- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (024)سورة النور
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث عشر من سورة النور، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35)﴾
الحكمة مِن ورود هذه الآيات بعد آيات أحكام الزنى وفروعه:
أيها الإخوة المؤمنون، سورة النور بدأت بالحديث عن الزنى، والحديث عن حد الزاني، والحديث عن القذف، وبيان حد القذف، ثم آيات الملاعنة، ثم جاء حديث الإفك، وبعدها جاءت آيات الاستئذان، وآيات غض البصر، وآيات عدم إبداء الزينة، فكيف كانت هذه النقلة المفاجئة في قوله تعالى:
اطمئنان النبي عليه الصلاة والسلام بعد براءة عائشة أم المؤمنين:
وقبل الحديث عن تفسير هذه الآية، وكيف أن الله سبحانه وتعالى نقلنا بلطف ورفق من موضوع اجتماعي إلى موضوع روحي، طمأن النبي عليه الصلاة والسلام بعد حديث الإفك، فكان النبي عليه الصلاة والسلام بإنزال براءة السيدة عائشة رضوان الله عليها قرير العين، وقد قرت عين السيدة عائشة نفسها بعد أن تولى الله سبحانه وتعالى تبرئتها في الكتاب الكريم، وقد اطمأنت نفس سيدنا أبي بكر بهذه التبرئة، واطمأن النبي، واطمأن الجميع، وبين الله سبحانه وتعالى أن على المؤمن أن يفعل الخير ابتغاء وجه الله، أن يصنع المعروف مع أهله، وغير أهله، فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله.
أيها الإخوة الأكارم بعد هذه النقلة من موضوعات العلاقات الاجتماعية، بعد هذا الحديث انتقل القرآن بنا إلى آية من آيات هذه السورة، بل ربما سميت هذه السورة بسورة النور استنباطاً من قوله تعالى
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
فالنور هو الضوء الذي يظهر بذاته، ويُظهِر غيره، وتعريف النور: هو الشيء الظاهر بذاته، والأشياء كلها التي أمامنا لا تظهر بذاتها، لا تظهر إلا إذا أُلقي عليها ضوء، فإذا انعدم هذا الضوء لا تظهر بذاتها، لكن الضوء شيء يظهر بذاته، ويُظهِر غيره، هذا هو المعنى الذي يعرفه عامة الناس من كلمة النور، لها معنى دقيق إشعاعات تنتج من مادة تسير بسرعة هائلة تزيد عن 300 ألف كم في الثانية؟ هذا المعنى وذاك يشكلان المعنى الحقيقي للنور، لكن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يقول: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فهو الذي أوجد السماوات والأرض، وهو الذي نوَّر السماوات والأرض، أوجدها ونوّرها، الشيء إذا ألقيت عليه نوراً مادياً يبدو لك، لكن هذا الشيء ليس عين نور، لكن نور الله عز وجل هو الذي أظهر الكون، فهذا الشيء الذي ظهر بنور الله هو السماوات والأرض ظهرت بنوره، ونوَّرها الله بنوره، هذا معنى.
عَنِ سَمِعَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ:
(( اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ... ))
وقد سئل عليه الصلاة والسلام حينما كان في معراجه في السماء سئل:
(( سَأَلْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، هلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قالَ: نُورٌ أنَّى أراهُ. ))
معنى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
لابد من حديث تفصيلي عن معنى قوله تعالى:
معاني ( مِنْ ) في قوله تعالى: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
المعنى الأول:
السماوات والأرض في القرآن الكريم تعني الكون، والله سبحانه وتعالى نور السماوات والأرض، فبنوره ظهرت هذه السماوات والأرض، وبنوره نُوِّرت هذه السماوات والأرض، ولكلمة نور معان دقيقة؛ من هذه المعاني: يعني هذا الكون فيه شمس، وفيه قمر، وفيه شموس، وفيه أقمار، من صمم إضاءة السماوات والأرض؟ كم من الأموال نحتاج لنضيء الظلام، كم من الليرات ندفع في الشهر لنضيء غرفتين أو ثلاث غرف؟ هذه الأرض بما فيها، وما عليها كيف أنها بنور الشمس تنعم بالضوء العميم؟ هذا معنى أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض، ونوَّرها بالنور المادي.
معاني ( مِنْ ) في قوله تعالى: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
المعنى الثاني:
ومعنى آخر: ربنا عز وجل خلق السماوات والأرض:
﴿
وفي آية أخرى:
﴿
فكأن الكتاب ينير لنا طريق الحياة، هذا الكتاب ينير لنا طريق المعرفة؛ معرفة الله عز وجل، هذا الكتاب ينير لنا طريق المنهج الصحيح الذي نحتاجه في الحياة الدنيا كي نسعد بها، إذاً:
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ
سؤال دقيق: لماذا تعرض على إنسان مبلغاً حراماً فيقول: معاذ الله، ولماذا يأخذه إنسان آخر؟ لماذا تمشي في الطريق امرأة تلفت النظر؟ لماذا ينظر إليها رجل؟ ولماذا يغض عنها الطرف رجل؟ ما الذي جعل هذا ينظر، وهذا يغض الطرف؟ ما الذي يجعل هذا يأكل مالاً حراماً، وهذا يمتنع عنه؟ ما الذي جعل هذا يُقدِم على طاعة، وهذا يُقدِم على معصية؟ هؤلاء الناس متفاوتون في مواقفهم، ومتفاوتون في سلوكهم، لماذا يُقدم هذا، ويُحجم ذاك؟ لماذا يأخذ هذا، ويرفض ذاك؟ لماذا يعطي هذا، ويمنع ذاك؟ ما الذي يفسر هذه الظواهر؟ الذي يفسرها أن الإنسان المستنير ينظر بنور الله، فالمستنير يرى أن معصية الله مهلكة في الدنيا والآخرة، لذلك أي موقف فيه معصية لله عز وجل يقول:
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ
ما الذي يضبط حركة الأشخاص ؟
هذا الموضوع دقيق جداً، ما الذي يضبط حركة الأشخاص اليومية؟ رؤية، فمن يملك رؤية صحيحة يملك الموقف الصحيح، ويملك التصرف الصحيح، ويملك الموقف الأخلاقي، ويملك الحق، ويملك الإنصاف، ويملك السمو، يملك السعادة، أساس كل هذا رؤية صحيحة، والذي يرتكب الخطأ، ويأكل المال الحرام، ويعتدي على أموال الناس، ويعتدي على أعراضهم، ويظن هذا ذكاء ما الذي حمله على أن يفعل هذا؟ إنها رؤية منحرفة، أو عمىً غلّف بصيرته، أو ظلام يعيش فيه، فالقضية خطيرة جداً.
إمّا نورٌ أو ظلمات
حينما يقول الله عز وجل:
(( إسباغُ الوضوءِ شطرُ الإيمانِ، والحمدُ للَّهِ تملأُ الميزانَ، والتَّسبيحُ والتَّكبيرُ يملأُ السَّماواتِ والأرضَ، والصَّلاةُ نورٌ، والزَّكاةُ برْهانٌ، والصَّبرُ ضياءٌ، والقرآنُ حجَّةٌ لَكَ أو عليْكَ ))
وإما أن يكون الإنسان منقطعاً عن الله عز وجل، وبهذا الانقطاع هو في عمىً، لذلك آيات كثيرة تتحدث عن هذا الموضوع يقول تعالى:
﴿
فبعلاقاته مع زوجته في ظلمات، يقسو عليها، يحمّلها ما لا تطيق، أو يطلق لها العنان، أو يتجاوز حده معها، أو يسمح لها أن تتجاوز حدها معه، هذه العلاقة مع الزوجة علاقة أساسها انحراف الرؤية، أو أساسها الظلمة التي يعيشها المقطوع عن الله عز وجل، العلاقة بالأولاد، العلاقة بالجيران، العلاقة مع الناس، العلاقة مع من هم فوقك، العلاقة مع من هم دونك، كل علاقات الإنسان، وكل حركته اليومية ما الذي يحكمها؟ إما نور ساطع يُقذَف في القلب فيرى به الخير خيراً والشر شراً، وإما ظلام يلفح هذه النفس فإذا هي تخبط خبط عشواء.
الله سبحانه مصدر النور:
لذلك:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ
تصور أنك تقود مركبة، والطريق ضيقة، وفيها منعطفات عديدة، وفيها انحدار شديد، ومكان صعود حاد، وعلى جانبي الطريق وديان سحيقة، هل يمكن أن تسلم من دون ضوء شديد ينير لك الطريق؟ هذا المثل المادي؛ سائق المركبة إذا كان الطريق ضيقاً، والظلام دامساً، والمنعطفات شديدة، والانحراف شديد، والصعود حاد، وعلى جانب الطريق وديان سحيقة، هل يعقل لهذا السائق أن ينجو من حادث مروِّع من دون ضوء شديد ينير له الطريق؟ هذا المثل المادي طبقه على الحياة، في علاقتك مع أهلك، في علاقتك مع جيرانك، في كسب المال، في إنفاق المال، أنت في موقف مُعرَّض فيه لشهوة ضاغطة، أنت في موقف معرض فيه لإغراء شديد، معرض فيه لضغط شديد، ماذا تفعل؟ ما المواقف التي يجب أن تقفها؟ تحتاج إلى نور، تحتاج إلى بصيرة، تحتاج إلى من يهديك السبيل، لذلك:
لذلك:
﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ
فحينما ينقطع الإنسان عن مصدر النور لا يمكن أن يكون مستنيراً، لابد أن يخطئ، ولابد أن يشقى، ولابد أن يهلك، ولابد أن تزل قدمه، لابد أن يعتدي، لابد أن يُعتدَى عليه، هذه طبيعة الظلام، هذه طبيعة البعد عن الله عز وجل.
آية رابعة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43) ﴾
فيمكن أن نقول: إن الناس رجلان؛ مستنير وأعمى، موصول مستنير، ومقطوع أعمى، المستنير يعرف ما ينبغي أن يفعل، إنه يسير على طريق عريضة، ونوره الوضَّاء يكشف له جوانب الطريق، والمقطوع عن الله عز وجل في ظلام دامس، يخبط خبط عشواء
﴿
أنت مستنير بنور الله، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (الصَّلاَةُ نُورٌ) قال عز وجل:
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ
لماذا تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ أنت إذا رأيت حشرة سامة مخيفة قاتلة، ورأيتها بعينيك عن طريق نور وضّاء كشّاف، هل يعقل أن تقترب منها؟ ما الذي جعلك تبتعد عنها؟ هو ذلك النور الذي أراك حقيقتها، فلذلك يقول عز وجل:
﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(19)﴾
الحقيقة أن الإنسان حينما يكون حكيماً في علاقاته، وفي حياته، فهذه الحكمة مبعثها النور، وحينما يكون أحمق في علاقاته، وفي حياته، هذا الحمق، وهذا الضلال مبعثه الظلمة، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ:
البر التقي مستنير، والفاجر الشقي في عمى، وفي ظلام شديد.
تفسير هذه الآية في ضوء المعطيات الحديثة: النظرية النِّسبية:
على كل؛ هذه الآية إذا أردنا أن نفسرها في ضوء المعطيات الحديثة، وفي ضوء العلم الحديث فهناك في بعض النظريات الحديثة جداً في الفيزياء، إشارة إلى أن الطاقة يمكن أن تتحول إلى ضوء، وأن الضوء أساسه المادة، لذلك هذه المواد المشعة إذا استمرت في إشعاعها تنقص كتلتها، فالجسم إذا سار بسرعة الضوء صار ضوءًا، والذي يعرفه الطلاب الذين يدرسون الفيزياء والكيمياء أن المادة مؤلفة من نواة، ومن كهارب، فإذا حُطمت كان الإشعاع، وهذا الإشعاع يستهلك كتلة المادة، فالمادة يمكن أن تكون نوراً، فهذا الكون العظيم هو من خلق الله عز وجل، هو من نور الله عز وجل.
لذلك:
على كلٍّ الشيء المبسط؛ أن مصباح الزيت، هذا الزيت يصبح في النهاية نوراً، فتيل الزيت يضيء، ويبدد الظلام على حساب هذه الكمية من الزيت، فإذا انتهى الزيت انتهى النور، كيف تحولت هذه الكمية من الزيت إلى نور؟ إذا قلنا:
العلم نورٌ:
أي أن الله سبحانه وتعالى هو مُوجد السماوات والأرض، وهو منوّر السماوات والأرض، لكن الآية في بعض معانيها تشير إلى أن العلم نور، أي أن الإنسان أحياناً حينما يجري عملية جراحية الطبيب يكون قد درس دراسة مفصلة كل مراحل العملية، كيف يخدر المريض، كيف يفتح البطن، كيف يغلق الشرايين بأجهزة خاصة، كيف يبدأ بشق المكان، كيف يستأصل المنطقة المرضية، فهذه المراحل الدقيقة التي يجريها الطبيب كيف عرفها؟ عرفها بالعلم، فكأن العلم الذي تعلّمه نور يكشف له طريقه في إجراء العملية، لذلك قالوا: العلم نور، فالإنسان العالم مستنير، هذه المعاني كلها بدءًا من المعاني المادية، إلى المعاني المجازية، إلى تلك المعاني الروحية التي تشير إليها الآية الكريمة مستنبطة من قوله تعالى:
يقول ربنا سبحانه وتعالى:
﴿
كان ميتاً، والله الذي لا إله إلا هو هذا الذي لا يعرف الله عز وجل، ولا يتصل به هذا في حكم الميت، وفي هذا يقول بعض الشعراء:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
***
هذا الذي يمتلئ حيوية ونشاطاً، ولكنه مقطوع عن الله عز وجل، هذا في حكم الميت، لذلك سيدنا علي يقول: << يا بني، العلم خير من المال، فإن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، مات خُزَّان المال، وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة >>.
إذاً العلم هو الذي يشيع في الحياة السعادة، بسبب أن العالم مستنير بنور الله، يفعل ما أمر الله، ويجتنب ما نهى عنه الله، وبذلك يقبل عليه فيسعد، فعلى كل مسلم أن يكون عالماً بأوامر الله، ونواهيه، بحكمته، بقرآنه، بتفسير كتابه، بأحكام شرعه، وهكذا.
﴿
ما هو الفرقان؟ الفرقان نور تفرقون به الخير من الشر، وفي آية أخيرة في الآيات التي تتبع هذه الآية:
﴿
أيْ كفالتين؛ كفالة في الدنيا، وكفالة في الآخرة، يضمن لكم دنيا تسعدون بها، ويضمن لكم آخرة تسعدون بها إلى الأبد
أحيانا يقولون: فلان نور الحي، أي كل من زاره، وعرض عليه مشكلة أشار عليه بما هو خير، ووجهه الوجهة الصحيحة، ودلّه على الطريق الصحيح، علمه الحكمة البالغة، فهذا الإنسان بوعيه، وإدراكه، واستنارة قلبه، واتزانه، واتصاله بالله عز وجل صار لهذا الحي نوراً.
لذلك الأنبياء نوروا مجتمعاتهم بالحقيقة، وبالفضيلة، وبالمنهج، والله سبحانه وتعالى منبع هذا النور.
موضوع النور الإلهي ربما يأتي في آيات كثيرة مقترناً بتقوى الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾
علاقة التقوى بالنور:
الآن آيات التقوى لها علاقة وشيجة بآية النور، متى يتقي الإنسان؟ متى يتقي الخطأ؟ متى يتقي الشر؟ متى يتقي المعصية؟ متى يتقي الموقف اللاأخلاقي؟ متى يتقي أن يأكل ما ليس له؟ متى يتقي أن يعتدي على أعراض الناس؟ متى يتقي ذلك؟ إذا كان مستنيراً، لذلك أكثر آيات التقوى تقترن بآيات النور، فالصيام من أجل التقوى:
منهج الإنسان في اكتساب النور:
إنّ الأساس في اكتساب هذا النور أن ينهج الإنسان المنهج التالي:
السبيل الأول: التفكر في مخلوقا الله عزوجل:
أولا: لابد أن يفكر في خلق السماوات والأرض، لأنه إذا فكر في خلق السماوات والأرض، وتوصل من خلال البحث الدقيق البحث الذاتي إلى أن لهذا الكون خالقاً عظيماً، ربنا عز وجل يأمرنا، ويقول:
﴿
ويقول:
﴿ فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24) ﴾
ويقول:
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6)﴾
ويقول:
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)﴾
هذا النظر، وهذا التدقيق، وهذا التأمل، وهذا التفكر في خلق الإنسان، في أعضائه، في أجهزته، في يديه، في رجليه، في سمعه، في بصره، في أنفه، في دماغه، في معدته، في أمعائه، لو فكر الإنسان في المريء فقط، لو أن الإنسان عُلّق من رجليه، وأُعطي كأساً من الماء، وشربه يصعد الماء نحو الأعلى بخلاف الجاذبية، كيف أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، كيف أنه سبحانه وتعالى زود المريء بعضلات دائرية، تنقبض تباعاً بحيث تنقل الطعام والشراب إلى الأعلى، فيما لو كان الإنسان متجهاً نحو الأسفل، أليست هذه آية؟ أليس هذا البلعوم الذي يعمل ثمانين عاماً دون كلل أو ملل، ليلاً ونهاراً، يغلق الطريق بإحكام، يغلق فتحة المريء بإحكام في أثناء التنفس، هذا التفكر ينقله بالتدريج إلى قناعة تامة أكيدة قطيعة إلى أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، الإنسان يسأل هذا السؤال: هذا الإله العظيم الذي خلق الكون لماذا خلقه؟ بعضهم يقول: خلقنا ليعذبنا، وهذا محض افتراء على الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقول:
﴿
السبيل الثاني: التقرب إلى الله بالطاعات:
الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليرحمه، خلقه ليسعده، فالإنسان إذا توصل من خلال بحث دقيق ذاتي إلى أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، له أسماء حسنى، وصفات فضلى، فلابد أن يسأل هذا السؤال: لماذا خلقنا الله عز وجل؟ إذا عرفت من خلال التأمل، أو من خلال القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى خلقك ليسعدك، وما جاء بك إلى الدنيا إلا لتستعد لدخول جنة عرضها السماوات والأرض، عندها تعرف طبيعة الحياة الدنيا، وتعرف أن لهذا الإله العظيم شرعاً لابد أن تطبقه، فإذا طبقته شعرت بثقة عارمة أن الله راضٍ عنك، إذا طبقت الشرع شعرت أن الله راض عنك، فإن شعرت أن الله راض عنك أقبلت عليه، فإن أقبلت عليه ألقى في قلبك نورًا، فكان هذا النور فرقانًا لك بين الحق والباطل، والخير والشر.
الصَّلاَةُ نُورٌ:
وهذا النور كما جاء في وصف النبي للصلاة بقوله:
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(19) ﴾
وجعل الصلاة ذكراً:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
وجعل الصلاة وعياً، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
وجعل الصلاة مناجاة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لو يَعْلَمُ المُصَلِّي مَن يُناجِي ما انْفَتَلَ ))
وجعل الصلاة عروجاً، الصلاة هي الفرض الإسلامي الذي لا يسقط بحال، الصيام قد يسقط عن المريض أو المسافر، والحج قد يسقط عن غير المستطيع، والزكاة تسقط على من لا يملك النصاب، ولكن الصلاة لا تسقط بحال، لذلك قالوا: الصيام من أجل الصلاة، والحج من أجل الصلاة، والزكاة من أجل الصلاة، والصلاة من أجل الصلاة، والصلاة من أجل أن يقذف الله في قلبك نورًا ترى به الخير خيراً، والشر شراً، والصلاة من أجل أن يكون الله نور السماوات والأرض، أن يكون لك نور تهتدي بهديه، لأن الشيطان ينقل الإنسان من النور إلى الظلمات، لكن الرحمن سبحانه وتعالى ينقل الإنسان من الظلمات إلى النور.
حقيقة التقوى:
لذلك حينما يجلس الإنسان مع ربه جلسة، ويفكر في خلق السماوات والأرض تمتلئ نفسه تعظيماً لله عز وجل، وخشية له، وتوقيراً لجنابه، عندئذ تندفع إلى طاعته، وتطبيق أمره، والبعد عن نهيه، إذا أطاعته، وطبقت أمره، وابتعدت عن نهيه أقبلت عليه، فإذا أقبلت عليه قذف الله في هذه النفس النور، وهذه حقيقة التقوى. لذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى:
﴿
أي أن التقوى مرتبة فوق الإيمان، بل إن الإيمان درجات:
﴿
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)﴾
هذه الآية التي جاءت في سورة النور هي القرآن كله، لأن القرآن كله نور، في هذا البيان بيان خلق السماوات والأرض، وتوجيه الإنسان إلى بعض الحقائق، بيان ما حل بالأقوام السابقة، بيان ما سيكون مما أنبأ به القرآن الكريم، رسم المنهج الدقيق في العلاقات الاجتماعية، أحكام البيوع، أحكام الزواج، أحكام الطلاق، أحكام الميراث، هذا القرآن كله نور، بمعنى أنه علم، وإذا أقبلت على الله عز وجل قذف الله في قلبك النور، بمعنى أنه النور الإلهي الذي تفرق به بين الخير والشر، لذلك كانت هذه الآية التي في سورة النور:
أيها الإخوة الأكارم، الإنسان عنده شرع، ونور في قلبه، لو فرضنا أن النور لم يكن متألقاً كما يجب، فهناك حدود حدها الإسلام، حينما يدرس الإنسان الشريعة يعرف أن هذا حلال، وهذا حرام، هذا واجب، هذا فرض، هذا مندوب، هذا مستحب، هذا مكروه، فكل شيء في الأرض لابد أن ينطبق عليه أحد الأحكام الشرعية، فالإنسان إذا أقبل على الله عز وجل نشأت عنده أذواق، وهذه الأذواق تتطابق مع أحكام الشرع، فالذي ينهى عنه الشرع يترفع المؤمن عنه، يترفع من باب أن الله عز وجل ألقى في قلبه النور، فرأى ما فيه من انحراف، وانحطاط، ترفّع عنه، فأنت إما أن تنصاع للشرع، وتعرف أحكامه التفصيلية، وإما أن تقبل على الله عز وجل فيلقي في قلبك النور، هذا الشيء مجرب، فالإنسان أحياناً يبتعد عن شيء، ولم يبلغ علمه أن هذا الشيء محرم، ولكن من قبيل الذوق ومن قبيل النور الذي ألقاه الله في قلبه لذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ:
نحن هذا الذي يلقيه الله في قلب الإنسان لابد أن يقابله شرع منضبط تمام الانضباط، الشيء الذي تحبه إذا كنت مستنيراً يؤكده الشرع، والشيء الذي تكرهه إذا كنت مستنيراً يؤكده الشرع، إذاً هناك شرع فيه تقنين لكل العلاقات، وكل الحالات، وهناك اتصال بالله عز وجل، هذا الاتصال إذا تكامل الاتصال مع معرفة أحكام الشرع كان الإنسان قد جمع المجد من طرفيه.
على كل، نحن نريد في هذه الآية أن يكون للإنسان صلة بالله عز وجل، هذه الصلة لا يعرف طعمها إلا من ذاقها، بالاتصال بالله تكون في عين الله، أنت في حفظ الله، أنت في رعاية الله، وكأن الله سبحانه وتعالى ينور لك الطريق فترى به ملابسات هذه الطريق، ويمحولك هذا النور وحشة الحياة.
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
عندنا مجموعة من الأسئلة:
ما هي المشكاة ؟
وفي درس قادم إن شاء الله تعالى سوف نفصل في هذا التشبيه الرائع الذي مثّل الله به نوره، وهو في صدر المؤمن،
دعاء:
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية، وطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين