وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 12 - سورة العنكبوت - تفسير الآية 45 الصلاة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

أهمية الصلاة في الإسلام:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني عشر من سورة العنكبوت.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ .. هذه الآية ذات أهمية كبيرة جداً، لأن الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ولا خير في دين لا صلاة فيه، إنها عماد الدين، وعصام اليقين، وغرة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات. 

 

الأمر الموجَّه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أنواع:


الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ﴾ الإنسان مخلوق، أسماء الله الحسنى تقتضي أن يرشده، أن يعرفه، أن يأمره، أن ينهاه، أن يبين له، أين كان؟ وما مهمته في الدنيا؟ وإلى أين المصير؟ وما قيمة الدنيا؟ وما سرّ وجوده فيها؟ وما أفضل شيء يفعله فيها؟ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ونوره، خلق الكون وأنزل هذا الكتاب. 

إذاً: الله سبحانه وتعالى يأمر الناس من خلال أمره للنبي عليه الصلاة والسلام، والأمر الموجه إلى النبي على أنواع ثلاث: نوع موجه إلى النبي خاصةً، وهذا ما اتفق عليه العلماء على أنه من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام، وأمر موجه إلى المؤمنين من خلال أمر النبي، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

لا يوجد في الكون إنسان أشد تقوىً لله من النبي، إذاً: هذا الأمر موجه إلى المؤمنين من خلال أمر النبي، وأمر موجه إلى المؤمنين والنبي معاً.

 

الأمر بتلاوة القرآن:


حينما يقول الله عز وجل يخاطب رسول الله عليه وسلم: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ﴾ إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، إذا كان هذا الأمر موجهاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فهو موجه استناداً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة:

(( أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!))

[ صحيح مسلم ]

هذا الأمر موجه إلينا، إذاً أنت مأمور أن تتلو هذا الكتاب، لأن فيه تعريفاً لحقائق الكون والحياة وحقيقة الإنسان، هذا الكتاب تعليمات الصانع، هذا الكتاب نشرة إيضاحية لسر وجودك في الدنيا. إذاً: أيها المؤمن عليك أن تتلو هذا القرآن، لأنه خطاب خالق الأكوان لهذا الإنسان.

شيء عجيب جداً أن يعرض الإنسان عن تلاوة القرآن قبل أن يفهم مضمونه، هل تصدق أن إنساناً جاءته رسالة لم يفتحها، ولم يقرأها، بل نبذها؟ المنطق يقول: اقرأ ما في الرسالة، إن أعجبتك فخذ بها، وإن لم يكن كذلك فانبذها، أما أن تنبذها قبل أن تقرأها، قبل أن تقف على حقائقها، قبل أن تعرف مرسلها، قبل أن تعرف سرها، حكمتها، فهذا موقف فيه غباء شديد، أنت إنسان خاطبك الله سبحانه وتعالى بهذا القرآن:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾

[  سورة البقرة ]

يا أيها الذين آمنوا؛ افعل لا تفعل، أعطاك أمراً، أعطاك نهياً، ووعد وأوعد، بيَّن و فصّل، وذكّر الماضي والحاضر والمستقبل، إذاً: نحن المؤمنين مأمورون أن نتلو هذا الكتاب من خلال أمر الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يتلو ما أوحي إليه. 

 

أهمية تلاوة القرآن:


يجب أن نتلوه كي نعرف الله عز وجل، فإذا عرفناه فلابد من حركة، لابد من موقف، لابد من توجه، لابد من اتجاه إلى الله عز وجل. أنت أولاً تعرفه، وثانياً تتصل به، أولاً: تعرفه، وثانياً: تطيعه، تعرفه، تتقرب إليه، تعرفه تسعد بقربه. الآية منطقية: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ﴾ .

 لو تذوقنا معنى ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ﴾ إذا قلت: سأقيم بناءً في هذا المكان، كلمة أقيم بناءً كلكم يعلم ماذا تعني هذه الكلمة؟ إقامة البناء تحتاج إلى شراء أرض، تحتاج إلى رخصة، تحتاج إلى حفر أساسات، تحتاج إلى مواد أولية، تحتاج إلى مهندسين، تحتاج إلى منفذين، تحتاج إلى صنعة، تحتاج إلى وقت، تحتاج إلى نضج، تحتاج إلى عوامل معينة، تحتاج إلى كسوة خارجية وكسوة داخلية، فكلمة: أقم بناءً في هذا المكان تعني عملاً جاداً، عملاً كبيراً، عملاً هادفاً، عملاً ذا مراحل، الله عز وجل يقول: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ﴾ لابد من أن تصلي، ولابد من أن تحدث مع الله صلة، ولابد من حسن علاقة مع الله عز وجل حتى تكون هذه الصلة. 

 

منزلة الصلاة في الإسلام:


يا أيها الإخوة الأكارم؛ الصلاة كلها سرّ الدين، الصلاة وحدها، لا تنسى أن في الصلاة معنى الحج، وفي الصلاة معنى الصيام، وفي الصلاة معنى الزكاة، وفي الصلاة معنى الاتصال بالله عز وجل، توجهك إلى بيت الله الحرام أخذت الصلاة من الحج التوجه نحو الكعبة، وأخذت الصلاة من الصيام، وأنت في الصلاة ممتنع عن الطعام، والشراب، وكل حركة خارجة عن حركات الصلاة، وأخذت من الزكاة أن الوقت هو أصل المال، فإذا أنفقت الوقت في سبيل الله صليت الظهر سنة وفرضاً وسنةً فكأنما أنفقت مالك، لأن الوقت أصل المال، ولن تحصّل المال إلا بالوقت، وأخذت من الاتصال بالله جوهر هذه الصلة، إذاً الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ولا خير في دين لا صلاة فيه.  


الصلاة هي الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقط بحالٍ:


الشيء الثاني هو أن الصلاة هي الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقط بحال، لا في سفر، ولا في حضر، ولا في صحة، ولا في مرض، ولا في قتال، ولا في خوف، ولا في شبع، ولا في جوع، الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقط بحال، إنها الصلاة، الصيام يسقط عند السفر، وعند المرض، والحج يسقط عند عدم الاستطاعة، والزكاة تسقط عند الفقر، ولكن الصلاة هي الفرض المتكرر.

 

الصلاة ذكر:


الله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

هذه اللام أقِمها من أجل الذكر، أقمها من أجل أن تذكرني، إذاً ذكر الله هو جوهر الصلاة.

 

الصلاة قُرْب:


في آية أخرى يقول الله عز وجل:

﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)﴾

[ سورة العلق  ]

الصلاة إذاً حالة قرب من الله عز وجل، الصلاة حالة ذكر، والصلاة حالة قرب، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾

[ سورة النساء ]

الصلاة حالة وعي.

حالة قرب، وحالة ذكر، وحالة وعي. 

 

الصلاة حالةٌ أخلاقية:


يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ إذاً الصلاة حالة أخلاقية، مستحيل أن يجتمع في الإنسان منكر أو فحشاء وهو يصلي، مادمت متصلاً فأنت طاهر، لهذا قيل: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً" .

 

الخشوع ليس من فضائل الصلاة بل من فرائضها:


 الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

قال بعض العلماء: الخشوع ليس من فضائل الصلاة، بل من فرائضها، لعظم الصلاة في الإسلام الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)﴾

[  سورة طه  ]

أي من صلى في البيت فعليه أن يصلي مع أهله، إذا صلى مع أهله، وضمن صلاتهم فكأنما نفذ هذه الآية الكريمة.

والصلاة أيها الإخوة، لا تعني أن تصلي خمس مرات، وأن تشرد بين الصلوات كما يشرد البعير عن صاحبه، قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)﴾

[ سورة المعارج  ]

﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)﴾

[ سورة البقرة  ]

وفي بعض تفسيرات هذه الآية بين الصلاتين لتكون ملتفتاً إلى الله عز وجل. 

 

تاركُ الصلاة فيه ضعفٌ خُلقي هو الهَلع والجزع والمنع:


يجب أن تعلم علم اليقين أن كل إنسان لا يصلي فيه ضعف خلقي، من هذا الضعف قوله تعالى: 

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)﴾

[ سورة المعارج  ]

ما إن يلمح شبح مشكلة، أو شبح مصيبة، أو يلمح نازلةً، أو رزيةً، أو مرضاً حتى تنهار قواه، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ من هو الهلوع؟

﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)﴾

[ سورة المعارج  ]

جزوع على وزن فعول، صيغة مبالغة، أي كثير الجزع، وكثير الهلع، وكثير المنع، جزوع ومنوع، قال:

﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

[ سورة المعارج ]

هؤلاء مستثنون من هذا الضعف الخُلقي:

﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)﴾

[ سورة المعارج  ]

إلى آخر الآيات، إذاً ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ ، لولا الصلاة لكان هلوعاً جزوعاً منوعاً، أما المصلي فاستثناه الله من هذا الضعف الخلقي. 

 

ضعف المسلمين وذلهم بسبب ترك الصلاة والتهاون فيها:


شيء آخر؛ هل تصدقون أن كل ما تعانيه الأمة الإسلامية من مصائب، ومن رزايا، ومن مشكلات، ومن ضعف، ومن تفكك، ومن ومن، إلى ما لا نهاية:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[  سورة مريم  ]

أضاعوا الصلاة فاتبعوا الشهوات، أو اتبعوا الشهوات لأنهم أضاعوا الصلاة، بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات علاقة ترابطية، أضاعوا الصلاة فاتبعوا الشهوات، اتبعوا الشهوات فأضاعوا الصلاة، فسوف يلقون غياً، ولقد لقي المسلمون بعد أن أضاعوا الصلاة، وليست إضاعة الصلاة تركها، يا ليت، ولكن إضاعة الصلاة ترك موجباتها. 

 

موجبات الصلاة:


 من موجبات الصلاة الاستقامة على أمر الله، من موجبات الصلاة تحرير الدخل، من موجبات الصلاة إنفاق المال في وجوهه، من موجبات الصلاة ضبط الجوارح، وغض البصر، من موجبات الصلاة الكف عن سماع ما لا يرضي الله عز وجل، إذا ضبطت جوارحك كلها، وحررت دخلك، ونفذت كل الأوامر التعاملية فيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين الناس عندئذٍ تشعر بطعم الصلاة، تذوق حلاوة الإيمان، تشعر بطعم القرب، ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ .

 

خصائص الصلاة:

 

1 ـ الصلاة عقلٌ:

النبي عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق، هو حبيب رب العالمين، سيد ولد آدم، هو المبلغ عن الله عز وجل ، ورد:"ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها"، ليس لك من هذه الصلاة إلا ما عقلت منها. 

2 ـ الصلاة ميزان:

ويقال: "الصلاة ميزان"، ميزان لأعمالك، إذا فعلت هذا العمل، إن كنت تستطيع أن تصلي بعده صلاةً صحيحة تُقْبل بها على الله عز وجل فهذا دليل أن هذا العمل صحيح، أما إذا أوقعك هذا العمل في حالة خجل، وصار هذا العمل حجاباً بينك وبين الله عز وجل فهذا دليل أن صلاتك، وأن هذا العمل لا يرضي الله عز وجل: الصلاة ميزان، فمن وفى استوفى، من وفى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمارها، الصلاة ميزان فمن وفى استوفى، وفِّها حقها تستوفِ ثمراتها، وفِّها حقها تستوفِ ما أعدّ الله للمصلين من نعيم مقيم.  

3 ـ الصلاة موعدٌ مع الله:

شيء آخر، النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حضرته الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه لعظم هذا اللقاء، أنت على موعد مع الله عز وجل، أنت على موعد مع خالق الكون، وجعلت قرة عيني في الصلاة، إذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه إطلاقاً.

(( عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ، قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:  عن سالم بن أبي الجعد: يا بلال أقمِ الصلاة، أرِحْنا بها. ))

[ صحيح أبي داود ]

ولسان حال بعض المصلين: أرحنا منها، صليت؟ نعم، الحمد لله، ارتحنا أننا صلينا، يجب أن ترتاح في الصلاة، لا أن ترتاح منها. 

 4 ـ الصلاة مناجاة:

شيء آخر؛ "لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل"، راقب نفسك وأنت عند عظيم في مكتبه هل تعبث بسبحة؟ هل تقرأ جريدة؟ هل تقرأ مجلةً؟ هل تنظر إلى السقف أو إلى قطع الأثاث أو إلى بعض الأشياء؟ هل تخرج دفتراً تتلهى به؟ أما إذا كنت عند إنسان تظنه عظيماً كلك التفات إليه، كلك توجه نحوه، تجلس في غاية الأدب، في غاية الإصغاء، في غاية الاهتمام، إذا كنت مع من تظنه عظيماً هكذا فكيف إذا كنت مع ملك الملوك ومالك الملوك؟ لذلك قيل: "لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل" ، لا يلتفت لشيء آخر لو يعلم من يناجي.  

5 ـ الصلاة نورٌ:

و النبي عليه الصلاة و السلام يقول: عن أبي مالك الأشعري:

(( إسباغُ الوضوءِ شطرُ الإيمانِ و الحمدُ للهِ تملأ الميزانَ، وسبحان اللهِ والحمدُ للهِ تملآنِ أو تملأ ما بين السماءِ والأرضِ، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك، كلُّ الناسِ يَغدو، فبائعٌ نفسَه، فمُعتِقُها أو موبِقُها.  ))

[ صحيح الترغيب ]

إذا صليت صلاة كما أراد الله، إذا صليت الصلاة التي أمر بها رسول الله، إذا صليت الصلاة التي وصفت في القرآن الكريم ألقى الله في قلبك نوراً فرّقت به بين الحق و الباطل، رأيت الخير خيراً، والشر شراً، هل تصدقون أن كل المآسي التي يعانيها الإنسان هي بسبب خطأ في رؤيته، يرى أن كسب هذا المال مغنم كبير يكسبه حراماً فيذيقه الله ألوان العقاب، ألوان العقاب سببها كسب هذا المال، و كسب هذا المال سببه خطأ في الرؤية. إذاً أعمالك كلها أيها الأخ الكبير أساسها رؤية، إما أن تكون هذه الرؤية صحيحة، وإما أن تكون غير صحيحةً، إن كانت صحيحةً وفقت وسعدت، وإن لم تكن صحيحة دفعت الثمن باهظاً، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:((الصَّلاةُ نُورٌ)) نور يقذفه الله في قلبك، ولا يعرف هذه المعاني إلا من اتصل قلبه بالله عز وجل، إلا من شعر أن الله جلّ في علاه مع كل مؤمن، وإذا تجلى على المؤمن أسعده سعادة لا توصف، ((الصَّلاةُ نُورٌ )) ، وقيل: "الصلاة طهور" ، مصلّ إذاً طاهر من الحسد، طاهر من الغش، طاهر من الكبر، طاهر من البعد عن الله، طاهر من الأثرة، طاهر من الحقد، طاهر من الضغينة، طاهر من الكِبر، أبداً الصلاة طهور، ((الصَّلاةُ نُورٌ)) ، والصلاة حضور، ((يا بلال أقمِ الصلاة، أرِحْنا بها)) ، ولو يعلم المصلي من يناجي ما التفت، أو ما انفتل كما ورد في الحديث.  

6 ـ الصلاة معراج المؤمن:

الصلاة معراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات، وليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها، والصلاة ميزان فمن وفى استوفى، والصلاة قرب، قال تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾

7 ـ الصلاة ذِكرٌ:

الصلاة ذكر، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

8 ـ  الصلاة وعيٌّ:

الصلاة وعيّ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ هذا الذي لا يعلم ما يقال حكمه حكم السكران، الذي يصلي، ولا يعلم ما قال في الصلاة، ولا يقف على مدلولات الآيات في الصلاة، حكمه حكم السكران في الصلاة، وكل مصائب المسلمين منطوية في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ .

 

نصيحة للآباء:


الآباء الذين يحرصون حرصاً لا حدود له على تقدم أبنائهم في الدراسة، وعلى مذاكراتهم، وعلى علاماتهم في المذاكرات، يعطونهم الجوائز إذا تفوقوا، ويعنفونهم إذا قصروا، ويهملون أمرهم بالصلاة مخالفون بهذا الأمر قول الله عز وجل: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ أين هم من كتابهم؟ من تطبيق دينهم؟ وقوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ لابد من أن يكون لك صلة بين الصلاتين، وهذا مضمون قول الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ .

 

عموم معنى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ:


أيها الإخوة الأكارم؛ آية اليوم: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ﴾ غض البصر من إقامة الصلاة، ضبط اللسان من إقامة الصلاة، تغتاب المسلمين وتزعم أنك مسلم؟! مؤمن؟ تصلي؟ ما قيمة هذه الصلاة؟ قم وصلِّ إنك لم تصلِّ، من إقامة الصلاة ضبط اللسان، من إقامة الصلاة ضبط العين، من إقامة اللسان ضبط الأذن عن سماع ما لا يرضي الله عز وجل، من استمع إلى صوت قينة -أي مغنية- صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة، قيل: وما الآنك؟ قال: الرصاص المذاب، ضبط اللسان عن الغيبة، والنميمة، والسخرية، والاحتقار، والبهتان، والإيقاع بين المسلمين، والتحريش بين المؤمنين، ضبط العين عن عورات المسلمين، ضبط الأذن عن سماع الغناء، ضبط الفكر عن خواطر لا ترضي الله عز وجل، ضبط اليد عن أن تبطش، ضبط الرِّجل عن أن تسعى إلى ما لا يرضي الله عز وجل، هذا كله من إقامة الصلاة، تحرير الدخل من إقامة الصلاة، التواضع من إقامة الصلاة، الزهد من إقامة الصلاة، أقم الصلاة أي افعل أفعالاً كثيرةً جداً كلها حول محور واحد وهو حسن العلاقة مع الله، حتى إذا وقفت كي تصلي رأيت الطريق سالكاً إلى الله، هذه معنى: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ﴾ ، قد نفهم هذا الأمر فهماً ساذجاً جداً، أخي أقم الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، هذا من إقامة الصلاة، أما إقامة الصلاة التي أرادها الله عز وجل بضبط كل جوارحك، وضبط كل حركاتك، وسكناتك، وعلاقاتك وفق منهج الله عز وجل، ما من شعور يشعره المصلي، وقد وقف بين يدي الله عز وجل من أنه على منهج ربه، مطيع لله عز وجل في كل شؤون حياته، هذا الشعور هو الذي يعينك على الصلاة، شعورك أنك على طاعة الله، وفق منهج الله، وفق أمر الله، هذا الشعور الذي يعين على الصلاة، إذاً هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ﴾ .

 

الصلاة التي أرادها الله عز وجل تجعل الإنسان على صلة مع ربه:


قال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ﴾ ، هذه الألف واللام في الصلاة ماذا تعرب؟ أي إن الصلاة المعهودة، إن الصلاة التي أرادها الله عز وجل، إن الصلاة التي تنجو بها، إن الصلاة التي تجعلك على صلة مع الله حقيقية، هذه الصلاة، لماذا قال الله عز وجل:

﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)﴾

[  سورة التوبة  ]

معنى هذا أن هناك صلاة ما أرادها الله، كذب وصلاة، غش وصلاة، احتيال وصلاة، ظلم وصلاة، كِبْر وصلاة، هذه الصلاة التي معها الكبر، والغش، والحسد، والضغينة، والحقد، والاستعلاء، وكسب المال الحرام، هذه ليست صلاة، ورد: "ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي"، هل عرفت من تصلي له؟ هل عرفت من تقف بين يديه؟ هل عرفت من تقول له: الله أكبر، سمع الله لمن حمده؟ هل عرفت من تقول له: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى؟

"ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي - استقامة، تعظيم- ولم يصر على معصيتي" ، توبة تلو توبةٍ، كلما وقعت في مخالفةٍ تبادر إلى التوبة، "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع –بذل- وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي إخلاصاً"

 

الأعمال الصالحة من إقامة الصلاة:


دخلنا في موضوع جديد، كفّ الجوارح عن الشهوات المحرمة من إقامة الصلاة، والبذل، والتضحية، وإنفاق المال، وتقديم الخدمات، وتقديم الخبرات، ومعاونة المؤمنين، وغير المؤمنين، ورعاية اليتامى والأرامل، وإنفاق المال، هذا أيضاً من إقامة الصلاة، إقامة الصلاة بالكف عن المحارم، وبالبذل، كفّ وبذل، الكف سلبي والبذل إيجابي، إذاً حينما قال الله عز وجل: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاة﴾ أنت إذا أردت أن تلقى إنساناً تحرص على لقائه المثمر، قد تقدم له هديةً، هديتك إلى الله عز وجل خدمة عباده، والدليل؟ هات دليلاً؟

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[  سورة الكهف ]

كيف تحتال كي تصل إلى قلب هذا الإنسان بهدية تزيل الضغن من قلبه؟ كيف تحتال إلى كسب ودّ هذا الإنسان بتقديم خدمة لأحد أولاده؟ كذلك إذا أردت أن تعقد مع الله صلةً، إذا أردت أن تتصل به، أن تنعم بقربه، أن يتجلى الله عليك: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا﴾ قضية واضحة جداً، قضية مبذولة لكل الناس، كل إنسان إذا أراد أن يلقى الله عز وجل لقاءً في أثناء الصلاة فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحد، عمل صالح بنية عالية، إذاً: "ليس كل مصلّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب كل ذلك لي إخلاصاً -عظّم الله، وائتمر بأمره، وتاب من ذنبه، وبذل، وضحى مخلصاً -وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً -أخلاق الجاهلية، التعسف، الظلم، الكبر، الحقد، هذه أصبحت مكارم أخلاق، هذه علامة المصلي، المصلي يجب أن تحبه، لابدّ من أن تحبه، لابد من أن تذوب به وجداً، لأنه كامل، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً، إذا أحبّ الله عبداً في أثناء الصلاة منحه خلقاً حسناً-على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه -كان في عمى فأصبح على بصيرة، كان في جهالة فأصبح على علم-يدعوني فألبيه -اقتربوا قليلاً- ويسألني فأعطيه، ويقسم عليّ فأبره، أكلؤه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يمس ثمرها، ولا يتغير حالها" .

 

الفحشاء والمنكر:


﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ .. إن الصلاة التي أمر بها الله عز وجل تنهى عن الفحشاء والمنكر، الفحشاء ما قبح فعله وقوله، تعريف الفحشاء في اللغة: الشيء الذي عظم قبحه فعلاً وقولاً، هناك قول فاحش، وهناك عمل فاحش، والمنكر كل شيء أنكرته العقول السليمة، المنكر ما أنكرته العقول، والفحشاء ما عظُم قبحه كلاماً أو فعلاً.

 

ثمرات الصلاة:


من أولى مكاسب الصلاة، من أولى ثمار الصلاة، من أولى نتائج الصلاة، من أولى مكتسبات الصلاة أنها تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، يصلي إذاً لسانه منضبط، هنا يوجد دقة، يوجد معنى دقيق؛ أنت قد تنضبط خارجياً، مثلاً لو أن إنساناً يحب الغناء، وسمع أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن سماع الغناء كفّ عن سماع الغناء، حينما يكف عن سماع الغناء انضبط خارجياً، لو أنه ركب مركبة، وأُطلق فيها المذياع على أغنية كان يحبها، وتجاوبت نفسه مع هذه الأغنية ما الذي يقال في هذا المقام؟ يقال: إنه انضبط خارجياً، لكن نفسه بقيت متعلقة بهذا الماضي الذي عاشه، ولكن المصلي إذا صلى صلاة صحيحة بعد حين، بعد وقت يطهر من الداخل، المؤمن في أول طريق الإيمان يشتهي المعاصي ولا يفعلها، ولكن بعد مرحلة من الزمن يمقت المعاصي ويكرهها، صار هناك تطور، هذه من آثار الصلاة، أنت إذا فكرت أن الله أمر بكذا، ونهى عن كذا، قضية سهلة، إذاً لا أفعل هذا الأمر، يا ترى لا تفعله وأنت مشتاق إليه؟ لا تفعله وأنت متمنٍّ أن تفعله؟ لا تفعله وأنت تغبط من يفعله؟ هذه مرتبة، أما إذا ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ﴾ الله عز وجل نهى عن الغيبة، نهى عن النميمة، نهى عن الربا، نهى عن أشياء كثيرة، لكنك إذا اتصلت بالله عز وجل فهناك شيء آخر، ما هو الشيء الآخر؟ أن النفس الإنسانية تنتهي من داخلها الآن، لا تحب الفحش، لا تحب هذه المعصية، نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه، لو أتيح لك أن تفعل هذه المعصية، ولن تحاسب عليها لا تفعلها، هذه من ثمرات الصلاة، نفسك تعاف الرذيلة، تعاف المعصية، تعاف المنكر، وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام هذه الحالة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

(( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ. ))

[ صحيح البخاري ]

من علامة صحة الإيمان أن الله سبحانه وتعالى إذا أنعم عليك بنعمة الإيمان، وانتقلت من حال إلى حال، لا شيء يزعجك، ويمقتك، ويحز في نفسك كأن تذكر حياة الجاهلية، كيف كنت متفلتاً، كيف كنت غير منضبط لا في أقوالك، ولا في أفعالك، ولا في شهواتك، لذلك علامة المصلي أن نفسه تتهذب من داخلها، لذلك كل حضارة الغرب قائمة على الردع الخارجي، وعظمة حضارة الدين أنها قائمة على الوازع الداخلي، وشتان بين إنسان يرتدع تحت سطوة السلاح، مثل بسيط، في بعض مدن أمريكا انقطعت الكهرباء قبل عدة أعوام، في ليلة واحدة تمت مئتا ألف سرقة، ما دام هناك ضبط خارجي، وكاميرات تلفزيونية، وحسابات دقيقة، وأجهزة إنذار مبكر، وطرق مراقبة كلها بالرادار، هناك انضباط، حضارة الغرب كلها قائمة على الردع الخارجي، وحضارة الدين قائمة على الوازع الداخلي. 

قال ابن عمر لأحد الرعاة: بعني هذه الشاة، قال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبها أنها ماتت- ماذا حصل؟ هل من الصعب أن تجد أية كذبة؟- قال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب، قال له: ليست لي، قال له: خذ ثمنها، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، أنا في أشدّ الحاجة لثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ هذا هو الدين، هذا هو الإسلام، والله الذي لا إله إلا هو من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، كل أعماله بلا جدوى، ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط.

حضارة الغرب قائمة على الرادع الخارجي، الانضباط السلوكي هناك بسبب أجهزة بالغة الدقة، لو أن إنساناً تجاوز السرعة المقررة التقطت لسيارته صورة مع لوحته الخلفية، ودفع الثمن الباهظ جزاء هذه المخالفة، إذاً لا خير في حضارة قائمة على الردع الخارجي، ونِعِمَّ حضارة قائمة على الوازع الداخلي، كلما ارتقينا كلما انتهينا من داخلنا لا من خارجنا، من دون رقابة، المؤمن لا يستطيع أن يأكل قرشاً من حرام لو قطعته إرباً إرباً، يقول لك: أين الله؟ ليس في إمكانه أن يكذب إطلاقاً. 

لذلك أيها الإخوة الأكارم... هذه الآية من الآيات الدقيقة جداً: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ﴾ الصلاة التي أرادها الله، التي شرعت، التي صلاها النبي عليه الصلاة والسلام، التي صلاها أصحاب النبي، صلوها ففتحوا العالم، ملكوا ما بين الخافقين، رفرفت راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها، رفع الله ذكرهم، مكنهم في الأرض، استخلفهم في الأرض، مكّن لهم دينهم، أبدلهم من بعد خوفهم أمناً، هذه الصلاة التي شرعها الله عز وجل، ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ هذه آية إن شاء الله تعالى لنا عودة لها في الدرس القادم، لأنها آية دقيقة جداً ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أكبر من ماذا؟ يا ترى ذكر الله لعبده أم ذكر العبد لربه؟ يا ترى ذكر العبد لربه في الصلاة أم خارج الصلاة؟ أكبر من ماذا؟ حول هذه الآية بحث دقيق جداً، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكنني أن أشرحه لكم في الدرس القادم. 

 

لا طاعة في المعصية إنما الطاعة في المعروف:


هناك شيء؛ أخ كريم حدثني أن رجل دين في تركيا أمر تلميذاً له أن يقتل ابنه، خبر تناقلته الإذاعات قبل أيام، فقتله، ثم قال له: اصعد إلى الجبل تجده هناك، هذا صعد إلى الجبل فلم يجده، فقدم شكوى، فأودع هذا الرجل السجن، هذا الخبر استوضحت، أو تبين لي أن هناك حكماً شرعياً دقيقاً جداً في هذا الموضوع. عَنْ عَلِيٍّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ:  

(( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرَارًا مِنَ النَّارِ، أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. ))

[ صحيح البخاري ]

انقسم أصحابه فريقين، فريق همّ أن يقتحمها تنفيذاً لأمر هذا الأمير، لأن هذا الأمير أمّره رسول الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾

[  سورة النساء  ]

وفريق قال: لا، إنما آمنا بالله ورسوله فراراً من النار، أفنلقي أنفسنا بها؟ واختصموا، وتوجهوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، اسمعوا ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال عليه الصلاة والسلام للذين أرادوا أن يقتحموا النار: ((... لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا)) أين عقلكم؟ قال: لا طاعة في معصية، ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) ، (إنما) أداة قصر، الطاعة في معروف، إذا أمرك هذا الرجل أن تصلي هذا بالمعروف، أن تغض بصرك، أن تؤدي زكاة مالك، أن تنزه دخلك عن الحرام، إذا أمرك فيما هو معروف، وقال بعض العلماء: المعروف هو أمر الله عز وجل، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، انظروا إلى الدين ما أوضحه! شيء رائع جداً أن يكون الإنسان على بصيرة، قال تعالى: 

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾

[ سورة يوسف ]

 ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) حصراً، ((....فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا)) .

سيدنا الصديق رضي الله عنه: ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر. 

(( عن عُمرَ قال: لوْ وُزِنَ إيمانُ أبي بكرٍ وإيمانُ الناسِ لرجحَ إيمانُ أبي بكرٍ. ))

[ إتقان ما يحسن: حكم المحدث:إسناده صحيح ]

ما ساءني قط. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: 

(( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ فِي خِرْقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ. ))

[ صحيح البخاري ]

ومع ذلك قال: << قد وليت عليكم، ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم >> أي رائع جداً أن يكون المتعلم واعياً. 

إذاً حينما قال عليه الصلاة والسلام: لا طاعة في معصية، ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) قال أهل العلم: المعروف هو الذي يوافق الشرع، إذاً لا طاعة بخلاف الشرع، هذه القصة كانت سبب نزول قوله تعالى الآية التاسعة والخمسين في سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ ولهذه الآية تفسير دقيق جداً إن شاء الله تعالى في الدرس القادم نفسر هذه الآية بعد صلاة العشاء، لأنها متممة لهذه القصة التي حصلت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام.

 والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور