وضع داكن
07-10-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة الكهف - تفسير الآيات 32 – 49 ، الأخذ بالأسباب والاعتماد على رب الأرباب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  في اللحظة التي يتوهم فيها الإنسان أن ما حصّله كان من عمله ينزلق إلى الهاوية :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الخامس من سورة الكهف .

أنهينا في الدرس الماضي قصة أصحاب الكهف ، وقد استُنبط من هذه القصة أن الإنسان يجب أن يؤثر الحق على الباطل ، والآخرة على الدنيا ، ورضا الله عز وجل على رضا الناس ، فهؤلاء الذين آثروا ما عند الله أكرمهم الله عز وجل ، وأثابهم في الدنيا وفي الآخرة ، و اليوم إلى قصة صاحبيّ الجنة . 

يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾ هذان الرجلان إما أن يكونا حقيقيين أو مفترضين ، ليست العبرة في وقوع هذه القصة ، بل في مغزاها فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ﴾ أي اضرب لأصحابك ، للمؤمنين ، ولغير المؤمنين : ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ﴾ .. المقصود أن بعض الناس في الدنيا تأتيهم الدنيا من أوسع أبوابها ، هذا يتفوق في عمله ، وهذا يجمع ثروة طائلة ، وهذا يعلو في مراتب القوة إلى أن يصبح من الرجال القلة الذين يشار إليهم بالبنان ، وهذا يمتلك أملاكاً عريضة ، أي مجال التفوق في الحياة متنوع ، هناك تفوق مادي ، تفوق مالي ، تفوق علمي ، تفوق من حيث القوة ، فالإنسان حينما تأتيه الدنيا من أوسع أبوابها ما الذي يحصل ؟ هناك منزلق خطير ، هذا المنزلق أن يظن أنه استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه بذكائه ، وخبرته ، ودهائه ، وحكمته ، وعلمه ، وبراعته ، وكياسته ، وحذلقته .

القصة كلها من أجل هذا المنزلق الخطير ، قد تأخذ شهادات عالية ، قد تملك أموالاً طائلةً ، قد ترقى في نظر الناس إلى رتب جيدة ، في اللحظة التيَ تتوهم فيها أن هذا الشيء الذي حصلته إنما كان بسبب من الذكاء ، والخبرة ، والحكمة ، والعلم ، والتحصيل ، في هذه اللحظة تكون قد انزلقت إلى الهاوية حين يغيب عنك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سخر لك ذلك ، أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سمح لك به ، أن الله سبحانه وتعالى ليس شيء على وجه الأرض يقوم إلا بإذنه ، في اللحظة التي تتوهم فيها أن هذا الذي حصلته كان من عملك هكذا قال قارون :

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ﴾

[ سورة القصص ]

هكذا قال فرعون :

﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾

[ سورة الزخرف ]

فلذلك يُعطينا ربنا عز وجل درساً بليغاً .

 

قصة صاحب الجنتين قصة تتكرر كل يوم :


ربما تكون قصة أصحاب الكهف نادرة الوقوع ، إنها كرامة لأصحاب الكهف ، ولكن هذه القصة التي نحن بصددها تتكرر في اليوم آلاف المرات ، إنها قصة الإنسان حينما ينجح ، قصة الإنسان حينما يعلو ، قصة الإنسان حينما يتفوق ، قصة أصحاب الحظوظ ، قصة الأغنياء ، قصة الأقوياء ، قصة الأصحاء ، قصة الذين يُشار إليهم بالبنان ، هؤلاء الذين حصّلوا الدنيا من أبوابها العريضة أمامهم منزلق خطير خطير وهو أن يعتقدوا أنه أتيح لهم ذلك بذكائهم ، وعلمهم ، وخبرتهم ، ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾ .. لنُدقق في كلمة ( جعلنا ) ، الله هو الذي جعل لهم ذلك ، مرة ثانية ؛ ليس المقصود أن يكون الإنسان صاحب بستانٍ نضير ، ولكن المقصود حينما يتاح له شيء من الدنيا خطير ، أي هذه القصة تنطبق على أصحاب البساتين ، وعلى أصحاب العمارات ، وعلى أصحاب الأراضي ، وعلى أصحاب الأراضي المكانات ، وعلى أصحاب الرتب في الدنيا ، وعلى كل من بيده كما يتوهم أمر بعض الناس ، يجب أن ندقق في كل كلمة ، ﴿ جَعَلْنَا﴾ الله هو الفعّال ﴿ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ الأعناب فاكهة محببة ، ﴿  وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ﴾  جُعِل الله لهذه الجنة سور من أشجار النخيل ، هي سور لها تجمّلها ، وتحسنها ، وتدر على صاحبها خيرات حِساناً ﴿ وَحَفَفْنَاهُمَا - معنى حفّه أي أحاط به- بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾ .. أي أنَّ في هاتين الجنتين ما لذَّ وطاب ، فيها من الزروع ، فيها من الخضار ، فيها من الفواكه ، فيها من الثمار ، فيها من الأعناب ، فيها من النخيل ، ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ﴾ .. كان المحصول جيداً ، كلن المحصول في حده الأقصى لا في حده الأدنى ، ﴿ وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾ يقول لك : أنا اعتنيت ، استعملت الدواء الفلاني ، واستعنت بمهندس زراعي خبير ، استخدمت البذور الهجين ، فعلت كذا ، وكذا ، يثني في الحديث عن خبرته ، وعن ذكائه ، وعن ماله الذي أنفقه على هذا البستان حتى أصبح جنة نضرة ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ﴾ .. حملت الثمار اليانعة بمواصفات عالية ، وكان ثمنها أموالاً طائلة ، ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً ﴾ .. وفوق هذا وذاك يسيل الماء نهراً بين هاتين الجنتين بمياهه العذبة فيُحيي الأرض بعد موتها ، ﴿ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً﴾ .. بستانان عظيمان فيهما من أشجار الفاكهة ، ومن النخيل ، والأعناب ، والرمان ، ومن الخضار ، والفواكه ، والمحاصيل ، والمياه غزيرة نميرة ، ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ﴾ .. في بعض التفاسير أنه كان لصاحب هاتين الجنتين أموال أودعها في جهات أخرى ، أي له أموال أودعها في أماكن أخرى وهي تدر عليه أرباحاً طائلة ، أي هذا الإنسان ذكي بالإضافة إلى أنه نجح في هذه الجنة نجح في أعمال أخرى ، إذا أُغلق هذا المشروع فتحت أبواب هذه المشروع ، ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ﴾ .. له أموال يأكل ثمارها في جهات أخرى هذا من أوجه التفسيرات ، له صاحب مؤمن ، هذا بعد قليل سيأتي أنه مشرك لا إشراكاً بالمعنى الذي يعرفه الناس أنه يدّعي أن هناك إلهاً آخر ، لا ، الإشراك العملي ، الشرك الخفي ، شرك الأسباب ، على كل سيتوضح ذلك بعد قليل.

 

التّكبر على الناس فتنة عظيمة :


﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ ﴾ .. له صديق ، انظر إلى هذه الحالة الإنسان حينما يعتني ببيته ، يعتني ببستانه ، يركب مركبة فخمة ، تتشكل عنده رغبة ظالمة ، أو رغبة جانحة ، أو آثمة ، أن يطلع على هذا أصدقاءه ، ولا سيما المحرومين ، ليزيدهم شعوراً بالحرمان ، فقال لصاحبه قال له بصراحة وبوقاحة : ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾ هذا الذي يذهب إلى بلد أجنبي ، ويعود ليقول لك : أنا أنفقت في هذه الرحلة ثلاثمئة ألف ليرة ، كأنه يقول : أنا أكثر منك مالاً ، إذا جلس إلى مهنئيه بسلامة العودة ، وكلهم من أصحاب الدخل المحدود ، وبدأ يقص عليهم أين نزل ، وكيف أكل ، وأين تنزه ، وكم كلفته هذه الرحلة ، كأنه يقول لهم بصراحة وبوقاحة : ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ أي أيها الأخ الكريم لا ينبغي لك أن تتباهى في الدنيا ..

(( لو كانتِ الدُّنيا تعدلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ. ))

[ صحيح الترمذي:  خلاصة حكم المحدث : صحيح   ]

لأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ولو أنها تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ، ﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾ عندي أموال طائلة ، لا تأكلها النيران ، وعندي أولاد أشداء ، هنا دخل في وهمه أنه بسبب من ذكائه ، وخبرته ، واحتياطه ، وأنه أعدّ لكل شيء عدته ، وأنه واجه الصعاب بخبرة عميقة ، هنا دخل في وهمه أنه بفضل ما أوتي من قوة حصل على هذا النجاح .

 

من وقع في حال من أحوال أهل الشرك فقد ظلم نفسه ظلماً كبيراً :


﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ .. وقع في ظلم النفس ، ظلمها ، ظلم نفسه وظلم عقله ، أي ظلم أشد من أن توهم نفسك بشيء أنت بعيد عنه ! هذا ظلم شديد ، ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً ﴾ ..أحياناً يخالج الناجحين في الحياة شعور أنهم تفوقوا دائماً ، وأن الحياة لن تزيدهم إلا غنىً ، وأن مرور الأيام لن يزيدهم إلا علواً في الأرض ، وأن هذه سنة الحياة ، هم من أصحاب الحظوظ ، وسواهم قد حُرم هذا الحظ ، ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ .. ظلم نفسه حينما أشرك الأسباب مع الله عز وجل ، جعل الأخذ بالأسباب استغناءً عن رب الأرباب ، أي هذا الذي يقول : استغنينا عن رحمة السماء ، يدخل في هذه الآية ، ظلم نفسه ، هذا الذي يقول : أنا أنهيت الفقر دائماً ، ظلم نفسه ، كلما وقعت في حال من أحوال أهل الشرك فقد ظلمت نفسك ظلماً كبيراً .

﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً ﴾ .. سيطر عليهم الشعور بالتفوق المستمر ، حتى لو أنني مت لسوف ألقى في تفوق مستمر ، ولسوف ألقى في الآخرة حياة رغيدة كهذه الحياة ، هذا من نوع الجهل ، هذا تفاؤل أبله ، من أدراك أنك بعد الموت ستلقى حياة رغيدة كهذه الحياة ، " سَمِعَ النبي عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه الكرام :

(( حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قيل: يا رسولَ اللهِ ماتت فلانةٌ واستراحتْ! فغضبَ رسولُ اللهِ وقال: إنما يستريحُ من غُفِرَ لهُ ـ ))

[ السلسلة الصحيحة ]

 وقد رأى جنازة ، سمعه يقول : استراح ، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام وقال ما معناه : ومن أدراك أنه استراح ؟ إنما يستريح من غفر له " ، ربما بدأت متاعبه بعد الموت . 

 

النجاح الحقيقي هو النجاح في الآخرة :


﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ أي نجحت نجاحاً دائماً في الدنيا وفي الآخرة ، وكأن الآخرة امتداد للدنيا ، فالذين نجحوا في الحياة الدنيا هم أنفسهم ناجحون يوم القيامة ، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)  ﴾

[ سورة الواقعة ]

قد يبدو هذا الذي في أدنى السلم الاجتماعي يبدو في أوج المكانة العلية ، وهذا الذي  كان أوج المكانة الاجتماعية قد يهوي إلى أسفل سافلين .

 

من عرف أصله لا يتكبر :


كان صاحبه من المؤمنين ، الذين يعرفون حجمهم الحقيقي ، والحقيقة أن عرف حده فوقف عنده موفق في الحياة ، ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ .. تغافلت عن خالقك ، هذه النعم ساقها الله إليك ، الله عز وجل جعل لأحدهما جنتين ، هو الذي سمح لك أن تكون كذلك ، هو الذي منحك هذا الفضل ، هو الذي ملكك هذه الجنة ، بيده الأمر ، أنت حينما تقول : أنا أكثر منك مالاً ، وأعز نفراً ، حينما تعتز بذكائك ، تكون قد تغافلت عن رب الأرباب ، قد تغافلت عن الإله الواحد القهار ، قد تغافلت عمن بيده ملكوت كل شيء ، تغافلت ، ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ كنت مرة في مكان عام ، وجدت طفلاً صغيراً يتحرك ويركض بين الناس ، وقد وضعت له فوط ، فأصبح وسطه كالكرة ، قلت : سبحان الله! إذا كبر هذا ، وصار شخصية مهمة ينسى أنه كان في هذه الحال ، لو عرف الإنسان أصله ما تكبر ، هذا الذي يعطيه الله مالاً ، قوة ، جمالاً ، غِنىً ، ينبغي ألا ينسى الماضي ، لا ينبغي أن ينسى يوم كان ضعيفاً ، فقيراً ، مقتراً عليه في الرزق ، محروماً ، خلقك من تراب ، ﴿ خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ .. أي حوين منوي ، ثلاثمئة أو أربعمئة مليون حيوان منوي ، واحد من هذه الحيوانات يلقح البويضة التي تنقسم ثم تنتقل إلى الرحم وعندها يبدأ تخلقها من مضغة إلى علقة ، ثم إلى عظامٍ ، ثم تُكسى العظام لحماً ، وهكذا إلى أن يحين وقت الولادة :

﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)﴾

[ سورة عبس  ]

لذلك : بئس العبد عبد سها ولها ، ونسي المبتدى والمنتهى ، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ، ونسي الجبار الأعلى ، بئس العبد عبد طغى ولها ، ونسي المقابر والبلى ، ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ ذكرت اليوم في الخطبة أن انفجاراً تمّ في بعض المجرات ، مئة وأربعون ألف مليون مَليون كيلو متر هذا طول لهيب الغاز المنتشر من هذه المجرة ، وأن هذا الانفجار يعدل عشرين أمامها واحد وثلاثون صفراً قنبلة هدروجينية ، الله هو القوي .

تعصي الإله وأنت تـظهر حبه        ذاك لعمري في المقال بديـعُ

لو كان حـبك صادقاً لأطـعتــــــه        إن المحب لمن يحب مطيعُ

***

﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ يجب أن يكون الإيمان في قلبك دائماً ، لا أن تنسَى أن الذي خلقك من تراب يجب أن تطيعه ، يجب أن ترجوه ، يجب أن تدعوه ، ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدا ﴾ يقول عليه الصلاة والسلام :

عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((  إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا ، وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَشَهْوَةً خَفِيَّةً  . ))

[ رواه ابن ماجه في " السنن "  من طريق الحسن بن ذكوان ، عن عبادة بن نسي ، عن شداد بن أوس به .وهذا إسناد ضعيف بسبب الحسن بن ذكوان ، قال أبو حاتم : ضعيف ليس بالقوي . وقال النسائي : ليس بالقوي . وقال ابن معين : ضعيف . وقال أحمد : أحاديثه أباطيل .  ]

 

على الإنسان ألا يغفل عن مشيئة الله لأنها كل شيء :


﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ .. إذا دخلت الجنة  يجب أن توحد ، أن تقول : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، يفقد الإنسان في ثانية واحدة كل شيء ، لو فقد ذاكرته أودع في مستشفى الأمراض العقلية ، لو تجمدت نقطة من الدم في بعض شرايين الدماغ يفقد ذاكرته ، يفقد المحاكمة ، ينسى ، يودع في المستشفى ، أين بيته ، ومركبته ، وزوجته ، وأولاده ، ومتجره ؟ أين نزهاته وسهراته وحفلاته ؟ أين هذه ؟ طويت كلها ، يُصبح الإنسان في لحظة من أهل القبور ، في لحظة يصبح مشلولاً إثر إصابته بحادث ما ، يجب ألا ينسى الإنسان ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ إذا دخل الإنسان لبيته ، وساكن في بيت فيه غرف عديدة ، غرفة نوم ، غرفة جلوس ، غرفة ضيوف ، فيه مطبخ ، فيه حمام ، له زوجة ، له أولاد ، يجب ألا يأخذه التيه والعجب أنه حصّلَ هذا البيت بذكائه ، وشهاداته العليا ، ودراساته العالية ، واهتمامه بالتجارة  ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، إياك أن تغفل عن مشيئة الله ، هي كل شيء ، كما ورد في الحديث القدسي أن الله قال لداود عليه السلام :

عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين ؟ وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد .

أحياناً الإنسان يركب طائرة تحترق ، آمال عريضة ، وتجارات واسعة ، وحظوظ الكبيرة ، كلها تتلاشى عندما يشعر أن لهيباً خرج منها ، الإنسان ضعيف ، قد يموت بأتفه سبب ، إنسان في أوج نجاحه المادي ، لسبب تافه صار من أهل القبور بعد أسبوعين . 

 

توزيع الحظوظ في الدنيا ليس أبدياً ولا سرمديّاً :


﴿ ما شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً ﴾ .. إن توزيع الحظوظ ليس نهائياً ، الناس فيهم القوي ، وفيهم الضعيف ، فيهم الصحيح ، وفيهم المريض ، فيهم الغني ، وفيهم الفقير ، فيهم صاحب الشأن ، وفيهم مغمور الشأن ، هذا التفاوت في الحظوظ في الدنيا هذا تفاوت ابتلاء ، توزيع ابتلاء ، وبعدئذٍ يكون توزيع الجزاء ، فالغني قد يصبح فقيراً ، والفقير قد يصبح غنياً ، والقوي ضعيفاً ، والضعيف قوياً ، والعزيز ذليلاً ، والذليل عزيزاً ، وصاحب المكانة العلية يغدو ذا مكانة منخفضة .

﴿ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾ لا يكون الأمر مستمراً ، ليس هكذا دائماً ،  ربما كان هذا الوضع موقتاً ، كان هذا الوضع إلى أمد قصير ، هذا التوزيع توزيع الحظوظ في الدنيا ليس أبدياً ولا سرمديّاً ، ربما تغيّر في الدنيا قبل الآخرة ، سيتغير في الآخرة قطعاً ، لأنَّ الآخرة دار الجزاء ، لكن حتى في الدنيا قد يتغير التوزيع .

حينما يعتدي الإنسان ، ويطغى ، ويعلو على الناس ، من يظن أنه سوف تسحب من تحته البسط ، ويشد له الحبل ، فيصبح بين عشية أو ضحاها في شر عمله .

إنسان كان في أعلى مرتبة اجتماعية خلال أيام أو ساعات دخل ليحاكم ، والقيد بيده ، أمام الناس عامة ، وبعدئذ مات قهراً .  


الله عز وجل قادر أن يقلب الميزان في ثانية واحدة :


﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ﴾ .. قصص كثيرة في هذا الموضوع ، توفي أب ، وترك ولدين ، كبيراً وصغيراً ، فاعتدى الكبير على الصغير وأخذ نصيبه من الإرث ، قوّى ربنا سبحانه وتعالى الصغير لحكمة بالغة وأعطاه مالاً ، وأفقر الكبير ، فاضطر الكبير أن يبيع كل أمواله للصغير ، ثُمَّ عَمِلَ عنده أجيراً ، ربنا عز وجل على كل شيءٍ قدير .

 قالت امرأة لضرتها التي لا تلد : هذا ابني على يدي ، وفي بطني ولد ، وعلى الأرض ولد ، ومُوتي قهراً ، مات الأولاد الثلاث خلال سنوات عِدة ، وأكرم الله سبحانه وتعالى هذه الضرة فأنجبت ثمانية أولاد ذكور .

طَرَقَ فقير باب إنسان ، فقامت زوجته لتعطي الفقير شيئاً من اللحم الذي يأكلانه فنهرها ، ووبخها ، فطردت السائل ، ثم نشب خلاف بين الزوجين إلى أن وقع الطلاق ، ثُمَّ خطبها إنسان آخر وكان غنياً ، وعاشا في بحبوحة ، يوماً طُرق الباب ، فذهبت الزوجة لتفتح الباب فإذا هي تعود مضطربة ، قال لها زوجها : ما القصة ؟ قالت سائل يسأل ، قال : لماذا اضطربت ؟ قالت : أتدري من السائل ؟ إنه زوجي الأول ، قال : أو تدرين من أنا ؟ إنني السائل الأول . فالله عز وجل قادر أن يقلب الميزان ، الذي هو في أعلى مكان قد يصبح بين عشية وضحاها في أسفل مكان ، الغني يفتقر ، والفقير يغتني ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً﴾ لذلك يُكتب على بعض الأبنية " ما شاء الله " ، ولهذا أصل في كتاب الله ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فإذا دخل أحدنا إلى بيته أو متجره ، أو ركب مركبته ، أو شاهد أولاده ، أو شاهد زوجته ، لا يتوهم أنه حصّلَ هذا بذكائه ، ليوحد ، وليشكر الله عز وجل على أنه أولاه هذه النعم .

 عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ :

(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا ، وَكَفَانَا وَآوَانَا ، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ . ))

[ صحيح ابن حبان ]

 وكان إذا خرج من الخلاء يقول : عن عبدالله بن عمر :

(( الحمدُ للهِ الذي أذاقني لَذَّتَه ، وأَبْقَى فِيَّ قُوَّتَه ، وأَذْهَبَ عني أذاه . ))

[  تمام المنة: خلاصة حكم المحدث : مخرج في "السلسلة الضعيفة" ]

هناك إنسان يتغذى بالمصل ، يتعطل شيء بجهاز الهضم يعطونه محلولاً سكرياً بالوريد ، يتألم ألماً شديداً (( أذاقني لَذَّتَه ، وأَبْقَى فِيَّ قُوَّتَه ، وأَذْهَبَ عني أذاه )) كان إذا ارتدى ثوباً جديداً يشكر الله عز وجل ، وكم ممن لا يستطيع أن يشتري ثوباً جديداً ؟!

﴿ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً﴾ أصابت الزلازل كثيراً من البلاد ، فأصبحت أثراً بَعد عين في ثلاث ثوان ، بناء ضخم ، فندق شهير جداً في مدينة على شاطئ الأطلسي أصابها زلزال ، ولم يبقَ من الفندق الضخم إلا اسمه الذي كان في الطابق الأخير أصبح على مستوى الأرض ، نزلَ ثمانية عشر طابقاً . 

﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ﴾ .. ظهر عندنا خمسة إنش ، هذه حفارة ممتازة ، هذا فضل الله عز وجل ، وأحياناً تشح مياه الآبار ، فيقول : بقي لدينا نصف إنش فقط ، تأتي الأمطار الغزيرة تملأ الآبار ، هذا من فضل الله عز وجل ، ﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ﴾ أصابت موجة جفاف بعض بلدان إفريقيا منذ عدة سنوات تبيّن الصور التي التقطت أنَّ الحياة توقفت فالغابات يبست ، والأبقار والأغنام ماتت جوعاً .

﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)  ﴾

[ سورة الذاريات  ]

تجد فيما يحيط بنا من بلاد بلداً كان في أوجه :

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾

[ سورة الأنعام  ]

 

ندم صاحب الجنتين لأنه اعتمد على الأسباب وحدها ونسي رب الأرباب :


وفعلاً : ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾ .. يقول لك : صقيع ، بستان لا يقبل صاحبه أن يُضمّنه ولا بخمسمئة ألف جاءت موجة صقيع فأتلف كل الثمر ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ - فَأَصْبَحَ هذا المشرك - يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ يقول لك المزارع : كلفني الدواء ثلاثين ألفاً ، والتسميد عشرة آلاف ، اليد العاملة كذا ، الفوارغ ثمنها كذا ، كل هذه الأموال الطائلة دفعها ولم يجن منها شيئاً ، ﴿ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ ..منظر الدمار مخيف ، بستان محترق ، أشجار يابسة ، عين جافة غارت ، منظر الدمار أو الجفاف  أو القحل يبعث في النفس الأسى ﴿ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ جاء هنا ذكر أن صاحب هاتين الجنتين قد أشرك بالله ، ليس الشرك الأكبر ، لأنه لم يقل : هناك إله مع الله ، لا ، لكن كان شِركهُ حينما اعتمد على الأسباب وحدها ، ونسي رب الأرباب ، اعتمد على الأسباب ، جعل لِكل شيء حساباً وسبباً ، أفعل كذا ، آخذ كذا ، هذا الحساب الدقيق في غفلة عن رب الأرباب ، وعن أن مشيئته هي القاهرة ، وهي الحاكمة ، هذا هو الشِرك . 

 

من أراد الله أن يؤدبه صرف عنه الناس :


﴿ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ .. إذا أراد الله عز وجل أن يؤدب مخلوقاً صرف عنه الناس جميعاً ، ﴿ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ في الأصل ، لو أنه كان مستقيماً على أمر الله لنصره الله عز وجل ، أو لخفف عنه ، لكنه كان بعيداً عن الله عز وجل في أيام الرخاء ، لذلك ابن آدم ، اعرفني في الرخاء أعرفك في الشدة ، أكثر الناس ينسون الله عز وجل في الرخاء ، ويتيهون في الأرض ، ويمرحون ، ويلعبون ، وكأنهم خلقوا ، ولن يموتوا .

 

الولاية لله الحق فهو خير ثواباً وعقباً :


﴿ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ﴾ .. هو الولي إن تخلى عنك فمن يبقى لك ؟ إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ليس معك أحد ، ﴿ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً﴾ حينما يكون الإنسان مع الله عز وجل تكون حياته في رقي دائم ، وخطه البياني في صعود دائم ، ولن يصيبه إلا ما كتب الله له ، ولن يكتب الله له إلا الخير . 

 

علاقة هذه الآية بالقصة قبلها :


﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ﴾ .. ما علاقة هذه الآية بهذه القصة ؟ علاقة متينة ، أي هؤلاء الذين اعتمدوا على الأسباب ، ونالوا الدنيا من أوسع أبوابها ، وتاهوا بها ، وفرحوا بها ، لابد من أن تزول عنهم هذه الدنيا لأنها ليست دائمة .

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]

﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ .. أمطار غزيرة أنبتت مزروعات كثيفة ، ومعطاءة ، وخيّرة ، هذه النباتات بعد أن أُكلت ويبست وأصبحت تذروها الرياح ، هكذا الدنيا ، بدايتها مشرقة ، لكن نهايتها محرقة ، ﴿ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ﴾ .. يكون الإنسان في الشباب في أوج نشاطه وقوته ، قال لي شخص : سبحان الله ! أنا قبل خمسين سنة كنت أنشط من الآن بكثير ، قلت له : طبعاً ، يميل الميزان بعد ذلك ، بعد الأربعين يميل الإنسان إلى الراحة والجلوس ، لا يحب الإسراع في المشي ، يشعر بآلام في أنحاء مختلف من جسده ، طبعاً الخط البياني بدأ بالهبوط .

 

المال والبنون زينة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند الله : 


﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ .. هذه نصيحة من الله عز وجل ، ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي الأولاد من دون مال مصدر ألم ، يحتاجون إلى غذاء ، وإلى دواء ، وإلى كساء ، وإلى مصروف ، والمال غير موجود ، وهو أبوهم يتقطع قلبه فرقاً ، والمال بلا أولاد أيضاً مشكلة كبيرة ، يقول لك : لا وريث لهذا المال ، سيأخذه الأعداء مني بعد أن أموت ، ربنا عز وجل قال : ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ .. أي سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر  ، ليس القصد أن تقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، بل القصد أن تسبح ، وأن تكبر ، وأن توحد ، وأن تحمد ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، أي إذا سبحت في ملكوت السماوات والأرض ، سبحت نفسك في عظمة الله ، ونزهّت الله عمّا لا يليق به ، كبرته ، كلما ذكرت شيئاً من كماله قلت : الله أكبر ، الله أكبر مما أرى ، ومما أعرف عن الله عز وجل ، كل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك وهو أكبر من ذلك ، وهو العلي القدير ، فهذا التسبيح و التحميد والتهليل والتكبير ، أي إذا عرفت الله عرفت عظمته ، ونزهته عما سواه ، وعرفت وحدانيته ، وعرفت فضله ، أي حمدته عرفت فضله ، وسبحته نفيت عنه كل نقص ، وكبرته عرفت أنه لا نهائي ، ووحدته عرفت أنه لا إله إلا الله ، أي يجب أن توحد الله ، ويجب أن تحمده ، ويجب أن تنزهه ، ويجب أن تكبره ، فهذا معنى : ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ .

 

مَشاهِد يوم القيامة :


﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ ..  حينما تنتهي الحياة ، وتُسيّر الجبال ، ويأتي الحشر والحساب ، ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً ﴾ ..صفاً أي نسقاً ، لا رتلاً ، صفاً ، ما من أحد يختبئ خلف الآخر ، ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ .. يمكن أن يكون حول الإنسان في الحياة أشخاص مهمون ، له أهل ، له أولاد نجباء ، له جماعة قوية ، قد ينتمي و قد لا ينتمي ، انتماءاته إلى جماعات قوية أو إلى فئة قوية وغنية ، ولكن هذه الانتماءات كلها لا تقدم ولا تؤخر ﴿ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ .. يُمكن أن يكون للإنسان في بلده أقارب ، ومعارف ، وأصحاب نفوذ يتصل بهم بالهاتف فينجدونه ، يتدخلون بالقضية ، يخرج بسند كفالة مثلاً ، الإنسان في الدنيا له أصحاب ، له معارف ، له أصدقاء ، أمّا في الآخرة فلا شيء من هذا القبيل ﴿ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً﴾ زعمتم أن هذه الدنيا هي كل شيء ، ولا شيء بعد الحياة ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ ﴾ .. يفتح كتاب الأعمال ، مثلاً إذا كان لمؤسسة مدير عام ، صارم ، وطلب إضبارة موظف ليُحاسبه على أخطائه ، فيها احتيال ، وكتب توبيخ ، وعقوبات ، وتقرير ، ومشكلات ، وهناك في حقه تهمة ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾ .. كل أعمال الإنسان مسجلّة ، كسبه للحرام ، مخاتلته للناس ، ظلمه لهم ، غرر بامرأة في شبابه ، جعلها تسقط ، جعلها امرأة بغياً طوال حياتها ، احتال على شريك له ، أخرجه من المحل ، جعله فقيراً ، وحين قسم الإرث مع إخوته ، سيطر على الضِعاف منهم ، وأعطاهم أقل الأشياء ، كُل ذلك مُسجّل ،﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾ مرة عندما كان الشباك مفتوحاً نظر نظرة فرأى جارته مسجلة وبالتاريخ ، كله مسجل ، نظراته ، حركاته ، سكناته ، استماعه لما لا يرضي الله عز وجل ، غيبته ، نميمته ، فحشه ، بذاءته ، مزاحه الرخيص ، ضربه لغلامه أكثر مما يستحق ، شراسته مع زوجته ، تلصصه على بيوت الجيران ، كذبه في اليمين ، غشه في البيع ، كل ذلك مسجل ، ﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ﴾ .. ما هذه المصيبة ﴿ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ يجب أن يتأكد كل إنسان أنَّ له عند الله عز وجل كتاباً يحوي كل أعماله الصغيرة والكبيرة بنص هذه الآية ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ ..

 

مغزى  هذه القصة :


في خاتمة هذا الدرس أذكركم بمغزى القصة : 

إذا نال الإنسان حظاً من الدنيا ، وتوّهمَ أنه حصّل هذا بذكائه ، وخبرته ، وعلمه ،وحنكته ، فقد أشرك بالله ، ونسي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تفضل به عليه ، وأنه لولا أن الله شاء له ذلك لما كان ما كان .

المرض الخطير الذي ينزلق به أصحاب الحظوظ في الدنيا ظنهم أن الأسباب التي اتخذوها هي وحدها أوصلتهم إلى ما هم فيه ، عندئذ يستحقون التأديب من الله عز وجل ، والتأديب أن يتلف الله ما عندهم لكي يعرفوا أن الله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين ، فالشرك هنا شرك الأسباب ، أي أنت تتخذ الأسباب ، لكن تعتقد أن الله هو الذي شاء لك ذلك ولو لم يشأ لم يكن ، لا يمنع إيمانك أن مشيئة الله عزّ وجل هي وحدها النافذة ، إيمانك بالله عزّ وجل لا يمنعك من الأخذ بالأسباب ، ولكن أن تعتمد على الأسباب وحدها فقد أشركت هذه الأسباب مع رب الأرباب ، فلذلك إذا كان الإنسان على شيء من الصحة ، إذا كانت أعضاؤه كلها سليمة فهذا ليس بعنايته بصحته ، لا ، هذا بفضل الله عز وجل ، بدءاً من صحته ، وأجهزته ، وزواجه ، وأولاده ، وبيته ، وعمله ، كل شيء تتمتع فيه هو من فضل الله عز وجل ، إذا كنت كذلك فالنعم تدوم ، وبالشكر تدوم النعم .

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)  ﴾

[  سورة الرعد  ]

وفي اللحظة التي تنسى أن هناك إلهاً عظيماً شاء لك هذا الخير ، تعزو هذا الخير إليك عندئذ يأتي التأديب ، وتأديب الله سبحانه وتعالى تأديب قاسٍ لأنَّ الله عز وجل يقول :

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)  ﴾

[  سورة البروج  ]

فهذا الذي قال : هذه جنتي ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾ .. أيضاً الإنسان منهي أن يفتخر ويتبجّح ويطلع الآخرين المحرومين على ما عنده كي يزيد الشعور بالحرمان ، هذا ليس من صفات المؤمن ، لا ينبغي أن تعرض على الناس ما عندك ، لا ينبغي أن تعرض عليهم دنياك العريضة ، ينبغي أن تقتصد في ذلك ، وأن تُطيب قلب الناس ، وأن تلفتهم إلى الله والدار الآخرة ، لا أن تحببهم في الدنيا .

هذه قصة تتكرر كل يوم آلاف المرات ، هذا الذي يتبجح بمصروفه ، وبرحلاته ، وبأرباحه السنوية ، هذا ليس من أهل الإيمان ، المؤمن يفخر بعلمه ، يفخر بخلقه ، يفخر بما له من مكانة عند الله عز وجل ، فهذه قصة فيها موعظة بالغة . 

الشيء الآخر ؛ ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ .. هناك أناس يتعلّقون بالألفاظ ، يجب أن تكون مكبراً لله ، حامداً لله ، موحداً لله ، منزهاً لله ، إذا نزهته ، وحمدته ، وكبرته ، ووحدته فقد عرفته ، أي معرفة الله ،  اعرف الله ، " ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء " .

(( من كانت الدُّنيا همَّه ، فرَّق اللهُ عليه أمرَه ، وجعل فقرَه بين عينَيْه ، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له ، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه ، جمع اللهُ له أمرَه ، وجعل غناه في قلبِه ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ . ))

[ السلسلة الصحيحة :  خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد رجاله ثقات ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور