي منحك الله إياه لولاه لا تستطيع أن تسير على قدمين .
الأذنان ؛ لو أن للإنسان أذناً واحدة لما عرف جهة الصوت ، ولكن الصوت إذا جاءك من خلفك ، هناك جهاز في الدماغ يقيس تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين ، والتفاضل واحد على ألف وستمئة وخمسين جزءًا من الثانية ، فتعرف أنت من خلال الأذنين أن جهة الصوت من اليمين ، فإذا كان بوق السيارة من اليمين فتتجه نحو اليسار .
ولو أن للإنسان عيناً واحدة لما عرف البعد الثالث ، بالعين الواحدة يرى الطول والعرض ، وبالعينين يرى الطول والعرض والبعد الثالث .
لو أن في الشعر أعصاباً حسية لما أمكننا أن نحلق رؤوسنا ، ما هذه الحكمة البالغة أن الأظافر والشعر ليس فيهما أعصاب حسية ؟ خلقنا فسوانا .
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾
﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾
نعمة الخلق ، ونعمة الأجهزة ، ونعمة الأعضاء ، ونعمة الزوجة ، ونعمة الولد ، ونعمة الدفء ، ونعمة الشمس ، ونعمة القمر ، ونعمة الطعام ، ونعمة الشراب ، هذه النعم ، لذلك يقول الله عز وجل :
﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ
في الآية دقة بالغة ، لم يقل الله عز وجل : وإن تعدوا نعم الله ، قال :
نعمة إنزال الكتاب توازي نعمة خلق الكون :
لكن الحمد هنا متعلق بشيء آخر
في سورة أخرى :
﴿
يوجد توازٍ ، خلق السماوات والأرض شيء يُحمد الله عليه ، وإنزال هذا الكتاب شيء آخر يُحمد الله عليه .
توضيحاً لهذه الآية ؛ لو أنك اشتريت جهازاً بالغ التعقيد لتحليل الدم ، وإن كل نقطة من هذا الدم إذا وضعت على الجهاز أعطتك عشرين تحليلاً بكبسة زر ، وإنك إذا استعملت هذا الجهاز ، استثمرته تجارياً ربما عاد عليك في اليوم بمئات الألوف ، لكنك لا تستطيع أن تشغله إلا بتعليمات الشركة ، والشركة أرسلت لك هذا الجهاز من دون تعليمات ، فمع أن ثمنه باهظ ، ومع أن دخله كبير جداً ، إلا أن هذا الجهاز مفتقر إلى تعليمات ترسلها الشركة ، فربما كانت هذه التعليمات لا تقل قيمة عن الجهاز ، لأن الجهاز من دون تعليمات معطل ، جمدت ثمنه ، وتعطل استثماره ، فإذا حصلت على هذه التعليمات ، وأمكنك بموجبها أن تشغل الجهاز ، وأن تجني منه مئات الألوف ، تحس أن هذه التعليمات المكتوبة لا تقل عن هذا الجهاز الضخم ، من هنا جاء قوله تعالى :
هذا الكتاب يقول لك : افعل ولا تفعل ، كُلْ هذا الطعام ، ودع لحم الخنزير ، اشرب هذا الشراب ، ودع الخمر ، تزوج ، ولا تزن ، إن هذا الكتاب يوضح لك الطريق إلى سعادة الدنيا والآخرة ، المنهج السليم إلى السلامة في الدنيا والآخرة ، فلذلك نعمة الكتاب توازي نعمة خلق الكون ، والدليل القرآن الكريم :
أنت أمام نعمتين ؛ نعمة الإيجاد ونعمة الإرشاد :
ما قيمة الجامعة وأبنيتها الشاهقة وملاعبها ومكتبتها وقاعات المحاضرات من دون كتب ومن دون تدريس ؟ روح الجامعة التدريس والكتب ، فكأن البناء شيء ، والمنهج والمُدرس والكتاب شيء آخر ، ربما كان هو الأهم ، إذاً نحن أمام نعمتين كبيرتين ؛ نعمة الإيجاد
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
مقام العبودية لله أرفع مقامات الإنسان :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾
لذلك ؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، أي أرفع مقام إذا كنت عبداً لله بالمعنى الصحيح الذي أراده الله عز وجل تكون قد حققت الهدف الذي من أجله خُلقت ، وما أروع أن يعرف الإنسان الهدف الذي من أجله خُلق ، وما أروع أيضاً أن يكون في الطريق الصحيح نحو هذا الهدف الذي من أجله خلق ، أن تعبد الله ، أن تطيعه في المنشط والمكره ، فيما عرفت حكمته ، وفيما لم تعرف ، أن تطيعه في علاقاتك كلها مع جيرانك ، مع زوجتك ، مع أولادك ، مع من تحب ، مع من تبغض ، مع أعدائك ، مع أصحابك ، مع من تتعامل معهم .
الكتاب هو القرآن الكريم وهو منهج للناس جميعاً :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ
أي لا تنقطع الأرض عن الهدى الرباني . عن كميل بن زياد :
(( أخَذَ بيدي أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ بالكوفةِ ، فخرَجْنا حتى انتَهَيْنا إلى الجبانِ ، فلمَّا أصحَرَ تنفَّسَ صُعَداءَ ، ثمَّ قال لي : يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ ، إنَّ هذه القلوبَ أَوْعيةٌ ، وخيرَها أَوْعاها للعلمِ ، احفَظْ عنِّي ما أقولُ لكَ ، الناسُ ثلاثةٌ : عالمٌ رَبَّانيٌّ ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ ، وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ ، يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ ، العلمُ خيرٌ مِن المالِ ، العلمُ يحرُسُكَ ، وأنتَ تحرُسُ المالَ ، المالُ يُنقِصُه النفقةُ ، والعلمُ يزكو على الإنفاقِ ، يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ ، محبةُ العالمِ دِينٌ يُدانُ ، تُكسِبُه الطاعةَ في حياتِه ، وجميلَ الأُحْدوثةِ بعدَ وفاتِه ، ومنفعةُ المالِ تزولُ بزوالِه ، العلمُ حاكمٌ ، والمالُ محكومٌ عليه ، يا كُمَيلُ ، مات خُزَّانُ المالِ وهم أحياءٌ ، والعلماءُ باقونَ ما بقِيَ الدهرُ ، أَعْيانُهم مفقودةٌ ، وأمثالُهم في القلوبِ موجودةٌ ، وإنَّ ههنا - وأشارَ إلى صَدرِه- لعلمًا جَمًّا لو أصَبتُ حَمَلةً ، بلى أصَبتُ لَقِنًا غيرَ مأمونٍ ، يَستعمِلُ آلةَ الدِّينِ بالدُّنْيا . . . وذكَرَ الحديثَ . ))
إذاً :
(( لا يحزن قارئ القرآن . ))
هو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم :
(( من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت . ))
كتاب الله عز وجل كامل لأنه من عند الحكيم الخبير :
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) ﴾
كيف أن الكون على أكمل وجه ، هذا الكون خَلْقُه ، وهذا القرآن كلامه ، ولابد من تناسب بين خلقه وكلامه ، كما أن الكون مطلق الكمال ، كذلك هذا القرآن في مضمونه ، وفي أسلوبه ، وفي مبادئه ، وفي قيمه ، وفي قصصه ، كله كمال في كمال ، يشبه هذه الآية قول الله عز وجل :
﴿
معنى قيّماً :
1 ـ قيّم على مصالح الناس :
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ
2 ـ قيّم على الكتب السماوية كلها :
المعنى الثاني أنه قيّم على الكتب السماوية كلها ، ومهيمناً عليها .
3 ـ مستقيم لا عوج فيه :
المعنى الثالث : أنه مستقيم ، ومعنى مستقيم ، أي صحيح مئة في المئة ، كيف أن الله عز وجل لم يجعل له عوجاً ؟ أي جعله مستقيماً ، والاستقامة هنا استقامة بمعنى أن كل ما فيه صحيح ، وكل ما فيه حق صريح .
مضمون هذا الكتاب وهو القرآن الكريم حقّ وأُنزل على النبي الكريم بالحق :
بعضهم قال :
وبعضهم أعادها على النبي عليه الصلاة والسلام ، ولم يجعل لهذا النبي عوجاً ، لا في أخلاقه ، لا في معاملته ، لا في دعوته ، لا في منطقه ، لا في حياته الخاصة ، كل ما في حياته كمال في كمال . فلذلك الكتاب :
﴿
مضمون هذا الكتاب حق ، وأُنزل على النبي الكريم بالحق ، هذه الآية بمعناها الأول والثاني تؤكد تلك الآية :
وأجملُ منك لم تر قطٌ عيني وأكملُ منك لم تَلِدِ النساء
خُلِقْتَ مُبرأ من كأأـــل عيــــبٍ كأنًكَ قد خُلِقْتَ كما تشاء
***
هذا معنى قول الله عز وجل :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾
(( مَّا نزَلْنا أرضَ الحَبَشةِ جاوَرْنا بها خَيرَ جارٍ ، النَّجاشيَّ ، أمِنَّا على دِينِنا ، وعَبَدْنا اللهَ لا نُؤْذى ، ولا نَسمَعُ شَيئًا نَكرَهُه ، فلمَّا بلَغَ ذلك قُرَيشًا ائْتَمَروا أنْ يَبعَثوا إلى النَّجاشيِّ فينا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ وأنْ يُهدوا النَّجاشيَّ هدايا ممَّا يُستَطرَفُ مِن مَتاعِ مكةَ ، وكان مِن أعجَبِ ما يأتيهِ منها إليه الأدَمُ ، فجَمَعوا له أدَمًا كَثيرًا ، ولم يَترُكوا مِن بَطارِقَتهِ بِطريقًا إلا أهدَوْا له هَديَّةً ، ثم بَعَثوا بذلك مع عَبدِ اللهِ بنِ رَبيعةَ بنِ المُغيرةِ المَخزوميِّ وعَمرِو بنِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهْميِّ ، وأمَّروهما أمْرَهم ، وقالوا لهما : ادفَعوا إلى كُلِّ بِطريقٍ هَديَّتَه قَبلَ أنْ تُكَلِّموا النَّجاشيَّ فيهم ، ثم قَدِّموا لِلنَّجاشيِّ هداياه ، ثم سَلوهُ أنْ يُسَلِّمَهم إليكم قَبلَ أنْ يُكَلِّمَهم . قالت : فخرَجا ، فقَدِما على النَّجاشيِّ ونحن عِندَه بخَيرِ دارٍ ، وعِندَ خَيرِ جارٍ ، فلم يَبقَ مِن بَطارِقَتِه بِطريقٌ إلا دفَعا إليه هَديَّتَه قَبلَ أنْ يُكَلِّما النَّجاشيَّ ، ثم قالا لِكُلِّ بِطريقٍ منهم : إنَّه قد صَبا إلى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غِلمانٌ سُفَهاءُ فارَقوا دِينَ قَومِهم ، ولم يَدخُلوا في دِينِكم ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتَدَعٍ لا نَعرِفُه نحن ولا أنتم ، وقد بعَثَنا إلى المَلِكِ فيهم أشرافُ قَومِهم؛ لِيَرُدَّهم إليهم ، فإذا كَلَّمْنا المَلِكَ فيهم فتُشيروا عليه بأنْ يُسَلِّمَهم إلينا ، ولا يُكَلِّمَهم؛ فإنَّ قَوْمَهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم . فقالوا لهما : نَعَمْ . ثم إنَّهما قَرَّبا هَداياهم إلى النَّجاشيِّ ، فقَبِلَها منهما ، ثم كَلَّماهُ ، فقالا له : أيُّها المَلِكُ ، إنَّه قد صَبا إلى بَلَدِكَ مِنَّا غِلمانٌ سُفهاءُ ، فارَقوا دِينَ قَومِهم ، ولم يَدخُلوا في دِينِكَ ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتَدَعٍ ، لا نَعرِفُه نحن ولا أنتَ ، وقد بعَثَنا إليكَ فيهم أشرافُ قَومِهم مِن آبائِهم وأعمامِهم وعَشائِرِهم؛ لِتَرُدَّهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه . قالت : ولم يَكُنْ شَيءٌ أبغَضَ إلى عَبدِ اللهِ بنِ أبي رَبيعةَ وعَمرِو بنِ العاصِ مِن أنْ يَسمَعَ النَّجاشيُّ كَلامَهم . فقالت بَطارِقَتُه حَولَه : صَدَقوا أيُّها المَلِكُ ، قَومُهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم؛ فأسْلِمْهم إليهما ، فليَرُدَّاهم إلى بِلادِهم وقَومِهم . قال : فغَضِبَ النَّجاشيُّ ، ثم قال : لا ها اللهِ ايْمُ اللهِ إذَنْ لا أُسَلِّمُهم إليهما ، ولا أكادُ قَومًا جاوَروني ، ونَزَلوا بِلادي واختَاروني على مَن سِوايَ حتى أدعُوَهم فأسألَهم ما يَقولُ هذان في أمْرِهم ، فإنْ كانوا كما يَقولانِ أسلَمْتُهم إليهما ، ورَدَدتُهم إلى قَومِهم ، وإنْ كانوا على غَيرِ ذلك مَنَعتُهم منهما ، وأحسَنتُ جِوارَهم ما جاوَروني . قالت : ثم أرسَلَ إلى أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فدَعاهم ، فلمَّا جاءَهم رَسولُهُ اجتَمَعوا ، ثم قال بَعضُهم لِبَعضٍ : ما تَقولونَ لِلرَّجُلِ إذا جِئتُموهُ . قالوا : نَقولُ واللهِ ما عَلِمْنا وما أمَرَنا به نَبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، كائنٌ في ذلك ما هو كائنٌ . فلمَّا جاؤُوهُ وقد دعا النَّجاشيُّ أساقِفَتَه فنَشَروا مَصاحِفَهم حَولَه ، سألَهم ، فقال : ما هذا الدِّينُ الذي فارَقتُم فيه قَومَكم ، ولم تَدخُلوا في دِيني ولا في دِينِ أحَدٍ مِن هذه الأُمَمِ ؟ قالت : فكان الذي كَلَّمَه جَعفَرُ بنُ أبي طالِبٍ ، فقال له : أيُّها المَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أهلَ جاهِليَّةٍ ، نَعبُدُ الأصنامَ ، ونأكُلُ المَيْتةَ ، ونأتي الفَواحِشَ ، ونَقطَعُ الأرحامَ ، ونُسيءُ الجِوارَ ، يأكُلُ القَويُّ مِنَّا الضَّعيفَ ، فكُنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رَسولًا مِنَّا ، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَهُ وأمانَتَه وعَفافَهُ ، فدَعانا إلى اللهِ لِنُوَحِّدَه ، ونَعبُدَه ، ونَخلَعَ ما كُنَّا نَعبُدُ نحن وآباؤنا مِن دُونِه مِنَ الحِجارةِ والأوثانِ ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ ، وأداءِ الأمانةِ ، وصِلةِ الرَّحِمِ ، وحُسْنِ الجِوارِ ، والكَفِّ عنِ المَحارِمِ والدِّماءِ ، ونَهانا عنِ الفَواحِشِ ، وقَولِ الزُّورِ ، وأكْلِ مالِ اليَتيمِ ، وقَذْفِ المُحصَنةِ ، وأمَرَنا أنْ نَعبُدَ اللهَ وَحْدَه ولا نُشرِكَ به شَيئًا ، وأمَرَنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ . قالت : فعَدَّدَ عليه أُمورَ الإسلامِ ، فصَدَّقْناهُ ، وآمَنَّا به ، واتَّبَعْناهُ على ما جاءَ به ، فعَبَدْنا اللهَ وَحْدَه فلم نُشرِكْ به شَيئًا ، وحَرَّمْنا ما حَرَّمَ علينا ، وأحلَلْنا ما أحَلَّ لنا ، فعدا علينا قَوْمُنا ، فعَذَّبونا ، وفَتَنونا عن دِينِنا؛ لِيَرُدُّونا إلى عِبادةِ الأوثانِ مِن عِبادةِ اللهِ ، وأنْ نَستَحِلَّ ما كُنَّا نَستَحِلُّ مِنَ الخَبائِثِ ، فلمَّا قَهَرونا ، وظَلَمونا ، وشَقُّوا علينا ، وحالوا بَينَنا وبَينَ دِينِنا ، خرَجْنا إلى بَلَدِكَ واختَرْناكَ على مَن سِواكَ ، ورَغِبْنا في جِوارِكَ ، ورَجَوْنا ألَّا نُظلَمَ عِندَكَ أيُّها المَلِكُ . قالت : فقال له النَّجاشيُّ : هل معكَ ممَّا جاءَ به عنِ اللهِ مِن شَيءٍ ؟ قالت : فقال له جَعفَرٌ : نَعَمْ . فقال له النَّجاشيُّ : فاقْرَأْه علَيَّ . فقَرَأَ عليه صَدْرًا مِن {كهيعص} ، قالت : فبَكى واللهِ النَّجاشيُّ حتى أخْضَلَ لِحيَتَه ، وبَكَتْ أساقِفَتُه حتى أخْضَلوا مَصاحِفَهم حين سَمِعوا ما تَلا عليهم ، ثم قال النَّجاشيُّ : إنَّ هذا واللهِ والذي جاءَ به موسى لَيَخرُجُ مِن مِشكاةٍ واحِدةٍ ، انطَلِقا فواللهِ لا أُسْلِمُهم إليكم أبَدًا ، ولا أُكادُ . قالت أُمُّ سَلَمةَ : فلمَّا خرَجا مِن عِندِه قال عَمرُو بنُ العاصِ : واللهِ لَأُنَبِّئَنَّه غَدًا عَيْبَهم عِندَه ، ثم أستأصِلُ به خَضراءَهم . قالت : فقال له عَبدُ اللهِ بنُ أبي رَبيعةَ ، وكان أتْقى الرَّجُلَيْنِ فينا : لا تَفعَلْ؛ فإنَّ لهم أرحامًا وإنْ كانوا قد خالَفونا . قال : واللهِ لَأُخبِرَنَّه أنَّهم يَزعُمونَ أنَّ عيسى ابنَ مَريَمَ عَبدٌ . قالت : ثم غَدا عليه الغَدَ ، فقال له : أيُّها المَلِكُ ، إنَّهم يَقولونَ في عيسى ابنِ مَريمَ قَولًا عَظيمًا ، فأرْسِلْ إليهم فاسألْهم عمَّا يَقولونَ فيه . قالت : فأرسَلَ إليهم يَسألُهم عنه ، قالت : ولم يَنزِلْ بنا مِثلُها ، فاجتَمَعَ القَومُ ، فقال بَعضُهم لِبَعضٍ : ماذا تَقولونَ في عيسى إذا سألَكم عنه ؟ قالوا : نَقولُ واللهِ فيه ما قال اللهُ ، وما جاء به نَبيُّنا ، كائِنًا في ذلك ما هو كائِنٌ . فلمَّا دَخَلوا عليه قال لهم : ما تَقولونَ في عيسى ابنِ مَريمَ ؟ فقال له جَعفَرُ بنُ أبي طالِبٍ : نَقولُ فيه الذي جاء به نَبيُّنا؛ هو عَبدُ اللهِ ، ورَسولُهُ ، ورُوحُه ، وكَلِمَتُه ألْقاها إلى مَريمَ العَذراءِ البَتولِ . قالت : فضرَبَ النَّجاشيُّ يَدَهُ إلى الأرضِ ، فأخَذَ منها عُودًا ، ثم قال : ما عدا عيسى ابنُ مَريمَ ما قُلتَ هذا العُودَ . فتَناخَرَتْ بَطارِقَتُه حَولَه حين قال ما قال ، فقال : وإنْ نَخَرتُم واللهِ ، اذهَبوا فأنتُم سُيُومٌ بأرضي -والسُّيُومُ : الآمِنونَ- ، مَن سَبَّكم غُرِّمَ ، ثم مَن سَبَّكم غُرِّمَ ، فما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا ذَهَبًا وأنِّي آذَيتُ رَجُلًا مِنكم -والدَّبْرُ بلِسانِ الحَبَشةِ : الجَبَلُ- ، رُدُّوا عليهما هداياهما؛ فلا حاجةَ لنا بها ، فواللهِ ما أخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشوةَ حين رَدَّ علَيَّ مُلْكي فآخُذَ الرِّشوةَ فيه ، وما أطاعَ الناسَ فيَّ فأُطيعَهم فيه . قالت : فخرَجا مِن عِندِه مَقبوحَينِ مَردودًا عليهما ما جاءا به ، وأقَمْنا عِندَه بخَيرِ دارٍ ، مع خَيرِ جارٍ . قالت : فواللهِ إنَّا على ذلك إذْ نَزَلَ به -يعني : مَن يُنازِعُه في مُلكِهِ- قالت : فواللهِ ما علِمْنا حُزْنًا قَطُّ كان أشَدَّ مِن حُزْنٍ حَزِنَّاه عِندَ ذلك؛ تَخَوُّفًا أنْ يَظهَرَ ذلك على النَّجاشيِّ ، فيَأتيَ رَجُلٌ لا يَعرِفُ مِن حَقِّنا ما كان النَّجاشيُّ يَعرِفُ منه ، قالت : وسارَ النَّجاشيُّ وبَينَهما عُرضُ النِّيلِ . قالت : فقال أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : مَن رَجُلٌ يَخرُجُ حتى يَحضُرَ وَقعةَ القَومِ ، ثم يأتينا بالخَبَرِ ؟ قالت : فقال الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ : أنا . قالت : وكان مِن أحدَثِ القَومِ سِنًّا ، قالت : فنَفَخوا له قِربةً ، فجَعَلَها في صَدرِهِ ، ثم سبَحَ عليها حتى خرَجَ إلى ناحيةِ النِّيلِ التي بها مُلتَقى القَومِ ، ثم انطَلَقَ حتى حضَرَهم ، قالت : ودَعَوْنا اللهَ لِلنَّجاشيِّ بالظُّهورِ على عَدوِّه والتَّمكينِ له في بِلادِهِ ، واستَوسَقَ عليه أمْرُ الحَبَشةِ ، فكُنَّا عِندَه في خَيرِ مَنزِلٍ ، حتى قَدِمْنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو بمَكةَ . ))
من لم يعرف الله في الرخاء لن يعرفه في الشدة :
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
***
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
أي الشيطان .
فهذا الكتاب يقول لك : إن مع هذه الدنيا آخرة ، مع العز ذل ، مع الغنى فقر ، مع الحياة موت ، مع الرخاء ضيق ، الأمور لا تبقى على ما هي عليه
(( من كانت الدُّنيا همَّه ، فرَّق اللهُ عليه أمرَه ، وجعل فقرَه بين عينَيْه ، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له ، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه ، جمع اللهُ له أمرَه ، وجعل غناه في قلبِه ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ . ))
بطولة الإنسان ألا يغتر بالحاضر :
على الإنسان أن تكون علاقته طيبة مع الله الذي يبقى إلى الأبد :
هذا الذي عرف الله واستقام على أمره
ماذا أقول لكم عن الأبد ؟ كيف نفهم الأبد ؟ شيء يفوق التصور ، لو قلنا : ألف مليون ، مليون ، مليون ، مليون ، مليون ، مَليون ، مليون ، مليون ، حتى ينقطع النفس ، وألف مليون ، مليون ، مَليون ، مليون ، حتى ينقطع النفس الثاني ، ولو أن للإنسان أنفاساً منذ أن ولد وحتى يموت يقول : ألف مليون ، مليون ، مليون ، الأبد أكبر من ذلك .
لو أخذت كيساً من الطحين الكبير ، ولعقت منه لعقةً ، وجئت بمجهر ، وعددت هذه الدقيقات ، إذا كل دقيقة من دقائق الطحين مليون سنة ، الكيس كم مليون سنة ؟ طحين العالم كم مليون سنة ؟ حتى الرياضيين قالوا : إن أكبر رقم ! أكبر رقم ! ما معنى أكبر رقم ؟ ضع واحدًا بدمشق ، وأصفاراً في حلب ، بين كل صفرين ميليمتر ، ضع واحداً في دمشق ، وأصفاراً إلى القطب ، بين كل صفرين ميليمتر ، هذا الرقم الكبير لو وضع صورة مخرجه لانهاية ، هذا الرقم قيمته صفر ، أيّ رقم إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر ، لا شيء ، شخص عاش ستين سنة ، لا شيء ، سبعين ، لا شيء ، ثمانين ، لا شيء ، لو عاش 950 عاماً كسيدنا نوح لا شيء ، لو عاش ألف مليون مليون ، بحبوحة ، ورخاء ، وصحة طيبة ، وطعام ، وشراب ، وعز ، ولذَّائذ ، وشهوات ، لا شيء ، أي شيء إذا قيس بالآخرة لا شيء ، قال له : يا بني ، ما خير بعده النار بخير ، وما شر بعده الجنة بشر ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية .
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
الإله يقول لك هذا :
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾
لو خيروك بين فرنك ، خمسة قروش سورية ، هل يوجد الآن فرنك ؟ لا يوجد ، لو خيروك بين خمسة قروش سورية وبين شيك مفتوح تكتب فيه ألف مليون ، ألفي مليون ، ثمانية آلاف مليون ، مليون مَليون ، ألف مليون مَليون ، مقبول ، مصروف الشك ، هل تأخذ هذه القروش الخمس ؟
﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) ﴾
البطولة أن تتعلق بالأبقى ، الميت يوضع في قبره ، يقول الله له : عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت ، العبرة أن تتعامل مع الأبقى ، مع الذي قال :
﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) ﴾
أن تكون علاقتك طيبة مع الذي يبقى إلى الأبد
على الإنسان أن يتحرى الصحة في كل ما ينقله :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾
إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مبتدعاً فالدليل ، لا تقبل شيئاً إلا بالدليل النقلي والعقلي ، لا تقبل ولا ترفض إلا بالدليل ، يأتي الضلال من قبول الأفكار من دون دليل ، لا تقبل إلا بالدليل النقلي ؛ قرآن ، أو حديث ، أو قول لعالم مجتهد مشهود له بالاجتهاد ، مع الدليل الذي جاء به ، لا تقبل إلا بالدليل ، ولا ترفض إلا بالدليل ، أما إذا نقلت فتحرَّى الصحة في النقل ، هذا هو المنهج ،
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب . ))
هذا كذب .
حرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية قومه :
لعلك يا محمد ، الله عز وجل يواسي نبيه الكريم
اسمعوا قول النبي الكريم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لا تُكثِروا الكَلامَ بغَيرِ ذِكرِ اللهِ ؛ فإنَّ كَثرةَ الكَلامِ بغَيرِ ذِكرِ اللهِ قَسوةٌ لِلقَلبِ ، وإنَّ أبعَدَ الناسِ مِنَ اللهِ القَلبُ القاسي . ))
والآية الكريمة :
﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)﴾
محبة الخلق تتناسب مع محبة الخالق :
إذاً هناك قانون ، محبة الخلق تتناسب طرداً مع محبة الخالق ، والخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، الخلق جميعاً ، المؤمن الكامل لو أنه تعامل مع مجوسي ، مع عابد صنم ، هذا من خلق الله ، يكرمه ، وينصحه ، ويخلص له ، هذا هو الإيمان ، ليس منا من غش ، مطلقاً من دون تحديد ، من غش فليس منا ، كائناً من يكن هذا الذي غششته ، إن غششته فلست من المسلمين .
إذاً : النبي الكريم بإجماع العلماء أرحم الخلق بالخلق ، لأنه أقربهم إلى الحق ، هناك إنسان يقول لك : أنا عليّ نفسي ، كلما ، من بعدي الطوفان ، حتى إنه لا يبالي بزوجته ولا بأولاده ، كلما اتسعت دائرة رحمتك ، واهتمامك ، وعطفك ، وعنايتك ، ارتفعت عند الله درجتك .
لذلك سيدنا رسول الله كانت الإنسانية كلها تعنيه ، بل كان الخلق كلهم ، الخلق حيوان الحيوان يعنيه كان يصغي إناء للهرة ، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ . ))
النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يذبح شاة أمام أختها فغضب غضباً شديداً ، وقال : أتريد أن تميتها مرتين ؟ هلا حجبتها عن أختها ، هذا عطف على من ؟ على الحيوان ، قال : ليس منا من فرق ، ملعون من فرق بين أم وابنها ، حتى في الحيوان ، من اشترى شاةً دون سخلتها ، حرام ، من اشترى سخلة دون أمها ، حرام ، فإذا كان النبي الكريم هذا عطفه على الخلق عامة فكيف محبته للمؤمنين ؟
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128) ﴾
أي أرحم الخلق بالخلق النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
من زادت صلته بالله زادت رحمته :
إذاً : تبين من هذه الآية أن أرحم الخلق بالخلق النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا شيء آخر ، قضية قانون ، كلما زادت صلتك بالله زادت رحمتك ، فانظر ترحم من ، رحمة المؤمن عامة ، أهل الدنيا يرحمون أولادهم فقط ، لكن المؤمن رحمته عامة ، لا يبني مجده على أنقاض الآخرين ، لا يبني غناهم على فقرهم ، فالنبي عليه الصلاة والسلام بنص القرآن الكريم
دع المكارم لا ترحل لِبُغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
***
فإذا أَمّن أحدهم مصالحه ، أمّن حاجاته ، انتهت مشاكله ، أما المؤمن فما انتهى من مشاكله شيء ، بدأت مشاكله ، من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
سيدنا عمر جاءته هدية من أذربيجان ، فقال : ما هذا ؟ قال له : طعام نفيس لا يصنع إلا هناك ، قال له : هل يأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام ؟ قال له : لا ، هذا طعام الخاصة ، قال له : هل أعطيت فقراء المدينة كما أعطيتني ؟ قال لا : هذا لك وحدك ، قال له : حرام على بطن عمر أن يذوق حلوى لا يطعمها فقراء المسلمين .
أي موضوع الرحمة يجب أن ترحم من معك ، عندك بالمحل صانع ارحمه ، بالوقت ، والجهد ، والأجر ، عندك من هم دونك في العمل ارحمهم ، إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ، حديث قدسي ، إذاً : النبي الكريم كان رحيماً .
الابتلاء مِن سُننِ الكون :
﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) ﴾
فالجنة لها ثمن ، وهو النجاح في هذا الامتحان ، والنار لها موجب ، وهو السقوط في هذا الامتحان
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ
في النهاية :
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) ﴾
والحمد لله رب العالمين