الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
حقائق بين يدي قصة موسى مع الخضر :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا. فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا. فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا. قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا. قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا. فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا. قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا. قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا. قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا. قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا. فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا. فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا. قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا. قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا. فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا. وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴾
[ سورة الكهف، 60-82 ]
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السابع من سورة الكهف .
نحن الآن في القصة الثالثة ؛ قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام ، وقبل الدخول في تفصيلات هذه القصة أريد أن أقدم لها ببضع حقائق تعين على فهمها .
الحقيقة الأولى : أن الإنسان لما عرض الله عليه الأمانة قبلها ، ومعنى قبلها أي أنه كلف بمعرفة الله ، والسير على أمره ، والتقرب منه ليسعد في الدنيا والآخرة ، حينما قبِل الأمانة منحه الله إرادة حرة ، وعقلاً مفكراً ، ونصب له آيات في أرجاء الكون ، وأنزل له الكتاب ، أي كتاب ؟ أي أنزل له التشريع ، والتشريع ضوابط في العلاقات بين العبد وربه ، وبين العبد والعبد ، وقد نزلت هذه الشرائع تباعاً على أنبياء الله ورسله ، فسيدنا موسى عالم بالشريعة يعرف الحلال والحرام ، وما يجوز ، وما لا يجوز ، وما ينبغي ، وما لا ينبغي ، والأمر والنهي ، والحق والباطل ، والخير والشر .
يجب أن تضبط أفعال العباد بالشريعة ، وسيدنا موسى نبي عظيم ، ورسول كريم من أولي العزم ، وهو أعلم علماء الأرض في وقته في الشريعة ، لكن الله سبحانه وتعالى يتصرف في الكون ، ويتصرف مع عباده تصرفاً لا يعلم حكمته إلا الله ، أي لا يعلم سر القضاء والقدر إلا الله ، سرّ التصرفات الإلهية ، حكمة الأفعال الإلهية ، هذا علم مستقل ، علم قائم بذاته ، سيدنا الخضر وهو نبي في رأي معظم العلماء عليه السلام كان قد آتاه الله من لدنه علماً ، فكأن هذه القصة لقاء عظيم رائع بين قطب عظيم من أقطاب الشريعة ، وقطب عظيم آخر من أقطاب الحقيقة ، فنحن مع سيدنا موسى مع قطب من أقطاب الشريعة ، ونحن مع سيدنا الخضر قطب من أقطاب الحقيقة ، والشريعة والحقيقة التقتا ، ومن خلال هذا اللقاء العظيم تتضح بعض الحقائق المهمة التي نحن جميعاً في أمس الحاجة إليها ، من لقاء قطبي الشريعة بالحقيقة تتضح بعض أسرار القضاء والقدر ، من لقاء قطبي الشريعة والحقيقة نعرف معنى قوله تعالى :
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) ﴾
[ سورة البقرة ]
كأن ملخص هذه القصة تلك الآية : ﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ يجب أن تضبط أفعال العباد بالشريعة ، لكن أفعال الله عز وجل تفسر بالحقيقة ، يجب أن تكون أفعال العباد وفق الحلال ، والمباح ، والمندوب ، والأمر ، ويجب أن تبتعد عن المكروه ، والمحرم ، هناك شريعة دقيقة جداً ، فيها حكم كل شيء ، كل حركة ، وكل سكنة ، وكل تصرف ، وأية علاقة تضبطها الشريعة ، لكن أفعال الله عز وجل علم التصرفات الإلهية ، سر القضاء والقدر ، علم الحقيقة يكشف لنا جانباً منه ، ففي لقاء هذين النبيين العظيمين لقاء سيدنا موسى مع سيدنا الخضر تتضح حقائق كثيرة من علم الحقيقة .
ورد في بعض الأحاديث الشريفة أن أحداً من بني إسرائيل سأل سيدنا موسى في ملأ من الناس : يا نبي الله من أعلم أهل الأرض ؟ سيدنا موسى نبي مرسل ، ومادام نبياً مرسلاً فهو بالبديهة أعلم علماء الأرض ، فما كان من هذا النبي العظيم إلا أن قال : أنا ، أي أنا أعلم علماء الأرض ، فأوحى الله إليه أن يا موسى هناك عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا هو أعلم منك ، ليس أعلم منك مطلقاً ، أعلم منك في علم الحقيقة وأنت أعلم منه في علم الشريعة ، ينبغي أن تقول : أنا في هذا العلم قد علمني ربي ، على كلّ هكذا ورد في بعض الأحاديث أن الله عز وجل أراد أن يُعْلمه وأن يُعَلّمه أن في الأرض عبداً صالحاً آتاه الله رحمة من لدنه وعلمه من لدنه علماً هو أعلم منك ، فما كان من هذا النبي العظيم إلا أن سأل الله عز وجل يا رب كيف ألتقي له حتى أتعلم منه ؟ الآن بدأت القصة فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( قُلتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ نَوْفًا البَكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ ليسَ بمُوسَى الخَضِرِ، فَقالَ : كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ ، عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ : قَامَ مُوسَى خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ فقِيلَ له : أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ ؟ قالَ : أنَا ، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ ، وأَوْحَى إلَيْهِ : بَلَى عَبْدٌ مِن عِبَادِي بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ ، هو أعْلَمُ مِنْكَ ، قالَ : أيْ رَبِّ ، كيفَ السَّبِيلُ إلَيْهِ ؟ قالَ : تَأْخُذُ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فَحَيْثُما فقَدْتَ الحُوتَ فَاتَّبِعْهُ ، قالَ : فَخَرَجَ مُوسَى ومعهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بنُ نُونٍ ، ومعهُما الحُوتُ حتَّى انْتَهَيَا إلى الصَّخْرَةِ، فَنَزَلَا عِنْدَهَا ، قالَ : فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ فَنَامَ ، - قالَ سُفْيَانُ : وفي حَديثِ غيرِ عَمْرٍو، قالَ : وفي أصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا : الحَيَاةُ لا يُصِيبُ مِن مَائِهَا شيءٌ إلَّا حَيِيَ ، فأصَابَ الحُوتَ مِن مَاءِ تِلكَ العَيْنِ - قالَ : فَتَحَرَّكَ وانْسَلَّ مِنَ المِكْتَلِ ، فَدَخَلَ البَحْرَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ مُوسَى قالَ لِفَتَاهُ : {آتِنَا غَدَاءَنَا} الآيَةَ، قالَ : ولَمْ يَجِدِ النَّصَبَ حتَّى جَاوَزَ ما أُمِرَ به ، قالَ له فَتَاهُ يُوشَعُ بنُ نُونٍ : {أَرَأَيْتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ} الآيَةَ، قالَ : فَرَجَعَا يَقُصَّانِ في آثَارِهِمَا ، فَوَجَدَا في البَحْرِ كَالطَّاقِ مَمَرَّ الحُوتِ، فَكانَ لِفَتَاهُ عَجَبًا، ولِلْحُوتِ سَرَبًا ، قالَ : فَلَمَّا انْتَهَيَا إلى الصَّخْرَةِ، إذْ هُما برَجُلٍ مُسَجًّى بثَوْبٍ ، فَسَلَّمَ عليه مُوسَى ، قالَ : وأنَّى بأَرْضِكَ السَّلَامُ ، فَقالَ : أنَا مُوسَى ، قالَ : مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قالَ : نَعَمْ ، قالَ : هلْ أتَّبِعُكَ علَى أنْ تُعَلِّمَنِي ممَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا ؟ قالَ له الخَضِرُ : يا مُوسَى، إنَّكَ علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أعْلَمُهُ، وأَنَا علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، قالَ : بَلْ أتَّبِعُكَ، قالَ : فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فلا تَسْأَلْنِي عن شيءٍ حتَّى أُحْدِثَ لكَ منه ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ علَى السَّاحِلِ فَمَرَّتْ بهِمْ سَفِينَةٌ فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمْ في سَفِينَتِهِمْ بغيرِ نَوْلٍ - يقولُ بغيرِ أجْرٍ - فَرَكِبَا السَّفِينَةَ ، قالَ : ووَقَعَ عُصْفُورٌ علَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ في البَحْرِ، فَقالَ الخَضِرُ لِمُوسَى : ما عِلْمُكَ وعِلْمِي وعِلْمُ الخَلَائِقِ في عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِقْدَارُ ما غَمَسَ هذا العُصْفُورُ مِنْقَارَهُ ، قالَ : فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إذْ عَمَدَ الخَضِرُ إلى قَدُومٍ فَخَرَقَ السَّفِينَةَ ، فَقالَ له مُوسَى : قَوْمٌ حَمَلُونَا بغيرِ نَوْلٍ ، عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أهْلَهَا {لقَدْ جِئْتَ} الآيَةَ ، فَانْطَلَقَا إذَا هُما بغُلَامٍ يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ ، فأخَذَ الخَضِرُ برَأْسِهِ فَقَطَعَهُ، قالَ له مُوسَى : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بغيرِ نَفْسٍ، لقَدْ جِئْتَ شيئًا نُكْرًا قالَ ألَمْ أقُلْ لكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} إلى قَوْلِهِ {فَأَبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ} - فَقالَ بيَدِهِ : هَكَذَا – فأقَامَهُ ، فَقالَ له مُوسَى : إنَّا دَخَلْنَا هذِه القَرْيَةَ فَلَمْ يُضَيِّفُونَا ولَمْ يُطْعِمُونَا ، {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عليه أجْرًا، قالَ : هذا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ ، سَأُنَبِّئُكَ بتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عليه صَبْرًا} ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : ودِدْنَا أنَّ مُوسَى صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِن أمْرِهِما قالَ : وكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ : وكانَ أمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وأَمَّا الغُلَامُ فَكانَ كَافِرًا . ))
[ صحيح البخاري ]
بداية القصة خروج موسى مع فتاه طلبًا للقاء الخضر :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ﴾ فتاه ؛ فتى صَاحَبَ سيدنا موسى ، صاحبه ليتعلم منه ، وصاحبه ليخدمه ، فكان في الوقت نفسه خادماً ومتعلماً ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ أي لا أبرح أمشي ، لا أبرح أسير إلى أن أصل إلى مكان حدده الله عز وجل ، حينما أوحى الله إلى سيدنا موسى قال : يا موسى تلتقي مع الخضر ، أي مع هذا العبد الصالح في مجمع البحرين ، ومجمع البحرين مكان اللقاء ، وما دام الله عز وجل قد أخبر سيدنا موسى أن هذا العبد الصالح يراه في مجمع البحرين عندئذٍ قال هذا النبي العظيم : لا أبرح ، أي لا أبرح أمشي ، وأبحث ، وأسير ﴿ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ﴾ وإن لم أبلغ هذا المجمع : ﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ سأسير حقباً طويلة ، سنوات وسنوات ، إلى أن ألتقي بهذا العبد الصالح .
فضل العلم من دلالات خروج موسى للقاء الخضر :
انظروا أيها الإخوة ؛ كم العلم ثمين في نظر هذا النبي العظيم ، أحدنا يصرف نفسه عن حضور مجالس العلم لسبب تافه جداً ، يقول : عندي موسم ، أو زارني ضيف ، لسبب تافه يصرف نفسه عن حضور مجالس العلم ، ومجالس العلم مجالس الذكر .
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ . ))
[ رواه مسلم وأبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم طولاً باختلاف يسير ]
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قومٍ يقومونَ من مجلسٍ لا يذكرونَ اللهَ فيهِ إلا قامُوا عن مثلِ جيفةِ حمارٍ ، وكان لهم حسرةٌ . ))
[ صحيح أبي داود ، أخرجه أبو داود واللفظ له ، والنسائي في السنن الكبرى ]
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ وكانت علامة هذا المكان فيما أوحى الله لهذا النبي العظيم أن يفتقدا حوتاً لهما كانا قد أعداه للطعام ، إذا افتقداه في مكان ما ، فهذا المكان مكان اللقاء بالعبد الصالح .
عودة الحياة إلى الحوت علامة من علامات لقاء موسى مع العبد الصالح :
﴿ فَلَمَّا بَلَغَا – موسى وفتاه - مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾ .. أي مجمع البحرين ، وبعضهم قال : مجمع البحرين أي اجتماع بحري الشريعة والحقيقة ، هذا وجه من وجوه التسمية ، اجتماع بحري الشريعة والحقيقة ، ﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ كانا قد أعدا حوتاً ، وجهزاه للطعام ، ووضعاه في حقيبة إن صح التعبير ، ووضع هذا الحوت في مجمع البحرين ، وفي بعض الأقوال غير الثابتة أن مجمع البحرين مكان التقاء البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط ، هما مجمع البحرين ، ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ نسي سيدنا موسى أن يتفقد الحوت ، ورأى فتاه من الحوت منظراً عجيباً نسي أن يخبر سيدنا موسى ، على كل هذا الحوت ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾ قال بعض المفسرين : هذا الحوت وقع في البحر .
وقال بعضهم : كانت معجزة أن عادت له الحياة فسقط في البحر ، وعاش فيه ، رأى الفتى الذي رافق سيدنا موسى هذا المنظر ، على كل الحوت إما أنه وقع في البحر ، أو أنه عادت له الحياة فوثب في البحر ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾ وقد تكون عودة الحياة إلى الحوت ، ووثوبه إلى مياه البحر أيضاً علامة من علامات اللقاء مع العبد الصالح ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ﴾ هذا المكان مجمع البحرين ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ أنساهما الله عز وجل سقوط الحوت في البحر .
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ لذلك استنبط العلماء أنه يجوز بل يندب لمن أراد السفر أن يُعد الزاد ، وليس في إعداد الزاد تناقضاً مع التوكل ، اعقل وتوكل .
واستنبط العلماء أيضاً وجوب الرحلة في طلب العلم ، كيف أن هذا النبي العظيم قال : ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ أراد أن يصل ، أن يسافر من أجل لقاء هذا النبي العظيم ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ أي تعباً ، تعبنا أين الطعام يا فتى ؟ عندئذ تذكر هذا الفتى أن الحوت الذي قد أعداه للطعام سقط في البحر ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾ ليس في الآية قرينة على أن الحياة قد عادت له ، لكن هناك آية تالية تشير من طرف خفي إلى أن هناك شيئاً عجيباً ، كيف وقع هذا الحوت في البحر ، من هنا استنبط العلماء أنه ربما عادت الحياة إلى الحوت بعد شيِّه ، ووثب في البحر . قال الغلام – هذا الفتى - : ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ﴾ واتخذ الحوت سبيله في البحر عجباً ، أي هناك شيء عجيب ، شيء خارق للعادة ، أن حوتاً مشوياً أي سمكةً مشويةً تعود لها الحياة ، وتثب في البحر ، والله أعلم ما إذا كانت الحياة قد عادت لها أو لم تعد ، لكن الشيء الثابت أن الحوت قد اتخذ سبيله في البحر ، عندئذ عرف سيدنا موسى أن هذا المكان الذي نسيا فيه الحوت مجمع البحرين هو مكان اللقاء المنتظر ، ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ ذلك ما كنا نبتغي من هذا السفر الطويل ، هذا هو الهدف ، المكان الذي افتقدنا فيه الحوت هو مكان اللقاء كما أخبره الله بالوحي ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ بعد أن قطعا يوماً وليلة بعيداً عن مجمع البحرين ، وعن مكان سقوط الحوت في البحر ، ارتدا ، عكفا راجعين إلى مكان افتقاد الحوت ، لأن هذا المكان هو مكان اللقاء المنتظر الذي يحرص عليه سيدنا موسى عليه وعلى نبيناً أفضل الصلاة والسلام .
العبودية أعلى مرتبة للإنسان :
كما وعده الله عز وجل ، وكما أوحى إليه في هذا المكان مكان افتقاد الحوت ، مجمع البحرين ، ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا ﴾ أي أعلى مرتبة ينالها الإنسان في الحياة الدنيا أن يكون عبداً لله ، أن تتحقق فيه العبودية لله عز وجل ، والعبودية معرفة يقينية ، تفضي إلى طاعة طوعية ، تنتهي إلى سعادة أبدية ، معرفة يقينية ، فطاعة طوعية ، فسعادة أبدية .
كيفية اكتساب العلم :
﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ﴾ العلم يكتسب بالمدارسة ، والمطالعة ، وحضور مجالس العلم ، والتأمل ، والتفكر ، إذا حاز الإنسان العلم بالأسباب فهذا العلم الذي نعرفه جميعاً ، أما العلم الذي يحوزه الإنسان من دون أسباب أرضية فهو العلم اللدني ، فهذا العبد الصالح آتاه الله رحمة من عنده ، وعلمه من لدنه علماً .
هل الخضر عليه السلام نبيُّ ؟
سيدنا الخضر عليه السلام هناك إشارات ودلالات كثيرة يقينية على أنه نبي ، إما أنه نبي مرسل ، أو غير مرسل فهذا موضوع خلافي ، وبعض العلماء يظنونه ولياً ، فهو بين أن يكون ولياً ، وبين أن يكون نبياً مرسلاً ، أو نبياً غير مرسل ، هناك قرائن ستأتي بعد قليل تبين أن هذا الإنسان العبد الصالح كان نبياً .
مِن آداب طالب العلم التواضع والأدب مع الشيخ :
﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى ﴾ بأدب جم ، نبيٌ مرسل ، ومع ذلك يتأدب مع من أعلمه الله أنه أعلم منه ، وفوق كل ذي علمٍ عليم ، والأدب مع من يعلمك من لوازم التعليم ، وقد قال بعض العلماء لبعض الطلبة : يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ الاستفهام فيه أدب ؟ أما سأتبعك ، يجب أن تعلمني ، هل تسمح لي بالتعلم ؟ الاستفهام فيه أدب .
من استنباطات الآية التالية الصبر على طلب العلم :
﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ فقال سيدنا الخضر : ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ يبدو أن سيدنا الخضر يعلم أن سيدنا موسى عصبي المزاج ، وأنه عالم بالشريعة ، وأن الأفعال التي سوف يفعلها هذا العبد الصالح قد لا تفسر في ضوء الشريعة ، هل في الشريعة أمر أن تقتل غلاماً بلا سبب ؟ حاشا لله ، هذا لا يتوافق مع الشريعة ، فقال له : ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ علمك الشرعي لا يسمح لك بتفسير أعمالي ، ومزاجك العصبي لا يسمح لك بالصبر ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ .
ورد في بعض الكتب عن الشيخ محي الدين يقول إن سيدنا الخضر قد أعد لهذا النبي العظيم ألف مسألة ، فلما كانت الثالثة فقد سيدنا موسى صبره ، عندها عن أبي بن كعب رضي الله عنه : قال عليه الصلاة والسلام :
(( قُلتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ نَوْفًا البِكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى عليه السَّلَامُ ، صَاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ ليسَ هو مُوسَى صَاحِبَ الخَضِرِ ، عليه السَّلَامُ ، فَقالَ : كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، سَمِعْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ يقولُ : سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ : قَامَ مُوسَى عليه السَّلَامُ خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ فَسُئِلَ : أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ فَقالَ : أَنَا أَعْلَمُ ، قالَ فَعَتَبَ اللَّهُ عليه إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فأوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : أنَّ عَبْدًا مِن عِبَادِي بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هو أَعْلَمُ مِنْكَ، قالَ مُوسَى : أَيْ رَبِّ كيفَ لي بهِ ؟ فقِيلَ له : احْمِلْ حُوتًا في مِكْتَلٍ ، فَحَيْثُ تَفْقِدُ الحُوتَ فَهو ثَمَّ ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ معهُ فَتَاهُ ، وَهو يُوشَعُ بنُ نُونٍ ، فَحَمَلَ مُوسَى عليه السَّلَامُ حُوتًا في مِكْتَلٍ وَانْطَلَقَ هو وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ حتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ ، فَرَقَدَ مُوسَى عليه السَّلَامُ وَفَتَاهُ ، فَاضْطَرَبَ الحُوتُ في المِكْتَلِ ، حتَّى خَرَجَ مِنَ المِكْتَلِ، فَسَقَطَ في البَحْرِ ، قالَ وَأَمْسَكَ اللَّهُ عنْه جِرْيَةَ المَاءِ حتَّى كانَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَكانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا ، وَكانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَومِهِما وَلَيْلَتِهِمَا، وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَنْ يُخْبِرَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ مُوسَى عليه السَّلَامُ ، قالَ لِفَتَاهُ : آتِنَا غَدَاءَنَا لقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا ، قالَ وَلَمْ يَنْصَبْ حتَّى جَاوَزَ المَكانَ الذي أُمِرَ به ، قالَ : أَرَأَيْتَ إذْ أَوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ ، فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَما أَنْسَانِيهُ إلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا ، قالَ مُوسَى : {ذلكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا علَى آثَارِهِما قَصَصًا} ، قالَ يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا، حتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ ، فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عليه بثَوْبٍ ، فَسَلَّمَ عليه مُوسَى ، فَقالَ له الخَضِرُ : أنَّى بأَرْضِكَ السَّلَامُ ؟ قالَ : أَنَا مُوسَى ، قالَ : مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قالَ : نَعَمْ ، قالَ : إنَّكَ علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ ، وَأَنَا علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لا تَعْلَمُهُ ، قالَ له مُوسَى عليه السَّلَامُ : (هلْ أَتَّبِعُكَ علَى أَنْ تُعَلِّمَنِي ممَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا . قالَ : إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . وَكيفَ تَصْبِرُ علَى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْرًا . قالَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لكَ أَمْرًا) قالَ له الخَضِرُ {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فلا تَسْأَلْنِي عن شيءٍ حتَّى أُحْدِثَ لكَ منه ذِكْرًا} ، قالَ : نَعَمْ ، فَانْطَلَقَ الخَضِرُ وَمُوسَى يَمْشِيَانِ علَى سَاحِلِ البَحْرِ، فَمَرَّتْ بهِما سَفِينَةٌ ، فَكَلَّمَاهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا ، فَعَرَفُوا الخَضِرَ فَحَمَلُوهُما بغيرِ نَوْلٍ، فَعَمَدَ الخَضِرُ إلى لَوْحٍ مِن أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ ، فَقالَ له مُوسَى : قَوْمٌ حَمَلُونَا بغيرِ نَوْلٍ ، عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لقَدْ جِئْتَ شيئًا إمْرًا قالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قالَ لا تُؤَاخِذْنِي بما نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِن أَمْرِي عُسْرًا} ، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ ، فَبيْنَما هُما يَمْشِيَانِ علَى السَّاحِلِ إذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ ، فأخَذَ الخَضِرُ برَأْسِهِ ، فَاقْتَلَعَهُ بيَدِهِ ، فَقَتَلَهُ، فَقالَ مُوسَى : (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بغيرِ نَفْسٍ لقَدْ جِئْتَ شيئًا نُكْرًا . قالَ أَلَمْ أَقُلْ لكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) قالَ : وَهذِه أَشَدُّ مِنَ الأُولَى، {قالَ إنْ سَأَلْتُكَ عن شيءٍ بَعْدَهَا فلا تُصَاحِبْنِي، قدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَهَا فأبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فأقَامَهُ} يقولُ مَائِلٌ، قالَ الخَضِرُ بيَدِهِ هَكَذَا فأقَامَهُ، قالَ له مُوسَى : قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُضَيِّفُونَا وَلَمْ يُطْعِمُونَا ، لو شِئْتَ لاتَخِذْتَ عليه أَجْرًا ، قالَ : هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عليه صَبْرًا قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ : يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى ، لَوَدِدْتُ أنَّهُ كانَ صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِن أَخْبَارِهِمَا ، قالَ : وَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ : كَانَتِ الأُولَى مِن مُوسَى نِسْيَانًا ، قالَ : وَجَاءَ عُصْفُورٌ حتَّى وَقَعَ علَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ نَقَرَ في البَحْرِ ، فَقالَ له الخَضِرُ : ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللهِ إلَّا مِثْلَ ما نَقَصَ هذا العُصْفُورُ مِنَ البَحْرِ . قالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ : وَكانَ يَقْرَأُ : وَكانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَكانَ يَقْرَأُ : وَأَمَّا الغُلَامُ فَكانَ كَافِرًا . ))
[ صحيح مسلم ]
على كل قال : ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ لم يقل : إنك لن تستطيع معي كمال الصبر ، بل قال : صبراً ، على التنكير ، أي ولا تستطيع حتى الجزء البسيط من الصبر ، ثم بيّن العلة : ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾ أي يتناقض العمل في ظاهره مع الشريعة ، وأنت عالم بالشريعة ، وأنا عالم بالحقيقة ، هناك تناقض بيني وبينك ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾ ما كان من هذا النبي الكريم إلا أن أظهر الجلد ، والصبر ، والعزيمة على متابعة هذا العبد الصالح كي يتعلم منه ، فقال : ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً ﴾ انظر إلى الأدب مع الله عز وجل ، الاستثناء ، إن شاء الله ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾ .
استنبط العلماء من هذه القصة أنه ينبغي على الذي يحضر مجالس العلم أن يصبر ، وينبغي ألا يعترض ، وينبغي ألا يسرع في الاعتراض ، وينبغي أن يتأدب .
شرط الخضر في قبول اتباع موسى له :
﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي﴾ شرط : ﴿ فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ انظر واسكت ، اتبعني ولا تعترض ، ولا تبادر بالسؤال ، أنا سأخبرك عن كل شيء .
تذكير الخضر موسى بعدم صبره وشرطه عليه :
﴿ فَانْطَلَقَا ﴾ انطلقا ليعرفا الحقيقة ، وبعضهم قال : انطلقا من عقال المادة ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾ تروي بعض الكتب أنهما ركبا في سفينة لمساكين ، لأناس فقراء ، وأن عصفورين وقفا على طرف السفينة ، وغمسا منقاريهما في الماء غمستين ، فقال الخضر لسيدنا موسى : ما علمي وعلمك في علم الله إلا كهاتين النقرتين في البحر ، أي بماذا يرجع هذا العصفور إذا غمس منقاره في البحر ؟ ما علمي وعلمك في جانب علم الله عز وجل إلا كهاتين النقرتين في البحر ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ﴾ واستنبط العلماء من هذه الآية جواز ركوب البحر ﴿ خَرَقَهَا ﴾ أي أمسك بقدوم ، وقلع من جدار السفينة لوحاً خشبياً هكذا ، هذا عمل غير منطقي ، وغير معقول ، بالإضافة إلى أن صاحب السفينة رفض أن يأخذ منهما أجرة نوالاً ، بلا نوال ، أركبهما ضيافة ، وفوق هذا العمل الطيب ، والضيافة الكريمة جاء الخضر عليه السلام ، وأمسك قدوماً ، وكسر أحد ألواح السفينة ، واقتلعه هكذا ، فقد سيدنا موسى صوابه ، ﴿ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ هذا عمل غير صحيح ، ماذا فعل معك صاحب السفينة ؟ أهكذا تكافئه على عمله الطيب ؟ استنبط العلماء هنا أن سيدنا موسى لم يخف على نفسه ، لم يقل أخرقتها لتغرقنا ، لم يكن هذا بدافع من حرصه على حياته ، لا ، نسي نفسه ﴿ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ﴾ همه أن هذا العمل لا يمكن أن يقبل ، دعاك إنسان مسكين فقير إلى ركوب السفينة بلا مقابل ، وهو يكتسب من هذه السفينة ، ثم تخرقها له ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ فظيعاً ، غريباً ، غير مقبول ، قال : ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ لقد قلت لك : إنك لن تستطيع معي صبراً ، لأن الأعمال التي أعملها ليست خاضعة لعلم الشريعة ، إنما هي خاضعة لعلم الحقيقة ، أنت عالم بالشريعة ، وأنا عالم بالحقيقة ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ تذكر الوعد ، والاتفاق ، والعهد ﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ معك الحق ، أنا تسرعت ، ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾ هنا قال : ﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقَا ﴾ هذا أول درس ، شيءٌ عجيب ، تركب سفينة بلا نوال ، بلا مقابل ، أصحاب السفينة مساكين ، تدعى إلى ضيافة كريمة ، تقابل هذا الإحسان بالإساءة .
تذكر الكتب أنه كان هناك غلمان يلعبون ، وبينهم غلام جميل جداً ، نظيف ، هادئ ، فأخذه الخضر وذبحه ذبح النعاج ، فتفرق الأطفال من حوله ، وفزعوا ، عندئذ بلغ بسيدنا موسى الغضب وقال : ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ لا بد أن يكون القتل قصاصاً ، نفسٌ بنفسٍ ، أما ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ قتل ، هذه جريمة ، ماذا فعل معك هذا الغلام ؟ ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ هذه مرة ثانية ، خرجت عن صوابك مرة ثانية ، تذكر هذا النبي العظيم أنه خالف العهد ، وخالف الاتفاق ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ﴾ ليس لي عذر في المرة الثالثة في هذه المواقف ، ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾ كانا جائعين جداً ، وقال العلماء : يجوز لصاحب الحاجة أن يطالب بما يسدها ﴿ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ كانوا أهل قرية بخلاء لؤماء ﴿ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ﴾ امتنعوا عن إطعامهم ، نظر سيدنا موسى والخضر عليهما السلام إلى جدار عظيم كاد يتداعى ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾ فشمرا عن ساعد الجد ، وبنيا هذا الجدار ، هذا موقف غريب ، في الموقفين الأولين عمل منكر ، أما هنا فقد رفض أهل القرية اللؤماء ، البخلاء ، الأشحاء أن يطعمونا الطعام ، وتبني لهم جداراً بلا مقابل ؟ ما هذا التناقض ؟ كأن الله عز وجل يريد أن يقول لنا : تصرفات الله عز وجل لها حكمة بالغة ، لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع ، قال : نحن جائعان ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ فنشتري طعاماً فنأكل ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾ انتهى الأمر .
قال بعض العلماء : مقابلة الإساءة بالإحسان وارد في علم الشريعة ، فلماذا خالفت يا موسى شريعتك ؟ لماذا اعترضت عليه ولقد بنيت الجدار رداً على الإساءة ؟ قتل غلام بغير نفسٍ هذا خلاف علم الشريعة ، وخرق سفينة مقابل ضيافة كريمةً هذا خلاف علم الشريعة ، ولكن أن نرد على الإساءة بالإحسان فهذا من علم الشريعة .
تروي بعض الكتب : ألم تسقِ للمرأتين في مدين بلا مقابل ؟ كيف تلومني على بناء هذا الجدار وقد أساء أهل هذه القرية إلينا وأنت نفسك سقيت لامرأتين في مدين من دون مقابل ؟ ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾ .
مواقف موسى مع الخضر :
ثلاثة مواقف ، خرق سفينة ، وقتل غلامٍ ، وبناء جدارٍ . الأول : ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾ والثاني : ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ﴾ والثالث : ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا ً﴾ . .
استمعوا أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه القصص الثلاثة ينبغي أن يقاس عليها كل شيءٍ يقع في الأرض ﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ .
ولرُبَّ نازلةٍ يضيق لها الفتـــــى ذرعاً وعند اللهِ منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنـــــها لا تفرجُ
***
كن عن هـمومك معرضاً وكـل الأمور إلى القـضـا
وأبـشــر بـخيـــــــــرٍ عـاجـــلٍ تنسى به ما قد مــضـــى
فلرب أمـــر مسخـــــط لك فـــــــي عواقبــــــه رضــــــــا
ولربما ضـــاق المضيــــــق ولربما اتســــع الفضـــــــــا
الله يفعــــــــل مـــــا يشـــــاء فــــلا تـكــن مـــعترضـــــــــــا
الله عــــــــودك الجميـــــــــــل فقس على ما قد مضـى
***
تفسيرات وحجج الخضر في أفعاله التي أنكرها موسى عليه :
قال : ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾ إشارة لطيفة ، لو أن هؤلاء المساكين يملكون سفينة هم عند الناس مساكين ، فلان عنده بيت ، هو ساكنه ، مستهلكه ، هؤلاء مساكين يملكون سفينة يعيشون من دخلِها ،﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ أردت أن أجعل فيها عيباً ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ كان الملك ظالماً يُصادر كل سفينة أعجبته ، ويأخذها غصباً ، أنا حينما خرقتُها فوّتُ على الملك مصادرتها ، وأبقيتها لأصحابها ، يقتاتون من دخلها ، فما قولك ؟ أين الحمق والغضب ؟ هكذا يفعل الله عز وجل .
أحياناً يلغى إيفاد الطالب إلى أوروبا لعلامة واحدة ، يغضب ، ويزمجر ، جعلتك هذه العلامة تبقى في بلدك ، ويبقى لك دينك في بلدك أحياناً ، لا تغضب ، لكل شيء حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، أحياناً يفسخ عقد الزواج لسبب تافه ، قد تكون هذه الزوجة فيها الدمار والشقاء ، لا تغضب ، إذا جاءت الأمور كما تشتهي ، فقل : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإن جاءت على خلاف ما تشتهي ، فقل : الحمد لله على كل حال .
﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ﴾ كان أبواه متعلقين به تعلقاً شديداً ، وكانا مؤمنين ، فإذا كبر هذا الغلام وصار كافراً ، تعلق الأب والأم بابنهما الكافر ربما يهلكهما مع هلاكه ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ ﴾ وهذا يؤكد علم الله بما سيكون ، علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، وعلم الله قديم ، ليس علماً كسبياً كعلم البشر ، الإنسان بدون شك مخير ، والله يعلم بلا كيف ما في هذا من شك ، وعلم الله لا يؤثر في اختيار الإنسان ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا – أي الأب والأم - طُغْيَاناً وَكُفْراً* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ أي أبدلهما الله عز وجل غلاماً مؤمناً طاهراً ، فإذا كان التعلق به كان التعلق صحيحاً وسليماً .
﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾ قال : يا عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال : يا رب أنفقته على كل محتاج ومسكين ، لثقتي بأنك خير حافظاً ، وأنت أرحم الراحمين ، قال : يا عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك ، ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾ الأبوة الصالحة تعود بالخير على البنوة الصالحة ، فهذا الأب الصالح استحق أن يطمئن على ولديه اليتيمين ، وأنهما سيأخذان الكنز الذي خبأه لهما تحت الجدار ، و كان على وشك الوقوع جاء هذا العبد الصالح ، وبنى هذا الجدار بلا مقابل ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ .
دليل نبوة الخضر عليه السلام وَمَا فَعَلْتُهُ عَن أَمْرِي :
هنا الدقة : ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ ليس في علم الشريعة كلها أن تقتل غلاماً لعلمك بأنه سيكون كافراً ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ من هنا استنبط العلماء أن العبد الصالح سيدنا الخضر هو نبي ، لأن خواطر الأولياء ليست معصومة ، لابد من أن الله أوحى إليه أن اقتلِ هذا الغلام ، لا يمكن أن يُقبَل قتلٌ بخاطر ، الولي يأتيه خاطر ، أما النبي فيأتيه الوحي ، فقتل نفس زكية لا يمكن أن يكون بخاطر من ولي ، لا بد أن يكون وحياً من نبي ، هذا يؤكد أن سيدنا الخضر نبي من عند الله ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ ﴾ الأُولى : تستطع ، كان متألماً جداً ، أما الثانية فقد هدأت نفسه بعد أن عرف التأويل ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ .
القصص الثلاثة تفسير للقضاء والقدر :
يجب أن تكون هذه القصص الثلاثة في ذهن كل منا ، لأن الإنسان أحياناً يواجه عقبات ، يواجه مشكلات ، يواجه ضغوطاً ، أحياناً يحرمه الله الولد ، أو يحرمه الله الذكور ، أو تأتيه زوجة مشاكسة ، أو يكون دخله قليلاً ، لا تخلو حياة المؤمن من عقبات ، وأزمات .
لذلك جاء في الحديث الشريف : أن الله عز وجل أوحى إلى الدنيا أن تكدري وتمرري ، وتضيقي ، وتشددي على أوليائي حتى يحبوا لقائي ، هذا فعل الله عز وجل ، أكرم الأبوين ، وأكرم أصحاب السفينة ، وأكرم الغلامين اليتيمين ، أعماله كلها إكرام . لذلك قيل : الإيمانُ بالقدرِ يذهِبُ الهمَّ والحزنَ .
وأما هذه القصص الثلاثة فهي تفسير للقضاء والقدر . قال عليه الصلاة والسلام :
(( عن طاووس بن كيسان اليماني :أَدْرَكْتُ نَاسًا مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولونَ : كُلُّ شَيءٍ بقَدَرٍ، قالَ : وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ يقولُ : قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ : كُلُّ شَيءٍ بقَدَرٍ ، حتَّى العَجْزِ وَالْكَيْسِ ، أَوِ الكَيْسِ وَالْعَجْزِ . ))
[ صحيح مسلم ]
مشكلات الإنسان هي مشكلات في ظاهرها وإكرام إلهي في حقيقتها :
الله سبحانه وتعالى لا يقضي إلا بالخير ، قد يكون الخير ظاهراً ، وقد يكون غير ظاهر ، على كل من معنى قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) ﴾
[ سورة لقمان ]
النعم الظاهرة هي النعم الظاهرة ، والنعم الباطنة هي المصائب ، فكم من مصيبة غيرت مجرى حياة الإنسان ، من الضياع إلى الهدى ، من الشقاء إلى النعيم ، من المعصية إلى الطاعة ، كم من مصيبة حملت صاحبها على الطاعة .
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) ﴾
[ سورة الشورى ]
ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدمت أيديكم ، يوم القيامة يكشف الغطاء .
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ﴾
[ سورة ق ]
عندئذٍ تعرف الحقيقة على ما هي عليه ، عندئذ لو كشف الغطاء لاخترتم الواقع .
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) ﴾
[ سورة يونس ]
ما منكم واحد إلا ويعاني من بعض المشكلات ، هذه القصة إجابة شافية لكل المشكلات التي يعانيها المؤمن ، إنها مشكلات في ظاهرها ، ومعالجات في باطنها ، إنها مشكلات في ظاهرها ، وإكرام إلهي في حقيقتها .
علم الشريعة المنهج الدقيق الذي تسير عليه أفعال الإنسان وعلم الحقيقة تفسير لفعل الله :
الشيء الذي يلفت النظر في هذه الآيات أن سيدنا الخضر على علم بالشريعة ، لذلك قال : ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ وسيدنا موسى على علم بالحقيقة ، ولكن سيدنا موسى بالشريعة أعلم ، وسيدنا الخضر بالحقيقة أعلم ، وما هذا اللقاء إلا لقاء بحرين في العلم علم الشريعة . . . وعلم الحقيقة . . . علم الشريعة المنهج الدقيق الذي يجب أن تسير عليه أفعال الإنسان المكلف ، وعلم الحقيقة تفسير لفعل الله عز وجل الذي لا ينطوي إلا على الرحمة ، والعدل ، واللطف ، والخير .
بقيت قصة أخيرة ، هي قصة ذي القرنين ، وفيها فوائد واستنباطات دقيقة نأخذها إن شاء الله في الدرس القادم .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين